فانتهرها زوجها قائلا: اسكتي يا امرأة، اسكتي، في الأمر ما لا تدركينه أنت، القس جبرائيل أعلم مني ومنك بما هو حق وما هو باطل، وعارف بعد هذا وذاك راشد يحسن إدارة شئونه بنفسه، هو الآن ولي أمره، رح يا ابني، اعمل ما تشاء وفقك الله! - وأنت أيضا مجنون، أنت أيضا تريد أن ترمي بابنك إلى التهلكة ولا تهمك الفضيحة والعار.
فانتهرها زوجها ثانية فخرجت الست هند تسبه وتسب أخاه وتدعو على ولدها وعليهما بالموت العاجل.
وفي صباح اليوم الثاني لما كان عارف راكبا العربة قاصدا طبريا جاء القس جبرائيل يسأل مريم أن ترافقه في نزهة إلى تلحوم ليريها خرائب تلك البلد القديمة، وكان قد سكن جأش مريم ذاك الصباح سكونا يتلو العواصف أو يتقدمها منذرا بها، فحدثها القسيس في الطريق بما قد يكون اليوم من أمرها وكشف لها الأخير من ستور السر المحجوب، فنظرت مريم إلى ما وراءه ساكتة باهتة غير حافلة، وبعد أن فكرت قليلا قالت لمحدثها: عملت دائما بما تشاء فلا أقاوم اليوم إرادتك، إنني راضية إكراما لولدي، سأقبله زوجا لي وإن كنت لا أستطيع أن أعيش وإياه. - بل ستعيشين وإياه سعيدة إن شاء الله، عارف يعشقك ولقد ذرف الدموع فرحا حين أطلعته على خبرك وبشرته برجوعك. - ولقد كدت أغرق في بحر من دموع العشاق المخادعين، ويا ليتك لم تنقذني منه حية. - انسي الماضي ماضيك يا مريم، انسي تلك الأيام السوداء.
فنظرت مريم إليه نظرة حادة محرقة، وهتفت قائلة: الماضي؟ ماضي؟ هو شبح مفزع يمشي أمامي، يظلم الأفق في ناظري منه، يحبس عني نور الشمس، يقود نفسي إلى الهاوية، الماضي يا قس جبرائيل سوس ينخر في عظمي، نار تتأجج في دمي، نمل يدب في جسمي، الماضي؟ ليتك تعرف كيف تعيش المومسات - وقد دعيت بمصر مومسة - ليتك تعرف كيف تعيش المومسات، وكيف تموت القديسات البارات؟ تلبس البائسات الحرير فيظن أنهن راتعات في بحبوحة من العيش باهرة زاهرة، وإن لم يلبسن الحرير يمتن جوعا، حريرهن مسوحهن، والطيوب التي يذرينها على شعورهن وصدورهن إنما هي رماد التقشف والتقوى، المومسة يا قس جبرائيل إنما هي القديسة، تمشي وراء ماضيها إلى النار مستشهدة، وأنا الآن أمشي وراء ماضي، ومهما كان من مستقبلي فإن ما أساق إليه هو هو، لا ينقص بلاؤه ولا يزيد، أنت يا قس جبرائيل مخلصي وأنت صليبي، قبلتك وحملتك صابرة راضية، ولكني لعنتك مرارا في قلبي ولم أزل أكرهك.
فحاول القسيس أن يسكن روعها ويعزيها ببعض كلمات ذاكرا مريم المجدلية، فنهضت عن الحجر الذي كانت جالسة عليه في ظل صفصافة قديمة، وغيظ التهكم واليأس يحتدم في ناظريها. - أي نعم، مريم المجدلية! المومسة القديسة، شهيدة الإيمان والغرام والأوهام، وأنا، أنا ...
ثم أشارت بيدها باسمة إلى سلسبيل من الماء قريبا. - تفضل يا مولاي، هذا الماء وهذي يدي وهذا شعري، تفضل يا مولاي إلى الغدير! أظنك اليوم تبارك إكليلي، فتحرمني إكليل الاستشهاد.
وضحكت ضحكة أعادت الإثم إلى جفنيها واللعنة إلى فمها، فأغضى القس جبرائيل على ما بدا من تغيظها وتجديفها وقام يناعمها ويطايبها وهو عائد وإياها إلى البيت.
وبينا هما عائدان كان قد وصل عارف من الناصرة فاستقبلته لطيفة طاهية بيتهم القديمة وفريد الصغير.
يقال: إن الغريزة أصدق من العقل، ولا ريب أنها تصح غالبا بين الآباء والبنين، لما شاهد عارف الولد الذي لم يره قط حياته ضمه إليه وسأله عن الماما، وكان الصغير يحدجه بنظرات من نظرات الأطفال المبهمة كأنه يستطلع حقيقة أمره، ثم قال وهو يقبل الغريب: أنت البابا؟ - نعم يا ابني، أنا البابا. - الماما لاهت تسم الهوا مع عمي القس جبلايل، وتفلت منه إذا شاهد أمه وركض يلاقيها ويبشرها بقدوم أبيه وهو يصفق بيديه طربا: يا ماما، يا ماما، زا البابا، زا البابا!
فوقفت مريم في الباب والدم واقف في عروقها تنظر إلى الشاب الذي لم تشاهده منذ خمس سنوات نظرة الغريب القريب، بل نظرة الهاجر المحب، فتقدم إليها يقول: أتسامحيني؟ أتغفرين لي؟
Bog aan la aqoon