الإهداء
كلمة ...
في سبيل الذرية
في سبيل الاستقلال
شبهات وظلمات
أشكال وألوان
إثارة لا رثاء
في سبيل الإخاء
من عهد الصبا
إلى شيخ المجاهدين
بيني وبين الريحاني
الإهداء
كلمة ...
في سبيل الذرية
في سبيل الاستقلال
شبهات وظلمات
أشكال وألوان
إثارة لا رثاء
في سبيل الإخاء
من عهد الصبا
إلى شيخ المجاهدين
بيني وبين الريحاني
زوابع
زوابع
تأليف
مارون عبود
الإهداء
إلى كل عربي مجاهد في هجرته، معتز بعروبته، مناضل مكافح في ميادين الحياة، عاملا مجدا، رافع شأن لغته وأمته في أربعة أقطار المسكونة، غانم المال حلالا زلالا، طامح إلى بلوغ أبعد غايات الحياة من غنى وشرف ومجد.
إلى الرجل الذي تمثل لي به وجه اللبناني الفاتح المجد، والعربي الأنوف الأبي، إلى السيد ندره فلفلي أهدي هذا الديوان.
فهو رسالة قومية من قلب هذا الشرق النابض، الرافع لواء العروبة حيث حلت ركابه، الناشر منطق الشيخ يعرب في حواضر الدنيا ومجاهلها، وسوف يكون أول ناطق بالضاد في القمر والمريخ، إن شاء الله.
فاحمل يا أخي ندرة، غير مأمور، هذه الرسالة التي حثثت على إذاعتها، ومددت إلى بعثها يدك البيضاء.
فعسى أن تجدد إيمان المشككين، وتشدد الركب المخلعة، فيستعيد هذا الشرق الجميل المعشوق مجده الضائع وتراثه المغتصب.
26 / 6 / 1946
مارون عبود
كلمة ...
ضع محل هذه النقط النعت الذي تريده، فأنا قد حلفت أن لا أكتب مقدمة لكتاب من كتبي، وأبيت أن أستجدي المقدمات ولو من أفلاطون، وامتنعت عن أن أقدم شاعرا أو كاتبا إلى القارئ، وسواء عندي أكان قد خمل ذكره أم طار صيته حتى اختفى خلف الغيوم.
أعود فأقول لك هذه كلمة لا مقدمة، إنها كلمة أريد أن «أعترف» لك بها، فأطلعك في هذا الديوان على نزعاتي كلها، بل على دخيلة نفسي، حتى على «الأسرار» المكتومة منها.
وبعد، فاعلم يا عزيزي - رعاك الله وحفظني وحفظك - أن ديواني هذا ليس سلة مشمش «لأوجهها» لك، فلا أنا بائع ولا أنت شار، لا يا أخي، إن هذا الديوان رسالة ... عفوا! هو فكرة عشت بها زمنا رغدا، وما زلت أحن إليها، وأنا على هواها. حالي معها كحال الرجل مع صاحبته، قد تتنكر له، وقد يجفوها، ولكنهما في الحالين، حال الرضا والغضب، واليسر والعسر، حبيبان، ودودان، متيمان، مولهان، ولولا ذلك لم يتشاكسا، أؤكد لك أني لم «أحرد» يوما كاملا، أي لم تغرب الشمس على غضبي؛ ولهذا ها أنا أضع بين يديك الكريمتين قصائدي، كما قلتها في وقتها، لم أحكك ولم أنقح إلا في قصائد معلومات، وأنت - لا شك - تعرفهن بلا عناء، إن سيماءهن في وجوههن.
فبعض القصائد التي ترى، لك أن تسميها خطبا - إذا شئت - استخدمت لتؤدي فكرة ثائرة كانت تتقد في نفسي ولما تزل، ففيها الشعر وفيها النثر، وأنا أعرف منها ما ستعرف أنت، ولكنها في كل حال تقضي لبانة من تعرض وصله.
فإليك إذن، مارون الشاعر في كل أطواره، بعجره وبجره، كما كانوا يعبرون، فارتع - آجرك الله وأجزل ثوابك - في هذه الجنة الغناء، ولك أن تقول فيها بعدئذ ما شئت.
هذا هو مارون عبود الشاعر، أما مارون عبود الناثر فهو رجل غير هذا، افهم يا صاحبي، إن الناقد يعرف الذهب ويميزه، وإن عجز عن خلقه، فإن رأيت عند هذا المارون ما لا ينطبق على آرائه في الشعر، حين ينتقد غيره، فكن متأكدا أن مارون الناقد لن يرحم مارون الشاعر، فوالله، وبالله، وتالله، لأؤدبنه أدبا صارما، ولأحملن عليه، كما حملت على غيره، حملات غواشم، فهو يدعي أنه يؤدي رسالة منظومة لينجو من يدي، فلسوف أرينه حين يقع ديوانه بين يدي، أن هذا الادعاء لا يعصمه ولا ينجيه، سترى أنني سأري ذلك المارون الوقح كيف يكون النقد المر، وإن يغضب فلا رحمه الله، ولتهتز عظامه في قبره، فكم أغضبت غيره من قبل، أما قيل: بالكيل الذي تكيلون يكال لكم وأزود؟
انتظر يا قارئي، إنها ساعة لها ما بعدها في تاريخ النقد.
انتظر، انتظر، فما أقرب اليوم من غد!
يخلق الشعر كل يوم عروسا
مثلما تخلق الخمور الحبابا
تتجلى لنا العذارى فنكسو
عريها من بياننا جلبابا
لا تقولوا شبنا، فما الشيب عيب
إن في الشيب من يبز الشبابا
رب شيخ ما انفك عارض رمح
وغلام في ميعة العمر ذابا
رب شيخ ما شاخ حزما وعزما
يتأبى لو استحال ترابا
لو أتتنا الحياة تسترزق العزم
خلعنا على الحياة شبابا
في سبيل الذرية
(1) نشيدان
نظمت هذين النشيدين لسبب تربوي يدركه اللبيب، وقد أقرت الأول وزارة المعارف اللبنانية، أما الثاني، وإن يكن مختصا بمدرستنا الجامعة الوطنية، فهو عام أيضا بروحه ومغزاه.
نشيد الطلاب
طالبي العلم هلموا
واحملوا أبهى علم
علم العلم ليسمو
قدرنا بين الأمم •••
أيها النشء الجديد
أنت آمال البلاد
وبك الماضي يعود
وعليك الاعتماد •••
علموا الجاهل منا
واجبات الوطني
خبروهم كيف كنا
سادة في الزمن •••
قد خسرنا كل مجد
وابتلانا جهلنا
ما تراه اليوم يبدي
شيخنا أو كهلنا •••
أنتم الآمال أنتم
أنتم المستقبل
فاذكروا مجدا أضعتم
ولكي يحيا اعملوا •••
علموا الناس جميعا
درس حب ووئام
نغنم العز الرفيعا
بعد ويلات الخصام •••
إنما بالعلم تحيا
أمتي وهو المنى
فإلى المعهد سعيا
حيث نلقى كنزنا •••
أمة العرب يمينا
من بنيك الصادقين
سوف نسعى ما حيينا
فخذي العهد المتين
أنشودة الشباب
شباب البلاد زهور الأمل
إلى المجد سيروا صفوفا صفوف
فعزم الشباب يدك القلل
وحزم الشباب يفل السيوف •••
بسطنا على البحر ظل المنى
وفوق الصحارى رفعنا العلم
وفي الشرق والغرب آثارنا
تحدث عنا جميع الأمم •••
فكيف التواني ومنا الألى
أداروا السفين وقادوا الجيوش
وشقوا طريق العلى للملا
فشادوا عروشا ودكوا عروش •••
هلموا نضم لمجد عريق
طريف النهى وجديد الفلاح
جهادا فنبلغ أقصى الطريق
فمن جد أدرك أسمى النجاح •••
ألا فاطلعوا من سما الجامعه
كواكب علم تنير الظلم
وكونوا إذا دعت القارعه
نسور النضال وأسد الأجم (2) قلعة بعلبك
زرت بعلبك - أول مرة - مع تلاميذي، فالتقينا في القلعة مع جماعة من الغربيين. وقفنا جميعا مشدوهين في هيكل باخوس العظيم، وتحت أعمدته الرفيعة، فسمعتهم يتحدثون عن هذه الآثار الضخمة، معجبين بالأجداد، متعجبين من تغوير عبقرية الأحفاد؛ فعدت متبرما، وقلتها كما تراها، وأنشدتها - ولا فخر - في الحفلة المدرسية الختامية، التي أقيمت في «نادي أوتيل البحار» وهي على رمية حجر من قصر الجنرال «ويغان» المندوب السامي عام 1924.
وذهبت في اليوم الثاني إلى بيتي في عين كفاع، متلفتا ورائي، تلفت مذعور لا تلفت الشريف الرضي.
أقلب في صحائفها العيونا
وأخفض من مهابتها الجبينا
وأنظر في بقاياها حزينا
أسائل عن عظائمها القرونا •••
أطلت بعلبك ولي فؤاد
يذوب إذا يلامسه الجماد
فقلت لدن سما منها العماد
أعرفات بدت أم طور سينا؟ •••
لمن تلك البناية كالجبال
أصنع الجن أم صنع الرجال؟
لقد صبرت على جور الليالي
تصبرنا على المستعمرينا •••
بها عمد سمت كبرا وتيها
تحدث كل راء عن بنيها
وقد لعبت يد الحدثان فيها
كما لعبت يد الغرباء فينا •••
رأيت صخورها تبدو أمامي
كأشلاء الجبابرة العظام
مكردسة هناك بلا انتظام
مبعثرة كما قد بعثرونا •••
وفي الأحجار قد نقشت زهور
وأثمار يحار بها البصير
وآساد وليس لها زئير
كشعب الشرق لا يبدي أنينا •••
وأطيار وقد هيض الجناح
فأمست لا غدو ولا رواح
لقد أسرت فليس لها سراح
كأسر الجهل للمتعصبينا •••
أراد الدهر فيها ما استطاعا
وقد ذهبت مآثرها ضياعا
وكم أثر قد اختلسوا فضاعا
كما ضاعت حقوق القاصرينا •••
رأيت أمامها عددا عظيما
من الإفرنج يحترم القديما
فقالوا هل بنى الصرح الفخيما
جدود مثلكم أبقوا بنينا؟! •••
أجبت: نعم، لقد رفعوا ذراها
ونحن بنوهم نأوي حماها
هي الأيام مذ دارت رحاها
غدونا في اللقاء لها طحينا •••
لقد غابت شموس العلم عنا
فلا عجب إذا ما الليل جنا
بذاك العهد قد كنتم وكنا
سلوا التاريخ ينبئنا اليقينا •••
سلوا عنا المغارب فهي أدرى
ففيها يا أولي الألباب ذكرى
فقرطبة بدت في الغرب بدرا
أنار عقولكم حقبا مئينا •••
وكم في العرب من ملك همام
له التاريخ يسجد باحترام
بنى ملكا على حد الحسام
وقد قاد الملوك مصفدينا •••
سل الآثار عن أسد الجدود
ولا تنظر إلى بعض القرود
أصارونا لكم مثل العبيد
ألا هاتوا الخزامة قيدونا •••
سيدرك شعبنا الشرقي علما
يثير بصدره حزما وعزما
إلى استقلالنا نسعى وإما
تموت الأسد أو تحمي العرينا •••
فتحت عباءة العربي مجلى
فخار كم به صلى وجلى
فجدوا يا بني وطني وإلا
ظللتم في «الوصاية» راسفينا •••
بني وطني لقد ضاعت لحانا
لدن عبثت بها «حانا ومانا»
هم العميان قادونا زمانا
وفي مهوى التفرق دهورونا •••
فألقوا نيرهم عنكم وهيا
دعوا هذا الخلاف المذهبيا
فما أبقت لنا الأديان شيا
سوى استعباد أمتنا قرونا •••
بلادي قد ذوى غرس التمني
فقولي للخئون إليك عني
فإني لست منك ولست مني
لحا الله البنين الخائنينا •••
أريد بني أبطال الكفاح
لكيما يضمدوا يوما جراحي
متى ما يدع حي على الفلاح
مشوا أسد الوغى متطوعينا •••
على الأوطان يرجى من بنيها
ولا يرجى من الغرباء فيها
كبت أوطانكم هبوا أنهضوها
وكونوا في الوظائف زاهدينا •••
أرى الحمار يحلم بالوظائف
وأصبح في حمى الحكام طائف
وقد قامت قيامات الطوائف
عليها ينتهضن ويرتمينا •••
أرى أن لا تقدم للبلاد
إذا ظلت طوائفها بداد
ولن يرقى بغير الاتحاد
نصارى شرقنا والمسلمونا •••
فسيروا للتقدم والطموح
لنكبح صولة الدهر الجموح
فمن ولدت كأحمد والمسيح
وموسى لا تضن بآخرينا •••
فمن أبناء يعرب كل ماجد
فكونوا إخوة ودعوا المفاسد
وصلوا ما أردتم في المعابد
وخروا في الجوامع ساجدينا •••
فدين الأرض أجمعها إخاء
فإن تبنوا عليه سما البناء
وللتوحيد خط الأنبياء
أناجيلا وقرآنا مبينا •••
سنرقى عندما تربي المدارس
على عدد الجوامع والكنائس
ونسحق رأس أصحاب الدسائس
ونقصي الخنع المتذبذبينا •••
سنحيا والحياة بالاجتهاد
بشبان كفرسان الطراد
إذا نشئوا بجامعة البلاد
وحب بلادهم يتشربونا •••
أجل بمدارس الأوطان تغرس
مبادئ نهضة فينا تقدس
فهذي هيكل الوطن المقدس
فحيوه احتراما خاشعينا •••
فتلك معامل تنشي الرجالا
ليلقوا في صدورهم النبالا
كذا يا قومنا أو لا فلا لا
مدارسنا وتربية البنينا •••
فأنتم عدة الوطن المفدى
ألا كونوا إلى الأوطان جندا
وإني مثلكم أسعى مجدا
وإن أدركت حد الأربعينا •••
بكم ترجى لموطننا الحياة
فأهل الحزم دون الخلق ماتوا
إلى الإصلاح ندعوكم فهاتوا
قناة كالأعارب لن تلينا •••
على لغة النبي مع الصحاب
أغيروا غارة الأسد الغضاب
فقد جمعتكم لغة الكتاب
وإن فرقتم حسبا ودينا •••
ففيكم تفخر الأم الحنون
فصونوا تربة الأجداد صونوا
وهذا الأرز يخنقه الأنين
يمد لكي يصافحكم يمينا •••
يحيي في شبيبتكم جدودا
لقد عاشوا بظل الكوخ صيدا
وصرنا في مواطنهم عبيدا
نساق إلى المهانة مكرهينا •••
جدود قد حموا هذي الجبالا
وما وردوا المذلة والنكالا
لقد كانت نساؤهم رجالا
وصار رجالكم متخنثينا •••
وليس الحر من سكن القصورا
ونام على وسائدها أميرا
بل الحر الهمام ولو فقيرا
إذا ما كان يأبى أن يهونا •••
بني وطني وفي وطني هيامي
وفي استقلاله أقصى مرامي
فإن يدرك فمن قبري عظامي
تقوم وتلبس الدرع المتينا
1924 (3) شباط في عاليه
كنت جلدا صبورا، ولا أزال، وأتيت عاليه، وأنا مربى عين كفاع وجبيل، فجاءوني في إحدى ليالي شباط البيضاء بكانون فحم أشقر اللهب كخد الحسناء، وكانت جمعية الثمرة سألتني الكلام في إحدى جلساتها فكان الموضوع الذي تقرأ.
ثغر الطبيعة قد تبسم عن برد
والثلج مد رواقه فوق البلد
قل للذي قد هاله مرأى الجلد
هذا شباط الوغد كم أوهى جلد
متقلبا متلونا مثل البشر
كادت تخور به رواسي همتي
لولا التفكر في شبيبة أمتي
قد غره شيب أضاء بلمتي
لم يدر أني، في سبيل مهمتي
طود، وهل يندك طود من حجر؟
قالوا لي «الكانون» بالباب اضطرم
فأجبت: أقصوه، فكانون انصرم
أقصوا المواقد، إن نيران الهمم
في الهيكل العربي تهزأ بالضرم
ما ضامنا برد ولا خفنا الخصر
حسب الفتى العربي برد من وبر
وعباءة فيها الفخار على الحضر
إنا سلالة معشر سكنوا المدر
وتربعوا بين الصخور بلا حذر
لم يرهبوا إلا المهيمن والقدر
نحن الأعارب نحن أبناء العبا
أهلا وسهلا يا شباط ومرحبا
لا نختشي ريح الشمال ولا الصبا
لنسائنا عفنا المواقد والخبا
أما الرجال فللثلوج وللمطر
نحن الألى لم يخفضوا قط الجناح
نشئوا يجوبون المهامه والبطاح
فإذا أهاب بجمعهم داع وصاح
مستنفرا: يا قوم، حي على الفلاح
هبوا لكيما تدركوا أقصى وطر
بشباط قد أبصرت أنوار الوجود
ورأيت آساد الشرى مسخت قرود
ورأيت شعبا خاملا ألف الرقود
ورأيت أهل الغرب في وطني تسود
والشعب ذل ومجده الماضي اندثر
أيعود للأوطان أمس الدابر
ويعزنا هذا الزمان الحاضر
أيظل يخضع «للوصي» القاصر
أم نستقل فتستريح خواطر
أم ذاك شر جريمة لا تغتفر؟
إن تطلبوا استقلالكم فذروا التعب
واستبسلوا طرا ولا تبدوا النصب
إن أنشد الغربي وقتي من ذهب
نادى وليد الشرق وقتي من حطب
هيا اقتلوه بالتنادم والسمر
أواه ما هذا المصير الأسود
أنظل أسرى للورى نستعبد
ذل مشين لو رآه محمد
سل الحسام وقال يا قوم اهتدوا
وبكى المسيح، وذاب حزنا وانفطر
صرنا نظير شباطنا نتقلب
وإلى الأجانب بيننا نتذبذب
وسوى الوظائف عندهم لا نطلب
بعنا بها شرفا بنته يعرب
شرفا نما فينا ونور كالزهر
أشبيبة الأوطان سيري للعلى
وتتبعي أحرارنا ودعي الألى
فالحر يأبى أن يعيش مذللا
الحر إن غدت الدنايا منهلا
عاف الشراب وعاش ظمآنا وفر
1923 (4) ذكرى وشجون
وهذه القصيدة قلتها عند ظهور الآثار العظيمة في جبيل، ثم شاع خبر هجرتها إلى الغرب، فعز علينا فراقها فشيعناها بهذه القصيدة، وقد أنشدتها في حفلة سنة 1923 ليلة عيد الميلاد.
أين الألى كانوا إذا العلم استوى
يتنفضون كأنهم عقبان
عقدوا اللواء على صيانة أرضهم
فتمردت في ظله الأوطان
لهفي، وما يجدي علي تلهفي
عند البلية يحمد السلوان
إن تسألوا «مصرا» عن الأقيال في
وادي الملوك تجبكم التيجان
و«جبيل» كم فيها لنا من منبئ
فلكل قبر منطق ولسان
ذكر تروع الدهر إن نفعت، ولا
تجدي إذا ما سدت الآذان
لم يبق من أمجاد مشرقنا سوى «آثار» عزته، وأين تصان؟
فلسوف تبلعها البحار وما لها
عود إليه، فليتها يونان
آثارنا، بالله ربك خبري
تلك العواصم أننا أقران
كنا وكان العز ملء برودنا
ولسوف ترجع مجدنا المران
ويعيد هذا الشرق سالف مجده
إن ألفت آحادها الشبان •••
يا شرق، ويحك، إن داءك قاتل
لا الطب يشفيه ولا الأزمان
نثروا بأرضك بذر شر تعصب
فنما وكان له بأرضك شان
نصبوا لنا شرك الردى فتصيدوا
فمتى يبدد ذلك الإذعان
باسم الإله الفرد فرق شعبه
وتمكنت من عنقه الأرسان
ما ذاك شرع الله بل شرع الألى
جعلوا الإله وسيلة ليصانوا
الدين يأمر بالتألف والوفا
بين الورى وملاكه الإحسان
لو كان للكتب العقول تصافح
الإنجيل والتوراة والقرآن
ورأيتم في الخافقين أهلة
تحنو عليها في العلى صلبان
الله في هذا الزمان وأهله
ضلت بنوه وعمه الطغيان
إن الوحوش تعيش في أجماتها
عصبا ويقتل بيننا الإنسان
فمتى نرى يا رب إنسانية
لا يهزأن بشرعها الحيوان
عيسى ألا عد للوجود هنيهة
فالناس ضلوا والشرائع خانوا
عشرون قرنا قد مضت وتصرمت
والأرض لم يهدأ لها غليان
مهدت للدنيا سبيل محبة
أين السلام وأين الاطمئنان
نبذت تعاليم السماء عصائب
فقضى الحنان وعاشت الأضغان
قد أمطروا الأرضين وبل تعصب
فتشربت قطراته الصبيان
نهجوا بأهل الأرض نهج ضلالة
ويح القطيع رعاته ذؤبان
الأرض أمست بعدما غادرتها
كجهنم وتنمر البهتان
عد يا ابن مريم للحياة، وقل لهم
خلوا الخصام فكلكم إخوان
إن المبشر بالذي علمته
لم يرض عنه الشيخ والكهان
قد أولوا آي الكتاب فسيطروا
فتنكرت للملة الأديان •••
الدين حصن النفس في ثورانها
وهو الشكيمة إذ يكون حران
فتمسكوا بإلهكم أما الألى
زرعوا الشقاق فقادة عميان
ما شاقهم ألا تبدد شملكم
لتعرض الأكمام والأردان
فامشوا على سبل المحبة إخوة
فبذاك يقضي الدين والديان
واستنهضوا الهمم التي قعدت بها
غير الدهور وخانها الحدثان
نادوا بلادكم انهضي وتنبهي
كي يستفيق الموطن الوسنان
فيد الحوادث صيرته مقيدا
والشعب جلاد له سجان
1924 (5) محمد مارون
رزقت ولدا فسميته محمدا، فقامت قيامة الناس، فريق يستهجن ويقبح ويكفر، وفريق يوالي وينتصر، وكان أول من قدر هذا العمل وأعجب به أشد الإعجاب، صديقي المرحوم أمين الريحاني، فبعث إلي بكتاب ستقرؤه في فصل - بيني وبين الريحاني - أما الآن فإليك القصيدة وفيها التفصيل التام.
عشت يا ابني، عشت يا خير صبي
ولدته أمه في «رجب»
فهتفنا واسمه محمد
أيها التاريخ لا تستغرب
خفف الدهشة واخشع إن رأيت
ابن مارون سميا للنبي
أمه ما وضعته مسلما
أو مسيحيا ولكن عربي
والنبي القرشي المصطفى
آية الشرق وفخر العرب •••
يا ربوع الشرق اصغي واسمعي
وافهمي درسا عزيز المطلب
زرع الجهل خلافا بيننا
فافترقنا باسمنا واللقب «فالأفندي» مسلم في عرفنا
والمسيحي «خواجه» فاعجبي
شغلوا المشرق في أديانه
فغدا عبدا لأهل المغرب •••
يا بني اعتز باسم خالد
وتذكر، إن تعش، أوفى أب
جاء ما لم يأته من قبله
عيسوي في خوالي الحقب
فأنا خصم التقاليد التي
ألقت الشرق بشر الحرب
بخرافاتهم استهزئ وقل:
هكذا قد كان من قبلي أبي
وغدا يا ولدي، حين ترى
أثري متبعا تفخر بي
بك قد خالفت يا ابني ملتي
راجيا مطلع عصر ذهبي
عصر حرية شعب ناهض
واتحاد لبقايا يعرب
حبذا اليوم الذي يجمعنا
من ضفاف النيل حتى يثرب
ونحيي علما يخفق فوق
منارات الورى والقبب •••
ليته يدرك ما صادفته
عندما سميته من نصب
لو درى في المهد أعمال الألى
حركتهم كهرباء الغضب
لأبى العيش وشاء الموت في
أمة عن جدها في لعب •••
كم وكم قد قيل ما أكفره
سوف يصلى النار ذات اللهب
إن يشنع بابنه لا عجب
فهو غر كافر لا مذهبي •••
لا تصدق قولهم يا ولدي
إن فيما قيل كل الكذب
إن حب الناس ديني وحيا
ة بلادي باتحاد أربي
وكتابي العدل ما بين الورى
في بلاد هي أم الكتب
فاتبع يا ابني أبا أبغضه
وجفاه كل ذي دين غبي
فهم آفة هذا الشرق مذ
حكموه بضروب الرعب
جعلوا الأديان معراج العلى
ومشوا من زهوهم في موكب
شردوا «أحمد» عن مضجعه
فسرى ليلته في كرب
ودهوا عيسى لما علمه
وهو لولا كيدهم لم يصلب •••
فإذا ما مت يا ابني في غد
فاتبع خطوي تفز بالأرب
وعلى لحدي لا تندب وقل
آية تزري بأغلى الخطب
عاش حرا عربيا صادقا
وطواه اللحد حرا عربي
1926 (6) أول نيسان
قلتها بمناسبتها، وقد أكون من عشاق أول نيسان، فلا تقل ما له يدعي البرارة، فاعمل بها، إن أعجبتك، ولا تدني.
قف بالشآم على أطواد لبنان
وناج مبدع هذا العالم الفاني
فهي المآذن لم تنحت أهلتها
وهي القباب وما ازدانت بصلبان
ففي الطبيعة صوت لا يضارعه
صوت المؤذن أو ناقوس رهبان
والوحي فيها قديم العهد منبثق
شرارة قد وراها زند وجدان
دين الطبيعة دين جل مبدعه
والكون هيكله ما أعظم الباني •••
دع الألى فرقوا أبناءه قسما
وأسجدوهم لأصنام وأوثان
ونصبوا من صخور الأرض آلهة
فمرغوا بثراها شم أذقان
خزعبلات وآراء ملفقة
تقيد العقل فيها دون برهان
فالدين سر إله الكون أوجده
في خاطر البدء تأليفا لإخوان
قد كان للناس منذ البدء جامعة
فصار مدعاة تفريق لخلان
هو الموحد لكن الورى كذبوا
فصحفوا آي إنجيل وقرآن
يا للغرابة كيف الجهل فرقنا
ونحن في نظر الرحمن سيان
إن السماء مشاع الناس قاطبة
وليس يا قوم للفردوس بابان •••
واحر قلباه إن الكذب ساد على
هذي البلاد وعم المشرق الداني
وكيف يسعد شعب كله كذب
وعنده كل يوم بدء نيسان
إن يكذب الغرب في هذا ممازحة
فما مزاح ابن سوريا ولبنان
هم يصدقون شهور العام قاطبة
وكذبنا راع صم الإنس والجان
شهادة الزور نلقيها بلا وجل
وكم وشينا لذي عز وسلطان
وكم حلفنا على تأييد كذبتنا
والحر من لم يفه يوما بأيمان
وكم شهيد سعى فيه زعانفنا
فذللوه وكم أودوا بفتيان
والكاذب الدون ندعوه بلا خجل
رب السياسة وهو الغافل الواني
والحر ننفر منه إذ يطارحنا
آراءه الغر في سر وإعلان •••
يا معشر الشرق والأجيال شاهدة
دعوا أكاذيب نيسان وشعبان
تعمدوا الصدق في أقوالكم أبدا
ولا تحابوا عظيم القدر والشان
والله لو كان ربي في محاكمتي
محابيا لمت يوم الحشر دياني
لي في الحياة من الآراء أغربها
وفي الغرابة لذات لوجداني
فالشرق أجمعه قد صار لي وطنا
أحيا به وجميع الناس إخواني
وديني الحب، والإخلاص مصحفه
وكاهني فكرتي والصدق قرباني
1926
أنا أحكي سفينة طرحوها
وسط يم من الشقا دون شط
إن أردتم تعريف حالي فقولوا
لي حظ من الحياة كخطي (7) رسول الغد
ليس لهذه القصيدة سبب سوى أنني حرمت الوقوف على المنبر زمنا، ثم عادت حليمة إلى عادتها القديمة، فقلت هذه القصيدة، وأنشدتها بناء على طلب الجمهور غير مبال بما يحدث، كلفت الحكومة قائمقام عاليه الأمير توفيق أبي اللمع - رحمه الله - حضور الحفلة فاعتذر، وحجته أن مارون عبود يلذع ولا يأبه، ويهاجم «الدنيا وأنا ما عندي فرقة عسكر»، وكانت مقابلة بيني وبين مدير الداخلية يومئذ السيد صبحي أبو النصر، وأقيمت الحفلة ولم يحضر المير، مع أننا «لطفناها» ولم يكن شيء من القنابل الكبيرة التي خشيها القائمقام.
