ولقد أعياه الجهاد في الناصرة وأسقمه ضجيج الناس، وقد أسكرتهم أحاديث الإفك والفسق والافتراء، ففر من المجتمع البشري هاربا يناجي الله في البرية ويستمد منه تعالى ما يعينه في بلاياه.
وها الأقدار ثانية تعيد الكرة عليه، فآثر معقوله هذه المرة على شعوره ولم يحرك في سبيل الطفل المفقود ساكنا، وقد يستغرب مثل ذا التصرف من القس جبرائيل، ولكنه لا يستطيع في ذا الوقت أن يثير في طبريا ما هرب منه في الناصرة، فإن له في مريم قصدا يستوجب الستر والتنكر وإذا لجأ إلى الحكومة ينفضح أمره ويخذل لا شك في مسعاه.
ولقد شاهد فوق ذلك من شقاء البنين والأمهات ما يعذر في نظره السكوت عن سرقة طفل ولد إثما وحراما، وعاد إلى البيت يسلي نفسه بمثل ذي التأملات ويبرئها بمثل ذا المنطق الفاسد، أعياه الجهاد فتعلل ببؤس العباد، وصرخ متأوها: تبارك عقم الرمال! تبارك عقم البحار.
وعول ألا يبحث عن ولد مريم وأن يكتم أمر سرقته عن الناس وكان ذلك مستحيلا، فالقابلة نشرت الخبر في البلد، وأم هيلانة لتصرف عنها عيون الشبهة وتضيف إثما إلى إثم؛ أشاعت أنها سمعت أحد النوتيين يقول: إنه شاهد تلك الليلة رجلا على الشاطئ قبالة مدرسة اليهود قرب الحمامات يرمي في البحيرة طفلا باكيا، فانتشرت الإشاعة وتجسمت حتى أصبحت عند الناس يقينا، وقالوا محققين ذلك: إن هذا الغريب لا يكتم مثل ذا الحادث الرهيب؛ حادث السرقة ولا يسكت عنه لو لم يكن هو الجاني على الطفل وأمه. بل قال أحمد يخاطب محمودا في القهوة: لهذا الرجل على الفتاة معه ثأر يا محمود، وقد قتل ابنها ورماه في البحيرة انتقاما منها وأشاع أنه سرق ليبرئ نفسه، وهذا معقول.
ومر أسبوعان والقس جبرائيل يعلل مريم بالولد، ولم يشأ أن يطلعها على الخبر قبل أن تشفى تماما، ولكن هيلانة بعد أن قابلت أمها جاءت يوما تخبر مريم أنها سمعت الناس يقولون: إن سيدها رمى الطفل في البحيرة ليلة ولد، فبهتت مريم بين تصديق وتكذيب، وسارعت إلى القس جبرائيل جائشة القلب تسأله أن يصدقها الخبر وتلح في طلب ولدها. - أصحيح الخبر، قل لي، قل لي. - ومن أخبرك؟ - هيلانة.
وكان قد نما إلى القس جبرائيل شيء من هذه الإشاعات. - أريد أن أرى ولدي الآن، هذه الساعة، قل لي: من هي المرضعة فأذهب بنفسي إليها، أو أبعث هيلانة الآن تجيئني به، هيلانة! يا بنت! - اسمعي، يا مريم! سأبعثها، سكني من روعك.
ودخل القس جبرائيل البيت فأعطى هيلانة أجرتها وهو يكظم اغتياظه منها، وقال: لم نعد في حاجة إلى خدمتك يا بنت، روحي في سبيلك الله يصلحك ويوفقك.
وراح يردد في نفسه: هذا جزاء الإحسان، هذا جزاء المعروف.
وولى النهار ولم تعد هيلانة فازدادت مريم قلقا واضطرابا، فنهضت باكرا وهي لم تنم تلك الليلة تطالب القس جبرائيل بولدها وتبكي. - ما بالك لا تتكلم؟ إذن أنا أبحث عنه، أنا أفتش عنه، وهمت مريم بالخروج من البيت. - إلى أين؟ إلى أين؟ تعالي أخبرك، اجلسي وسكني روعك. - ابني ولدي، أين هو؟ ولماذا لم ترجع هيلانة؟ - يا بنتي! سلمي إلى الرب أمرك، الرب أعطى والرب أخذ. - مات! مات ولدي! وجعلت تلطم خديها وتنتحب. - لتكمل مشيئة الرب، يا بنتي.
فصاحت مريم: كذاب، كذاب! أنت قتلته، أنت رميته في البحيرة، صدقت هيلانة، صدق الناس، أنت، أنت يا قس جبرائيل. وهجمت عليه هجوم اللبوة على صائد اصطاد شبلها، فصاح بها: مريم! - لا يخوفني صياحك، لا ترهبني نظراتك، ابني مات وأنت قتلته، أنت رميته في البحيرة، ويلك يا قس جبرائيل من ربك! ويلك مني! والله سأشكوك إلى الحكومة سأخبر الناس، سأرفع صوتي في كل مكان، إلى الله أشكوك، أهذا معروفك يا سيدي؟ أهذه طريق خلاصك؟ ليتني لم أعرفك، ليتني بقيت في الدير، أنت جررت علي البلاء، أنت سبب فضيحتي في بيت أخيك، وجئت الآن تقتل ابني وترميه في البحيرة، وما ذنب الطفل؟ ليتك قتلتني أنا، اقتلني، اقتلني وألحقني بولدي بفلذة كبدي، اسمعوا يا ناس! هذا الرجل قتل ولدي ورماه. - مريم مريم. - لا أسكت، لا أسكت، سأبكي وأنتحب وأشكو إلى أن ترد إلي ولدي، إلى أن يسمعني الناس فيجازونك، إلى أن يسمعني الله فيأخذ بثأري منك. - مريم، قفي! قفي أكلمك.
Bog aan la aqoon