ووقف أمام سجف أحمر عند رأس الدرج وفتح بابا وهو الباب الوحيد هناك وأخذ مريم بيدها فأدخلها، فإذا هي في ردهة كبيرة كل جدرانها مبطنة بالمرايا من الأرض حتى السقف لها شباكان مقفولان عليهما ستارات من الخرج الثمين فوقها سجوف من المخمل الأزرق الفاتح، والفرش والسجاد من لون السجوف، والكراسي مذهبة الإطار محفورة عليها شارة أحد ملوك الفرنسيس، كأنها أثر من الآثار القديمة.
وقفت مريم في تلك الردهة المتلألأة تطوقها بنظرات مستغربة فتمثل لها من نفسها أشخاص لا تعد منعكسة في المرايا أمامها ووراءها ورأت من نجيب مئات حولها يضحكون، ثم أخذت تدور فيها فتجس الجدران كالعمياء فلم تهتد إلى باب واحد، حتى إن الباب الذي دخلت منه اختفى أثره تماما. - وسترين ما هو أعجب من هذا، فلا تجزعي، كوني ثابتة الجأش ليس في الأمر سحر، ولا في البيت جن، أترين هذه الطاولة؟ لا شيء عليها سوى هذه الأزاهر، عليك نور.
ثم تقدم نجيب إلى الحائط فكبس زرا في إطار من أطر المرايات يكاد لا يبدو للعيان، ثم نقل إلى الحائط المقابل له وكبس زرا آخر فانفتح إذ ذاك باب فأدخل مريم منه، يقول: أسرعي، أسرعي، ثم أغلق الباب وأقفله من جهته الخشبية لا من جهة المرآة، وأصبح ومريم في غرفة صغيرة اعتيادية مفروشة بديوان شرقي وثير حافل بمخدات الريش والوسائد السندسية، وعلى جدرانها صور من بعض إلاهات اليونان. - هذه غرفة الانتظار، وهذا باب الحمام. وفتحه نجيب وكبس زرا فنورت أنوار الكهرباء في حمام من الرخام الأبيض يبرق كالمرآة المصقولة. - وهذا باب آخر ظاهر، لا شيء سري في هذه الغرفة الصغيرة، تفضلي ادخلي إلى هذه الردهة، فدخلت مريم فإذا هي في ردهة أخرى كبيرة أبوابها سرية، ومخارجها خفية، وفرشها وسجادها وسجوفها والآنية فيها من اللون الأصفر الغامق أو الذهبي القديم، في وسطها ديوان شرقي قباله على الجدران الثلاثة مرايا طويلة بينها صور تمثل أطوارا من مشاهد الحب، وفي إحدى زواياها سرير أميري ذهبي العمد سندسي القبة. - مريم هذه جنة عدن، ولكن الجنة الخالية من العاشقين إنما هي كالقفر السبب أو كالطلل الدارس، اخلعي برنيطتك، اخلعيها.
فامتثلت مريم أمره، ثم وقف باسطا ذراعيه ينظر إليها مستعطفا فوقعت على صدره جائشة باكية. - أتبكين ونحن في الجنة؟ تعالي أريك الآن الأعجوبة.
فكبس في موضع تحت صورة من الصور فانفتح الباب فخرجا فإذا هما في غرفة الانتظار ثم فتح الباب الثاني فإذا هما في ردهة المرايا بل في ردهة المائدة، فوقفت مريم أمام الطاولة وهي حافلة بآنية الفضة والصحون والزجاجات. - قلت لي أن لا جن في هذا المنزل، فمن جاء بهذه الأشياء كلها؟ - إله الحب، رب العاشقين، اجلسي.
ورفع نجيب أغطية الفضة عن صحون يتصاعد منها البخار وتفوح بروائح اللحوم والبذورات الطيبة، وإذا هناك غذاء أو ما يدعوه الفرنسيس ترويقة مؤلفة من أربعة ألوان ومعها الحلوى والجبن والثمار وركوة من القهوة على سراج له صفيحة من الحديد أشعل نجيب النار تحته لتظل القهوة فيها حامية.
وإلى جنب المائدة عروسها، بل بيت شعرها، ذات الفم الذهبي غائصة في الثلج في دلو من الفضة، ولما فرغت زجاجة الشمبانيا سكب نجيب القهوة ونهض يعمد إلى زر في الحائط. - هذه الأزرار تخيفني، كأنها جراب الكردي أو خاتم سليمان. - بل هي جراب الكردي، تعالي انظري!
جاءت مريم واجفة فإذا هي أمام خزانة فيها أنواع اللحوم الباردة تحت أغطية من الزجاج، وزجاجات شتى من الخمر ومن المشروبات الروحية. - أمن هذه الزجاجة أسكب لك أم من هذه؟ أم من تلك؟
شرترز، بيندكتين، كريم دي منت، كنياك. - كريم دي منت. - والآن وقد وفينا الغذاء حقه نعود إلى غرفة الانتظار فأريك بعدئذ أعجوبة ثانية.
فدخلت مريم ودخل نجيب وراءها بعد أن كبس الزر في الحائط فانفتح الباب المقابل لتلك الغرفة ودخل خادمان لا صوت لوقع أقدامها ولا لحركاتهما ينقلان الصحون وأواني المائدة، ويعيدان إلى القاعة ترتيبها المألوف، وما هي إلا برهة حتى انتهيا من عملهما فغلق الخادم الباب إذ خرج فأقفل من الداخل؛ أي من قاعة المرايا. - استلقي على الديوان ترتاحي، وقد تريدين أن تنامي قليلا، ودخل نجيب إذ ذاك غرفة النوم فخلع ثيابه وكبس زرا في الحائط فانفتح باب فإذا بخزانة فيها بعض ثياب النوم، فارتدى نجيب قميصا واضطجع قليلا للراحة، ثم نهض بعد فترة وراح يستيقظ مريم فوجدها جالسة على الديوان تسند رأسها بيدها، فقال لها: تعالي أريك الآن الأعجوبة في غرفة المائدة.
Bog aan la aqoon