سر في طريقك لا تخف لواما
وقل الحقيقة وانبذ الأوهاما
والرفق بالحيوان لا تلهج به
أفتدعيه وتظلم الآناما
كن قائدا إن تستطع لا فارسا
بسواه ناط الكر والإقداما
فالكون حان والأماني خمرة
والجد ساق والأنام ندامى
خير البنين ابن يسود نفسه
فاعمل وجد لكي تكون عصاما
لا تؤمنوا بالحظ فهو عقيدة
قد عدها دين الرقي حراما
الحظ لا يلج البيوت وإنما
يلقاك في طرق الحياة لماما
وإذا رأيت فقل رأيت ولا تخف
جاهر، ولا تكذب ولا تتعاما
فالناس يرضيهم مقدس جهلهم
ويقاومون المصلح الهداما
أنسيت صلبهم المسيح وتركهم
لصا على سقط المتاع ترامى
إن المسيح سقى الصليب دماءه
فاخضر يثمر رحمة وسلاما
ومحمد برح الديار مهاجرا
من قاوموه فنكس الأصناما
فتشبهوا بمسيحكم ونبيكم
فكلاهما قد حررا الأفهاما
قولوا لقوم حرفوا آياتهم
كيف الرعاة تفرق الأغناما
الله للتأليف أوفد رسله
فعلام تفريق الورى وإلاما
قيثارة أنتم فإن ألفتم
أوتاركم أبدعتم الأنغاما
ما الفرق بين عمامة و«قلسوة»
فدعوا الفوارق تغلبوا الأياما
وخذوا الصليب لكم شعار ضحية
وخذوا الهلال منارة وإماما
والطائفية حاربوا ما اسطعتم
فالطائفية جرحها ما التاما
قد مزقت صدر البلاد سهامها
ردوا لها في نحرها صمصاما
إن تعد مارونيتي وطنيتي
لبرئت منها ذمة وذماما
لوا الحكم إن دعت الجدارة واعدلوا
فالله هدد باللظى الظلاما
لا تعشقوا الكرسي عشق موله
فالعشق يورث أهله أسقاما
وإذا دعا الحق استقيلوا فالفتى
إن سيم خسفا لا يلي الأحكاما
ودعوا ولاة الأمر في أعمالهم
فالأوصياء هم ونحن يتامى!
واسعوا وراء الرزق لا يعنيكم
قعد العميد بقصره أو قاما
ومع الزمان تجددوا وخذوا لكم
شرع التطور سنة ونظاما
ليس التجدد أن ترى متخنثا
ظرفا وتمضغ في الحديث كلاما
ليس التجدد بالثياب حديثة
زيا ولو أتقنتها هنداما
إن التجدد بالعقول فجددال
أفكار والبس إن أردت «الخاما»
يا لابس «الكبرات والغنباز» لا
تخجل فكم شمل الرداء عظاما
هذا شعار الشرق، هذا ثوبنا
نحن الألى ملئوا الدنى أحلاما
هذا لباس محمد وصحابه
الأخيار من ساسوا الشعوب كراما
هذا لباس يسوع في برية
مزجت بعرف تقاه عرف خزامى
هذا لباس الله في ملكوته
فسل المصور عنه والرساما
كنا ملوكا يوم كان لباسنا
خشنا وفقنا المشرقين مقاما
فاخشوشنوا كجدودكم كي ترفعوا
في الشرق لاستقلالكم أعلاما (8) ضحك المشيب
تهافت الناس عندنا في هذا العام - 1925 - على الوظائف، وسلكوا إليها أذل الطرق وأخسها، فقلت هذه القصيدة، وأنشدتها كأخواتها، ولا فخر.
ضحك المشيب فعبست أيامي
والليل أقمر فانجلت أوهامي
ذهب الشباب بمذهب الأحلام
وغدوت في حرب مع الأيام
فانتابني الهم المقيم المقعد
أنا لا أنوح على الشباب وإنما
أبكي على وطن علاه تهدما
وطن تفرق شعبه فتقسما
ورجاله يتنازعون على السما
والهر في أوطانهم يستأسد
كل يصحح بالمزاعم دينه
يرمي بنبل المرجفات قرينه
ترك المطامع تستبيح عرينه
وبباب من حكموا أذل جبينه
متمرغا، وهو العزيز السيد
يفدي الوظيفة بالحياة وما غلا
قبحا لشهم ينحني متذللا
يا أيها العربي، أأنت ابن الألى
أنفوا فما وردوا المجرة منهلا
أم أنت عبد في الهوان مقيد
عذرا إذا حلت هناك ركابه
فالمجد فينا جمة طلابه
لا تعذلوه، واعذروا فجنابه
ما من يبجله وليس يهابه
أحد بدون وظيفة أو يحمد
لهفي على شعب يمزقه الحسد
وعلى الوظائف كر كرات الأسد
كم أحمق بذل الفلوس بلا عدد
كيما يقال: جنابه شيخ البلد
يا شيخ، يهنيك العلا والسؤدد
أبني المشارق للأمام تقدموا
فالنور لاح وقد أفاق النوم
فالغرب ما فوق النسور يحوم
والشرق بات على الحضيض يهوم
وبنوه قد هجروا الربوع وشردوا
وطن تفرق شعبه أيدي سبا
وبنوه قد هجروا الأباطح والربى
لا تعذلوا فالسيل قد بلغ الزبى
والحر ينفر إن تألم أو نبا
جنب، وبات على قتاد يرقد
يا قوم إن الشرق أصبح لقمة
للطامعين ولن يصادف رحمة
قد أمطرته سما المصائب نقمة
فهبوه من عزم الشبيبة همة
يبلى الزمان ومجده يتجدد
ثم انبذوا من باع بالبخس الوطن
قولوا له بالصيف ضيعت اللبن
يا بائعا شرف البلاد بلا ثمن
يا ميت الأحياء ألبست الكفن
حيا كأنك في حياتك تلحد
وبكل حر ألمعي بشروا
فلمثله علم المفاخر ينشر
أما الألى باعوا البلاد ودمروا
أمجادنا، وعلى العباد تأمروا
فينالهم يوم عصيب أسود
يا قوم بان الحق فاتضح الهدى
أكذا تبددنا مدى العمر العدى
فالشعب إن لم يتحد لن يسعدا
يقضي طويل حياته مستعبدا
وبعنقه «للطارئين» المقود
الغرب ذاد بجرأة الضرغام
عن حوضه جيش البغاة الطامي
وسلاحنا في الكر جيش كلام
وفخارنا بالوحي والإلهام
وبالاختراع فخارهم قد شيدوا
ملل البلاد تشبهي بالمغرب
ودعي الشقاق وبالإخاء تمذهبي
وتعصبي ما شئت أن تتعصبي
للحق لا للدين هذا مذهبي
فالرب يعرفه الجميع ويعبد
ما الخير في القرآن والإنجيل
إن أولا للبغض والتضليل؟
أفيمسيان كباتر مصقول
تفرى الرقاب به بكف جهول
وهما لدنيانا الدليل المرشد
لبنان يا وطن المروءة والنهى
يا أيها الجبل المعصب بالسهى
قل للذي اتبع الضلال وما انتهى
إن الخيانة ليس يخفى أمرها
والحق لا تعلو على يده يد
بيعوا حقوق بلادكم بيع السلع
للمشترين ومن يزد فيها انتفع
الله من سيف الحقائق إن لمع
هتك الضلال ودك بنيان الطمع
ولهول مضربه يشيب الأمرد
لهفي على وطن غدا مستعبدا
من عهد آدونيس تقهره العدى
إلا الألى افترشوا الجلامد مقعدا
للنير لم يحنوا الرقاب تمردا
لبنان أين قطينك المتمرد
مروا كما مر الزمان الغادي
تركوا الديار مناهل الوراد
يا خجلة الأبناء والأحفاد
إن يدعهم لبنان يا أولادي
والكل عن داعي الحمية هجد
يا أرزنا المحبوب جبار الأزل
خبر بنينا عن جدودهم الأول
أيام كانت تستميحهم الدول
وأسودهم كانت تكر بلا وجل
كالبحر ترغي في النزال وتزبد
سيعود عهد المجد والحريه
وترى بلادي نهضة قوميه
ستعيد ذاك مدارس وطنيه
هي منبت الأبناء والذريه
وبها بها قصر الرجاء يشيد
هذي البلاد وما لها من جامعه
تحيي شبيبتها كهذي الجامعه
فبمثلها نجد الأماني الضائعه
وبها تآخى والأدلة ساطعه
موسى وعيسى والنبي محمد
إن شئتم أن تغنموا استقلالا
رقوا العقول وعلموا الأطفالا
فبذاك نخلق للبلاد رجالا
يسعون لاستقلالهم أبطالا
أو لا فليس لليلنا الداجي غد
1925 (9) الحركة الفلسطينية الأولى
عنوانها يدل على الأسباب التي أوحت بها، فلا حاجة إلى كلام لا يغني ولا يسد جوعا، ولكنني أذكر لك شيئا، وهو أن تلاميذي كانوا «يضربون» كل عام، احتجاجا على وعد بلفور، لا يعرفون في ذلك هوادة.
بقعة تزهو بثوب قشب
لعبت فيها أكف النوب
قسموها دولا فانقسمت
يا لأمر مضحك مستغرب
يا لها مهزلة مثلها
في ربوع الشرق ذاك المغربي
دول فيهن جمهورية
وبها ما شئته من لقب
من ملوك وإمارات ومن
مضحكات ما أتت في كتب
كان يحميها أمير واحد
من بني يعرب عالي النسب •••
من لنا مثل هشام ملكا
يفتح الدنيا بسيف يعربي
يتمادى ناشرا أعلامه
فوق أوروبا بجيش لجب
عمر الخطاب عد وابعث بنا
مثل صمصام ابن معدي كرب
ليذيق «الفيل» حتفا فيرى
العرب فتحا هو أقصى الأرب
حبذا صقر قريش داخلا
باب أوروبا بأبهى موكب
حبذا هارون في سدته
سيد الدنيا عظيم الرحب
بابن سفيان ابتدا الملك العظيم
وبالمأمون عصر الأدب
دول ما فت في ساعدها
فهوت إلا ظهور الأجنبي
فليكن تاريخنا أستاذنا
ذاك أستاذ الفتى والأشيب •••
يا بني أمي «أغدوا» فبكم
عود إرث الأمة المنتهب
زهرة المشرق أنتم وقذى
ستكونون بعين المغرب
أنتم آمالنا في مشرق
مشرئب إن وثبتم يثب
إن يك الوقت عصيبا قاهرا
فاستعدوا للزمان الأعصب •••
يا فلسطين اصبري لا تجزعي
لك أجر الصابر المرتقب
حزت دون الأرض مجدا خالدا
وإليك الله أسرى بالنبي
بقعة حدث عيسى آله
فوقها كل حديث عذب
حاولوا أن يملكوها عنوة
ويح «بلفور» الطموع الأشعبي
ما دروا أن براق المصطفى
لن يمسوه وفي العرب صبي
يا براق المصطفى نحن الفدى
أو يبيدوا أمة المطلب
إن نبا السيف عن الفتك بهم
سوف نلقاهم بحد الصلب
أغضبوا عيسى وطه جملة
سنريهم أيما منقلب
مضر غضبتها مشهورة
أبنوها نحن إن لم نغضب؟
يا صلاح الدين قم وانظر إلى
شعبك المضني طريد الكرب
أي صلاح الدين لا تفريق ما بين
شعبينا ألا انظر واعجب
انظر القوم الألى أرجعتهم
عن حدود القدس صرعى الرعب
قم من القبر فقد عودتنا
يا صلاح الدين رد الأجنبي
فبأرض النيل عيسى استعبدوا
وبأورشليم طه قد سبي
إن أفاق العرب من غفلتهم
أنزلوا الويلات بالمغتصب
ليس يحيي الشرق إلا فتية
ذات زند إن ورى يلتهب
إن يكن للعلم أسد فهم
وعرين الأسد بين الخشب
إن في نهضتهم آمالنا
فهي عندي بدء عصر ذهبي
يا بني أمي وهذي أمكم
كعبة العلم وبيت النجب
جمعتنا فغدت جامعة
شملنا بالرغم من كل غبي
قد دعوتم كهلكم حتى غدا
مستعيدا بينكم زهو الصبي
ورأى في كل وجه منكم
صورة الابن إلى خير أب
أيها المنبر قد طال الجفا
زمن مر ولم تهتز بي
كان بالأمس كبيرا أملي
كنت ذا عود متين صلب
فأضاع الدهر آمالي كما
ضيع الخلف أماني العرب
يا بني أمتنا حيهلا
عاضدوا الحق يفز بالغلب
واذكروني يا بني أمي إذا
جادت الدنيا لكم بالأرب
وانصبوا فوق ضريحي علما
ليرى عظمي اللواء العربي (10) إلى ابني محمد
قد استغنيت باسمك يا بنيا
عن اللقب الذي لم يغن شيا
يسائلني عن المرمى أناس
فقلت لهم علي وما عليا (11) التجنيد
شاع خبر التجنيد فجزع الناس له، فكانت هذه القصيدة:
خوضوا المعارك واطلبوا التجنيدا
أو فامكثوا للفاتحين عبيدا
ما لي أراكم تمقتون وصاية
وتقبحون الذل والتقييدا
وأراكم متطلبين سيادة
قومية، لا تعرف التحديدا
وأرى الصبي يتوق لاستقلاله
توق العطاشى يطلبون ورودا
وأرى الخطيب إذا تسنم منبرا
هز البلاد وأرقص الجلمودا
وأرى صحافتكم يصر يراعها
صرا يخال صواعقا ورعودا
وأرى زعيمكم يصيح مطالبا
بحقوقكم، لا يذخر المجهودا
حتى إذا قيل التجند واجب
أجفلتم تلوون عنه الجيدا
أفتطلبون من «الأجانب» عسكرا
يحمي حدود بلادكم لتسودا
والله لو بلغ الجدود قعودنا
لبكوا دما تحت التراب مديدا
وتبرأوا منا وقالوا إننا
لسنا لمن نزعوا السلاح جدودا
أنى يكون الجبن من أخلاقكم
والفتح كان ببندكم معقودا
إن تطلبوا استقلالكم فتأهبوا
حتى تكونوا للبلاد جنودا •••
أولستم أسباط من عقدت لهم
كف الزمان بيارقا وبنودا
أوليس منكم طارق بن زياد من
بحسامه قهر الملوك الصيدا
أوليس منكم خالد الأسد الذي
دخل العواصم فاتحا صنديدا
يا معشر ابن العاص من أسرى إلى
العلياء متئدا يلف البيدا
أفتذكرون أبا عبيدة غازيا
يغشى الثغور ولا يخاف سدودا
يا للرجال أتذكرون نساءكم
فبوقعة اليرموك صلن أسودا
صرنا كأشباه الرجال ولا رجا
ل إذا النفير دعا وصات شديدا
إن الدم العربي في أعراقنا
ألف الحضارة فاستحال صديدا
إنا ألفنا رغد عيش حضارة
حتى نسينا مجدنا الموءودا
فتذكروا سيف النبي محمد
كم فل جيشا واستباح حدودا؟
هذاك سيف الدين والفتح المبين
يخط للمستسلمين بنودا
فاستبسلوا في الذود عن أوطانكم
من مات للأوطان عاش شهيدا
ومع الزمان تجددوا قد هان من
لا يبتغي التجويد والتجديدا
ضموا إلى المجد التليد طريقه
فالمجد يعشق طارفا وتليدا
وتأهبوا للحادثات كتائبا
لا ترهب الإنذار والتهديدا
أين الموحد في الجهاد صفوفكم
فيوحد التثليث والتوحيدا
فنرى بكم تحت البنود عصابة
دانت بأقنوم الحياة وحيدا
فذرو التشيع للمذاهب واجعلوا
الهدف العروبة تبلغوا المقصودا
أو لا فأدوا للأعادي عن يد
جزياتهم واقضوا الحياة عبيدا •••
يا أيها العرب الكرام استيقظوا
الفجر لاح فمن يطيق هجودا
لا تطلبوا حقا بغير مهند
عضب يفل المعضلات حديدا
لا، لست بالعربي يا هذا إذا
لم تتخذ يوم الكريهة عيدا
فالنار إن لم تستطع إخمادها
أكلتك ألسنها فكنت وقودا
1927 (12) تحية الطلاب
جاءني تلاميذي من العراق، والحجاز، وشرقي الأردن، وفلسطين متأخرين، وكان عذرهم جميعا تأخر «الباص» جواز السفر في القنصليات، وكنا على موعد من الكلام فقلت هذه القصيدة:
يا بني أمنا، السلام عليكم
وعلى من مثلتموه التحيه
إن أحييكم فإني محي
بكم نشء أمتي العربيه
أنتم كتلة الحياة لشرق
قتلته السياسة المغربيه
كلما شاء نهضة واتحادا
أيقظوا فيه نعرة دينيه
فغدا الغرب فائزا ورسبنا
فاستعيدوا أمجادنا اليعربيه
انهضوا نهضة الأسود إلى المجد
فأنتم للمجد خير بقيه
نحن أعضاء جسم شعب عظيم
قطعته الفوارق المذهبيه
نحن شعب ما علمته الليالي
من دروس الحياة والوطنيه
غير هذا محمدي وهذا
عيسوي، تبا لها وطنيه
فافترقنا والحال تقضي علينا
باتحاد على الشعوب القويه •••
يا بني العرب، بالنبي، بعيسى
بالذي في يديه نفس البريه
فتشوا، فتشوا البلاد، أروني
قيد باع فيه لنا الحريه
ملئوا البر والبحار وقالوا
هذه ملكنا فيا للبليه
ففقدنا حق التزاور حتى
بجواز إن لم تشأ القنصليه
قد غدونا في أرضنا غرباء
وغريب الديار مولى الرعيه
ذاك أمر لأجله ثار قومي
فسلام على الدماء الزكيه •••
يا بني العرب إن أردتم حياة
فانبذوا الخلف تدركوا الأمنيه
إن قرآنكم وإنجيلكم ما
علماكم غير الدروس السنيه
فلكم بالهلال رمز اهتداء
ولكم بالصليب رمز الضحيه
إن يكن ذا شعاركم فلماذا
تقتلون الإقدام والعبقريه
أرسل الله للوئام النبيين
فكانوا هدى العصور الدجيه
علموا الناس رحمة وإخاء
لا شقاقا وقسوة بربريه
ما هم غير مصحف كتبته
في الأعالي لنا اليد العلويه
ففهمنا غير الذي قصدوه
فضللنا في ظلمة أبديه
واختلفنا على السماء ضلالا
واحتكرنا المواطن السمويه
ما لنا والسماء. نحن على الأر
ض أسارى المطامع الأشعبيه
آفة الشرق كله رؤساء
رفلوا في المطارف السندسيه
قيدوا الناس بالضلالات حتى
ذللوا منهم النفوس الأبيه
يحسبون الضعيف عبدا رقيقا
لهم الحق فيه كالملكيه
والمبادي كالثوب طيا ونشرا
هي للخلع بكرة وعشيه
لا يغرنكم ذئاب غراث
فتكت بالحظائر الآدميه
كم يضم الديباج خلقا دنيئا
كم إباء تحت العباء الزريه •••
فأنشئوا مثلما نريد رجالا
تتحقق آمالنا الذهبيه
وخذوا العلم للنهوض سلاحا
قاطعا لا سيوفنا اليمنيه
آفة العرب جهلهم علم هذا
العصر فاسعوا وراءه بحميه
جملوا النفس بالعلوم لنرقى
ذروات المفاخر المدنيه
إن يكن علمكم شعار الترقي
تتحطم قيودنا الأجنبيه
إن يعد عزنا أهابت عظامي
إن نمت نحن عاشت الذريه
جددت مجدنا فحسبي أني
مت، فلتحي أمتي العربيه
1929 (13) رمز الخلود
تعود التلاميذ المنتهون أن يزرعوا في دار المدرسة شجرة، يضعون عند أقدامها بلاطة من رخام محفورا عليها تاريخ العام، وفي هذه السنة شاءوا أن يتفننوا فجاء الأمير نهاد أرسلان بشجرة أرز، وحفروا على البلاطة رسم زيتونة ونخلة، وترأس معلمهم الحفلة فقال ما تسمع، أما ما أشار إليه في ختام أبياته فهو موت زوجته الحديث العهد.
رمز الخلود تحية وسلام
فبنوك حولك خاشعين قيام
نقشوا لهم في الصخر رمز تآلف
ستحققن وجوده الأيام
طبعوا ائتلافهم عليه فأنطقوه
بالإخاء الحق وهو رخام
في صقله رمز إلى أخلاقهم
وبياضه للطهر فيه كلام
فكفى به رمزا لوحدة أمة
لعبت بها الأغراض والأوهام
من لي بيوم إن تمايل أرزها
ضحك الحجاز له، وهش الشام
وهفا العراق إلى لقاه باسما
متهللا واهتزت الأهرام
هذا هو اليوم الذي نصبو إليه
فحبذا لو صحت الأحلام
أهلا بيوم فيه يجمع شملنا
وتوحد الشارات والأعلام •••
سيكون، إن كنتم شبابا ناهضا
في راحتيه النقض والإبرام
فدعوا الشيوخ فإن أس مصيرنا
يبنى على أكتافكم ويقام
فابنوا لنا صرحا حديثا طرزه
جمع النصارى فيه والإسلام
وخذوا من الإنجيل والقرآن ما
فيه الإخاء وألفة ووئام
كالغرب كونوا مقدمين إلى العلا
فجدودكم رقاهم الإقدام
بالجد يحيا بالرفاهة ثعلب
ويموت إن يتكاسل الضرغام
فاسعوا شبابا للفلاح وجاهدوا
فجهادكم تحلو به الآلام
إن الحياة شديدة وطآتها
وبها يسود الصابر المقدام •••
إن اللسان مقصر عما انطوى
في خاطري واستعصت الأقلام
فاعفوا إذا قصرت آخر موقف
إن المصائب للرجال لجام
1929 (14) بمناسبة معرض الكلاب 1932
قل للذي يشكو تباريحه
للرزق فينا ألف باب وباب
قد أسرف الدهر بنعمائه
في أرضنا حتى أعز الكلاب (15) رمز
تمثل الجامعة الوطنية بأم حولها بنوها وهي منكبة على تعليمهم أربعتهم، وهؤلاء الأربعة بطرس، ومحمود، وسلمان، وموسى هم رمز إلى من ينضوون تحت لوائها من أبناء الملل جميعها.
برحت ذكاء الأوج، أوج سمائها
فاصفر وجه سنائها وبهائها
لمت شعاع جمانها بردائها
عن أرضنا ورمته في دأمائها
ومشت تتم الرحلة الجويه
شهد النهار غروبها ورأى الخطر
يبدو لعينيه ولم يغن الحذر
واليأس دب بقلبه حتى انتحر
وجرت دماه فكونت تلك الصور
بين الغيوم الحمر كل عشيه
وأطل مبهوتا من الجزع القمر
فكأنه هيمان أضنته الفكر
عشق الغزالة وهو في سن الصغر
فبحبها كم مات يوما وانتشر
لكنه ما فاز بالأمنيه
فجلست وحدي صامتا أتأمل
طورا أعود إلى الصواب وأذهل
وحي الطبيعة، وحي حق منزل
أنعم بها يا أيها المتأمل
نظرا ففيها الحكمة الأزليه
وإذا بأم تحت أضواء القمر
وعلى محياها بدا ضنك السهر
أم يحيط بها بنوها والثغر
متبسم عن مثل أسلاك الدرر
وحنانها كأشعة ناريه
أم وما أحلى الأمومة تعطف
فهناك حب لم يشبه تكلف
أم حواليها بنوها أوقفوا
هذا تعلمه وذاك تثقف
لله در الأم من كليه
قد راقني بل هزني ذاك العنا
وسرى إلى قلبي الترجي والمنى
فسألت من هذي، فقالوا أمنا
دار العلوم، أجل، لقد بنيت لنا
في الشرق جامعة النهى الوطنيه
فهي التي ستحقق الآمالا
حقا وتخلق للبلاد رجالا
فانظر تشاهد حولها الأشبالا
يتهيئون ليدركوا استقلالا
حسب العروبة هذه الجنديه
في سلكها من كل أقطار العرب
نظمتهم عقدا كأسلاك الذهب
وسيصرفون العمر سعيا للأرب
حتى ترى شعبا وليس به شعب
متفوقا بخلاله المضريه
فإلى الأمام إلى الأمام تقدمي
وجنود علمك للمواطن نظمي
يا ملجأ فيه الشبيبة تحتمي
لا زال نجمك فوق كل الأنجم
فلأنت جامعة النهى العربيه (16) المعركة الفاصلة
في حزيران سنة 1933 كانت معركة أدبية فاصلة في لبنان، وكانت ساحتها الجامعة الوطنية، كان ذلك في يوبيل المدرسة الفضي، فتمثلت في الحفلة الكبرى جميع السلطات والمذاهب، فعن المندوب السامي ناب الكونت دي سالان، ومثل محافظ جبل لبنان الجمهورية اللبنانية، واستناب غبطة البطرك الماروني نائبه المطران عقل، وحضر سماحة مفتي الجمهورية اللبنانية بنفسه.
كان خطيب الحفلة فيلسوف الفريكة أمين الريحاني، وكان لأمين - رحمه الله - كل عام، كلمة يقولها ويمشي، فكانت حملته - ذلك اليوم - على الشاعر بشارة الخوري فندد بنواحه وبكائه على الهوى والشباب والأمل المفقود، فحملت علينا الصحف بعد ذلك تنصر الشاعر أبا عبد الله، حتى حضت إحداها المندوب السامي على إقفال مدرسة يقال فيها مثل القصيدة التي تقرؤها فيما يلي، ثم ظهر كتاب أمين «أنتم الشعراء» وظهر كتاب آخر رد به عليه وعنوانه «نحن الشعراء»، وكفى الله المؤمنين القتال.
هذه الدار، فادخلوها وحيوا
ألمعيا أشادها، فأصابا
عظموا هذه البساطة، فالزخرف
لا يجعل الكتاب كتابا
بين جدرانها تردد روح
قد حباها المسيح عزما مذابا
والنبي المختار «أحمد» أتاها
بيانا ومنهجا وثابا
فتآخى «الجميع» تحت لواها
كجنود تلقى الصفوف غضابا
ورأى الناس في قلوب بنيها
بيعة ضم صدرها محرابا
دينها الحب، والكتاب اتحاد
وبه الضاد تجمع الأعرابا
فهي صوفية تعالت بطود
قد أظل الأبدال والأقطابا
بردي والفرات والنيل والأردن
تجري في صحنها أترابا
وبها زمزم تمازج قاديشا
فيأوي النخيل والأرز غابا
والهلال السني ضم صليبا
فرأينا بنيهما أحبابا
ذاك رمز الهدى، وهذا شعار
التضحيات التي تذل العقابا
وحدت شملهم وكان بديدا
وكستهم من روحها جلبابا •••
هذه داركم، وقيمها اليوم يؤدي
عن ربع قرن حسابا
هذه داركم فإن تعضدوها
نطح الأفق روقها والسحابا
معهد العلم هيكل الوطن الأقدس
فاخشع بصحنه هيابا
إن تفرقكم المعابد فالمعهد
بيت يوحد الأغرابا
فارفعوا راية العلوم نهيئ
لارتقاء المواطن الأسبابا
كان مأوى الغزاة أمس البوادي
وغدا اليوم حصنها الكتابا
كان أمس السلاح سيفا ورمحا
إنما اليوم صار غازا هبابا
فإلى العلم إن طلبتم سلاحا
وانبذوا القوس واهجروا النشابا
علم العالمين بالقلم الله
وفيه هدى العباد الصوابا
ملل الأرض بالملايين تحصى
ولبعض الأفراد تحنو الرقابا
كم صبي مشى يقود بعيرا
وبعير لجهله ما آبى
وحمار لجهله ركبوه
فمشى فارها، فهزوا الركابا
كم ضعيف يصطاد ليث عرين
مستخفا ببأسه لن يهابا
إن رأيت الإنسان يخترق البحر
وفي الجو وطد الأطنابا
لا تعلل بالقوة الفوز فالقوة
عمياء لا تريغ الصعابا
فالحسام البتار إن سله الغر
كهام، وليس يفري الثقابا
وعصا الحاذق المدرب تفري
فرية السيف، فاسألوا الضرابا
فأديسون لم يكن كأنيبال
قويا مبارزا محرابا
وعظيم الأجيال سبتور ما
استل حساما ليقتل الميكروبا
فإلى العلم إن طلبتم فلاحا
من توخى الفلاح بالجهل خابا
إن ماء البحار إن لامسته
أنمل العلم يستساغ شرابا
إلى المتخرجين
يا بنينا، سيروا إلى معهد الدهر
وخوضوا على العلوم العبابا
إن أقلامكم أدق أداة
إن تعلمتم استحالت حرابا
فاشحذوها وسننوها تصدوا
بشباها عن الحياض الذئابا
فهنا منسج وأنتم خيوط
أسعفونا نمتن الأثوابا
ليس هذي الصفوف الأسطورا
سنؤدي للشرق منها خطابا
أسعفونا لكي تكونوا كتابا
يقرأ العز فيه بابا بابا
تلمذ الأنبياء من قبلنا الناس
فراضوا العقول والألبابا
وأرانا نتلمذ اليوم نشئا
لبلاد ينوبها ما نابا
ديننا اتحاد أمتنا الغراء
فكونوا أنصاره والصحابا
فعلى عاتق الشبيبة تبنى
وحدة قد تمزقت آرابا
أدب الضعف حاذروه جميعا
لا تنوحوا قصوركم والقبابا
أدب الضعف حاذروه فهذا
مورفين يسمم الأعصابا
كان أجدادنا لسانهم السيف
وكانوا للمستجير الجوابا
فلماذا أرى بنيهم حيارى
ملئوا الأرض لومة وعتابا
أذن الظلم لا تصيخ لباك
فخذ الحق عنوة واغتصابا
كن قويا تسد فإن ابن آوى
يستبيح الحمى إذا الليث غابا
يا فتى الشرق كن قويا جسورا
لا تنح فوق ما استحال خرابا
كن كنسر يرقى الفضاء صموتا
ودع البوم ناعبا والغرابا
ناصروا الحق حيثما حصحص الحق
تروه رغم القوى غلابا
جاهدوا، جاهدوا، وجدوا فلا
يدخل إلا من يقرع الأبوابا
فاقرعوها قرعا عنيفا وإن لم
يفتحوها فحطموا الأخشابا
من يشأ أن يكون ربا مطاعا
يملأ السهل بطشه والهضابا
فانصحوه يبغي سوانا فإنا
معشر العرب نكره الأربابا
إن تعلمتم وعاركتم الدهر
رجالا تناقشوه الحسابا
واحذروا وصمة التخنث فالأمة
تفنى، إن التخشن ذابا
احفظوا الجار، وانبذوا نعرات
الدين، فالجار إن دعوتم أجابا
أقتالا على السماء، ونحيا
في جحيم بأرضنا أغرابا! •••
يا ابن عمي، إن كانت النار حظي
فسأصلى سعيرها واللهابا
فاتركني على الثرى مستريحا
أنا لا أنت سوف ألقى العذابا
إن تك النار حصة لابن رشد
أو لتوما، فالعيش في النار طابا
لست أهواك يا سماء مع البله
وإن كنت كوثرا وملابا
مذهبي في الحياة حب ابن عمي
بايع «الشيخ» أو أطاع البابا
عربي قبل المسيح وطه
وعليها سأطبق الأهدابا •••
لا رقي يرجى بدون علوم
فهي من جونا تبد الضبابا
إن يفق عدها الهياكل فزنا
وسمونا والمجد للشرق آبا
معهد العلم إن يعلم بنينا
حب أوطاننا فحمدا أصابا
معهد العلم إن تعلم بنينا
لسوانا فلتصبحن خرابا
مت فما أنت معهدا أبتغيه
لبلادي، ولو نطحت السحابا
قلت ما قلت لا أرجي ثوابا
من بلادي ولست أخشى عقابا •••
أكثر الله في البلاد صروحا
مثل هذا، يوحد الطلابا
فليعش فليعش، ليحيى طويلا
ابق يا صرح بعدنا أحقابا
1933
في سبيل الاستقلال
(1) فرنسا والعرب
قلتها سنة 1933 مخاطبا بها المندوب السامي الكونت دي مارتل، وقد ترجمت إلى الفرنسية ونشرتها جريدة «لاسيري»، فأجاب فخامة المندوب جوابا طيبا، ولكن الشعر المسكين يعجز عن توجيه خطى الساسة.
