ولكنها مع ذلك ظلت راقصة في اعتبار الناس، وكثيرا ما كانت تتألم حتى من الأقربين إذا تجاوزت حدها، ولا غرو، فالراقصة في الشرق مهما أتقنت فنها وأبدعت لا تستطيع أن تكتسب إكرام الناس الحقيقي المجرد من مشوهات الغرور والادعاء والتعطف، رقصت أمام الخديوي فانتقد بعض الصحافيين سموه وطعن بها طعنا ذميما، حضرت البالو فقيل به: هذه بدعة لا تغتفر! فتحت بيتا في شارع قصر النيل فصاح نساء الأعيان: وغدا تدعونا من أترابها، إلى متى هذا الغرور؟
حاولت غصن البان أن ترفع نفسها اجتماعيا إلى منزلة فنها فلم تفلح، فعادت إلى نفسها تعيش حرة مستقلة كما يطيب لها، وقنعت بشهرتها التي لا تلبث أن تزول، ونعيمها المادي الملازم مثل ذي الشهرات وبمن حام حولها من المتحذلقين والكيسين عشاق جمالها.
ولا يجوز أن نغفل حقيقة هامة في حياتها؛ وهي أنها لم تستسلم إلى الأقدار تمام الاستسلام، فكانت تسعى دائما لنيل ما تتوق إليه نفسها وما يتطلبه عقلها وقلبها، فثبتت في الجهاد حتى الفوز أو الفشل، وهي وإن عاشت لأميالها وأهوائها فلم تكن كسائر الراقصات والغواني، ولكنها فيما شاع عنها من أمر غرامها وحرية اختيارها أثارت عليها خواطر زميلاتها ومن حرم مجلسها وهبات قلبها من الطالبين، وقلما همها ذلك، قالت الراقصات: تعيش مثلنا وتترفع علينا، ما شاء الله! وقال بعض الشبان: إن هي إلا مومسة. وكان الحاج محيي الدين يسمع مثل هذه التهم والفريات فيغضي عليها ويستمر في إكرام غصن البان.
الفصل السابع عشر
جاء ذات ليلة خادم الكازينو يقدم إلى غصن البان بعد أن أتمت رقصها باقة من الورد، فلما وقع نظرها على البطاقة فيها اعتراها هزة مبهجة مزعجة معا، فارتدت ثيابها وهي تفكر بمن خدعها في باريس وجفاها وجاء اليوم يجدد عهد الحب، ولكنها مع ذلك لم تكره نجيب مراد وقد أعجبت الآن بجرأته وإقدامه، ولما قابلته مرحبة باسمة بادرها قائلا: «لا شك أنك ناقمة علي.» - لا لا، وحياتك. - وحياتك إن أمرا هاما استدعاني ذاك اليوم من باريس ولم أتمكن من ...
فقاطعته غصن البان قائلة: لا ذنب مع استغفار، فقد عذرت وصفحت، قل لي: كيف حالك؟ ومتى جئت القاهرة؟ وكيف علمت بوجودي هنا؟ - جئت القاهرة منذ أسبوع ولما قرأت في الجرائد عن الراقصة الشهيرة في الكازينو قلت: هي مريم لا شك. - اسمي الآن غصن البان. - نعم يا ست غصن البان، تفضلي. - إلى أين؟ - إلى نزل كنتيننتال نتناول شيئا من الطعام.
وبينا هما جالسان إلى المائدة عاد نجيب مراد إلى موضوع سفره من باريس، فقاطعته ثانية تقول: غير هذا الموضوع، لا حاجة يا صديقي لاعتذار، أما قصتي بعد أن سافرت فطويلة أقصها عليك في غير ذا الوقت والمكان.
ودخل إذ ذاك مصباح أفندي فأبصر غصن البان، فجاء توا يسلم عليها. - أهلا بشاعري العزيز، تفضل، سأدهشك بعلمي، البارح زارني أحد المشائخ فعلمني آية أتلوها الآن عليك، اجلس حيث يؤخذ بيدك وتبر، لا حيث يؤخذ برجلك وتجر. - ألحنت، واللحن جريمة، تبر وتجر لا تبر وتجر، اذكري ذلك، فلو سمعك الشيخ لنفض منك يديه. - النحو والمشائخ سيان عندي، بل النحو مثل المشائخ شعره أبيض، بارك الله لك فيه، أقدم إليك صديقي نجيب أفندي مراد من أعيان بيروت. - أنعم وأكرم! شرفت بلدنا. - وحضرته ...
فقاطعها نجيب قائلا: حضرته بغنى عن التعريف، مصباح أفندي شرفت فآنست. - جئتك يا غصن البان بخبر مدهش. - وما هو؟ - في القاهرة شخص واحد لا يعجبه رقصك. - من هو ؟ قل لي من هو؟ فقد سئمت من يعجبهم رقصي، فلا شك أن الرجل ممتاز بعقله. - هو واعظ شهير ندد بك على منبره. - أفسدت الطبخة، هو شيخ من مشائخ الأزهر، ولا عجب. - بل هو قسيس من قسس النصارى يعلم في إحدى مدارس الإفرنج هنا. - أنعم وأكرم بشيخك وبقسيسي، ليتك تركتني في وهمي، فقد مثلت لنفسي رجلا مثلك أو مثل نجيب أفندي ووددت التعرف به.
فقال نجيب: لو زرت سوريا ورقصت هناك لشاهدت من مثل هذا الرجل المئات والألوف، كلنا في سوريا هذا الرجل، لا نرى في مثل رقصك ما يراه إخواننا المصريون. - أي إنكم لا تخدعون مثلنا، لتهنأ سوريا بحصافة رجالها! - بل لا نتأثر مثلكم، أرجوك المؤاخذة، فقد أسأت فهمي، أردت والله ثناء. - وأنا كذلك.
Bog aan la aqoon