إن تاريخك تاريخ الوجود
لم يدع مجدا، طريفا وتليد
فاخلقي مجدا جديدا - فلقد
نفد المجد - إذا رمت المزيد
رفعت يسراك مشعال الهدى
ونضت يمناك سيفا للعنيد
أنت «كالسين» إذا عاصفة
جبهته، ناوح البرج المشيد
دعة العذراء في السلم، وفي
الحرب كالهوجاء، عمياء شرود
تمطرين الأرض غيثا أحمرا
ينبت الغار لأبناء الخلود
يا فتاة النصر، ما أبهاك في
موكب العرس، وما حول اللحود
أنت أم متئم، ما فتئت
تلد الأبطال في كل العهود
ملأت أبناؤها الدنيا وما
برحت كالغيب، حبلى بوليد
تربة طيبة، ألبسها
الحارث الفذ من الخصب برود
تنبت «الشوك» سياجا للرياض
وبالأزهار أفنانا تجود
أمة جبارة تنهضها
نصرة الحق، إلى أقصى الحدود
حرم الأحرار، إن يأو إليه
شريد، أمن البغي الشريد
خلقت راحتها ظمأى إلى
ضمد الجرح وتحطيم القيود
أتبنت، يا ترى، حرية الأرض
حتى لا تني عنها تذود؟
أمة وثابة، وجهتها
المثل الأعلى قديما وجديد
يتلاقى في «الذرى» أبناؤها
كالنسور الصيد في هام الصرود
طرق شتى، وقصد واحد
كلهم للحق والعدل جنود
العرب
أمة هبت من الصحرا على
دول الأرض حرورا كالوقيد
ألفت أجزاؤها، فانفجرت
أي بركان، شظاياه القدود
فهوى كسرى ، وولى قيصر
ومشى الرعب بأعصاب الوجود
أمة وحدها «ابن امرأة»
من قريش، أكلها كان القديد
كره الأملاك، كهلا، فبنى
أسس الشورى على الصخر الوطيد
بذر الإيمان في الأرض التي
من أتاها «عمر» وابن الوليد
فاستهلت دولة باهرة
أنبتت مثل هشام والرشيد
فزها الملك بشعب باسل
يستطيب الخوض في المرعى الجهيد
بايعوا الفتح على الموت به
فهما حلفان، والدهر شهيد
حملوا التوحيد في أردانهم
ومشوا بالشرع خفاق البنود
فتحوا واستعمروا واصطهروا
أدب العالم كالقين الفريد
قد مضت دولتهم لكنما
ذكرها الخالد في كل صعيد
النيزك الرائع
نيزك أوقده الله فأرعب
ما شاء ووافاه الخمود
وهل الدولة إلا عبرة النيزك
الهارب في الأفق المديد
تترك «الفن» تراثا خالدا
ليس إلا الفن ميراث الجدود •••
كم أدال الله من شعب، وما
فني الشعب، ولو عاش طريد
وحدة الأمة لا تفنى، وكالنار
تحيا، حقبا، في كل عود
فإذا استيقظ منها «قبس»
عبقري، ألهب الغاب النضيد
جمرة كامنة في موقد الأزل
الذاكي، لها الذكرى وقود
خاب من يطمع في إطفائها
ولها التاريخ ضرام شديد
الأمس واليوم
يا ابن «دي مارتيل» هذي أمتي
ابنة الفطرة والرأي السديد
كنتم كفؤا لها في فجرها
الراعب البسام هزءا بالسدود
فصديقا وعلى السدة هارون
والمأمون، في العهد السعيد
ثم حلفا منذ أعوام خلت
أنسيتم «عهد» ذياك «الشهيد»
عهدنا المبرم لا ننقضه
ولكم متنا على دين العهود
إلى العميد
أيها الآتي إلينا، مرحبا
باسم ثالوث له طاب السجود
أمل الشام وهل، نعني سوى
أمل الشام، إذا قلنا العميد
أبرز «الرق» الذي يبدي لنا
من فرنسا، وجهها الحر المجيد
أبرم «العهدة» في الشام فكم
قطعت سعيا إليها من وريد
حسبها مجدا دم مهدور
فدم الأجداد برفير الحفيد •••
كل ما في الكون مفطور على
طلب استقلاله يأبى الجمود
هذه الأطيار لا تنفك في
المحبس المخضل، تبدي وتعيد
تنشد الحرية الخضراء، في
القفص الأزرق لا تخشى الرصيد
يخرج الابن على والده
إن رأى استقلاله رهن الجحود
نزعة المرء إلى استقلاله
فتنت «حواء» لا الصل اللدود
إلى فرنسا الحرة
أيها الديك، الذي يستقبل الفجر
مزهوا بترجيع النشيد
أفلا تنبئنا عن فجرنا
وهل العهد به منا بعيد
هيه، يا بوتقة الدهر، اصهري
هذه الأجسام للجسم العتيد
حبذا نارك إن تلتهم الدرهم
الزائف، رفقا بالنقود
حبذا مبضعك القاسي إذا
شق منا الجلد نزعا للصديد
سكة التجديد، شقي أرضنا
كي يطر النبت وامضي بالحصيد
أيها الأحرار، هذي كفنا
فاطلبوا فينا أصدقاء لا عبيد
إن فتح الأرض أمر هين
فافتحوا القلب ورفقا بالجلود (2) نهضة الشرق
نظمت حين حمي نضال الأقطار العربية، للتخلص من معاهدات هي بالقيود أشبه.
أرى العرب تخلع أكفانها
وتفتح للنور أجفانها
ففي كل قطر رجال صلاب
تثير على الرق بركانها
فهذي الكنانة في غمرة
الحياة تعارك طوفانها
وقد أسمعت شرقنا صيحة
يقاسي أبو الهول أشجانها
تكاد تزلزل أهرامها
البلايا وتجرف أطيانها
تضحي لتحمي دستورها
ودستورها إن تصن صانها
وهذي فلسطين كم جاهدت
تقيم على الحق برهانها
ستجني ثمار الجهاد الشريف
ويخذل ربك من خانها
وهذي العراق تحاول نقضا
لعهد ترى فيه خذلانها
وأما الحجاز مقام النبي
التي شرف الله جدرانها
فسوف تظل لنا قبلة
تحث لها الناس أظعانها
أمهد العروبة شلت يد
إليك تصوب طغيانها
وسورية في اضطراب عظيم
وقد فرق المكر عيدانها
فهذا ينادم أعداءها
وذاك يسامر ديانها
لقد رسنوها لمن رامها
فمن ذا يقطع أرسانها؟
بلادي وقفت عليها دمي
كما تقف الناس رنانها
وإني أهيج لتذكارها
متى تذكر الناس أوطانها
فهل تستقل، نعم تستقل
متى نور العلم أذهانها
فما العلم إلا منار الشعوب
يوحد بالروح أديانها
فيفرحها قرع أجراسها
كما تتعشق آذانها
وتلقى البلاد اتحادا به
تضم الأهلة صلبانها
فيهوى الحنيفي إنجيلها
ويهوى المسيحي قرآنها
ويذهب تفريق أسمائها
ويشبه مارون مروانها
فيمشي الفرات إلى نيلها
وتلثم عرفات لبنانها
ويصبو النخيل إلى أرزها
ويهوى المشايخ كهانها
أما من ينبه أوطاننا
ويدفع للمجد شجعانها
أعدوا الرجال لتحريرها
تطاعن كالأسد أقرانها
كهولا تصافح بيض الظبى
ومردا تعانق مرانها
فيا سائلي عن فتى باسل
يثور فدونك فتيانها
شباب الشآم ، ونشء العراق
ومرد فلسطين غلمانها
فهم من نعد لصون البلاد
وندفع إن جار عدوانها •••
أرى في الشباب شباب الشعوب
ورمز الحياة وعنوانها
فخلوا الغريب وعاداته
ولا تأخذوا عنه أدرانها
فمن قص شعر إلى رقصة
ألا قاتل الله شيطانها
فما المدنية أن نلبس
الثياب نشمر أردانها
فلا تزدروا من تردى العبا
وإن أغلظ النسج خيطانها
فإن العبا لعرين الرجال
إذا دعت الحرب فرسانها
فكم عزة تحت ذيل العبا
أطاحت عروشا وتيجانها •••
وأم اللغات أقيموا لها
دعائم تحفظ أوزانها
فقد كلم الله فيها النبي
وحدث جبريل رضوانها
فتي العرب خل الونى واستفق
وحي العلاء وأخدانها
وذد عن بلادك مستقتلا
ووطد بعلمك بنيانها
فهم لا يبيعون حرية
لمن لا يؤدون أثمانها
وإني لأعجب من أمة
جهول تقدس ذؤبانها
ومثل النعاج إلى مجزر
تساق فتتبع رعيانها •••
ليرحم إله الورى ولسنا
نصير الشعوب ومعوانها
فمن فضله صرتم أمة
تعزز بالحق سلطانها
فمن جاء يبغي امتلاك البلاد
يلاق العصاة وأعوانها
ومن حل ضيفا فأهلا به
هي العرب تكرم ضيفانها
فإن هدم الدهر آمالنا
فليس يزعزع أركانها
فكونوا بني أمنا عصبة
تجد لتحمي أوطانها
فراية يعرب مطوية
وقد بعثر الدهر ألوانها
فإن كنتم سبط أجدادكم
ألا فارفعوا في غد شانها
1930 (3) أين الأعارب
كانوا في كل عام يضايقونني بطلب جدول إحصاء بحسب طوائف التلامذة، فلا أدري ماذا أصنع، وسبب ذلك أننا لا نسأل طالبا عن دينه فكيف بنا وهم يطلبون إحصاءهم شيعا وطوائف وهذا ما نجهله كل الجهل!
أين الأعارب، أين من قد علموا؟
من أحجموا درس الحياة فأقدموا
ما لي أرى وطني كئيبا عابسا؟
والناس فوق طلوله تتبسم
سفرت نجوم سمائه فتلألأت
غر الثغور، فأين تلك الأنجم؟
دار الزمان عليه حتى عبست
جناته الزهراء فهي جهنم
وطني وآفته بنوه فإن يكن
متألما، فلجهلهم يتألم
هيهات أن يتجمعوا، وشعارهم
هذا مسيحي وذلك مسلم
ما كانت الأديان للفريق ما
بين الشعوب بأمة تتبرم
أوحى الإله بها لكي يتآلفوا
فتفرقوا وتقلنسوا وتعمموا
أهلا بيوم ليس يسألنا به
عن ديننا أحد فلا نتقسم
ويصير مذهبنا الجميع عروبة
تبدا بآي الاتحاد وتختم
وتعزز الأيام شأن أعارب
صلوا على الوطن العزيز وسلموا •••
ميراث أهل الغرب كنز تجدد
وتراثنا مجد يشيخ ويهرم
فكأنني بالشرق قصر هائر
متصدع جدرانه تتهدم
والغرب يبني كل يوم معقلا
والعرب في بيد الخمول تخيم
الغرب طار على جناح بخاره
والعرب تحدو فوقها وترنم
يا أيها العربي، تنبه واستفق
زأر البخار، فكيف يغفو النوم
تلهو بكان جدودنا فكأنما
بالأعظم النخرات قدرك يعظم
لا تسألوا الأيام عن مجد مضى
وتجددوا وعلى القديم ترحموا
شاد الجدود لهم قصور مفاخر
شم الذرى وعلى الأنام تقدموا
فتشبهوا بهم ولا تبكوا على
أطلالهم، إن التباكي يؤلم
إن تسألوا أجداثهم هتفت بكم
إن كان للأجداث نطق أو فم
أبناءهم، سيروا كما ساروا إلى
أقصى الفلاح وغامروا كي تغنموا
لا ترهبوا العقبات وهي كئودة
إن كان فيكم من دمائهم دم
ودعوا التفرق وانبذوا نعراتكم
وخذوا عن التاريخ ما لم تعلموا
من لم تعلمه الحوادث، وهي
أستاذ الشعوب، فذاك لا يتعلم
1926 (4) ذكرى الشهداء
يوم كانت الحكومة تحيي ذكرى الشهداء في 2 أيلول درجنا نحن على الاحتفال بذكراهم في 6 آيار، وبقينا على ذلك حتى صار العيد واحدا، وقد قلت هذه القصيدة بهذه المناسبة مستهجنا النصب التذكاري الذي لم يستحسنه أحد غير الذين عملوه.
دول الخنا مهما تعاظم شأنها
سيدك جبار السماء بناءها
فإذا رأيت حكومة ظلامة
فأبشر، ستطوي النائبات لواءها
يا أيها العربي، لا تقنط فكم
دول غزتك وقد شهدت جلاءها
لم يبق حيث تحكمت إلا الذي
تركت لتاريخ البلاد وراءها
مرت بنا مر السحاب ولم نزل
في أرضنا مستمطرين سماءها
فهنا البقاء لنا وليس لغيرنا
إن الغريب مغادر أرجاءها
لا تقنطوا من رحمة الله التي
جلت وقولوا ما أشد سخاءها
واسعوا إلى استقلالكم يا أمة
شهد الزمان جهادها وبلاءها
جودوا بأنفسكم إذا الداعي دعا
فالنفس لاستقلالنا إن شاءها
حرية الأوطان يدركها الذي
بالنفس ضحى واستمات فداءها
موتوا فموتكم الحياة لأمة
مقهورة قد سرها ما ساءها
ماتت مواطنكم لأن رجالها
عشقوا الحياة مطولين رشاءها
أما الذين استشهدوا فحياتهم
ذكرى تردد أرضنا أصداءها
ماتوا وعشنا بعدهم لكننا
موتى تحاول أن تطيل بقاءها
في كل يوم للشهادة دعوة
تبدو ولكن لا ترى أبناءها
شهداؤنا القدماء، هل أحللتم
شهداءنا من بعدكم علياءها
إن الشهادة بعدكم ظفرت بها
فئة تكتم خيفة أسماءها
يا أمة الشهداء أنت شهيدة
نبل المظالم مزقت أحشاءها
إن يعجبوا فليعجبوا لشهيدة
بدمائها قد كرمت شهداءها
إن المشانق للشعوب منابر
والحق ينطق دائما شهداءها
يا ضيعة الشهداء في وطن به
فئة تعيش لتستغل دماءها •••
يا فتية الشرق، البلاد مريضة
كلمى، أفينا من يعالج داءها
مصر تئن، وفي العراق تأوه
يبكي الحجاز ومن أتى بطحاءها
وأرى فلسطينا ولبنانا وسو
رية على يأس يميت رجاءها
أوطانكم تدعوكم فتعلموا
كيما تلبوا، قادرين، نداءها •••
يا أيها الرمز الذي نصبوك للشهداء
جئت مضاعفا بلواءها
قد قمت شبه مناحة أبدية
في أمة عنها تنيب نساءها
1927 (5) دعوا ذكر مي
وهذه مثل أخواتها قيلت في مرضنا المعلوم، شفى الله الأمة من هذا الداء.
دعوا ذكر مي وعصر الدمن
أيا معشر العرب طال الوسن
وخلوا أذكار الليالي الخوالي
فتذكارها موقد للشجن
وللمجد سيروا صفوفا صفوفا
فماذا يفيد البكا والحزن
فإن ترجعوا عزكم فاخروا
بمجد مضى «ملء عين الزمن»
وإلا فما النفع من صيحة
لتحيا البلاد ليحيا الوطن! •••
ألفنا التفجع فوق الطلول
بعصر قصور الورى الشاهقه
وأشغفنا ذكر مجد الجدود
وأيام عزهم السابقه
وبتنا حيارى وللكهرباء
شموس بدت حولنا شائقه
ويطربنا ذكر مجد قديم
بقاياه ما برحت ناطقه
وإن يفخر الغرب قلنا له
مقر النبوة هذا الوطن •••
ثنانا التعصب عن نهضة
نسود بها وألفنا الجدل
وما في البلاد سوى صيحة
كنحل يدن وما في عسل
قواف ترن ونثر يطن
وشعب يئن قليل الأمل
وصحف تصيح ولا تستريح
وعلم صحيح وما من عمل
وإن عدد الغرب أمجاده
نعدد آثار هذا الوطن •••
لقد أدرك الغرب سر النجوم
ونحن جهلنا حديث الثرى
فبئس الحياة حياة الجهول
فذاك الخليق بأن يزدرى
أأنتم أحفاد فينيقيا
رجال التجارة أذكى الورى
فأين التجارة، أين الصناعة
أين الزراعة، ماذا العرى!
فإن لم تحوكوا على نولكم
تبرأ منكم هذا الوطن •••
لقد فرقتكم أديانكم
فصرتم شعبا بدون وطن
أليس إلهكم واحدا
فكونوا بنيه وخلوا الضغن
ولا تسمعوا قول شذاذكم
ترقى البلاد ولا تمتهن
فما أشنع الخلف في معشر
وشعب يقودونه بالرسن
فكونوا أسود الوغى عصبة
تذود وتحمي ذمار الوطن •••
فأين المفاخر من أمة
وما جمعت قومها جامعه
وثروتها أصبحت لقمة
جميع الشعوب بها طامعه
وإن أقفل الغرب أبوابه
تلاقي منيتها خاضعه
ألم تذكروها بأطمارها
تفتش عن قوتها ضارعه
فإن حررتكم أيامكم
تغنوا بأمجاد هذا الوطن •••
فما من رقي لأوطانكم
بغير اقتباس العلوم الصحيح
فلا الشر يعلي مقام الشعوب
ولا ترتقي بالكلام الفصيح
خذوا من علوم الزمان أمورا
تضمد قلب البلاد الجريح
ففي القلب جرح أليم قديم
وفي كل عضو مئات القروح
فإن برئ الجسم من دائه
يدافع عن حوض هذا الوطن
1926 (6) بلوى الشرق
هذا شعر «نحوي» فاقرأ هذه الملهاة وقل بعدها ما تشاء، ولعلها تحظى فمن يدري، أما قيل: لولا اختلاف النظر ما نفقت السلع؟
ماذا أقول فلا الصحيح يقال
والكذب ما ملحت به الأقوال
إني أرى «الإضمار» أفصح إن «قضت»
فيه على أهل البيان «الحال» «فالنحو» بين مقاعد التدريس غير
النحو في الدنيا، وفيها المال «والصرف» لم يصرف عن الشعب العنا
إذ جاءه «الإدغام والإعلال»
فالدهر قد أفنى كنانة صرفه
فأصابنا «التصغير» والإذلال
فثقوا بأنا لفظة مهجورة
قد عاث فيها «القلب والإبدال» «والنحت مشتغل» بنا ورجالنا «بتنازع» دام لهم أشغال
لا ينفع «التحذير والإغراء» من
ضلوا وما سمع «الندا» الجهال
صرنا عن «التمييز» أبعد أمة «وبالاستغاثة» «تندب» الأطلال «وبالاستعارة» أشغلت أذهاننا
وبغابة «التشبيه» لاح الآل «والفصل» ديدننا، وليس يهمنا «وصل»، ولا «قصر» ولا إجمال
أما «البديع» فشط عن أعمالنا
ولنا بتقليد الورى استرسال
أما «فعال قلوبنا» فأصابها «التعليق والإلغاء» فالإهمال
ما «تم» من أفعالنا فعل سما
وغدا «لكان» الحول والإعمال
ماذا أقول «ولا محل» لأمتي
الصرعى «من الإعراب» إلا «الحال »
إنا «نصبنا» «بالعوامل» كلها
حتى «جررنا» وانتهى الإشكال
وعلى «السكون» «بنى» الزمان مصيرنا «والرفع» ليس لنا به آمال
نتعلم «الضرب» المشين «وقسمة» «والجمع» ليس لنا به «أعمال» «والجبر» للقلب الكسير على المنا
بر حيث يكثر قيلنا والقال
نقضي الحياة هنا بمثل جهنم
ولنا بجنات السما آمال
فمن الجهالة أن نكفر بعضنا
في الدين، والرب القنا العسال
إنا لنحتكر النعيم لكي نرى
ولنا به دون الورى «استقلال»
إن كانت السماوات مثل حديثهم
عنها، ففيها للجميع مجال
أأقسم الميراث قبل تثبت
ويقال في المريخ لي أمثال
ماذا أقول لهم غدا إن طالبوا
بحقوقهم! ما في الوجود محال
موسى وأحمد والمسيح جميعهم
في عرف أرباب النهى أمثال
والرب في التوراة والإنجيل
والقرآن ما اختلفت له أشكال
نلقى المهيمن، والصليب شعارنا
كلقائه ولنا الشعار هلال
فالدين، ذاك اليوم، ليس يفيدنا
إن لم تزين جيدنا الأعمال
دعني سعيدا، والجهنم حصتي
وخذ النعيم ودونه الأهوال
خذ عني اسمي إن يكن لك موجدا
واختر لي اسما فيه «يمشي الحال»
هذي الحياة عديدة أنحاؤها
كل امرئ فيها له «موال»
فمع الزمان تجددوا لكن على
حذر، فما كل الدقيق يكال
ليس التجدد بالثياب وإنما
بعلومها تتجدد الأجيال
سيان من لبس «الفرنجي» والذي
ملبوسه الغنباز والشروال
سيان عندي من تزين رأسه
برنيطة عصرية وعقال
فتحل بالخلق الكريم مناضلا
فهو التجدد، واترك ما قالوا
1930 (7) بابل الأديان
تلظت نار الطائفية في لبنان، واختلفت مذاهب الناس، وذرت قرون تيوس التعصب فخفنا أن يعيد التاريخ سنة 1904 نفسه فقلت، وأنا منفعل أشد انفعال، هذه القصيدة.
يا بابل الأديان يا وطني
يا مسرح الأحقاد والفتن •••
وطني وما فيه سوى أمم
إلا عن الشحناء في وسن
وطن تغيم سماؤه عبثا
وأديمه لبنيه لم يلن
وجراحه التأمت على دغل
معي، فهدنته على دخن
فرق مبعثرة هنا وهنا
هدف البلاء دريئة المحن
فتجمع الجمعات مضطرب
وتأحد الآحاد في وهن
أمسى التفرق سنة لهم
جريا مع الأديان والسنن
إن ننس لا ننس المشانق
والأبطال تلقاها بلا هدن
هل فرق «السفاح » يوم طغى
ما بين معمود ومختتن؟ •••
يا بابل الأديان يا وطني
يا مسرح الأحقاد والفتن
كل يولي شطر مسجده
وجها، ويدبر مسجد الوطن
والطائفية فيه طائفة
كالبوم نعابا على الدمن
حذرا بني أمي فقادتكم
جدوا بكم للمركب الخشن
خلوا النعاق على خرائبكم
واستحدثوا ما لاق بالزمن
الطائفية فتنة، فذروا
أعوانها في السر والعلن
يا ويحها كم فرقت أمما
فاقتادها طاغ بلا رسن
ألأن هذا مسلم وأنا
متنصر صرنا ذوي إحن
هل علم القرآن موجدة
أو بشر الإنجيل بالضغن •••
يا بابل الأديان يا وطني
يا مسرح الأحقاد والفتن
ما الدين إلا عارض وأبي
إذ شاء هذا الثوب ألبسني
وأنا به راض، ويؤلمني
من إن رآني فيه أنكرني
يا صاحبي، هب أننا فرق
في عسكر والثوب ميزني
فعلام ننكر بعضنا حنقا؟
أجهلت أنك إن أهن تهن
فإلى التسامح في الحياة نسد
إن عز مغرورا أخ فهن
أبناء أحمد والمسيح ألا
لفوا حديث الأمس في كفن
وتعاونوا طرا على عمل
مجد يعزز كل ممتهن
من يشتري البغضاء غالية
والحب معروض بلا ثمن!
يا بابل الأديان يا وطني
يا مسرح الأحقاد والفتن
يسوع لا يحتاج نصرتنا
ومحمد عني وعنك غني
جاءا لبث النور مرحمة
فإلام نألف وحشة الدجن
أعلى الرئاسة ثار ثائرنا
هذي الرئاسة أمرها لمن؟
إن العواصف والبحار إذا
ثارا فلا يشقى سوى السفن
يا خيبة الآمال في وطن
بين الطوائف والرعاة فني
وسياسة التوظيف تشغله
عن خبزه اليومي والمهن
شعبا ترى لكنه شعب
هذاك قيسي وذا يمني
يتلذذون بكل تجزئة
الله في ذا الموطن الزمن •••
يا بابل الأديان يا وطني
يا مسرح الأحقاد والفتن
إن كانت الأديان علتنا
يا ليتنا من عابدي الوثن (8) على ناعورة حماة
لا أدري التاريخ بالضبط ولا جلد لي فارجع إلى المراجع، أما الحكاية التي أقصها عليك فهي هذه: كنت في حماة، فطاب لي المقام فيها وإن كانت كالتنور صيفا، كان الإخوان يتأهبون للثورة، ولكن وجودي عندهم حال دون ذلك خوفا على حياتي، وشاء والد الدكتور محمد السراج أن يقيم لي حفلة، فكانت على كتف العاصي قبالة قبر أبي الفداء، وكان من المدعوين الدكاترة أبطال النهضة ثلاثتهم: صالح قنباز، توفيق شيشكلي، النائب فيما بعد، وخالد الخطيب.
وغنى المغني أبياتا لأبي فراس وقعها على العود، ولما انتهى إلى قوله:
ونحن أناس لا توسط عندنا
لنا الصدر دون العالمين أو القبر
قرص صالح قنباز خالد الخطيب في فخذه، ثم قال لي أحدهم: غدا مسافر الأستاذ من غير شر؟ فرددت كلمة «من غير شر» بلا وعي، ولما صرت في بعلبك اشتعلت حماة وحرقت السراي، ثم قتل الدكتور صالح رحمه الله.
لم أعلم شيئا من هذا إلا بعد سنوات، عرفته في الحفلة التكريمية التي أقامها لي الدكتور خالد الخطيب في عمان عام 1931، حكى الحكاية - رحمه الله - وقال: أخرنا الثورة حتى تحقق لنا وصوله إلى بعلبك.
أما أنا فكنت أعددت هذه القصيدة لتلك الحفلة وأنشدتها فيها غير دار أن النار بالعودين تذكى.
لا تئني يا بنت ذاك الزمان
إنما نحن في الهوى سيان
إن رماك الزمان سهما ففي الصدر
سهام شتى من الحدثان
فدعي النوح ساعة وأصيخي
فهو ملء القلوب والآذان
يا عجوزا مشت بعزم الصبايا
لم تقف في الحياة غير ثوان
مثلت دورها على مسرح الدهر
فكانت كالدهر في الدوران
تسلب النهر ماءه بتأن
مثلما يسلب الزمان الأماني
تنثر الدمع في الرياض لجينا
فنراه زهرا عقود جمان
إن بنت العاصي لها ألف عين
باكيات بمدمع هتان
ولنا أعين بدون دموع
أقلوب الرجال من صوان؟
إن بكينا فما يفيد بكانا
وبكاها به حياة الجنان •••
إيه، بنت الرومان، نوحي علينا
واندبينا كقومك الرومان
خلدتك الدنيا التي حطمتنا
ورأيت الغزاة في كل آن
خبرينا من كان منهم برا
بشعوب عانت ضروب الهوان
يا ابنة الراقدين ضجي عسى أن
يستفيق النيام في الأكفان
هيه، نادي أبا الفداء يسجل
صفحة في تاريخه ذات شان
أيقظيه وأيقظي كل ملك
قام بالأمس من بني عدنان
أيقظيهم لكي يروا من بني العرب
ملوكا لكن بلا سلطان
ما هم المائتون بل نحن موتى
بخشوع صلى علينا الجاني
أيهذا العاصي توقف وحدث
ما أرتك الأجيال من أزمان
قد مشى صامتا وفي الفم ماء
يا له «عاصيا» مشى بأمان
دمعة الخاطئين تمحو ذنوبا
ودموع العاصي بلا غفران
وأرى حوله الجنائن سكرى
بخمور الحبور والافتتان
قائمات أشجارها كالعذارى
تتهادى أغصانها كالقيان
وعليها الأطيار تلغو وتشدو
لاعبات في ذلك المهرجان
ورأيت البلاد ترسف في قيد
من البؤس عالكات العنان
فعلت صيحتي وقلت تعقل
أيها الروض، أنت في أوطاني
اصمتي يا طيوره، لا تجني
نحن في مأتم فكيف الأغاني
فأجابت وفي الجواب عظات:
إن طما الخطب فهو عرس ثان
1927 (9) علموها
لا أذكر لها سببا خصيصا، وهي مقولة قبل سنة 1923.
علموها فيها يرقى الوطن
فهي بستان زهور وثمار
هذبوا المرأة مرآة الزمن
فهي للأبناء في الدنيا منار
واجعلوا العلم لها خير حلى
فهي أم العلماء العظماء
وهم مجد الوطن
إن عينيها وربي صفحتان
بهما نقرأ أسمى العاطفات
صنعا من ماء لطف وحنان
بهما تدرك أسرار الحياة
سلحوها بدروس ساميه
فهي أم للجنود البسلاء
وبهم يحمى الوطن
وجد الرحمن نقصا في الوجود
فبراها آية الخلق البديع
ضحك الفردوس عن ثغر السعود
إذ رأى في خلقها أسمى صنيع
لا تلوموها، فهذي أمكم
وهي من ناغت جميع الأنبياء
ونفت عنا الحزن
حبذا الأم فما هذي الدنى
غير أم زانها أسمى حنان
ثغرها ينفي متى افتر لنا
كل غم قد غشا منا الكيان
علموها تغنموا أرقى فلاح
صدرها مهد البنين النجباء
إن جفا الجفن الوسن
كم تغنى شعراء الأعصر
وأعادوا للورى فيها النشيد
كم مشى من قائد وقسور
بلواها ولها دان العميد
سائلوا التاريخ كم دانت عروش
وترامت تحت أقدام النساء
في ميادين الزمن
أيها الأم هلمي للعلاء
وهبي الدنيا البنين الناهضين
وابسمي فالغيهب الماضي انجلى
فابتسام الأم سلوان البنين
إنما الأمة نسج الأمهات
فاسمعوا صوتا ينادي في العلاء
علموا بنت الوطن
شبهات وظلمات
(1) شكوك
في أحوال خاصة يعتري المرء ما لا أحسن تسميته، فيتجه اتجاها لا يقصده، فيهرف بما لا يعرف.
قاطرات السنين تختال فينا
في صحارى المجاهل الأبديه
تتهادى حينا وتسرع حينا
دون ما فكرة ودون رويه
ليس نحكي في الكون إلا سفينا
سوف يرسو بمرفأ الأبديه
كل هذي الدنيا وما تعشقونا
من حطام فيها ومن مدنيه
ليس فيها يا قوم ما يجدينا
غير بعض الفضائل العلميه
فدعونا من النواح دعونا
إنما الموت والنواح بليه
فهذا الكون يفنى كالهباء
ويذهب كالتنفس في الفضاء
وإنك فائز إن كنت تلقى
إلهك باسما يوم القضاء
إن الحياة رواية
فاضحك بها أو مثل
وإذا عرتك نهاية
فاسدل ستارك وانزل
فتح الناس مغلقات الطبيعه
واستباحوا أسرارها المكنونه
فرأينا فيها أمورا بديعه
وبها العين أصبحت مفتونه
سلم الماء والهواء صنيعه
للذي هو في المفاعيل دونه
كل هذي الأجرام وهي سريعه
في خطاها تسير وهي أمينه
حسب المرء أنها مصنوعه
لملذاته فأبدى جنونه
ما يرى من فواجع لن يروعه
وهو رهن للساعة المرهونه
فليس الموت إلا كالرقاد
وفيه راحة لبني الجهاد
ومن قد عاش بالإيمان حيا
يموت على رجاء بالمعاد
أما الذي إيمانه
قد مات، فهو بلا رجاء
فلتبكه إخوانه
وعليه قد حق البكاء
إنما الموت سلم الارتقاء
وإذا زال فالحياة جمود
لو خلقنا من بدئنا للبقاء
لضجرنا وهل يطيب الهمود؟
إن موتي عذب وسهل فنائي
وبهذي التطورات الخلود
إنما الصعب فرقة الأحياء
فتجلد يا أيها المولود
لا تنوحوا على التي في السماء
عيشها طاب، فالممات رقود
فهي بنت الإيمان أخت الرجاء
ولها العيش بالمحبة عيد
أرى في بوق جبرائيل رمزا
لتجديد الحياة لمن تعزى
فطوبى للذي يحيا تقيا
محبا للعدو فليس يخزى
فاصرف حياتك عاملا
في كرم ربك باجتهاد
كن محسنا ومجاملا
وانهج، أخي سبل الرشاد
رب أم ماتت وخلت بنيها
كفراخ القطاة زغب الحواصل
ذاك حكم القضاء أنزل فيها
وعن الدهر والقضا لا تسائل
كم شقي في الأرض يختال تيها
وتقي يلقى المصاعب ناحل
إن جفتك الدنيا فلا تبكيها
فغدا أنت لا محالة راحل
نازل الحادثات لا تتقيها
باضطراب فالخوف باب الغوائل
فهي لم تخش سيدا أو وجيها
يستوي عندها عليم وجاهل
ورأيي في المنايا كابن سلمى
ولست أحيط بالمجهول علما
ولكني أسير ولا أبالي
أحربا كان لي أو كان سلما
قد جئت غير مخير
ولسوف أرجع مرغما
أفنى ويبقى جوهري
حي العناصر مثلما (2) الحرارة والحياة
أما النسيب فقد تقادم عهده
وطوى المشيب تشببي في لحده
من كان يقدح كل يوم زنده
نسي الهوى فخبت شرارة وجده
والسيف ينبو حين يصدأ حده
ما فات نعجز كلنا عن رده
هيهات أيام الصبا تتجدد
أما الشباب فقل منه ما بقي
وأتى المشيب يسير بي نحو الشقا
ودعت آمالي وقلت سنلتقي
وسألت ذاتي هل لنا من ملتقى؟
فتنهدت نفسي وقالت لي اتق
إن الأماني قد مضت فلك البقا
والعيش ليل مثل حظك أسود
من أين جئت وأين أين المذهب
كم ضل في تحديد هذا المطلب
سر عن الرجل الحصيف محجب
وطريقه الشعواء ذات تشعب
فدعي أيا نفسي، حديثا يتعب
وإذا دنا موتي فلا تتعجبي
إن البناء يهد ثم يشيد
هذي الكواكب كم بها من هامد
بلظى الحرارة قد توقد واتقد
دارت به الأجيال دورة جامد
سلبت حرارته فبرده الجلد
ولذاك إن طفئت نيار مواقدي
سيقول عوادي دعوه نقد برد
إن الحياة حرارة تتوقد
لم تظهر الأحياء إلا عندما
وجدت لها ثغر الحرارة يبسم
ولسوف تفنى أرضنا هذي وما
فيها، إذا ما فارق الشمس الحمو
والكون يخلد بالحرارة مثلما
خلدت على رغم الفناء جهنم
أو لا فليس سوى الفناء يخلد
1922 (3) إلى روح صديق
قلتها في صديق لا يعنيك أن تعرف من هو، أما أنا فأثر بي موته جدا حتى نطقت بما نطقت.
نامي فما في النوم من عجب
إن الرقاد مغبة التعب
نامي عن الدنيا وبهجتها
فالموت أحلام من الذهب
توهي بأجواء الخلود فما
لعناصر الإنسان من غرب
وإذا استطعت فأصدقي خبرا
عن نار جيهنوم واللهب
أفتلك آراء الألى صدقوا
أم أنها ضرب من الرهب
أفيجعل الرحمن صنعته
لجهنم النيران كالحطب
إن كان حقا فالجحيم هنا
والموت يخرجنا من اللهب
فحياتنا في الأرض بوتقة
والعيش بحر وهو ذو عبب •••
ما كان إنسان الكهوف يرى
آراءنا في عصره التعب
أترى الذي أحياه خلفه
عصرا أسير سلاسل النوب
عجبا أظل الوحي مختبئا
حتى أتى موسى من السحب!
أجدادنا الأجرام قد عبدوا
وتنقلوا في سهمه الربب
جعلوا قوى الأكوان آلهة
وأمامها خروا على الركب
وأرتهم الأوهام معجزة
من كل آلهة لكل نبي
واستنطقوا الأصنام صامتة
فأجابت الأصنام كل غبي
واستغفروها عن مآثمهم
بذبائح الإجلال والرهب
دانوا بأديان قد ازدهرت
كالأرض في أثوابها القشب
صاغوا لها تيجان عظمتها «من زخرف فيها ومن كذب»
والناس بين المدعين غدوا
مثل الأصم بمحفل الخطب
كل الخلائق ألهت قدما
حتى حمار الحي ذي الذنب
إني لأقرأ هازئا بهم
يا ليت شعري من سيهزأ بي •••
هذا الوجود وليس ندركه
سر غريب غامض الحجب
كنا نظن الخلق منحصرا
في أرضنا كالزعم في الكتب
حتى أتانا العلم ينبئنا
أن الحياة كذاك في الشهب
ولسوف يأتي العلم بعد غد
بغرائب عن ربعها الخصب
فاليوم يهدم ما بناه لنا
أمس الدبور وفي غد حربي
فاسرح بهذا الكون متئدا
والق المنون بهزة الطرب
واعمل، هي الأحياء قد خلقت
لجلائل الأعمال والنصب
إني لأقرأ هازئا بهم
يا ليت شعري من سيهزأ بي (4) الأربعون
كنت ظننت الأمر كما سأقول، أما اليوم وقد بلغت الستين فلا أذهب ذاك المذهب.
ما لي وما لك أيها الجسم
مضت الهيولى وامحى الرسم
ذهب الشباب ومات كل رجا
يصبو إليه المرء أو يسمو
وإذا انقضى عهد الشباب فلا
ترج الحياة فكلها سقم
والأربعين إذا بلغت فقل
لم يبق لي في العمر إلا اسم
فالعين تدمع دون ما سبب
والضرس لا خضد ولا قضم
والأذن تشكو الثقل من صمم
فيها، وتلك الكف تلتم
إني لأحسب أنني رجل
وأنا العجوز العاجز الهم
عجبا لنا والدهر يخدعنا
نسعى لدنيانا ونهتم
ونظن أن الدهر يسعدنا
والدهر في ترياقه السم
إن لم تنل في الأربعين منى
فازهد بهذا الكون يا عم
وإذا انطوى برد الشباب فلا
يرجى له نشر ولا ضم
إن الحياة شبيبة خطرت
كالطيف، سمعا أيها الصم (5) في ابن صديق
توفي ابن أعز أصدقائي بعد موت أبيه وأمه، فقدمت لمرثاته بهذه الأبيات.
يا أخي، ما ترى، تفيد الحياة
في بلاد فيها الحياة ممات
إن موت الإنسان عندي خير
من حياة تسود فيها الطغاة
وفراق الدنيا أعز وأهنا
من بقاء دامت به الأنات
وأرى اليوم مثل أمس فلا تأسف
على العمر، ما به طيبات
ليس في الأرض راحة لابن أنثى
ما تقولون أيها الأموات؟
إنكم في الفناء أهنأ منا
فانبذوا كل ما رواه الرواة
إن عيش الفتى الجحيم، وفي المو
ت نعيم من دونه الجنات
خوفونا من الممات وقالوا
يا لنار تزج فيها العتاة
فكرهنا لقاء رب رحيم
صغرت دون قدره الزلات
والإله العظيم، والعقل يوحي
لا ترى في عيونه الهفوات
أصحيح ربي وقوفك قربي
مثل خصم، وفي الخلود قضاة؟
أتدين الورى بعدل رهيب
مثلما أنبأت به التوراة
إن يكن ذا تفق محبة أمي
حب رب من صنعه الكائنات
ليس هذا ظني بحكمك ربي
أتفوق المكون الأمهات
كم أسأت الضحى إليها وكانت
تمحي في الدجنة السيئات
لا تدني يا رب واغفر ذنوبي
فهي لا شيء، كلها حسنات
إن يك العبد دون ذنب فهل يعر
ف ما عند ربه رحمات
حيرتني أعمال ربي وأوصاف
إلهي فضلت النظرات
كل يوم يرمي بقاصمة الظهر
فتصمي سهامه الصائبات
1928 (6) مسدسات
1
أنا لن أعود كما أنا أبدا
والسر سوف يظل مكتوما
أنا لغز هذا الكون يجهلني
عقلي ولست أصير معلوما
ليس الوجود سوى مكافحة
بين الكوائن فهي في حرب
أرى في الوجود معاني الحياة
يحار بتفسيرها العاقل
إذا أدرك الناس مفعولها
يحيرهم ذلك الفاعل
دع ما ادعاه النابغون فما
رأي النوابغ غير هذيان •••
إني رأيت الكون متحدا
جسما ولست تراه مهدوما
ما تفرط الأحداث سلكته
أضحى بكف الدهر منظوما
قل للذي قد قام ينذرنا
بالموت، سر بالمسلك الرحب
تقولون ليست حياة الورى
سوى موقف فيه ويل وضيق
ونرحل يوما لدار البقا
فهيئ رفيقك قبل الطريق
إن صح قول الزاعمين فقد
هيأت إيماني بوجداني
2
وجدت وما شئت في أمة
يقول فتاها ولا يغفل
وإن قام فيها زعيم جري
يموت من اليأس أو يخذل
وكم في التواريخ من شاهد
عن الأنبياء الألى قتلوا
وكم في بلادي من مدع
يقول وأقواله لا يعي
وكم مناد ليحي الوطن
ويشكو الحياة وسوء المصير
تراه هروبا إلى الخلوة
متى قرع الأذن صوت النفير •••
إذا ما سطونا على بعضنا
فنحن الرجال الليوث الغضاب
ونفعل غير الذي نشتهي
ونسدي الثناء بغير حساب
ومن زارنا طمعت نفسه
بنا واعتلى فوق متن السحاب
وإنا لقوم ألفنا الخضوع
ونأكل بالذل خبز الدموع
نقاد لمن شاءنا بالرسن
ومن شاء كان علينا الأمير
فيا حافظ الأمن في أرضنا
تنعم فأنت خفير القبور
3
عبدناك يا شمس فيما مضى
وأي الكواكب لم نعبد
ففي تي البلاد مقام العبادة
كم عبد الناس من أعبد
أأم الحياة، ونور الوجود
فلولا وجودك لم نوجد
فإنك غابة نار ونور
تسير وقد هزأت بالوجود
فإن غبت عنا فلا تطلعي
لأنا جهلنا معاني الوجود
ونمنا على مثل نار الغضا
فسادت قرود وذلت أسود •••
قفي حدثينا عن المشرق
وإن كان هذا الحديث شجون
ومن شعبه الميت لا تضحكي
فإن المقدر سوف يكون
لقد كان ذاك الزمان وكنا
نسود البسيط، ندير الشئون
ودار الزمان بآل العبا
ففرقنا الدهر أيدي سبا
فيا أرض مهلا ولا تسرعي
عسى أن تعود عصور الجدود
وهل تستقل وهل ترتقي
مواطن قوم بدون جنود
4
صحت يا ليل كم تكتم حر
في دياجيك واشتكى وتظلم
فاستمع يا دجى، شكاة أديب
من بلاد أمسى بها يتألم
صار فيها الغريب، وهو فتاها
إن دعته لبى الدعاء وأقدم
بقعة يرتقي الكذوب ويسعد
في حماها، والصادق الحر ينكد
فتصبر يا حرها، فالأمان
سوف يأتي، إن الرجاء قريب
إنما الحر يتقي ما يضر
ثابت الجأش إن دعته الخطوب •••
أي خير أرجو وماذا أروم
من بلاد غنيها للمضره
يطلبون الرقي من غير بذل
والقليل القليل يأتي مبره
وإذا ما دعوتهم لمفيد
جدفوا في قلوبهم ألف مره
فارعواء يا معشر الأغنياء
وأنفقوا المال في سبيل العلاء
فغناكم إن زانه الإحسان
كان خيرا، أو لا فقولي مصيب
في اغتناء اللئام إثم عظيم
قد جناه على الأنام النصيب
5
زحموا الأطيار في أجوائها
ومشوا ما بين أثناء الأثير
أفسدوا الأفق بما قد نفثوا
فيه من غازات ويل وشرور
أطلقوا الأطماع في مضمارها
فارتمى الخير على الأرض أسير
ذلك الإنسان شيطان رجيم
فاستعدي للقاه يا نجوم
أفسد الدنيا وقد رام السما
فاغلقي في وجهه باب الفلك
ضاقت الأرض على أرجائها
عنه فاعلولى وللجو امتلك •••
أيها المريخ رحب بالألى
شاقهم مع شقة البعد لقاك
فاقتبس ما شئت من أديانهم
ليت شعري هل يراهم من يراك
أنت جار الأرض والجار أخ
أترانا مثلما نحن نراك
ضل أهل العلم فيما اعتقدوا
كضلال القوم فيما عبدوا
وأرى الطائر ينحو الأنجما
يشبه الغائص ما بين السمك
ليس يا ابن الأرض شر في العلا
فقس المخفي بالظاهر لك
6
عجبا كيف ترهب الموت نفسي
ويطير الفؤاد من ذكراه
كيف أخشى يوما سأرقد فيه
مستريحا، ويستريح الله
فهذي الحياة وأخبارها
أساطير يضحك منها غدي
أقاصيص أفك وأنصارها
تقود الأنام بلا مقود
أي فرق ما بين يومي وأمسي
فبليل الضلال أضحي وأمسي
أناجي العقل والعلما
بروحاتي وغدواتي
فألقى الهم والغما
كل ما في الوجود فيه حياة
تتجلى كالنور في النبراس
ليس فرق بين الكوائن إلا
باختلاف الهيئات والإحساس
ولا فرق بين خلايا الصخور
وبين خلايا الورى والنبات
فهذي تصيح وهذي تمور
وتلك تذوب لتعطي الحياة
ليست الكائنات إلا وجود
وله بالتغيرات الخلود
أرى أكواننا جسما
تغير إذ تشا الأحوال
منه الاسم والرسما
7
فتشت عن نفسي التي رقدت
بين القبور تسامر العدما
وسألتها عما تكابده
في الغيب بين جهنم وسما
ناديتها فرجعت منخذلا
وكذاك من يستصرخ الرمما
قد ضعت بين الوحي والعلم
وغدوت أرمي دون ما أصمي
أواه، قد ضيعت إيماني
وسبحت في طام من الشك
والنفس قد ضلت وما وجدت
بعض اليقين فبت في ضنك •••
إن مت لا تستفحصوا عني
فوق النجوم فبيننا أمد
لا تسألوا أحشاء أرضكم
إن اللهيب هناك يتقد
بل فاسألوا عني الهواء ففيه
النفس بعد الموت تتحد
هي قوة منه أخذناها
وإليه إن متنا أعدناها
وأرى النبات أعز إخواني
يولي بلا من ولا شك
قد ضعت بين الإنس والجن
فتجلدي يا نفس، لا تبكي
8
هو بقعة أرض يحميها
قوم نشئوا بضواحيها
وعليها كم غرسوا علما
وله سجدوا وسقوه دما
إن كرم يختالوا تيها
أو حقر باتوا في ضرم
أوهام قد أذكت شجني
ينميها أعوان المحن
طمعوا برقاب البشريه
فاستاقوها بالوطنيه
فبأرض الحق أرى وطني
وعليها خفاق علمي •••
حي الأوطان وأبناها
فالنصر أسير للواها
يا أرضا نام الأجداد
فيها وعلى الدنيا سادوا
وبها نادى الرسل الله
بالروح أفديها ودمي
وطني يا مهد الأديان
يا مهبط وحي الرحمن
هذا وطني يحيي الرمما
أنقى الدنيا أرضا وسما
ما أشهى موت الإنسان
من أجل الموطن والعلم
9
ضحكنا من تآليف الأوائل
وما فيها من المدح الجزيل
وقمنا اليوم نمدح كل جاهل
بأوصاف تدفق كالسيول
فقلنا ذاك علام وعامل
وهذا لا يشق له غبار
وذا فهامة زهت الديار
به فخرا وقد شرف الأعارب
وهذا ألمعي فيلسوف
وهذا شاعر العصر الظريف
كأننا في أعصر
ظلامها ضافي الحلك •••
وتضحكني تقاريظ الجرائد
وما فيها من المدح القبيح
ترى في كل ديوان فرائد
وتدعو كل عي بالفصيح
ولم تسمع هنالك نقد ناقد
فكل الكتب آي منزلات
وأفضح ما رأيت مقدمات
تقلدنا بها القوم الأجانب
غدا يزدان صدر الكتب فيها
ليحترم المؤلف قارئوها
بضاعة معروفة
تحك لي أحك لك
10
إذا ابتسم الثغر حتى انجلى
ظلام المداجاة في المجلس
وألفيت ثوب التجمل يستر
قبح الخبائث في الأنفس
وشاهدت قوما هووا كالقلل
بلثم وضم وطبع القبل
ورحب قوم وفاض اللسان
بما يستلذ ويستعذب
فقل قاتل الله هذا القلى
لقد مزجوه بما يعذب •••
فتلك السياسة بين الملا
رياء وخبث بعيد المدى
وكم من شعوب بها قتلت
بغير سيوف ودون مدى
ومن فاق كذبا على قرنه
دعوه العصامي والنابغه
أرى الكذب في حركات البشر
قديم العهود أضل الفكر
وليس يعبر سر الجنان
سوى الدمع من مقلة يسكب
فكل الجوارح تبدي الولا
وأما الدموع فلا تكذب
11
إني أرى الأوطان سائرة
نحو الخراب طريدة النوب
باتت تدب على العصا عجزا
منقادة بزمام كل غبي
وتعصبت في الدين فافترقت
حول المناصب منبع النصب
يا سامعي صوتي أجيبوني
أوما التعصب آفة الدين
ترك البلاد عديدة العلل
تشقى بداء تفرق الملل
فغدت نظير الضب حائرة
يقتادها الزعماء للحين •••
يا من يعيد لشرقنا أمما
تسعى لرد شبابه الزاهي
وأرى الطموح تكاد تلمسه
كفي ويبرم حبلنا الواهي
ما أمتي هذي سوى أمة
عريت من الأمجاد والجاه
تغتر في ألقاب مملكة
والدهر يبدي كل مضحكة
أف لقوم خيبوا أملي
واستنزفوا دمعي من المقل
يا دمع خنت العهد والذمما
فسقطت مثل البعض من عيني
12
لقد «ضخمت» ألقابها «دولة الأدب»
فصارت «كنقد اليوم» اسما بلا جسم
ويا ويلتي كم كثرت «جن عبقر»
ويا من لهذا «الإنس» من جيشه الضخم
فهذا يسمى «فيلسوفا» وما له
سوى المسخ عن عرب ونسخ عن العجم
وهذا «أمير الشعر» والكون داره
وذاك «نبي» والأثير إزاره
فلم يبق إلا أن يقيموا لهم «ملك»
له دولة، يعنى لكرسيه العالي
يسح على أعوانه هاطل الرتب
فنحيا بألفاظ، ونسمو بأقوال
فيا لك ملكا أنبتته الجرائد
على دمن الأغراض، وا خجلة الأدب
إذا نظم «المعروف» عقدا من الحصى
فمن دونه «في عرفها» الماس والذهب
وإن يأت مجهول «بمعجز أحمد»
رأى بمحياها ازورار «أبي لهب»
مناسج القاب نصول صباغها
يجملها للناظرين دباغها
تعلق من تهواه في قبة الفلك
لتهدي بني الدنيا إلى «ربعه الخالي»
إذا قال هذرا، فالقوافي خوالد
كإنجيل عيسى، فلينم ناعم البال
13
وكم بيننا من مدع، ليس يستحي
من الناس، والدعوى بضاعة قاصر «فترمسه أحلى من اللوز» طعمة
ألا كل وجاهد تغتنم أجر صابر!
لكم بث أشراكا ليصطاد شهرة
زيوفا، متى كان الحجى غر طائر؟
وللطبل والمزمار والدف معشر
يطبل، تعظيما له، ويزمر
فمن لي «بنقاد» يمزق ذا الحلك
ويخلع عن «آدابنا» ثوبها البالي
ويهتف بالمجواد «أحسنت» فاصدح
فعهد «قفا نبك» انطوى، منذ أجيال ••• «ويا مومياء الشعر» هل من تجدد
فأيام «فرعون» القريض استقلت
ويا شعراء العصر، هدوا خيامكم
وخلوا أذكار الظعن، فالنوق ولت
نادوا المعاني لائقات بعصركم
وصوغوا المباني لا تشاب بلكنة «إمارتكم» هزء، فلا تحلموا بها
سيقضي بها التاريخ، إن كنتم لها
فسعيا لبدع، فالتفوق يمتلك
برائع فن، لا بلماعة الآل
فإني أرى الأصداف رهن التبدد
وليست بمهر، فالعلى مهرها غال
1922
أشكال وألوان
(1) العاصفة
قلتها على أثر عاصفة كان لها أثر طيب حين مرت بأرضنا، كسرت الفروع الشائخة من الأشجار فجددت شبابها.
هبت الريح والفضاء اكفهرا
وتوارى الهلال ينظر شزرا
طمس النور غير بعض سطور
خطها الفجر فامحت ليس تقرا
فانتضى البرق سيف نور ضئيل
شق مسح الدجن شقا وفرا
وانبرى الرعد منذرا بالبلايا
واستشاط الخضم مدا وجزرا
وتنادت عناصر الكون للثورة
فانقضت الصواعق جمرا
وتبارت في حلبة الأفق الريح
فأمسى الرقيع يزأر زأرا
علمونا أن الطبيعة أم
ويح أم من الشواعر تبرا
يا لأم خرساء إن حدثتنا
فحديث يفيض خوفا وذعرا
همسها الرعد، والصواعق نجوى
والبراكين زفرة توجد حرى
ويك أما منحت ألف لسان
وتكتمت لست تفشين سرا
أيها الأم كيف تخفين عنا
في ثناياك جاعل البحر برا
كيف تخفين والدا عن بنيه
وظهور الآباء بالعطف أحرى
أصحيح يا أم أن أبي مثلي
شكلا، ويملأ الكون برا!
فأجيبي فواجب الأم تعريف
بنيها بوالد عز قدرا
خبريني: أحل في بيتك الله
خفيا؟ فصاحب البيت أدرى
آه ضيعته فضاع رجائي
فأرشديني إليه يكسبك أجرا
فأجابت إني أفتش عنه
لا أراه، سبحانه، أين قرا
قلت: هلا، فقطبت حاجبيها
فأرتني في وجهها الجهم شرا
وأشارت إلى العواصف أن سيري
وهدي من أرضه ما اشمخرا
فاستجرنا منها بها وهي غضبى
واعتصمنا بصخرة نتذرى
فرأينا الأمواج تقتحم الشط
جيوشا عمياء كرا وفرا
كم بيوت تهدمت وقصور
صيرتها العواصف الهوج قبرا
فمن الدوح أسجدت كل عات
لم يعفر وجها ولم يحن صدرا
وإذا بالأشجار تمشي الهوينا
ثم تكبو، سيان صغرى وكبرى
ثورة في الطبيعة اجتاحت الأر
ض كما اجتاح يعرب ملك كسرى
لم أجد منجدا، فناديت ربا
عبدوه في الأرض عصرا فعصرا
من تراني دعوت لولا سماعي
باسمه في الوجود سرا وجهرا •••
هدأت ثورة الطبيعة والريح
تهادت في الجو تمشي السبطرى
فرأينا أن الذي هدمته
كان بالهدم والتجدد أحرى
إنما هذه العواصف أيد
ما تهدم يمنى تشيده يسرى
رسل النشء والتجدد بل زند
متى شاءت الطبيعة يورى
فهي كف الوجود تهدم ما لا
يستطيع البقاء برا وبحرا
ليت من هذه «العواصف» أصنا
فا تثير الأكوان طيا ونشرا
لنرى كل هائر وعقيم
ليس يجدي نفعا تداعى وخرا
من تقاليدنا ومن كل عرف
صيرته الآراء دينا وكفرا
إنما هذه العواصف فأس
تقصم الشامخات ظهرا فظهرا •••
من قديم والمرء نضو افتكار
أشغلته «الأشياء» دهرا فدهرا
ما رآه بالأمس علما يراه
اليوم جهلا، وهكذا العمر مرا
إن آراءه لأشبه بالموج
توالى، تمحو الجديدة أخرى •••
أوغل الفكر في التأمل حتى
لاح وجه النهار يفتر بشرا
فبدا لي أن الطبيعة فرحى
بالذي قلبته حتى استقرا
إيه يا أم إن أردت صلاحا
فاكنسي بالعواصف الكون طرا (2) الأعمدة الستة
زرت قلعة بعلبك مرات، وكنت كل مرة أرى فيها شيئا جديدا لم يبد لي من قبل فسجلت ذكرياتي في هذه القصيدة.
قلعة بعلبك
خرساء لا تبدي خطاب
صماء لا ردت جواب
هي وحي فن خالد
أحيا الألوهة في التراب
قد أنزلت آياته
عمدا هي العجب العجاب
لم يهدنا قراؤها
في فهمها سبل الصواب
فهنا كتاب الأولين
وبعلبك أم الكتاب
فكأنها أشلاء جبار
صريع وسط غاب
من حولها عمد قيام
للصلاة ولا ثواب
جدرانها فيها الجنان
تضم ما احلولى وطاب
قد علقت فيها الثمار
تسيل رؤيتها الرضاب
وكأنما أعنابها
براقة، في شهر آب
فاعجب لجنات عليها
الأسد رابضة غضاب
تبدي نيوبا دون ما
فتك إذا ما الخطب ناب
أشباه أسد نصبت
رمزا لأشباه الشباب
أقعت على ضيم ونمنا
مكرهين على المصاب
يا بعلبك وإن هرمت
عليك سيماء الشباب
لله حسنك هازئا
مهما تقادم بالخضاب
بك يلمس الفن الحديث
المعجزات بلا حساب
وترين «إيفل» كالصبي
وإن تنطق بالسحاب
أعجيبة الدنيا التي
لعبت بها أيدي الخراب
إن الشعوب جميعها
مرت أمامك بالحراب
فكأنك السلطان يعرض
جيشه يوم الضراب
يا بنت فونيقي ويا
أخت الخلود المستطاب
أشبهت دنيانا فسر
ر كما كبحر ذي عباب
ذللت يا بنت الدهور
وكنت أمنع من عقاب
الأعمدة الستة
لله درك ستة
قد شاهدت ألف انقلاب
قامت على أقدامها
مستهزئات بالصعاب
كالعاشقات وقفن في
الشرفات يرقبن الصحاب
أو بسل من يعرب
بين الشوامخ والهضاب
وقفوا كمن ضلوا السبيل
فأنشدوا حسن المآب
أو أنها جنية
من عبقر ليست تصاب
قد سرحت أبصارها
ما بين هاتيك الهضاب
كم فاتحين رأت ولم
يفتح لهم للعود باب
يا بعلبك تصبري
فالملتقى يوم الحساب
فكأنما لبنان قربك
حاجب الملك المهاب
وكلاكما نصبتما
هدفا لفتح واغتصاب
فالملك رهن الفاتحين
يذل وانشق الحجاب
الهياكل المقدسة
يا هيكل الحب القديم
وقدس أقداس الحقاب
الحب رب دائم
وله الدعاء المستجاب
وعبيده كثر ومهبط
وحيه مقل الكعاب
وبكل أرض هيكل
لعبيده رحب الرحاب
يا ليت من خلق الورى
أودى به غض الإهاب
فالموت في شيخوخة
مكروهة شر العذاب
يا ليت نشئي وارتقائي
كالفراشة والحباب
حتى أموت بلا تمن
واكتئاب واضطراب
فالعيش من بعد الشباب
مناحة تبكي الشباب •••
دع لو وليت كليهما
فمؤمل الثنتين خاب
فالناس تفنى كالهشيم
وتستحيل إلى تراب
يا كون لا تفن الورى
فغدا تصير إلى يباب
إن المكون من ضباب
يمحي مثل الضباب •••
لا تبك كون مطامع
أقوامه مثل الذئاب
تعدو وتفتك بالذي
أمسى وليس له كلاب
1929 (3) الكاهن الجندي
كنا في كاتدرائية مار يوحنا جبيل الأثرية على أثر نهاية حرب 1914، فإذا بجندي من صف الضباط يدخل الكنيسة ويتوجه توا إلى «الخوروس»، ثم يلج «السكرستيا» ويخرج منها كاهنا عليه ثياب التقديس، وشهدت قداسه فخلقت ذكرى المشهد هذا الموضوع.
دخل الكنيسة عارضا بتارا
أتظنه حسب الكنيسة غارا
أم خالها حصنا، على سرواته
رصد، وآوى صحنها ثوارا
ومشى يقد المؤمنين كأنه
السباح يضرب يمنة ويسارا
بطل إلى «الخوروس» شد مشمرا
وهناك صلى لمحة وتوارى •••
أنظر إليه فقد تحول كاهنا
تخضل لحيته تقى ووقارا
قد غاب صقرا ثم آب فراشة
فأصار جلجلة الفداء مطارا
وأنام في ظل الصليب مهندا
سكران، يحلم بالرقاب عقارا
صلى، فضجوا، ثم خر فهمهموا
وتناظروا متعجبين، حيارى
شكوا، فلاحت: اسمعوا أقوالهم
وتجنبوا الأعمال والأوزارا
فتماسك «الإيمان» وابتسم «الرجا»
وإذا «المحبة» تسدل الأستارا
ومضى يمثل ماهرا مأساته
للمؤمنين وتمم الأسرارا •••
بسط اليدين وما استحى من ربه
حتى يبارك فتية وعذارى
وتلا من الإنجيل غرة آيه
أحبب عدوك وارحم الأشرارا
عجبا أينطق بالسلام لسانه
ويداه توقد في الصدور النارا
إن يرغموه على الوغى فصليبه
ينبيه كيف يقاوم القهارا
قد خط للأجيال خمسة أسطر
لا غير، شرد وحيها الأسفارا •••
يا كاهن ابن الله، مالك جامحا
قد للنعيم الجحفل الجرارا
الراحة الحمراء كيف مددتها
نحو الصليب أما خشيت العارا!
أتكون كاهنه، وتجهل قوله:
ويل المشكك صبية وصغارا
أنسيت آيته لدن هموا به:
أغمد حسامك تأمن الأقدارا
أدم البريء يحل في لاهوتكم
والناصري يحرم الإضرارا
ماذا جنى القوم الذين قتلتهم
أتكون يا راعي، لنا جزارا
أميتم الأطفال، ويحك، ما تقو
ل غدا لربك، إن بلغت الدارا
ورأيت ديانا رهيبا مثلما
حدثت عنه المؤمنين مرارا
يا قائد العميان، كيلا يهبطوا
في حفرة، سه، لا تكن حفارا
ما جوز الإنجيل حملكم العصا
أفتشهرون الصارم البتارا
أرسلتم مثل النعاج فحققوا
ظن الشهيد، وسامحوا معشارا
ويلاه من حمل تحول قنفذا
يدميك ملمسه، ويقصي الجارا
ظن المسيح محاربا في قوله:
ما جئت كي ألقي السلام فثارا •••
وأجلت طرفي في «الحنية» كي أرى
الحمل الوديع، الغالب الأدهارا
فرأيت وجها كالحياة عزيمة
تبني وتهدم لا تمل ثوارا
ولمحت تكليحا يبين ويختفي
كالظل شارف منقعا موارا
فإذا المسامير الثلاثة فككت
ومشى الصليب كمن يروم فرارا
وتحولت تلك الجهومة بسمة
حمراء، يرعب هولها الجبارا
وأجال في «الخوروس» نظرة يائس
فتذكر الماضي، وصاح جهارا:
غفرانك اللهم، ثانية، لهم
ضاعت دمائي، والبناء انهارا
يا خيبتي بمعاشر تلمذتهم
سفكوا الدماء، وألهوا الدينارا
1925 (4) أطروفة الخلود
موضوع أجهل الأسباب التي دعت إلى معالجته.
في برية الأزل
بليل يتيم خافق القلب، إن مشى
به القدر الأعمى تخونه الجهد
رأيت كأني هائم في تنوفة
يضل بها الموت السبيل إذا يعدو
وقفت وأشباحي، ولي من أناملي
عيون، ولكن لا اهتداء ولا رشد
فيا لك ليلا كالمعري ضرارة
تلمست فيك النهج فالتبس القصد
وأمسيت ضيف الوهم غير مكرم
فقلت لنفسي: أجملي فهنا اللحد
المؤتمر العزرائيلي
وصوت عزرائيل فالتف رهطه
عليه، وفيه الشيب والغلمة المرد
خفافا أتوا من كل فج كأنهم
عباديد جن نحو حلبتهم شذوا
وأرهفت الآذان سمعا وطاعة
وحفوا بمولاهم كأنهم الجند
فساورني هم عنيف إذا استوى
على جبل نهد هوى الجبل النهد
ومدد عزرائيل كفا ظننتها
وربك، أم الأرز فامتثل الحشد
وأبدى لهم عن ناجذيه مقطبا
جبينا كوجه البحر خضخضه الرعد
وصاح بصوت جهوري كأنه
الصواعق منها ألسن النار تمتد
حذار نفوس الناس، لا تفتكوا بهم
سنتركهم أحياء في الأرض ما ودوا
يسبوننا إن ميت مات منهم
ولولا المنايا لم يزر دارهم رغد
وكم من نفوس نتنة لا تمسها
يداي، ولكن ليس من قبضها بد
فجاوبه من قومه ذو مكانة
عجوز عليه من تجاربه برد
وماذا يقول الله عنا إذا درى
بفعلتنا الشنعاء، والبشر امتدوا؟
حنانيك واسمع قولتي في عصابة
إذا ارتفع الكابوس دأبهم الجحد
تصاممت آهات المشايخ منهم
وقد كادت الآفاق منهن تنسد
إذا شئت إمضاء الذي أنت قائل
فشاور به الباري، فنحن له جند
أبى الطبع منا أن نكون كخلقه
الألى زعموا أن الوجود لهم عبد
فمنهم قالوا إنهم مثل ربهم
ومنهم قالوا إن جدهم القرد
وقد ناصبوا الكون العداء كأنهم
يريدون تسخير الوجود ولا حمد
أعن مثلهم، يا شيخ، تعفو تكرما
ولو قدروا صالوا عليك وما ارتدوا!
فجاوب عزرائيل: إني مفوض
وأعمارهم في قبضتي، ومعي عهد
علي بربي، اتركوهم ليسأموا
ألا فاستريحوا برهة يذهب الحقد
فصاحوا جميعا: قد أطعنا وعولوا
على رأيه في الأمر، وانفرط العقد
فناديت: وابشراه، قد صرت خالدا
وزال ابتسامي وانقضى الزمن النكد
دهر لا موت فيه
تصرم ذاك الجيل إلا أقله
فضاقت على الناس الأباطح والنجد
فأصبح يأوي منهم كل فرسخ
ألوف الورى، فاستئصل الحب والود
ومات حنان الناس، والرحمة امحت
ولم يبق في الدنيا جمال ولا وجد
فهذا نظير القوس هاو مفركح
وهذاك أعمى، أو أصم به سهد
وأصبح هم النشء عول جدودهم
بعهد قليل رزقه ما به رفد
شكوى
تشكى بنو الدنيا وودوا فناءهم
وقد بات ذاك الأمر طوقهم يعدو
إذا انتحروا لم يدركوا بانتحارهم
سوى ألم مضن يحرشه العمد
وباء وأمراض، وخور عزائم
سلاسل بؤس ضاق عن حصرها العد
ثورة الأبالسة
وضجت شياطين الجحيم، وأوشكت
جهنمهم تطفا، وأدركها الخمد
فيا من لعزرائيل حين تجمعوا
إذا حل وفد جاء من خلفه وفد
زبانية سحم الوجوه، ولسنهم
بنائق نار تستطيل وترتد
وأذنابهم مثل السياط كأنها
نيازك من جلد السماوات تنقد
موارج فوق الأرض تمشي كأنها
بنيات بركان بها الوجد يشتد
أشاروا إليه بالأكف فخلتها
كلاليب، نار الكير في قلبها تبدو
وصاحوا بعزرائيل: أين وقودنا
بنو الناس، فالأتون أعوزه الوقد
حيرة الله
وقال إله الأفق: أين بنو الورى؟
فمن سنوات لم يجئ منهم فرد
فشمر عزرائيل للفتك داعيا
ذويه، فهبت من مرابضها الأسد
فنظف وجه الأرض من معشر الونى
فلم ينج إلا الأروع الأمثل الإد
بعد آلاف السنين
وخبر موسى شعبه أن رهطهم
مئات من الأعوام عاشوا وما كدوا
وأثبت في توراته أن جدهم
متوشالحا قد عاش ألفا بها الجد
وما زال إيليا يعيش منعما
وأحنوخ موفور الهنا لم يمت بعد
فساءتهم هذي الحياة قصيرة
فقالوا بعمر بعدها ما له حد
وصاغوا نعيما أعجز العقل وصفه
فيالنعيم كل أيامه سعد
فجاءت سماهم صورة عن خيالهم
فإن سألوا قل هكذا اخترع الخلد
ولا تخش من نطارهم يرفعونه
ليحتكر القثاء للبعض والقتد
ودع عنك ما صاغ الخيال فإنما
هو البو يستمرى به الضرع والنهد
هب الخلد يا هذا، كما صوروا لنا
فآفته أني به أبدا عبد
فلا خير في خلد بدون متاعب
وما في يدي من أمره الحل والعقد
1930 (5) اللقيط
كنت مارا صباح يوم، فإذا بي أشاهد طفلا مقمطا ملقى على جانب الطريق فقلت في هذا.
قد حطمنا الأكواز حول الغدير
وتركنا للشرب بقيا خمور
لم ندعها تفضلا وسخاء
إنما تلك عادة السكير
قد مججنا الشراب مجا ولولا
ذاك لم نبق حسوة لمدير
وكذا زهد كل واهن عظم
فهو تقوى وتوبة عن قصور
خير ما في الحياة عهد شباب
يمحي كالوميض في الديجور
إن تولى الشباب فالعيش ذكرى
ليس إلا والحزن ملء الصدور
أيها الجاهل المرجي اغتباطا
بعد طور الشباب عش في غرور
هفوات الشباب أشهى وأحلى
في اعتقادي من طهر شيخ حصور
وأرى هذه الشرائع طرا
كالحات الوجوه سود الثغور
خلق الناس شرعهم كشراع
سيروه مع الهوى في البحور
كيف ترجو الإناث منه المساواة
وشرع الدنيا نسيج الذكور؟
أفسدوها - إن كان ذاك فسادا -
ورموها وما استحوا بالفجور
نفضوا طوقهم وقالوا: براء
نحن منها، فيا له من زور
أي ذنب على الإناء إذا ما
ملأوه من منتنات القبور
أي ذنب على الثرى إن طرحنا
فيه، فصل الشتاء، شر بذور
أسقطوها، وبالخنا عيروها
هم أولى بذلك التعيير
وعلى أمرها هم غلبوها
أيرد الحمام كيد الصقور •••
لا تلمني إذا اهتززت فهذي
كهرباء العيون ملء الأثير
فهي «كالراديو» يحدث نفسي
بحديث المنى ونجوى الضمير
وتريني «كالسينماء» خيالات
الأماني محيطة بسريري
وإذا ما سكرت حبا، فعذرا
فالمدام الرحاق رهن الثغور
صاح لولا الهوى اضمحل كيان
الناس واندك أس ذا المعمور
إنما الحب يحفظ النوع حتى
يتنامى على توالي العصور
فإذا زال فالحياة هباء
طيرته الرياح شر مطير
وأرى في تفاعل الكون حبا
وأرى الحب ناميا في الصخور
أجهل الناس من يعنف أنثى
إن أحبت، فالحب روح الشعور
لا تلمها على اختيار جميل
وجهه دونه محيا النور
لا تلمها على انتقاء جميل
فانتقاء الجميل صنع خبير
لا تعنف أنثى إذا لم تبالي
باشتراع يسن شيخ وخوري
أن تدع بعلها لتختار خيرا
منه فالجرم قابل التكفير
فهي منقادة لناموس خلق
الأنسب الكفء في صراع الدهور •••
أيهذا المنبوذ ما أنصف النا
س ولا الشرع فيك يا ابن السرور
أي ذنب قد اقترفت لتشقى
وتربى كالأجرب المهجور
فالجبانان أدرجاك حياء
بقماط الظلام والديجور
ليت شعري ما الفرق بينك
والأنبياء طرا من سيد وحقير
حرم الناس ما أرادوا فكم في
الشرع من ضلة ومن تحيير
من لنا بالجسور يقضي عليها
باتباع الإصلاح والتحوير
إيه يا نفس في قرارتك الحق
فلبي نداءه تستنيري
لك في الكون ألف قيد وقيد
فاكسري هذه القيود وسيري
1925 (6) اذكريه
قصيدة قلتها حين زرت فلسطين أول مرة، سنة 1928، ومشيت على درب الصليب، فكنت أشد تأثرا في مكانين: علية صهيون حيث تعشى السيد مع تلاميذه، ثم حين وقفت عند ما يسميه النصارى «الأبواب الدهرية»، وهو الذي يسميه اليهود المبكى.
كان يا نفس ههنا، وتوارى
عن بني الناس، في ثنايا الوجود
قد تغنى لهم، فلم يعرفوه
فرمى «نايه» بوجه العبيد
شاعر كان عن ذويه غريبا
ليس يأسى، كالطائر الغريد
شاعر الحب والمنى، خالع الإيمان
طريفا على رجاء الخلود
فاسمعيه يعيد عهدا جديدا
لسليمان، عهد ذاك النشيد
اسمعيه على التلال يغني
فوق أطلال جده داود
شاعر ناسك تبرد في الحب
عفيفا، نصير كل طريد
جاء يستعرض الدهور ويملي
خير درس على الزمان العتيد
فأرانا العهد العتيق صريعا
تحت أقدام فجر عصر جديد
انظري واسمعي، فها شبح الشاعر
يلقي الحنين في الجلمود
وانظريني من بعد عشرين جيلا
اتملا من لطفه المعهود •••
غمه أن يرى إلها أكولا
مستبدا بالناس رب جنود
فأراهم ربا غفورا رحيما
يطلب القلب دون شق الجلود
انظريه فإنه يتعشى
واسألي ما لخصره المشدود
ذاك درس سما اتضاعا وحبا
فخذي من دروسه واستفيدي
أفلا تنظرينه يكسر الخبز
ويعطي بكل حب وجود
رافعا كأسه تفيض بروقا
باهرات وقاصفات رعود
انظريه فالخوف يغشى محياه
وقد كان أمس كالصنديد
اسمعيه ينبئ الرسل بالتلميح
فالرسل في اضطراب شديد
وانظريه يواكل الغر يوضاس
ويوضاس عابث بالعهود
وانظريني من بعد عشرين جيلا
اتملا من لطفه المعهود •••
أيها السيد البهي المحيا
يا عروس الآلام والتجديد
قد تمنيت أكلة الفصح حتى
كنت فصحا للغاشمين السود
أيها المنقذ المخلد لم يفدوك
باللص يوم ذاك العيد
إن هذي الدنيا كما كانت الأمس
تلاقي الجديد بالتهديد
فالذي يبتغي جديد المبادي
فليخط قبل ذاك ثوب الشهيد
إن مأساتك العظيمة ما زالت
تسيل الدموع فوق الخدود
راقصات على خدود العذارى
هاربات إلى اللحن في الجدود
إنما «النادبات» غيرهن الدهر
فالقلب قطعة من حديد
سيد المنتهى حنانيك وانظر
كيف يحنى بالذل رأس المسود
كيف تمشي مواكب المجد فينا
ونحيي أشباحها بالسجود
يا نزيل العلية أمهل، فعيني
تشتهي أن تراك بعد الصدود
قل لعيني من بعد عشرين جيلا
تتملا من لطفك المعهود
1928 (7) الشاعر
إن موت الصديق الوفي الشاعر وديع عقل أوحى إلي هذه القصيدة فقلتها فيه.
هجرة الشاعر
حلق النسر في فضاء الزمان
مولع القلب بالنجوم الحصان
وتعالى إلى ذرى الأفق الأعلى
يراعي مسيره القمران
أيها «الساروفيم» رحب، فهذا
شاعر الأرض عائد للجنان
شاعر، تنطق الربابة سحرا
إن تغنى، وينصت الثقلان
أزرته إلهة الشعر بالنور
فأزرى بالخز والأرجوان
ملكه الكون، يطلق الرأي فيه
رب رأي أطاح بالصولجان
الشعراء
أيها الغائصون في لجج الأفق
على اللؤلؤ العظيم الشان
أي تاج ترصعون، فحتام
تهيمون في دجى الوجدان
تشربون الأثير في أكؤس النور
وتستعذبون صاب الأماني
تستقون الدموع من أعين البؤس
كأن الدموع خمر الدنان
فتهبون ثائرين سكارى
تنذرون الوجود بالطوفان
أنتم كالنيران، تفني وتفنى
ثم تحيا بألف ألف لسان
يحسب «البله» أنهم أطفئوها
وهي منهم في الكم والأردان
تحرقون الأنام للبعث والتطهير
شأن «الفينيق»
1
في الأزمان
أنتم شعلة يقدرها السارون
بعد انطفائها بثوان
تلجون الدنيا كطيف ملم
يتوارى كقبسة العجلان
أنتم السرج زينت هيكل الدهر
فضاءت بصائر العميان
إن ظهرتم كالنور في الكهف ليلا
خوفونا بالجن والغيلان
أو عرضتم مثل «المذنب» في الأفق
أجابوا: يوم القيامة دان
قد سلكتم «درب الصليب» وإن سرتم
على غير سكة الكهان
عيشكم كله كليلة يسوع
اكتئابا في وحشة البستان
أو كموسى ما بين فرعون والتيه
يعاني من قومه ما يعاني
أو كطه إذ هاب بأس قريش
فابتلي بالرعاع والصبيان
أنتم الأنقياء من كل رجس
والطهارى من لوثة الأوثان
وإذا ما مررتم بوحول
فلتطهيرها من الأدران
وديع عقل
أيها السابح الملج، هناء
هو ذا الثغر، فاسترح بأمان
إنما الموت مطلع العمر
والعيش مجاز للنابغ الفنان
إنما النعش قارب تعتليه
ساعة في طلاب عبر الزمان
فلك الخالدين، يا أيها التابوت
إن الشراع كالأكفان
نفسه
أنواحا على أديب عذاراه
خلودا كالحور والولدان
أنواحا وشعره «عربي»
مستجير بعصمة الفرقان
أنواحا ونفسه كان فيها
أنف الشم من ربى لبنان
لا يبالي أأنزل الدهر فيه
كارثات أم جاء بالإحسان
عربي روحا وجسما وهزءا
بصروف الزمان والحدثان
فكأني به السحابة تمشي
لا تبالي بأمهات القنان
عاش حرا ولم يكن يتمنى
العيش إلا لخدمة الأوطان
كان في كوخه عظيما وكان الكوخ
يزهى به على غمدان
يحسب القوت ثروة ليس تفنى
إن تناءت عن منة الإنسان
ثروة الشاعر المطهر بؤس
فهو نبع الإلهام للروحاني
فاسقه الدمع من عيون العذارى
واقص عنه مخدرات الزواني
خلقه
كادت الأرض لا تحس اتضاعا
بخطى الشاعر الذكي الجنان
صامت ناطق، تعالى عن الدعوى
كمثل اليراع بين البنان
فهو كالزهر، لا المباخر، يهدي
عطره لا يشوبه بالدخان
ما سمعناه يضرب الطبل والزمر
ابتهارا بصفقة استحسان
أو أرانا «الحرباء» إن سمع المدح
على «الغير» كالحسود الأناني
حبذا أنت يا وديعا تحلى
بمزايا الأديب في كل آن
يا لك الله شاعرا «عبقريا»
لم يجئنا إلا بسحر البيان
فإذا أسمع الندامى نشيدا
حير الدمع في عيون القيان
أو علا منبرا ترنحت الأعواد
واهتز هزة المران
أدب الضاد بالرصانة عززت
وجافيت خفة البهلوان
داؤه
ويح يوم رأيت هيكله المضني
تداعى مصدع الأركان
كل يوم يهوى جدار، فأعظم
به هولا تساقط الجدران
فرأيت الحياة تنسل والموت
عبوسا يفح كالثعبان
يا لعين المنون، إن قصر العمر
وأبدى النواجذ والملوان
الحياة والموت
إن بين الحياة والموت حربا
هي أضرى من كل حرب عوان
فهما عنصرا الوجود فلولا
الموت كانت ألعوبة الغلمان
يا دعاة العتيق من يكره الموت
وفيه رقينا الإنساني
لك بالموت راحة، لو تأملت
ولولا مخاوف الأديان
خوفك الموت في حياتك موت
وانتظار المنون شأن الجبان
اللغة
هالني أن رأيت أعمدة الفصحى
تهاوت من شاهق الإيوان
قد تتالت شيوخها للمنايا
فإذا ارفض مأتم قام ثان
كدت أخشى أن يستبيح حماها
الدهر، لولا قدسية القرآن
زفرة حرى
أيها الشاعر المخلد، حلق
مع جبريل في حمى رضوان
وإذا ما اجتمعت بالمتنبي
فاشك - لا آسفا - ذوي السلطان
قل له، ضائع هو الشعر والنثر
ضياع المنزهين الرصان
ليس يرعى عهد الأديب فإن يطو
أديب فكل شيء فان
يا أخي، يا وديع، خبر «سعيدا»
عن دم ضاع في تراب الهوان
قد رجونا «غارا»، فأقبل «بالليف» «ووردا» فجاء «بالزعفران»
لم نزل أمة تودع بالسب
وتلقى بالمدح والمهرجان
كل ما في أقطارنا طائفي
الشكل، حتى الهواء والبلدان •••
وا حبيباه، ربة الشعر ناحت
إذ تنادى الإخوان للأحزان
تندب الشاعر المحدق كالنسر
طويلا، إلى شموس المعاني
ملكه ما يقوله، ما غزا قط
ولم يلتجئ إلى ديوان
دموع الوداع
يا حبيبي، إليك إكليل عهدي
حببا ناصعا كعقد الجمان
يأنف الصدق أن أقول: دموعي
صرن حزنا عليك كالمرجان
لم أغيض عليك نهرا ولم أهبط
شماريخ طودنا الفتان
ليس موت الأجساد يخترم الأطواد
بل موت أنفس السكان
لست أرثيك بل رثائي لشعب
نائم طرفه عن الذؤبان
فهنيئا لك الخلود، أيا من
مات حي «الرجاء والإيمان»
فسأرعى لك «المحبة» حتى
يوم تأتي سماؤنا بدخان
وسأكفيك شر شانئك الأبتر
من يدعي بلا برهان
من يرى نفسه الحصان المجلي
وإذا ما خلا، فرب السنان
من يبيع الزجاج درا وماسا
ويبز التجار في «الإعلان»
آب 1933 (8) يهوذا الإسخريوطي
أمطروني اللعنات عشرين جيلا
ليتهم فكروا بأمري قليلا
إن أكن مذنبا فقد تبت يا نا
س، إلى الله بكرة وأصيلا
تاب قبلي «داود» عما جناه
مالئا مسمع الدهور عويلا
بل بالمدمع السخين فراشا
باسطا فوقه الدم المطلولا
2
فجعلتم منه نبيا عظيما
وتلوتم «زبوره» ترتيلا
وأنا التائب المسجل حقا
بدمي صك توبتي تسجيلا
ضاع حقي من الخلود كما ضا
عت دمائي، وما وجدت مقيلا
أفمن يذرف الدموع كمن ضح
حى بأيامه، وأودى قتيلا •••
أيها التينة
3
اصبري، فكلانا
من بني آدم، يضام طويلا
يأكل الناس من ثمارك ما طا
ب، ويحكون لعنة لا تزولا
إن «سر الفداء» لولاي، ما تم
ولم يعرف الورى الإنجيلا
وأبو الناس ظل في وحشة «اليم
بس» يأوي ظلامها المسدولا
وبنوه «الآباء» ما دخلوا الجن
نة طرا، وهللوا تهليلا
أنا أنقذتهم بتسليمي «الفا
دي» وتحميله الصليب الثقيلا
أمسيئا أعد إن كنت تمم
ت الذي شاء فاتركوا التضليلا
إن يك الصلب فدية للبرايا
فاشكروا لي هذا الصنيع الجميلا «بطرس» عقه ثلاثا وما كن
ت عليه للقوم إلا دليلا
أفيخفى عن العيون إله
ملأ الأرض عرضها والطولا
أفمحيي الموتى يخاف «قيافا»
وبحكم «البنطي» يروح قتيلا
خلته ثائرا يحاول تهديما
ونقضا لدين إسرائيلا
فتندمت حين أيقنت أني
للأعادي سلمت ربا نبيلا
قد كفاني نخس الضمير عذابا
فاتركوا «السب» واعذروا المخذولا
يا ابن داود، رحمة، وأجرني
من أناس تعودوا التهويلا
أنت قد قلت «باركوا لاعنيكم»
كيف ينسى من تابعوك المقولا
بيت يسوع لا يكون للعن
كيف تنسون سوطه المفتولا
4
يا رفاقي، «حنا ومتى ولوقا»
قد أطلتم بي قالكم والقيلا
فاذكروا «الخبز» كيف تنسون خبزا
كان للعهد في «العشاء» رسولا
5 •••
يا يهوذا، وكم لنا من يهوذا
منحوه التطويب والتبجيلا
أنت قبلته، فصار إلى الصلب
وقد كنت بالمصير جهولا
يعلم الله، ما نقول برهط
يجمع الصلب فيه والتقبيلا
من يهوذا إلى يهوذا، ولكن
أنت تشقى، وذا يجر الذيولا
أنت تبع واحدا بفلس، ففينا
من يبيعون كل يوم قبيلا
كم جناة، قد قتلوا «باسمه» النا
س ألوفا، وبرروا التقتيلا
يا يهوذا، قنطت من رحمة الله
فأمسيت يائسا مخبولا
غرك «المال» فانتقضت عهودا
يوم «بعت» المعلم المجهولا
ما ترى عذر بائعيه بغبن
كيف أمسى بيع الإله حليلا! •••
يا يهوذا، أقصر فإن تطلب الفه
م من الناس تطلب المستحيلا
هو ذا الشمس، والبرايا نيام
في كهوف، ظلالها لن تحولا
لعنتك «الأجداد» لا ترج إلا
لعنات «الأحفاد» جيلا فجيلا (9) الوظيفة
إن ورم أنوف أكثر الموظفين في البلاد أوحى إلي موضوعي هذا، فوصفتهم كما رأيت معظمهم عام 1932.
تعشقها فتيمه هواها
وأضناه فجن بها وتاها
إذا ما الحلم جسمها خيالا
تمثل حين رؤيتها الإلها
كأن المغنطيس بوجنتيها
وعن هاروت نمت مقلتاها
أرى شهداءها في كل عصر
وقد صبغت دماؤهم لماها
تنازعها بنو وطني فهاجوا
وماجوا، والفتاة لمن سباها
فتاة زانها حسب ودين
فعز لقاؤها فاهجر حماها
فإن تك طائفيا أو نبيلا
تفز بوصالها وتنل رضاها
وإن كنت الفقير ولو نبيا
فلا تحلم بها واحذر أذاها
فكم كانت على الأوطان حربا
وغير الشعب ما التهمت لظاها
ألا فاقرأ أحاديث الليالي
ففيها عبرة لمن ابتغاها
فلولاها لكنا في نعيم
وشمس الشرق لم تبرح ضحاها
أجل، لولا الوظائف ما اضمحلت «أمية» وانطوى يوما لواها
وما عفى بني «العباس» إلا
تنازعها فبادوا في وغاها
أما أغوى «البشير» بها هيام
فازرى بالعمومة والتقاها
فسل «تيرون» عن «فخر بن معن»
فكم عانى هنالك من جفاها
فكم ضحوا لها بدم بريء
ولم تبلغ نفوسهم مناها
فويح للوظيفة من فتاة
كأني بابن داود عناها
فغناها «أناشيد» الأماني
فأطرب مسمع الدنيا صداها
لقد أصبت بني وطني قديما
وما انفكوا حيارى في دجاها •••
يقول لك الموظف وهو راض
بلادي جنة وبها تباهى
وإن عزلوه صارت شر أرض
وبالظلام حافلة رآها
رأوه قبل منصبه ذليلا
فلما وظفوه عز جاها
وصعر خده صلفا وتيها
وكالخفاش حيره ضياها
تعنفص واشمخر على أخيه
فإن حياه ما استرعى انتباها
وحلق في سما الطغيان حتى
توهم أنه أمسى إلها
أتسكره التحية من حقير
وبالزلفى لسادته اشتراها
إذا قرعوا له بالذل بابا
فكم من بابهم مرغ الجباها
وأبطره الظهور فراح ينسى
ظهورا نحو طيته امتطاها
إذا كلفته أمرا تبدى
على قسماته لطف تناهى
فيبسم عن مواعد كاذبات
أرى عرقوب قصر عن مداها •••
أيا قردان أمتنا رويدا
ألا تبقون شيئا من دماها
فقد سقطت بيوت بني أبيكم
وبات البوم يندب من بناها
على من تحكمون غدا إذا ما
تقلص ظلنا فدعوا السفاها
أيزهيكم تبايعكم جزافا
وسلطتكم مقدرة خطاها
أأنتم غير أشباح نراها
على «الشاشات» ينطقها سواها
أجل لولا الضرائب ما رفعتم
عقيرتكم وحركتم شفاها
فأهلا بالجباة يحدثونا
بأمر حكومة لسنا نراها •••
بني أمي أفيقوا من سبات
وظائفكم ستطحنكم رحاها
فلست أرى الوظائف صالحات
لغير مهذب يعلي ذراها
همام لا يمالئ أو يحابي
ويفرح بالعدالة إن أتاها
إذا كلفته أمرا فريا
تمرد أو بمظلمة أباها
بني وطني دعوا زيف افتخار
وخلوا الترهات لمن بغاها
فلم أر في الوظائف غير شمس
ستمنع ظهرها يوما فتاها (10) الجابي
اشتدت الضائقة في لبنان، فاتحد العسر والجباة على الفلاح اللبناني فقلت هذه القصيدة في ذلك.
1
أماه يا أماه جاء الجابي
فبدار واعتصمي وراء الباب •••
قد كان مثل الضيف ينزل بالقرى
حيث القرى وحلاوة الترحاب
واليوم تنكره الديار وكم نرى
عند الشقاء تنكر الأصحاب
القرش عز، وأصبح الدينار
كالنجم الملثم بالضباب الهابي
إن تبغه، والمستحيل بلوغه
فالجأ إلى زيج وأسطرلاب
يتنافسون بحشده وبنو الثرى
باتوا بلا خبز ولا أثواب
لله هذا الدهر في أحكامه
كيف الرعاة استنسخت بذئاب
لا رسل بينهم وبين قطيعهم
إلا الجباة، ألا افتحي للجابي
2
الزوج ليس هنا وماذا تطلبون
اليوم منا من جديد حساب
يا ناس غاب الخبز عن أبصارنا
ومشت صبايانا بلا أثواب
لا أفتح الأبواب للقوم الألى
وقفوا بباب الرزق كالحجاب
إن تفتحي ندخل وإلا فاتقي
قدما تحطم أصلب الأخشاب
وإذا بمختار القرية مقبل
كالديك في زهو وفي إعجاب
يقضي ويمضي ما يشاء وأمره
كالآي هابطة من المحراب
لا تستحي يا هند بالفقر، افتحي
أيرى سوى الفقراء وجه الجابي
3
دخلوا العرين فأجفلت أشباله
وتراجعوا من مشهد الإرهاب
وتكدسوا فوق الحصير وقهقهوا
جزعا كأنهم قرود الغاب
هزلى عراة قد تبدل حسنهم
ببشاعة الشمطاء بعد خضاب
وأتى أبوهم، وهو كالنطار لم
ينشر عليه سوى رقيق إهاب
فاغرورقت عيناه لما أبصر الجابي
وفاض بسره الوثاب
أو تطلبون من العديم إتاوة
ما أنزلت في سنة وكتاب
لم يبق غير النير والمحراث والفدان
هيا اذهب بها يا جابي
4
البيت مرهون وأبنائي كما
أبصرتهم فانظر رثيث ثيابي
فتش زوايا البيت، خذ منه الذي
تبغي ودعني في أليم عذابي
خبر حكومتنا الجليلة أننا
في عهدها ذقنا أمر الصاب
أنا «اشتهينا الملح» وا أسفاه!
والبحر السخي على مسافة قاب
فتكشر الجابي وأشهد رهطه
زورا عليه، ولم يفه بسباب
ورأى «طبنجته»معلقة على
خد الجدار لصد ذات الناب
فمضى بها لما تحول عنهم
وتباشروا طرا براح الجابي
5
عم الشقاء بني المدائن والقرى
فبكل بيت مأتم لمصاب
والسادة الحكام في حفلاتهم
ما بين رقص أو كئوس شراب
يلهون والشعب المعبد جائع
هاو يقيم على شفير خراب
وبكل يوم يخلقون ضريبة
تدعو إلى العصيان والإضراب
فكأنهم وجدوا لإرهاق الورى
واللهو بالتفريق والأحزاب
عجبا لهذا الشعب يغفل شأنه
ولديه رحمة مجلس النواب
يا معشر الفقراء بيعوا المقتنى
وتجهزوا فغدا يعود الجابي
6
من مبلغ «بونسو» رسالة أمة
مكتوفة الأيدي إلى الأصلاب
إن كان الاستقلال يورث قلة
فالعبد ميسورا عزيز جناب «الضفدع» الحمقاء جنت قبلنا
فتمزقت، فانهض بشعب كاب
أنعيش في هذا الزمان مسخرين
كأننا في عهد حمورابي
أفتى محررة الشعوب ألا ترى
الإرهاق باسم المظهر الخلاب
فصل لنا الثوب الملائم قدنا
واقطع من الأذيال والهداب
إن كنت تجهل ما بنا من ضيقة
فاسأل، فما يدريك غير الجابي (11) شهيد العلم
برغونياه عالم فرنسي ذهب ضحية تجاربه الطبية، كان يعالج بعض الأمراض بالراديوم، فأكل الراديوم يديه الثنتين وقضى عليه.
وهب هذا العالم ما يملك للحكومة لتنفقه على مؤاساة البشرية ثم وصى بجثته للمعهد الطبي.
أثر بي خبره هذا ولا سيما حين وقعت عيني على رسمه فنظمت ما خطر لي إذ ذاك.
أمجاهدا في العلم والعرفان
أنت الشهيد فنم عن الحدثان
عزوا المريض مع الفقير كليهما
فهما بفادح خطبه سيان
قد ظل في ساح الدروس مجليا
حتى كبا في حومة الميدان
كمروض الآساد مات مهشما
بنيوبها ويداه داميتان
الموت هاجمه وظل مناضلا
بالراديوم فمات كالشجعان
يا راديوم لقد فتكت براحة
بسطت لفعل الخير والإحسان
أتعف عن أيد تمد لخلسة
وتشل يمنى العلم والعرفان
فاليسر في يسراه معقود وفي
يمناه للعلم الصحيح يماني
قد قدروه فقلدوه وسامهم
والجرح للأبطال خير «نشان»
وجراح أبطال الحياة مباسم
تروي الحديث عن الجهاد القاني •••
هذا شهيد العلم من كتب اسمه
في جبهة التاريخ بالنيران
إن يذكروا فيه لذي فضل يد
ذكرت له في المكرمات يدان •••
يا ناسكا والنسك أحرى أن يرى
بمعاهد نفعت بني الإنسان
ليس النسوك تقشف الأبدان بل
عمل يحارب علة الأبدان
سيشع في التاريخ ذكرك خالدا
كالراديوم ألا استرح بأمان
ودع الألى اختلسوا الفقير ففي غد
يقتص من ذاك الأثيم الجاني
سرقوا وجدت، فأي بون شاسع
ما بين نهاب وذي إحسان
أما الوجود فعدله ظلم ولا
يرعى عهود الفاضل المحسان •••
نطس البلاد تشبهوا بمخلد
نفح الورى بالمال والجثمان
وبه اقتدوا حتى نرى في شرقنا
جود الطبيب ولو ببعض ثوان
أيموت بينكم المريض معذبا
إن تخل راحته من الرنان؟
والغرب قد ألف الحنان وعلم
الإنسان حب الرفق بالحيوان •••
أمعالج السرطان هل من عالم
فينا يعالج مشية السرطان
برغونياه، أرى بمنظرك الكئيب
مهيجا لقريحتي وبياني
وبكفك الجماء ألقى داعيا
للشعر لا بأنامل المرجان
والشعر ينشده على حد سوا
رجلان؛ ذو حب وذو أشجان (12) مارون محمد
أسميت ابني محمدا فجاراني في ذلك مهاجر كريم - والمهاجرون سباقون إلى كل كريمة - هو السيد محمد الحلبي فأسمى ابنه مارون، فجبر خاطري، فقلت هذه الأبيات في مارون محمد، كما قلت قبلا في محمد مارون.
يا ابن التساهل من بني معروف
اسلم رسول الحب والتأليف
عش يا سميي فالمسمى واحد
والفرق في تركيب بعض حروف
أسماؤنا - والطائفية همنا -
تغني المخاطب عن أل التعريف
عجبا لأجمل بقعة قد قسمت
أبناءها الأديان شر صفوف
والدين يرمي للسلامة وحدها
فغدا لدينا آية التصنيف
فالعيسوي يرى السما مشتى له
والأحمدي يقول تلك مصيفي
ما جاء في الإنجيل والقرآن
نص الملك لكن جاء بالتحريف
عجبا لمن يتفلسون فشوهوا
الأديان بالتأويل والتصحيف
ما فرق الإخوان إلا طغمة
عاشت على الأديان عيش الليف
آراؤنا في الدين مثل نحاتنا
هذاك بصري وهذا كوفي
فأجب فتى حسب الضلال بصنعنا
ما ضل من خرجوا عن المألوف
بالله قل لي: أي فرق قد غدا
ما بين مارون وذاك الصوفي •••
يا أيها القديس مارون اغتبط
هذا سميك من بني معروف (13) النبي محمد
نشرتها «جريدة» الأحرار أولا ثم تناقلتها صحف شتى، وأخيرا أذاعها على حدة السيد الحاج إبراهيم زين صاحب مكتبة العرفان.
ثم جاءني وفد من كبار أئمة المسلمين وشيوخهم يحملون إلي عباءة السيد السنوسي، هدية منه إلى ابني محمد مارون فقبلتها بكل فخر واحتفظت بها كأثمن أثر تذكاري.
وأخيرا نشرت هذه القصيدة مجلة «الرضوان» التي تصدر في الهند، وقد قدمتها إلى قرائها الكرام بهذه الكلمة، معبرة عن رأيها، قالت:
بما أن رجل الحقيقة نابغة العربية الفذ (مارون بك عبود) المسيحي (مدير الجامعة الوطنية في عالية لبنان) قد أعطى النصفة حقها في الأصحار بفضل البطل المفدى نبينا المحبوب - صلى الله عليه وآله - غير مكترث بما يكتنفه من النعرات الطائفية الممقوتة لزاما على أبناء الحنيفة المقدسة تقدير مسعاه وشكره على ما أسدى إلى الأمة المرحومة من يد واجبة وصنيع مبرر، فقد اندفع إلى ذلك بدافع الصراحة وحرية الضمير ونزاهة النفس يوم عرف من حق النبي العربي
صلى الله عليه وسلم
وفضله ما عرف منه كثيرون أو صدفت عنه الأهواء والنزعات، ولكن عبقري (لبنان) مصيخ إلى هتاف الحق بأذن واعية مزدلف إلى ما يحس منه نكتا في قلبه أو همسا في سمعه غير آبه بما هنالك من هلجات المتهوسين. فمرحبا بنفسيته الشاعرة وزه بعواطفه الحية. ويزيدنا سرورا ما بلغنا عنه من وعده الأكيد بأنه سوف يزف إلى الملأ لدة هذه القصيدة العصماء في سيد الوصيين أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (ع) ونحن نشكره على ذلك سلفا، ونستميح قريحته الفياضة في الإسراع بنضد تلك العقود الذهبية، ومن تقديرنا جهوده وصراحته ما نرغب إلى فضيلة صاحب (الرضوان) الأغر من نشر هذه القصيدة التي هي نسيج وحدها وآية من آيات العربية ناصعة على صفحاتها البيضاء.
لمحرره
محمد رسول الله
طبعتك كف الله سيف أمان
كمن الردى في حده للجاني
العدل قائمه، وفي إفرنده
سور الهدى، نزلن سحر بيان
وعليك أملى الله من آياته
شهبا هتكن مدارع البهتان
لولا «كتابك» ما رأينا معجزا
في أمة مرصوصة البنيان
حملت إلى الأقطار من صحرائها
قبس الهدى، ومطارف العمران
هاد يصور لي كأن قوامه
متجسد من عنصر الإيمان
وأراه يغضب للإله موحدا
من نخلة في عرقها صنوان
لم يزهه «بدر» ولا «أحد» ثنى
عزماته، عن خطة العرفان
فهو اليقين يصارع الدنيا، ومن
جارى اليقين يعود بالخذلان
وكذا النبوة، حكمة، وتمرد
وتقى، وإلهام، وفرط حنان
هي ذلك الروح الذي يتقمص الأ
بطال، للحدث العظيم الشان
تلقى على الأبطال شكتها فتد
فعهم، فينفجرون كالبركان
وقعة أحد
أحد سبيل الله سيناء النبي
الهاشمي ومصرع الأوثان
ألواحه هبطت سطورا من دم
لما تناضل عنده الحزبان
يمشي براية «أحمد» حزب الهدى
والشرك يزجيه أبو سفيان
فعلا فحيح المشركين كأن في
تلك الصدور جهنم الأضغان
والنيق ساهمة تخب هوادرا
يحدو الحنين بها إلى الأعطان
والصاهلات تلوك ألجمة الوغى
وتشب عند الكف كالثعبان
يمشون، والرمضاء ترقص في الفلا
رقص السراب على بساط جمان
هزج هو الرعد الأجش، وزحفة
كالموج فوق نواهد الكثبان
قد غضنت أحقادهم جبهاتهم
فجباههم ودروعهم سيان
نار الضغائن قد أطلت من كوى
دعج العيون، ذكية اللهبان
فكأنما في كل عين فحمة
دكناء صابرة على النيران
تلكم قريش جمعت أحلافها
واستنجدت، للعار، بالحبشان
من كل موشوم قليل تسربل
رحب الرداء، مشمر الأردان
بلحى مهدبة الحواشي أطلقت
مخضوبة السبلات بالحنان
وذوائب معقوصة ملتفة
مثل الأفاعي حول كل جران
متذامرين إلى اللقاء قوافلا
من كل ذي هلب له خفان
يتنفشون قنافذا مذعورة
وإذا عدوا عصبا فكالذؤبان
ونساؤهم بين الصفوف عوارما
بدفوفهن، وزغردات هجان
سقن الرجال إلى الضلال فهملجوا
ويح الرجال تقاد بالنسوان
هددنهم بتفارق إن ينثنوا
فاستقتلوا وهم ذوو نزوان
عرب إذا ما الجاهلية نفخت
أوداجها كروا خيول رهان
يتسابقون إلى حياض الموت كالأ
طيار نافرة إلى الغدران •••
دهموا الرسول فما ألان جناحه
للكاثرين وقام كالصفوان
متماسك إيمانه، مستوثق
وجدانه، من ربه الحنان
سر يا محمد لا تخف غمراتها
فستنجلي عن قدرة الربان
وأمامك الميناء بسام اللمى
فاضرب بجؤجؤها العباب القاني «والريح» بين يديك يرسلها الذي
يطوي الوجود بأمره الملوان
فوز الأبد
دارت رحى الهيجا على لهواتها
مجنونة، وتلاحم الجمعان
فكأن عاصفة تحرك غابة
من مشرفيات، ومن مران
فصليل أسيفهم زيئر مآسد
ورنين أنبلهم عزيف الجان
وكأنما في كل لأمة باسل
عزريل، فالصرعى بكل مكان
ما أرخص الأرواح عند العرب إن
جهلوا، وكم تمسي بلا أثمان
وقضى المهيمن أن يمهر عبده
بدم بلاغ الوحي للأكوان
فثنيتاه مبسم الدين ازدهى
بهما ونال الحق خير ضمان
وكذا الرسالة لا يؤيد وحيها
إلا إذا كتبت بأحمر قان
أم عمارة
لله «أم عمارة» من باسل
أنثى تطاعن أفحل الشجعان
لله در أبيك أنصارية
مضت الدهور وأنت نصب عياني
هي مجدلية أحمد، وسلاحها
غير الطيوب، ومدمع هتان
سلكت سبيل الله تحمل قربة
تروي ظماء مجاهد حران
حتى إذا ما المسلمون تضعضعوا
ومحمد أمسى بلا أعوان
طرحت بقربتها، وسلت صارما
نفحت به عن سيد الفرسان
مهتاجة كلبوءة في فجوة
منقضة ككواسر العقبان
أنثى تذود يشدها إيمانها
بالمصطفى، بالله، بالقرآن
أبو دجانة «وأبو دجانة» في حسام محمد
يختال، كالجني في الميدان
بطل الجلاد إذا تعصب وانتخى
فالفج ينع والقطوف دواني
أخذ الحسام من النبي «بحقه»
فلواه فوق مناكب الأقران
كم شك مدرعا، وجندل فارسا
وهو على متجبر طعان
حم القضاء، فكان ترسا من دم
دون النبي وأسهم العدوان
وابن اليقين إذا دعوت وجدته
في الساعة السوداء، ثبت جنان
أأبا العصابة أخلدتك هنيهة
حمراء، صانت بيضة الإيمان
كرمت سيف محمد والموت يفتر
ش الرجال، فعفت ضرب غواني
أما «عتيقتك» التي أطلقتها
فقد استباحت حرمة الفتيان
لاكت كبود المؤمنين تشفيا
وعقودها اتخذت من الآذان
كبد المجاهد «يا هنيدة» مرة
والقلب مقدود من الصوان
فاهوي على جثث الرجال ومثلي
بهم فيومكم قريب داني «يا خالد» أرود، فقبلك «بواس»
طرق الحواريين كالسرحان
أفتنصر «العزى» وقد بزغ الهدى
ملء النواظر في المصف الثاني؟
فتح مكة
ماذا، أبا لهب، فمكة أشرعت
أبوابها، لعساكر الرحمان
قد غمك «النصر الصغير» فلو ترى «الفتح الكبير» لمت قبل ثماني
انظر، فإن الناس حول محمد
كربائض يحدقن بالرعيان
قد طاف «بالبيت العتيق» مطهرا
وغدا سيعدوه إلى البلدان «الله أكبر» دهورت أصنامكم
فتحطمت، أسمعت صوت أذان
هذا «بلال» يبلغ النبأ العظيم
ويطبع اسم الله في الأذهان
ومحمد مغض جلالا خاشع
ملء النفوس جماله الروحاني
النبي
إن النبي إذا تأمل مطرقا
فتحت لديه خزائن الكتمان
يبدو العتيد أمامه متجسدا
فيمس ظهر الغيب مس بنان
وتمر من قدامه قطع الدهور
كتائبا، معروضة لعوان
فيرى الوجود أمامه كمصور
جم الخطوط، منوع الألوان
ما للتخوم مناعة في عرفه
ملك النبي العالم الإنساني
فإذا مشى هوت المعاقل ركعا
وانقض رفرفها على الأركان
والعبقرية إن فرى محراثها
الأرض الموات تبدلت بجنان
هذا «يتيم» صار كافل أمة
وأبا لبيض الأرض والسودان
نصر من الله العزيز لعبده
يا فاتح الدنيا استرح بأمان
المعلم البطل
لك في السماء منصة قدسية
قامت على التوحيد والميزان
ما كنت سفاحا ولم تسفك دما
إلا بحق العادل الديان
لو كنت في قوم تسيغ عقولهم
وحيا لكنت كأودع الحملان
لولا اعتداؤهم عليك وجورهم
ما خضت حربا طاعنا بسنان
علمت «بالقلم» الذي لم يعلموا
فأتوك بالخطي والمران
قد أحرجوك فأخرجوك، فنلتهم
ومذ ارعووا عن ذلك الطغيان
أسمحت، ثم صفحت عن آثامهم
وغمرتهم بالفيء، والإحسان
والأمن في ظل السيوف، فإن ترم
أمنا وعزا، فاعتصم بيماني
روح الإسلام
لله دينك جنة مختومة
من كل فاكهة بها زوجان
دين تدفق حكمة وتجددا
كالبحر لفظا، والسماء معاني
ألفت منه وحدة كونية
العبد والمولى بها ندان
يا من يموت ودرعه مرهونة
قد دست مجد الأصفر الرنان
لو أدت الناس الزكاة، وأنصفوا
ما كان في الدنيا فقير عان
يسرت للناس الشئون فأيسروا
أما الهوى فكبحته بعنان
وجمعت حولك يا رسول صحابة
بعمائم أزهى من التيجان
خشنت ملابسهم، ولان جوارهم
بالعدل، فالأعداء كالإخوان
تشقى العدالة في القصور، وأنت قد
أسعدتها بمضارب العربان
أمعلم التوحيد وحد أمة
قد فرقتها نعرة الأديان
فتخالفت جمعا وآحادا وأسماء
فمارون سوى مروان
قوم تقض فراشهم آراؤهم
ومسيحهم ورسولهم أخوان
يتنازعون على السماء وأرضهم
في قبضة الرواد والحدثان •••
فلتنحن الأجيال إجلالا إذا
ذكر النبي الأطهر العدناني
المالئ الدنيا بذكر الله، والداعي
شعوب الأرض للوحدان
ولينعق المتعصبون فلم يضر
طير الجنان تمطق العربان (14) الصليب
علم عليه من الخلود سناء
وله على رغم الدهور رواء
شيخ الدهور، فتى الحياة جديدة
أوحى الهدى فتضعضعت سيناء
رفعوه مهزأة فأصبح راية
تعنو لها الأملاك والأملاء
حمراء رفت ساعة، فإذا بها
للعالمين الراية البيضاء
داود بالمزمار رنم حولها
لحن الخلود وطاف آشعياء
وهوى سليمان وهيكله على
أقدامها، فاهتز آرمياء
قد أخمدوه فاستحال منارة
عن نورها تتبسم الأجواء
يا دوحة ما حاولوا استئصالها
حتى سمت فامتدت الأفياء
وحنت على سنن الطريق غصونها
فتفيأت بظلالها الغرباء •••
يا ثائرا للحق قد أظفرته
بعداته، وجنودك الضعفاء
درعتهم بالحق والإيمان فاتحدوا
وساروا والمجن رجاء
فتحوا برايتك الدنى وسلاحهم
أقوالك، الأمثال والآراء
قد كان عود العار حين علوته
فغدا وساما دونه العلياء
تلك الجراح تكلمت أفواهها
بالخالدات، فآيها غراء
ودم الفتى الصديق إن يسق الصفا
نبتت عليها جنة غناء •••
يا هازئا بالظالمين ومنذرا
بالإنحلال معاشرا قد ساءوا
هدمت هيكلهم لتبني هيكلا
لا بيع فيه وليس فيه شراء
هدمته وبنيته بثلاثة
فعلا، وأنت الهادم البناء
أمعلم الأجيال، دينك رحمة
ومحبة، وفضائل خرساء
يا غالبا بمماته أعداءه
خلدت أنت وبادت الأعداء
فكأن موتك يقظة قد بددت
أحلامهم، فاستسلم الزعماء
رفعوك في ظلمائهم فأحلتها
نورا، وأنت سراجها الوضاء
أضرمت فوق جبال صهيون لهم
نار القرى، وحنانك الإقراء
فبسطت للناس اليدين مرحبا
فتوافدوا، وهم إليك ظماء
نصبت بغيا فوق جلجلة الهدى
واستهزأت بوقارك السفهاء
صخبوا وضجوا هازئين سفاهة
والنسر ليس تخيفه الغوغاء
فعلوت في أفق الخلود محلقا
والجانحان صليبك الفداء
والنسر مجثمه الذرى، ومطاره
عن قمة ومرامه الجوزاء
يا راية سارت بموكب عزها
عصب التقى، ودهاتهم بسطاء
زحفوا بها للفتح، والإيمان
سيفهم وترسهم تقى ووفاء
فتطاير التيجان عن هاماتها
مثل الهشيم مشت به النكباء
في ظلمة الديماس قد بزغت لهم
شمس اليقين، وبادت الظلماء •••
أزعانف التاريخ هذا ثائر
أين القيود تعدها البسلاء
قد قدس القرآن مبزغ شمسه
وتنبأت بظهوره القدماء
هو واحد كالناس إن شئتم، وما
حبلت بلا دنس به العذراء
هل عندكم ند له كي نهتدي
بضيائه يا أيها العلماء
أسمى العجائب أن يكون نظيرنا
بشرا، وعنه قصر الحكماء •••
يا فاتحا للمجدلية قلبه
العطف للمنبوذ فيه شفاء
أمعلما للسامرية، فالورى
أن الحياة تآلف وإخاء
هاك الهنود تعيد درسك علها
تمحو فروقا كلها أخطاء
الناس حولك ساجدون وأنت من
هذا السجود وما إليه براء
ويتمتمون عليك من أفواههم
صلواتهم، وقلوبهم صماء
لغة القلوب أردت أنت ولم ترد
لغة الشفاه، ففي الشفاه رياء
ما كنت في قلب الهياكل ساجدا
زهدا، فهيكل قدسك البيداء
أزريت بالدنيا ودست نعيمها
يا للزهادة دونها الإثراء
ولطالما قد نمت تسعد هانئا
فوق الغمار، ومهدك الأنواء
نسجت عناكبنا عليك بيوتها
فبدا على الوجه الوسيم جفاء
من لي بسوطك ساعة فأهزه
فتبدد الأضرار والأسواء
إن لم يلدك الدهر ثانية فلا
يرجى السلام، ولا تني البلواء
فسعادة الدنيا إذا رجعت إلى
تعليمك المدنية الغرثاء •••
الغرب شارك في دمائك شرقنا
أسوى السقوط تقاسم الشركاء
إن الشهادة في سبيل الحق مرقاة
الخلود وصمتها الهيجاء
والجيل إن نخرت مبادئه انبرى
لعلاجه حذاقه الأمناء •••
أما الحياة فأنت بيت قصيدها
يتلى فيصغي الدين والدنياء
كيف التفت أراك، في مهد الفتى
مرحا، وفوق النعش فيك عزاء
وأراك في زهر الربيع وشوكه
رمزا لطهرك فوقها الأنداء
كيف التفت أرى بهاك كأنما
توحي إلى نظري بك الأشياء
أفأنت من كل الوجود مركب
نور ونار، رقة وإباء •••
قد لحت لي في عرس قانا باسما
وعلى جبينك عفة وحياء
وعلى البحيرة قد تخيل ناظري
أني أراك وحولك الخلطاء
وشهدت مجلسك العفيف ومريم
تهفو إليك يزينها الإصغاء
ولقد رأيتك في «العشاء» تمالح
الدنيا وأين من الأنام ولاء
ونظرت في البستان شخصك ماثلا
يبكي، ودمعك ديمة وطفاء
وذرفت دمعة ذاكر لما رأيتك
داخلا، من حولك الخلصاء
وقد اقتفيت خطاك متبعا على
درب الصليب، تذيبني الأرزاء
ولدن سمعتك غافرا متغاضيا
عما جنته الأمة العمياء
قلت «المعلم» قام يختم درسه
للعالمين، فهل بهم إصغاء؟
للرفق صيرت الذبيحة رحمة
فقضت عليك الطغمة السوداء
بالعنف أنقذ شعبه موسى وقد
حررت شعبك، والسلاح وفاء
ألواحه من صخرة قد قدها
والقلب لوحك، والمداد دماء
فجرت ينبوع الحياة بلا عصا
وشققت بحر الجور فهو رخاء
وعرك ألبسنا تقى وهداية
فعلى الجسوم قميصك الوضاء
فالناس لو علموا بما علمته
ساد السلام ونامت البغضاء
شافي المخلع نظرة، أفلا ترى
ركبا مخلعة بها استرخاء
أمفتح الأعمى أزل، عن أعين
الناس الغشاوة، فالظلام بلاء
يا محيي الموتى، إليك بيوتنا
فهي القبور، وكلنا أشلاء
يا صاحب «الملكوت» قد ضيعت
إيماني، أعندك للعليل دواء؟ •••
سموك ملكا هازئين سفاهة
الله، كيف يحول الاستهزاء
الملك يملك أمة محدودة
انظر، فملكك هذه الغبراء
1935 (15) بردة آل البيت
أنشدت هذه القصيدة جلالة الملك عبد الله في قصره رغدان، فاستعادها وسمعها واقفا، وفي الغد أنشدتها جلالة المرحوم والده، فأطلق عليها جلالته اسم «بردة آل البيت».
آل البيت
لله بيت الدين والقرآن
بيت نما في ظله الحسنان
بيت العروبة والنبوة والهدى
والمجد والبركات والإحسان
حسب العروبة أن تدل ببيتها
الزاهي بطاها سيد الأكوان
هادي الأنام بنور وحي كتابه
ومبدد الإلحاد والبهتان
آيات مصحفه مصابيح الهدى
وحسامه نار على الطغيان
بمحمد القرشي عز الله، والأ
صنام قد خرت على الأذقان
وتصدع الإيوان يوم ظهوره
وسناه أخمد ألسن النيران
أخزى الرجيم مبسملا ومهللا
ومكبرا فقضى على الأوثان
بسناه نورت المدينة وازدهت
أم القرى شرفا على البلدان
أبدى بفاتحة الكتاب ليعرب
فتح الفتوح بمعجز رباني
أبني الهدى صلوا عليه وسلموا
فبذكره الفتح المبين الداني
يا سيد الأردن هذا جدك الأ
على الذي من دونه القمران
فافخر ببردته وته فببيتك الد
دنيا ودين الله مجتمعان
المنقذ الأكبر
أأبا علي والعلي مقامه
ونضاله في العرش والميدان
يا منقذ الأعراب من بلوائهم
ومشرد الأتراك والألمان
حررتنا ورفعت عنا نيرهم
ونشرت حقا لف في الأكفان
ناديت شعبك فاستشاط حماسة
ونداك كالتأذين في الآذان
أطلقتها سحرا فثار لصوتها
أهل الحجاز وكبر الحرمان
إن خلد التاريخ فهو مخلد
تسعا خلت للحرب من شعبان
6
هو فجر مجد خالد أطلعته
يا ابن الإمام على بني عدنان
فتدافع العرب الأباة ومن لنا
كالعرب يوم كريهة وطعان
غضبوا لهضم حقوقهم فتواثبوا
أسدا أظافرها شبا المران
قصر الإمارة هل رأيت مليكنا
يرتاع يوم تساقط الجدران
هل هاب ذاك الهاشمي قنابلا
تنهل مثل العارض الهتان
هل أجفل الأشبال يوم تطاردوا
والغاشمين وأطبق الجيشان
إن ينزلوا كانوا الليوث على الثرى
أو يركبوا انقضوا كما العقبان
فعلي البطل الجسور رأى الورى
فيه عليا سيد الفرسان
واستل ربك فيصلا فمحا به
ما خطه الأعداء من عدوان
والطائف ارتاعت لوطء خيول
عبد الله لابسة دم الشجعان
وانقض زيد الخيل يخفت صوت
أجياد ويهدم أوطد الأركان
فأعاد يوم القادسية نفسه
والنصر حالف عسكر الرحمان
وإذا الشريف على سرير الملك
والأعراب أحرار ذوو سلطان
بيديه شيد عرشه العالي الذرى
شرفا وقد حياه أسطولان
والله لولا غضبة مضرية
للدين والشهداء والأوطان
ما أدرك العربي لاستقلاله
معنى وظل يقاد بالأرسان
لم يفلح الحلفاء لو لم يستمت
يوم القتال أشاوس العربان
بيت الحسين أعدت عهدا طيبا
للبيت ردد ذكره الملوان
أعظم به بيتا يحرر أمة
وينيلها مجدا رفيع الشان
يا ابن الملوك أبا الملوك مقلد
العربي سلسلة من العرفان
إن يبن من قبل الجدود فخارنا
فلأنت أنت مجدد البنيان
عش للعروبة رافعا أعلامها
يا من يقر بفضله الثقلان
فستحفظ الأجيال ذكرك خالدا
وتظل مذكورا بكل لسان
والحكم للتاريخ فهو ينصه
وعليه فعلك أصدق البرهان
رأي الدهور بشيخ يعرب واحد
لا اثنان، والسلطان ذو عدوان
عبد الله بن الحسين
يا واردا عمان حي أميرها
واقرا السلام على ذرى رغدان
سلم بتسليم الملوك على الفتى
سبط الرسول معزز الإيمان
لم يزه بالعرش الرفيع كما زها
ملك سواه بسورة السلطان
ملك يريك فؤاده بجبينه
وبه النهى والنبل يلتقيان
يزدان بالحلم الجميل كأنه
إرث عن الحسن الأب الفتان
وإذا دعا داعي النزال فعزمه
أمضى من الهندي في الأقران
يا صاحب الأردن قد ضارعته
بالطهر والبركات والفيضان
إن خلدوه بذكر عيسى أدهرا
فله بعبد الله ذكر ثان
أمجددا عهد القريض ورافعا
للشعر والشعراء خير مكان
أحييت أشرف خلة عربية
وفتحت باب البيت للركبان
ذكرت هذا القطر حين ملكته
أيام سيف الدولة الحمداني
أنسيتهم عهد الذين تقدموا
من حارث البلقاء والنعمان
فاسمع أناشيد القريض فإنها
تحكي رنين مثالث ومثاني
وانشر على الدنيا مفاخر أمة
أخنت على كسرى أنوشروان
عش يا أميرا دونه النعمان
مكرمة وما لوفوده يومان
فنعيمه في أي يوم جئته
ويقيك شر طوارق الحدثان
أحيا الشرائع يستكين لعدلها
المسلم الحنفي والنصراني
وبأرضه الإنجيل يلثم مصحفا
وهلالها يحنو على الصلبان
ما أجمل الملك الذي في شرعه
الدين القويم محبة الإنسان
لو شاء ربك وحدة دينية
ما كان قط تعدد الأديان •••
كم في الأنام من الذين يلذهم
نعق على الأوطان كالغربان
فاقطع لسان الناعقين ورد
كيد الحاسدين وعش قرير جنان
إن يفخروا بالسيف كنت أميره
وعليه في الجلى شهود عيان
أو يذكروا مجد الجدود فمن له
كأبي طلال في الورى جدان
فليخرصوا طرا فكم من شاعر
يروي حديث الروح عن حسان
مولاي عفوا إن يقصر شاعر
عن وصف بدر باهر اللمعان
فهو الذي يروي صحيح حديثه
عنكم وليس به غلو بيان
أرضعت حبي أمتي حتى غدا
جزءا يتمم وحدتي وكياني
وبه أرى ديني العروبة والكنيسة
موطني ودمي له قرباني
ورضاك حسبي يا أمير فجد به
واقبل سلام الأرز من لبنان
1931
إثارة لا رثاء
شهيد النهضة
لا تحتاج هذه القصيدة إلى ذكر ما دعاني إلى نظمها فهو معلوم من كل عربي وأنا واحد من هؤلاء.
مات الحسين فروع الإسلام
فعلى العروبة والحسين سلام
قل للسياسة جاهري لا تستحي
مات «الصريح» فما عليك ملام
مات الحسين فيا أعارب كبروا
إن العميد عن الشئون ينام
نم آمنا يا ابن الثمانين الذي
لم يعره في الحالتين سآم
أأبا العروبة، والتراث مقسم
شمس السياسة ما لهن زمام
ما «للوثائق» قيمة في عرفها
إن النكيثة عندها لذمام
أو ما رأيت عهودهم منقوضة
فالكذب حل والوفاء حرام •••
يا هوله نبأ آثار شجوننا
ريع العراق له وضج الشام
وارتجت الأردن من فرط الأسى
وبكى الحجاز وأنت الأهرام
نبكي علينا لا عليك فإنما
ماتت بموت «المنقذ» الأحلام
قد فرقت أيدي المطامع وحدة
أوجدتها وتخاذل الأقوام
أضحية استقلالنا لا تقنطي
من رحمة، فسيعلم الظلام
كنت الشجا في حلق سواس الورى
ذهب الشجا فتسهل الإبرام
أأسير قبرس لا ترع لك أسوة
فأسير «سنتيلين» ليس يلام
أيعاب سيف إن تثلم حده
يوم القراع وما جناه الهام؟
هون عليك، فما عليه غضاضة
إن لم يمت بعرينه الضرغام
ما هان قط ولن يهون اسم تقد
دسه نصارى الشرق والإسلام
ما هان من ضحى بعزة عرشه
إن جرحوه فجرحه يلتام
سعدا لقبرس قد تخلد ذكرها
باسم الحسين ترده الأيام
لله عهدك كم تذكرنا به
مجد العروبة، والزمان غلام
يا عاهل العرب الذي تاريخه
في صفحتيه عدالة ووئام
فرجت كربتنا ومت بكربة
عمياء يعلم هولها العلام •••
يا ساكن «الأقصى» يشرده عن
البيت الحرام من الخطوب جسام
سبحان من أسرى إليه بعبده
فسرت إليه بابنه الآنام •••
يا باعث المجد القديم ودون نهضته
الرشيد وخالد وهشام
يا فيصل الإسلام في تاريخنا
مهلا فيذكر حدك اللوام «وبرغم أنفي إن أراك موسدا
يد هالك والشامتون قيام» «بي لا بغيري تربة مجفوة
لك في ثراها رمة وعظام»
يا أيها التاريخ هذا خالد
يطوى فتنشر مجده الأقلام
قل للذي لم يدر أقدار الورى
هذا زعيم الأمة المقدام •••
يا قبر منقذنا، وإن قل الوفا
صبرا فتخفق فوقك الأعلام
1931
دمعة الأرز
عزم المجاهد الأكبر أمين الحسيني رئيس المجلس الإسلامي الأعلى، على إحياء ذكرى الملك حسين بن علي الذي دفن في المسجد الأقصى، فدعا شعراء الأقطار العربية فكنت من المدعوين فأعددت هذه القصيدة التي كان لها أثر في النفوس.
وقد وثقت هذه القصيدة عروة المعرفة بيني وبين المفتي الأكبر لما لها من علاقة بالقضية الصهيونية التي كنا نقاومها قبل الحرب العظمى ونسميها «الخطر الأصفر».
ثم ازدادت هذه المعرفة نموا فيما بعد، حين فر سماحته إلى لبنان قبل هذه الحرب، وأقام على مقربة من جونيه، فكان بيني وبينه مداولة حول القضية التي تهم كل عربي.
وما زلت أحفظ بين أوراقي رسالة من سماحته حول الموضوع.
فإذا رأيت أيها القارئ العزيز في قصيدتي تأثرا فلا تتعجب، فقد تشرفت بتقبيل راحة الحسين، في ذلك العام، فذكرت قول الفرزدق في أحد جدوده: يغضي حياء ويغضي من مهابته.
ولست أنسى - ما عشت - دمعة فرت من عيني عندما روى لي حكاية خادمه الذي حاول أن يودعه في العقبة، ساعة مشى إلى قبرص، فزجره قائلا له: لا تودعني، يا ولدي، لئلا يقال: إنه كان في وداعي واحد من العرب.
ليغمد «ذو الفقار» فقد حماها
وأقصته «السياسة» عن حماها «فيا شبه الجزيرة» أين مولا
ك «ابن البيت» أسمى العرب جاها «ويا أم القرى» ماذا قريت «الضيوف» وأين من فيه يباهى «أكعبة» أين أعلى الناس كعبا
إذا ما عدت الدنيا علاها «ويا بطحاء» أين «أبو علي»
أبو الهيجاء إن دارت رحاها
أسائلها وقد عيت جوابا
فويح لابنة عقت أباها •••
فتى «عدنان» نم نوما هنيئا
فأمتك استفاقت من كراها
وإن نامت على ضيم قليلا
فذاك رمادها يخفي لظاها
وإن الثأر عند العرب دين
ومن يكفر به جحد الإلها
فما جئناك من لبنان حتى
نردد كالنساء عليك آها
لقد جئنا وفي الأحشا سعير
يذيب الأرض إن يلمس حصاها
أتينا كي نهيب بكل ساه
عن الأرض التي بدم شراها
ولا عجب إن الأحلام طاشت
فإنا أمة قتلوا فتاها
نزيل القدس سر وقر عينا «فأولى القبلتين» علت ذراها
فإن عزت «بجدك» حين أسرى
فقد شرفت بدفنك في ثراها
وإن تك «ثالث الحرمين» دينا
ففي وطنيتي غدت ابتداها
وهذي «الصخرة» الغراء أزهت
بقربك واكتست شرفا تناهى
لأنك صخرة بنيت عليها
قضية أمة أهوى بناها
فقبرك صار منذ اليوم «حجا»
نعفر فوق تربته الجباها
تطوف به القبائل محرمات «فمروتها» هنا وهنا «صفاها»
وكم ميت به تحيا شعوب
وكم «حي» يموت به رجاها •••
أأمة يعرب مرحى فهذي
فلسطين تقدس من هواها
وحطم تاجه عطفا عليها
وأزرى بالأريكة وازدراها
فقام «المسجد الأقصى» بعطف
يضم يدا عليه همى سخاها •••
فقيد الأمتين عليك منا
المراحم هاطلات من سماها
أقم بجوار عيسى مطمئنا
فقد أنقذت أمة افتداها
أمير المؤمنين أهب بقوم
رفعت لهم مقاما لا يضاهى
وخاطب من ضريحك من توانوا
وقل لهم: إلى الهدف اتجاها
بنيت لكم بناء مشمخرا
ألا اتحدوا قلوبا لا شفاها
وذودوا عن مواطنكم ليوثا
تخيف القوم إن قربوا شراها
فدفني ها هنا قدر لكيما
أوثق أمة فكت عراها
فلن تغتر إن شامت بروقا
فكم خدعت عيونا سيمياها
عهود «القوم» منقصة وغش
فيا بئس العهود ولا رعاها
فأمس هنا على عيسى تعدوا
وقاموا اليوم يهتضمون طاها ••• «أمنقذ يعرب» لبيك، أبشر
فأمتنا تظل على وفاها
صليب «مسيحها» سيحول سيفا
وسيف «نبيها» يجلو دجاها
إذا «الزيتون» هس بأرض يسى
أصاخ «الأرز» سمعا وانتباها
وهب «النخل» يجرد من ذراه
رماحا ترعد الباغي شباها
فقبرك يا حسين لسان صدق
يعلم أمة فقدت هداها
ومن جعل الفصاحة في قريش
أصار اليوم قبرك منتهاها
ومثلك خالد ببنيه يعلي
منارتنا فلا يخبو ضياها
سريت مع السياسة ذا وفاء
وعند الصبح لم تحمد سراها
فتلك «البندقية» من تراه
سيطلقها إذا داع دعاها؟ •••
هنا حول الضريح - غدا - ترانا
ليوثا للوغى عقدت لواها
سنطلقها - غدا - طلقات ثأر
هنا فترجع الدنيا صداها
ونمشيها خطى كتبت علينا
ومن كتبت عليه خطى مشاها
1931
صاحب النبي
أنا ممن يثقون بالأدب الجبراني، وقد ناضلت دونه، ولهذا رثيت صاحبه.
قيثارة الروح إن الموت أشجاني
فشنفي بنشيد الخلد آذاني
وأسمعيني نشيدا كان يطربني
كأنه الناي من إنشاد «جبران»
ترنمي أيها الأرواح وابتهجي
فتاك كسر قيد العالم الفاني
إن قال في الأرض جزءا من قصائده
فسوف ينجزها في العالم الثاني
مات الذي هبط الوحي الحديث على
يراعه فأرانا «وردة الهاني»
مات الذي مثلت للكون ريشته
مشاهد الكون شتى ذات ألوان
مات الذي يتمشى في «مواكبه»
حب الطبيعة - عفوا - مشي ولهان
بدت «عرائسه بين المروج» لها
نحيب مسترحم أو نوح حيران
وقام يخلق «أرواحا تمردها»
على النواميس أخزى كل شيطان
أرى البرية في «مجنونه» عبرا
قد حار فيها ذوو عقل وأذهان
وكان في «السابق» السباق رائده
نصر الحقيقة في حكم وبرهان «فرمله» درر، أصدافها «زبد»
وفي «العواصف» عرف الند والبان
جبران جبار هذا الجيل آيته «نبيه» «ويسوع ابن إنسان»
كم في «ابتسامته من دمعة» خفيت
تطهر الكفر من رجس وأدران
مستهزئ بقيود ليس يقبلها
عقل، ويسخر منها سخر فنان
وليس يشبه عندي غير عاصفة
مرت كطيف على أجفان وسنان
جبران كنارة أنغامها اتسعت
فأطربت كل ذي سمع ووجدان
وكان آخر ما غنته «آلهة الأ
رض» التي حملت عباد أوثان
جبران أسمعتنا اللحن الغريب فقم
تعلم بأنا أناس «غير طرشان»
أرى «رسومك» وهي العين خالدة
بها يفاخر هذا المشرق الداني
ما كسر الدهر يا جبران «أجنحة»
حتى بدا لك في الدنيا جناحان
يا وردة الشرق ما هذا الذبول أجب
فالورد يبسم للدنيا بنيسان
ويا أنيس الليالي، عشت في حزن
ومت جد كئيب نضو أحزان
قلدت يسوع في التعليم متبعا
تناصر القلب، وثابا على الجاني
وما خيالك في عرفي سوى لغة
بها يفوه الحيارى بين مجان
يا إرميا قم ورحب بالزميل على «مزمار داود» «والشعر السليماني»
أحياكم بعد آلاف السنين لنا
في أمة شأنها تأليه رنان
أحب لبنان حبا لا يماثله
حب ومات غريب الدار والشان
لا تندبوه فإن النوح يزعجه
هنئت يا صاحبي نم نومة الهاني
نم عن همومك فالآثار خالدة
ما خلد الأرز في أطواد لبنان
البطرك الحوبك
عرفت هذا البطرك حق المعرفة، وقد كان تارة يغضب علي وحينا يرضى، ولي معه وفيه قصص طويلة سأدونها في كتابي «قصصي وأخباري».
إن الذي شاد «لبنانا» قد انهدما
فانعوا إلى المشرقين السيد العلما
يا ناعي «الحي» للأموات عز به
الدنيا وأجمل وآس الدين وابكهما
تعز يا دين، يا دنيا اجملي جزعا
هيهات في الشرق بطريق يضمكما
تفارقا، فعصا موسى قد انكسرت
والتاج أهوى وثل العرش وانحطما
فإن منينا «بطوفان» فلا عجب
ما بعد اليأس حي يحبس الديما
فانعوا إلى «الملتين» اليوم خير أب
بر حكيم جسور مخلص لهما
وانعوا إلى شعب لبنان زعيمهم
ألصادق القول أما يكذب الزعما
وانعوا إلى «الأرز» مولاه وحاميه
من عاش في ظله بالله معتصما
إلى الطوائف انعوا رأس طائفة
فذا ولا طائفيا يمقت القسما
ففي الكنيسة كان البطريرك تقى
وفي النوادي حكيم يفحم الفهما
راع مصل لباريه وسبحته
كأنها العقد فيه نظم الأمما
ما كان يبغي سوى توحيد أمته
كذا الرعاة وإلا فالرعاة لما
كان الرعاة لكي يحموا خرافهم
ولم يكونوا لكيما يأكلوا الغنما
مات ابن تسعين والتسعون إن وطئت
بيتا من الصم هار البيت وانثلما
تسعون عاما تقضت في الجهاد وما
شكا نوائبها كثرا وما سئما
فادعوا الشباب إلى «شيخ الجبال» عسى
من جسمه هامدا أن يغنموا همما
إن يهتضم فسياسي جراءته
تنعى على القوم هضم الحق والظلما
وفي عقيدته والحق مطلبه
قد كان أرسخ من لبنانه قدما •••
يا واحد الجيل بل يا جيل مفخرة
دينا ودنيا خلاك الذم حين طمى
إن كان في الناس أحرار فأنت أبو
الأحرار في كل طور، يافعا هرما
يا آية العرب يوحي خلقه سورا
عنا بأنا الألى لا نخفر الذمما
أنشأت «عائلة» شرقية خلقا
ضادية أدبا بل منطقا وفما
فصنت للشرق من عاداته غررا
يا عنصرا لم يذب في الغرب ملتئما
نشأت صبا بالاستقلال من صغر
ومت حرا يرى استقلاله حرما
وعشت ما عشت فينا راعيا بطلا
حقيه صان ولم يسمح بمسهما - فمجد لبنان قد أعطيت - أجمعه
يا ليته بك هذا المجد ما اختتما •••
إن لم أمدحك حيا يا عظيم فمن
كره التزلف للسادات والعظما
فحين أصبحت لا تؤتى لمنفعة
دانيت قصرك أبكي الطهر والشمما
ورحت ألثم كفا ما انتضت قضبا
للذود لكن صليب الحق والقلما
فيا له مأتما في الشرق ما شهد
التاريخ أعظم منه مجمعا فخما
أخرجت فاستولت الرهبى فما نسبوا
والأسد ترهب موتي، فاتقوا الأجما
ولحت تحملك الأحبار خاشعة
يا من تحملت عنا الهم والألما
فما تطاولت الأبصار بل خشعت
تكاد تقذف من فوهاتها الحمما
كأن نعشك والآنام مغضية «تابوت ذا العهد» لم نضرب له خيما •••
يا شائب الرأس شيبت الزمان وما
شابت أمانيك، فارقد بالسلام كما
يا أمة أدرجت ذا اليوم في كفن
وصي بقاياك حتى تحرس العلما
الملك فيصل
أعجبني من الملك فيصل ألمه المكتوم، ولا سيما حين سمعته يردد بتألم ممض الأبيات الأولى من: لا افتخار إلا لمن لا يضام، حتى إذا بلغ هذا البيت:
واحتمال الأذى ورؤية جانيه
غذاء تضوى به الأجسام
شد على كل كلمة ليدرك سامعه فعل هذا البيت فيه. فقلت في رثائه هذه الأبيات إرضاء لعاطفتي وتقديرا للعربي العظيم.
سألت الأفق عنه فقال: أودى
فتى ضاقت عليه الأرض جدا
وسائلت النجوم فقلن: كنا
نراه، وقد جفا عنا وصدا
وسائلت العروبة، أين حامي
ذمارك، سيد العرب المفدى
فصاحت لوعة: وا فيصلا!
فقلت لها اقصري نوحا وعدا
فما مات الذي في كل جسم
تقمص روحه روحا أشدا
فيا ويح «القضية» كيف تبكي
ويخرج بيتها الفياض أسدا
فهذا البيت أوجدها قديما
وألبسها جديد المجد بردا
فيا بيت الشهادة والضحايا
سلمت لنا على الأيام زندا
يهند فيصلا فيشب نارا
تضيء، ويحصد الأعناق حصدا •••
أبا غازي ألفت الفتح حتى
اقتحمت الجو مغوارا أشدا
وجاورت الصواعق في الأعالي
لكي تنقض في الآذان رعدا
أيطلب منك ذو طب هدوا
فيا قلب العروبة كيف تهدا؟ •••
شقيق علي وعبد الله، بشرا
أخا زيد إذا الدهر استبدا
هجمتم كالقضاء ولا مرد
وكم صاولتم أخذا وردا
مربع أمة راس، سماه
الحسين، فكان هذا الحصن فردا
يجير البيت أفرادا وهذا
أجار العرب والمجد استردا •••
ركبت من السياسة شر بحر
تداور يمه جزرا ومدا
أخا الخمسين، إن التاج عبء
متاعبه تهد الجسم هدا
فحسبك ما بنيت فقر عينا
فقد شيدت ملكا لن يهدا •••
أراك تجل عن نوح القوافي
فمجدك ينشد الأشعار نشدا
ومن يرث البطولة فهو فان
أليس النعش للأبطال مهدا
أنندب «فاتحا» عشق العوالي
وخلف «غازيا» إن صال أردى
اللوعة الخرساء
لا تحتاج هذه القصيدة إلى تعريف، فهي في ثلاثة هم أعز الناس عندي: أبي وأمي وأم أولادي.
قومي انظري الأطيار كيف تألبت زمرا زمر
في هيكل الوادي الرهيب تقيم تسبحة السحر
خلع الأمير على بنات الأرض أثواب الزهر
فالكون في عرس الصباح وحماك محزون مباح
قومي فقد جاء الربيع
كيف التقاعد، أيها الأم المولهة الحنون
أختاه، طال النوم، والأولاد ضجوا صاخبين
قومي إلى حاجاتهم فببعض عطفك يقنعون
شلت يمينك يا قدر اطهو الحصي ولا «عمر»
والناس حولي كالربيع
يا واحتي، والوهج موصول بأسباب السماء
يا قريتي، أغشاك أن ينسد في وجهي الفضاء
يا منزلي، بك سلوتي، إن يجف إخوان الصفاء
من للسفين بلا شراع - والبيت - والمصباح ضاع
والعام إن مات الربيع
ماذا دهى أخت الصباح وكيف تاهت في الظلام
كيف امحى قوس السحاب وذاب في قلب الجهام
في ذمة الأرياح طرته وفي عنق الغمام
يا عش، رفقا بالفراخ فالمقبلون على الصراخ
هجروا الخميلة في الربيع
إن يرجعوا صفت الحياة وجد دهري وابتسم
واخضرت الأرض الموات وأعشب الصخر الأصم
هيهات، ذاك العهد كان وراح والفلك ارتطم
الشمس في سمت الأصيل وأنا المحير في السبيل
وأظن أني في الربيع
ذكراك كالحمى تعاودني ومثل العاصفه
مثل البراعم ليس توقظها الرعود القاصفه
وتحس هينمة الربيع فتستفيق العاطفه
إن المحبة لا تموت وهي الفصيحة في السكوت،
فكأنها زهر الربيع
كم رن في أذني فأرعد مهجتي وقع الخطى
متدافعا فوق البلاط كأنه مشي القطا
كم عن لي رف الصبايا الراجعات من «الوطا»
فظننتها بين النساء أواه من خدع المساء
وما اذكارات الربيع
كيف التفت فلا أرى عن جانبي سوى كهوف
تبدي الحديث مكبرا وتظل عن شأني وقوف
ذهب «المعزي» في السرى وبقيت وحدي كالعريف
في مهمه مد البصر يحتار فيه من عبر
وتضل أطيار الربيع
يا من غدوت أبا وأما هذه سنن الحياة
من كان يحمل كل همك مات بل أمسى رفات
وبقيت وحدك لا تهم بلفظة ذهب الثقاة
فاصبر على عبث الصغار واندب «ثلاثتك» الكبار
من آثروا سفر الربيع
لا أستعير من الدجى ثوبا ولو مات الزمان
سيان في نظري خطى متنطس أو بهلوان
صور تمثلها الحياة ليستبد بها الكيان
ما لي أخاف من العدم وهو البريء من الألم
وعلام أنتظر الربيع
1934
في سبيل الإخاء
(1) توحيد واتحاد
لا الدين يرضيني ولا صلواته
إن يبغ تفريق الشعوب دعاته
فالدين مسنون لتأليف الورى
جسما توحد فيه جزئياته
ضل الألى جعلوه قيد مذاهب
وطرائق فتبدلت آياته
قد كان في فجر التمدن مبضعا
فغدا حساما لا تكل شباته
ولسوف يبقى هاديا هذا الورى
حتى تضل عن الصراط هداته
والدين في لغة التطور واحد
قد رودفت وتعددت لفظاته
وأرى المثلث كالموحد دينه
لم تختلف في مذهبي جناته
ليس الكتاب سوى الضمير منزها
عن غاية وإله كل ذاته
ذاتي هي الرب العظيم لأنها
منه ومثل الفعل مشتقاته
وإله موسى والمسيح وأحمد
رب الجميع، وفي الجميع صفاته
والكون جسم سرمدي خلدت
فيه الحياة وناسه ذراته
والأفق عندي صفحة من مصحف
ليست تعد ولا ترى صفحاته
إن الكواكب والشموس حروفه
مسبوكة ونجومه حركاته
ورث المذاهب كالعقار مضللا
ويح القطيع متى تضل رعاته
بذروا «اجتهادهم» فأنبت شوكه
في شرقنا كيلا تمر حفاته
فتنازع الملكوت شعب تاعس
يبغي النعيم، وفي الجحيم حياته
لهفي على الوطن العزيز مقيدا
بالترهات فتيه وفتاته
أسفي على وطن تفرق شمله
في الدين فابتسمت لذاك عداته
هم يذكرون الحب في أفواههم
ولدينهم في قلبهم نعراته
فإذا غدا دين الإخاء شعارنا
حي الرقي وقل دنت أوقاته
فيه نرى بيت العروبة مقدسا
حرما تصافح طوره عرفاته •••
وطني المريض أمن دواء ناجع
غير الرقى فبلاؤه رقياته
حلوه من هذي القيود وحطموا
أغلاله، أفلم يئن إفلاته
من لي بيوم إن تمايل أرزه
فيه تماوج نيله وفراته •••
وطن الأعارب حسب قومك رقدة
فهم إذا ذكر الذمار حماته
يا ويل شعب الشرق من زعمائه
إن قلت هش تصعدت زفراته
1925 (2) بيني وبين الأسير
في فترة قصيرة جدا صرت من فرسان الصليب الوردي، فتقت إلى «الأسرار» التي تلي هذه الدرجة «18» فكتبت إلى الأخ الدكتور حسن بك الأسير - رحمه الله - أسأله ذلك، وأحببت أن يكون الخطاب نظما لأنني كنت - في ذلك الزمان - مولعا بالنظم.
فجاء الجواب منه شعرا أيضا. وها أنا أنشر الاثنين لأني أحببت أيها القارئ الحبيب، أن أعترف لك اعترافا صادقا، فلم أترك شاردة ولا واردة. أحببت أن أريك مارون عبود، في كل مراحل حياته، وأطواره التفكيرية والنفسية، ولك أن تقول أنت في ذاك المارون ما شئت. فأنا أعتبره ذاتا تركتني لتحل محلها ذات أخرى. إنني أحس ذلك وألمسه. أجل، لقد تركت على طريقي ذواتا كثيرة فتأمل نفسك أنت إذا شئت أن تشعر شعوري. ومن يدري فلعلك تركت مثلي ذواتا كثيرة.
الخطاب
أقافيتي على متن الأثير
إلى «حسن» النهى المفضال سيري
ودقي بابه عني وقولي
أسير الفضل رفقا بالأسير
أسير عند بابك في الدياجي
ألا افتح باب «مجلسك» المنير
وخذ بيديه تغنم أجر عان
طموح ليس يرضى باليسير
يتوق إلى «الثلاثين» ابتهاجا
أخو «الخمسين» وهو على شفير
فيا علم «العشيرة» يا إمام «اليتامى» بالأخوة كن نصيري
فما في الجيب إلا «فلس أمي»
أجود به من الكيس الصغير
فإن تفصد أخاك فكن حكيما
ألست الطب منقطع النظير؟
فما مال «المعلم» غير شعر «يسفتجه» على «بنك» الشعور
فإن «أمضيت» فهو من الدراري
وإن ترفض فكالترب الحقير
فدينار البلاد بلا مسمى «وفرط» الجيب لبناني وسوري
فإن تنصر أخاك فليس بدع
فكم في دار فضلك من أسير
الجواب
سقطت من الوفاء على خبير
فذرني والذي لك في ضميري
رويدك سوف «تأخذها» سريعا
وما أنا من يقصر عن قصير
زهدنا بالنضار اليوم إذ ما
أضر بصاحب الكيس الصغير
فأهلا بالغوالي قد أتتنا
منضدة من «الأخ» الكبير
وفي «دار» الأسير يحل أنس
غداة يحل كالبدر المنير
ولاح على وجوه القوم بشر
يدل على انشراح في الصدور
وبرجت «البروج» لملتقاه
وزخرفت المقاعد للأمير
ونادوا في المحافل والنوادي
بحضرته وتشريف قرير
1928
من عهد الصبا
ذكريات
لقد صدق الذين قالوا: أدركته حرفة الأدب فهي محنة ليس مثلها محنة. يعيش صاحبها في إقلال وكأنه صاحب حور وقصور. ليس في الأمر تشويق ولا ترغيب، ولكنه الطبع يسوق صاحبه بعصاه إلى حيث يرغب، وإلى حيث لا يرغب، وهو في كلتا الحالتين راض.
علموني فتعلمت، وساقوني فانسقت، ولكن اختلفت نية الجمل والجمال، وقد بدت طلائع ذلك في مبزغ الشباب. ها نحن في مدرسة مار يوحنا مارون، المدرسة معدة لتهيئ للقطيع رعاة، وقد كنت أنا من المرشحين لتلك المهمة، ولكني كسرت العصا قبل أن أهش بها على الغنم.
ها نحن في درس اللغة العربية، وها هو أستاذنا الخوري إلياس زيادة يعلمنا قرض الشعر، وها هو رئيس المدرسة الصالح المونسنيور بطرس أرسانيوس يقرع الباب غاضبا. سمع سيادته أستاذنا يملي علينا هذين البيتين لنشطرهما:
ولم أنس المليحة حين راحت
إلى قاضي المحبة تشتكيني
فقلت لها ارحمي ضعفي فقالت:
وهل في الحب يا أمي ارحميني؟
فصاح به، وهو يفتح الباب: يا خوري إلياس، أيش بك اليوم؟!
فابتسم المعلم ابتسامته الزعفرانية، وارتجفت لحية المونسنيور أرسانيوس فخلنا كل شعرة ترقص وحدها. وانتهت المعركة الصامتة، ففهمنا أن مثل هذا الشعر لا يليق بالثوب الأسود، فرغبت فيه، أي في ذاك الشعر لا في الثوب.
ورحنا تقرزم حتى استحالت الغابة القائمة على كتف مار يوحنا مارون إلى شعر، ففي عيد رأس السنة حفلة تهنئة للرئيس بالعام الجديد لا تسمع فيها غير الشعر، وفي عيد مار بطرس حفلة شعر له أيضا. ناهيك بأن لكل أستاذ عيدا، ولا بد من القيام بالواجب نحو حضرته شعرا. فالعيد بلا شعر كالسفرة بلا جبن وزيتون. وهكذا دواليك حتى صرنا ننام ونقوم ونلعب في جو من الشعر، وها هو أحدنا يقول على المائدة:
خلطنا برغلا مع بنت لوب
نصولها بشوكات الحديد
يعني ببنت لوب الفاصوليا حبيبة قلب التلاميذ ومعشوقتهم الأزلية
وها هو رفيق لي يهنئ معلما له بقصيدة كلها من هذا الطراز المعلم:
متغزلا في مدح أنطون التقي
في مدح أنطون التقي متغزلا
ما لنا ولهذا، فلنعد إلى مارون. عن لي أن أشطر قصيدة كان يرويها أكثر أبناء صفي، ومن أشهر أبياتها:
شبكت عشري على رأسي وقلت له
يا راهب الدير، هل مرت بك الإبل؟ ... ... ... ... ...
وراهب الدير بالناقوس مشتغل
يا حسرتي في وقوفي عند بابكم
تقول سكانه من أنت يا رجل؟
فشطرت تلك القصيدة، ثم ذيلتها ببضعة أبيات فصارت قصة سميتها «قتيل الغرام».
وأطلعت معلمي - الخوري إلياس - عليها فأعجب بها، فمضيت في تنقيحها حتى صارت شعرا، كما كنت أفهم الشعر في ذلك الزمان، وطغاني الشيطان فبعثت بها إلى جريدة الروضة فنشرتها. وذاع خبرها فاتصل بسيادة المونسنيور فدعاني إلى زيارته، خيل إلي أولا أنه معجب بها وأن الأمر ينتهي عند لوم وتوبيخ، فإذا به يصفع خدي الأيمن فحولت له الأيسر، ووقفت أمامه مكتوف اليدين مظهرا أقصى الطاعة، فصاح بي: قتيل الغرام. كيف تموت الناس من الغرام يا مارون، يا حسرتي، ضاع تعب خالنا خوري حنا عبود.
وأخذ القصيدة بيد ترتجف وقرأ:
وظبية من صبائي قد شغفت بها
ترنو إلي وستر القرب ينسدل
أيش هي هذي الظبية يا مارون، ومن هي يا ابني؟
ثم قرأ:
رفعت صوتا جهيرا قرب صومعة
يا راهب الدير هل مرت بك الإبل
فقال: نعم، الراهب ناطور عشاق. ثم قرأ: وراهب الدير بالناقوس مشتغل. فقال: لا، شغل الراهب مثل شغلك يا كلب.
ولما بلغ هذا البيت:
يا حسرتي في وقوفي عند بابكم
تقول سكانه من أنت يا رجل
استولى على أمد الغضب وصرخ بي: انقبر من وجهي، الله يخيبك، لا تقف ببابي.
فخرجت متعثرا بأذيال الخجل، وشكرت الله على الانصراف، ولكنه استدعاني ليقول لي: لولا كرامة جدك في قبره، كنت طردتك الآن. قصاصك: ركوع جمعة على المائدة، أكلك خبز وزيتون، وصوم شهر، كتابة خمسة آلاف سطر من ديوان المطران - جرمانوس فرحات - لا، بدل الكتابة تنظم قصيدة في مدح مريم العضرا. نحن على أبواب شهر آيار. هيئها، وإذا ما كانت قصيدة أحسن من هذه ألف مرة تعرف ماذا يصير.
ولما رأيت أنه لان قلت له: ولكن ما زائدة بعد كان، فأجابني: وأنت زائد في هذه المدرسة، وبعد أيام دعاني وسألني إن كنت أتممت القصاص، فأومأت برأسي أن نعم. - والقصيدة نظمتها؟ فأجبت: نعم. ولما قرأت له عنوانها: «باقة أزهار لملكة أيار»، ابتهج جدا. ومضيت في تلاوة القصيدة فأعجبه وصف الربيع والمناظرة بين الزهور: الورد، والنرجس، والبنفسج، والزنبق، والشقيق. وابتسم لي حين رأى انني وفقت بين الزهور كلها وجمعتها في أضمامة واحدة وسرت بها إلى الهيكل كثعلب لافونتين.
ثم قدمتها لأطهر أم
قد تسامى مقامها في النساء
فمد لي يده لأقبلها، وقال في تلك الأثناء: الله يبارك عليك. الماضي مضى، حسن حالك.
وكتب هو إلى صاحب جريدة الروضة فنشرها في الصفحة والحقل حيث نشر «قتيل الغرام». وهكذا ذقت أول لوعات الغرام قبل أن أعرفه.
وكان عام 1903-1904 آخر أعوامي المدرسية في مدرسة مار يوحنا مارون، فجئت مدرسة الحكمة، فإذا خبر القصيدتين قد سبقني إليها، فنظمت قصيدة عنوانها «هللويا» كادت أن تقضي علي.
ثم نظمت قصيدة «المرائي» وأرسلتها إلى مجلة المشرق، فرفض الأب شيخو نشرها. ثم كان عام 1906 فودعت المدرسة وداعا أخيرا، ونظمت قصيدة ودعت فيها «طبقتي» ومما قلت فيها:
ولا تقولي: عجيب ما تغزل بي
من قبله شاعر أو بات مفتونا
فإن غيري بسلمى عنك منشغل
وما لسلمى نصيب عند مارونا
فعفت هذه على قصيدة «هللويا» وفارقت المدرسة بالتي هي أحسن، كما أوصى الشاعر.
ونظمت ونظمت، وظللت أنظم حتى سنة 1934 فكادت تكون قصيدة «الصليب» آخر شعر قلته، لو لم أنظم قصيدة في الاستقلال الذي حننت إليه طول عمري وسيأتيك الخبر. أما الآن فاسمع «هللويا» وهي تعطيك صورة عن غزلي ونسيبي، إن كان لي غزل ونسيب. إن لي شعرا كثيرا حجبته عنك لئلا أقضي عليك، فاشكر لي هذا الذوق اللطيف.
هللويا
اخلعي فجر ناظريك علينا
وهلمي بنا نسير الهوينا
انظري موكب المليكة قد أقبل
تشدو جوقاته هللويا •••
الفضا هيكل الغرام المقدس
فيه ظل متيم يتنفس
إن «زياح» حبنا سرمدي
تتغنى طيوره هللويا •••
أنت شمسي فشعشعي وأنيري
ظلمات عمياء عاقت مسيري
انظري فالطيور ترنو إلينا
شاديات لوجدنا هللويا •••
رعشة تعتريك إذ نتلاقى
رعشة الطفل من رقاد أفاقا
فإلى خيمتي ففي تلة الخيمة
وحي تأويله هللويا •••
إن عينيك فيهما لجتان
بهما يغرق المحب العاني
فاعمديني في نهر أردنك العذ
ب فيشدو روح الهوى هللويا •••
كم ذهبنا إلى الحقول سكارى
برحيق وما خلعنا عذارا
ليس من قائد لنا أو سمير
غير شوق يحدو بنا هللويا •••
نتمشى فتستفيق الزهور
متلعات أعناقها والخصور
إن أحداقهن ترنو إلينا
وعلى المبسم الطري هللويا •••
خبريني عن ذلك البركان
لا تلوذي بواهي الكتمان
فعليه تدلني القمتان
فأغني دنيا الهوى هللويا •••
قمتا الوجد هن توءمتان
لست أدري - والله - ما يهمسان
لا أرى إن حدقت غير شفاه
راجفات يهتفن بي هللويا •••
ذكريني فهل نسيت هوانا
يا لحب كأنه ما كانا
رحم الله بعدنا من تغنى
في هواه مرنما هللويا •••
هللويا في الحب كانت نشيدي
يوم كانت هيفاء بيت قصيدي
فهواها أهاج في طموحا
أنطق الكون يومه هللويا •••
يا لحب عشنا به أعواما
كنت مستعذبا به الآلاما
كنت كالعود في اللهيب يغني
سورة الذكر صارخا هللويا
إلى شيخ المجاهدين
عهد وعلم
كان يوم راشيا فهلعت قلوب وتهللت قلوب، وأخيرا انتصر الحق وعاد الشيخ الرئيس - بشارة خليل الخوري - ومعه حكومته «الرياضية»، فاشتعلت ذوائب لبنان ومفارقه ابتهاجا بالبشرى، فنظمت هذه الأبيات ساعتئذ، بعد سنوات عشر لم أقل في أثنائها بيت شعر، ولن أقول بعدها، إن شاء الله.
وبما أنني آليت أن أعترف لك اعترافا صادقا أقول: إنني قلتها على هذه القافية معارضا الشاعر الذي هنأ فخامة الشيخ بالرئاسة، فبنى قصيدته على قافية الشريف الرضي القائل «لابن عمه» الخليفة القادر بالله:
عطفا أمير المؤمنين فإننا
في دوحة العلياء لا نتفرق
ما بيننا يوم الفخار تفاوت
أبدا كلانا في المعالي معرق
إلا الخلافة ميزتك فإنني
أنا عاطل منها وأنت مطوق
قد سميتها يوم قلتها «أضحية العيد» لأنها ولدت يوم «عرفة» عام 1943، بعد عودة الشيخ من قلعة راشيا بأيام. إن هذه القصيدة لم تنشر ولم ترفع إلى صاحبها، ولولا أنها جزء متمم لهذا الديوان لظلت مطوية إلى يوم أطوى.
تصحيح: كنت ظننت الشاعر يعارض الشريف مستلهما ما بين اسمه واسم صاحب الفخامة الحالي من اتفاق، فإذا بي، وأنا أنظر في كتابي «على المحك» لأقدمه إلى الطبع، أرى له قصيدة تهنئة في صاحب فخامة سابق، من هذا الوزن والقافية.
نور ونار في سماك يحلق
فتعهديه بنهضة لا تسبق
هذا «لواؤك» يا بلادي فانظري
علم الفتوة كيف قام يصفق
قد أنقذ الشرف الرفيع من الأذى
فعلى «جوانبه» الدما تتدفق
والمجد مبتدر، وخير القول ما
جاء ارتجالا والمحكك مخفق •••
عهد عصامي يسود نفسه
عهد يقول الشعر فيه «البطرق»
مه يا زهير، فإن عرتك سآمة
فشيوخنا تهوى الحياة وتعشق
طربوا للاستقلال أحمر قانيا
ريان منه دم الكرامة يعبق
إن الدم الفواح خير هدية
للأمة العذراء وهو الموثق
هو خير مهر للعهود إذا التوت
وبه يسجل صكها ويصدق •••
مرحى بشارة، إن «يومك» خالد
يوم أفاق على صداه المشرق
فاستبسل البلد الطعين يحفه
حق به لسن العواصم تنطق
ولربما دان الكمي لأعزل
فالحق سلطان السلاح الأعرق
يا وجه لبنان احمد اليوم السرى
فالليل زال ولاح فجر مشرق
إن الأمور بوقتها مرهونة
فإليك مجدا كنزه لا ينفق
يا شيخ لبنان الأشم بلغت ما
ترجو وها أنت الرئيس المطلق
فارفع لنا العلم الذي لا ينطوي
وانسج لنا الثوب الذي لا يخلق
سر بالسفينة، لا تدع سكانها
واهجر رقادك فالعباب يؤرق
يا أيها الربان، كن حذرا ففي
جو السياسة ألف نوء يغرق
كن للكرامة مثلما عودتنا
واحذر فعين المجد يقظى ترمق •••
قالوا «رياض» فقلت: هذا غابة
فيها من الأسد الأشاوس فيلق
صلب العقيدة وعرة أخلاقه
كجبال لبنان فلا يتسلق •••
لبنان يا بيت الحضارة، لا ترى
إلا فؤادا عند ذكرك يخفق
أمنارة الشرق التي لا تنطفي
وشعاعها في العالمين مفرق
لا زلت سباقا إلى غاي العلى
وبكل معركة يظلك بيرق
1943
بيني وبين الريحاني
خاتمة
وجدت في الريحاني أخا رأسي ساعة عرفته عام 1908، أما كيف عرفته، فقد سردت خبر ذلك في غير هذا الموضع، جاءنا الريحاني من أميركا صوفيا ولكن صوفيته كانت غير مائعة، فأحببته، جاء من بلاد العم سام ومعه في جرابه - بذور للمزارعين - فألقاها في تربة بلاده، ثم استحالت صوفيته عملا فصار كاتبا نضاليا، فمشيت وإياه ورافقته حتى آخر خطوة، فأعجبني منه تصلبه، فلم يكن قط - كبعض أصحابنا - مع كل خيل مغيرة، كان أمين أول من حلم «بالجامعة العربية» وسعى لها، وفي كتابه ملوك العرب وغيره بيان ذلك، ولسوء حظه لم يكتب له أن يعيش ليرى ثمرة نضاله، ولكن هذا لا يعني الفيلسوف العامل، فهو يحيا للأجيال، وفي الأجيال، ومع الأجيال.
ليس هنا مقام درس الريحاني، فلهذا موضعه من كتبي، أما الآن فأقول ما لا بد منه لوحدة كتابي هذا، فهو صورة لقضية لم أدع التبجح بها إلا حين صار القول فيها مباحا، وكثر المدعون، وحام حولها المتذبذبون الاستغلاليون.
أسميت ابني محمدا، عام 1926، فكان الريحاني أول من طرب وانتشى لهذا العمل. أدرك أبعد مداه فكتب إلي هذا الكتاب:
أخي مارون عبود
أصافحك بيدي الحب والإعجاب، وأهنئك بصبيك الجديد، وأهنئه باسمه الأجد، وبالقصيدة التي نظمتها له، ولهذا الوطن الغني بالأديان، الفقير بين الأوطان.
أحسنت يا مارون، أحسنت، وخير الآباء أنت.
وحبذا في المسلمين، وفي الدروز، وفي اليهود، من يقتدون بك فيسمون أبناءهم بأسماء آبائنا القديسين، ونسمي أبناءنا بأسماء أبنائهم الأولياء، فينشأ في هذه البلاد جيل جديد من الإخوان - الإخوان الحقيقيين - الذين لا يعرفون من أسمائهم أنهم لأحمد أو لموسى أو للمسيح، بل لا يعرفون خارج المعابد أنهم مسيحيون أو مسلمون أو موسويون.
إن المستقبل لهذا الجيل من الإخوان، وفي مقدمتهم محمد بن مارون بن عبود اللبناني - حرسه الله.
الفريكة، لبنان 11 نوفمبر سنة 1926
أخوك: أمين الريحاني
وتلت هذا الكتاب اجتماعات عديدة بيننا دبرت فيها خطط غايتها «التوحيد» - أعني من التوحيد القومي منه - فكان أمين رسولا، وكنت أنا معلما، فعملنا ما عملنا ولا فخر.
وكان عام 1934 فدعيت وأمينا لنخطب الناس، وكان الداعي لي تلميذي الأستاذ معضاد معضاد، فتخلفت أنا ولبى أمين؛ فلم يكد يخرج من الحفلة حتى قبضت عليه السلطة ونفي من البلاد، وبعد قليل من الزمن عاد أخونا أمين إلى الفريكة فكتبت إليه:
أخي أمين دمت عزيزا مشرفا
ما أدري كيف عدت، أتائبا كداود، أم متمردا كابيشالوم؟ واليد التي أعادتك، أقفازها من فراء الهررة وريش الديوك، أم من جلود الأسود والنمور؟ أم الجنة لا يدخلها إلا من توسل إلى الله بأحد القديسين الاختصاصيين كالخضر وغيره.
يا أخي أمين، خبرني، أليس الانتداب في كل مكان حتى السماوات، في كوخ الفقير وقصر الملك، طورا تنتدب الأناس وتارة الإناث.
فإلى أين يا أمين، أإلى القبر؟ ففيه انتداب منكر ونكير، أإلى السماء؟ ففيها انتداب بطرس ورضوان، وفي هذه الأرض يتنازعنا الملاكان، وفي جهنم لوسيفوروس وأصحابه ذوو الأذناب والقرون.
فما أرى هذه الأمة إلا مفلتة من نير لتقع تحت النير، وما شكر السوق إلا من ربح. لا يثير شجوني شيء يا أخي، كالذين غرقوا حتى الآذان في لجة الفرنك، حتى إذا انقطعت الجراية كفروا بالفرنج، ولا أدري إذا كانوا يندمون كبطرس عند صياح الديك.
ألا رحم الله ابن الرومي حين قال يهجو إسماعيل بن بلبل:
تشيبن حين هم بأن يشيبا
لقد غلط الفتى غلطا عجيبا
فما أكثر المرتدين في هذه الأرض - وإن إلى حين - ونحن كرجال الدين نعد الارتداد هداية، وهو وليد الغاية، والغايات أكثر عجائب من الليالي.
عللت النفس برؤيتك في العراق، فإذا بك تعود إلى الفريكة، فهنيئا لك ربيعها الضاحك كسنك، وإن خلا من سخريتك، وأنعم بمنظر سنابلها الطريئة، فكل ما على «أرضنا» فريك، الحصاد كثير والفعلة قليلون، فاطلب ما شئت من رب الحصاد.
قرت بطلعتك عين «عجوز منبج» يا أبا فراس، وعليك ألف سلام من أخ يشتاقك وهو جد مؤمن بوفائك ومروءتك وإبائك.
2 / 4 / 1934
أخوك: مارون عبود
أما جواب أمين فكان حاميا، ولكنه استحال في قلبي بردا وسلاما، وإليك نصه مع صورته الأصلية:
أخي مارون حفظه الله
وأبيشالوم إنك مازح في كتابك الجميل إلي، أو أنك هازئ يائس، ليس أخوك ممن ينشدون المثل الأعلى في الزبور، ويقتدون بمن غير فكره عند صياح الديك، فقد عدت إلى الوطن لأني مثل الذين أبعدوني أحب هذا الوطن، ومثلهم أحب أن أقيم فيه على الدوام.
وإننا نحن - والله - المقيمون على الدوام، لا هم، أجل إنني أعلم، وأعتقد، وأتيقن، وأتأكد أن سيجيء اليوم الذي يرى فيه المستعمر الأثيم حاملا بندقيته، ومدفعه، وطبله، وزمره - وكيسه الفارغ - وراحلا راحلا.
البرهان؟ الدليل؟ أنا وأنت والقلائل الكرام إخواننا في كل مكان. البرهان؟ الدليل؟ مدرستك وتلاميذك، ومدرستي السيارة وتلاميذي، وذريتهم وذريتنا، وإيمانهم وإيماننا، وجهادهم الذي سيكون أضعاف جهادنا شدة وانتشارا، لا يريبنك ذلك.
فلا تزال الشعوب سائرة إلى الأمام.
ولا يزال الإنسان عاملا جادا في سبيل الرقي في كل مكان، ولا تزال البنود الحمر تخفق فوق رواسي الفكر، والأمل الخالد يشع حولها.
ولا يزال الله على عرشه حيا يرزق.
عفوا يا أخي مارون، ما جئت أقرع الطبول في حزنك، ولا جئت أعزيك بوفاة الوالد - رحمه الله وسيرحمه لله - وكيف لا يرحمه وأنت ابنه؟! بل سيكرمه لأنك ابنه، لا يريبنك ذلك.
إن يقيني بما سيكون لأشد جدا من يقيني بما هو كائن، الغد لنا يا مارون، الغد لنا هنا وهناك.
والسلام عليك من أخيك المشتاق إليك.
الفريكة، لبنان في 11 نيسان 1934
أمين الريحاني
سلم على الأخ الرئيس والإخوان زملائكم، دمتم متمردين في ما تعلمون، موفقين في ما تزرعون.
هذه رسالتنا أيها القارئ العزيز أطلعناك عليها واضحة جلية في هذه الأوراق، وإنا لراجون عفوك ورضاك، فعسى أن تكون أنت من المجلين في ميدان القومية قولا وفعلا، وتذكرنا كما ذكرنا من سبقونا:
وإنما المرء حديث بعده
فكن حديثا حسنا لمن وعى
Bog aan la aqoon