Zakat al-Kharij min al-Ard
زكاة الخارج من الأرض
Daabacaha
مطبعة سفير
Goobta Daabacaadda
الرياض
Noocyada
٤٥
رسائل سعيد بن علي بن وهف القحطاني
زكاة الخارج من الأرض
الحبوب، والثمار، والمعدن، والركاز
في ضوء الكتاب والسنة
تأليف الفقير إلى الله تعالى
د. سعيد بن علي بن وهف القحطاني
Bog aan la aqoon
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
فهذه رسالة مختصرة في «زكاة الخارج من الأرض» من الحبوب، والثمار، والمعدن، والركاز، وهي من نعم الله على عباده: أنعم بها عليهم؛ ليعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، بيّنت فيها بإيجاز: وجوب زكاة الحبوب والثمار: بالكتاب، والسُّنَّة، والإجماع، وذكرت شروط وجوب الزكاة فيها بالأدلة، وأن الثمار يضم بعضها إلى الآخر في تكميل النصاب، وكذلك الحبوب، وأن الزكاة تجب إذا اشتد الحب وبدا صلاح الثمر، ولكن لا يستقر الوجوب حتى تصير الثمرة في الجرين، والحَبّ في البيدر، وبيّنت قدر الزكاة، وأحكام خرص الثمار، وغير ذلك من المسائل في هذا الموضوع، وقد استفدت كثيرًا من تقريرات وترجيحات شيخنا الإمام عبد العزيز ابن باز ﵀.
واللهَ أسألُ أن يجعل هذا العمل مباركًا، خالصًا لوجهه الكريم، وأن ينفعني به في حياتي، وبعد مماتي، وأن ينفع به كل من انتهى إليه؛ فإنه تعالى خير مسؤول، وأكرم مأمول، وهو حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا
1 / 3
قوة إلا بالله العلي العظيم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، وخيرته من خلقه، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
المؤلف أبو عبد الرحمن
حرر صباح الأربعاء ١٣/ ٢/١٤٢٦هـ
1 / 4
زكاة الحبوب، والثمار، والركاز، والمعدن
أولًا: زكاة الحبوب والثمار واجبة: بالكتاب، والسنة، والإجماع:
أما الكتاب؛ فلقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ﴾ (١)؛ ولقوله تعالى: ﴿وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾ (٢)، قال ابن عباس ﵄: «حقّه الزّكاة المفروضة»، وقال مرّة: «العشر، ونصف العشر» (٣).
وأمّا السُّنَّة؛ فلحديث عبد الله بن عمر ﵄ عن النبي ﷺ أنه قال: «فيما سقتِ السّماءُ والعيون، أو كان عَثَريًّا (٤): العشرُ، وما سُقيَ بالنضح (٥): نصف العشر» (٦)؛ ولحديث جابر بن عبد الله ﵄ أنه سمع النبي ﷺ قال: «فيما سقت الأنهارُ والغيمُ: العشورُ، وفيما سُقي بالسانية (٧): نصف العشر» (٨) ولفظ حديث ابن عمر ﵄ عند النسائي وأبي داود: «فيما سقت السماء والأنهار، والعيون، - أو كان
_________
(١) سورة البقرة، الآية: ٢٦٧.
(٢) سورة الأنعام، الآية: ١٤١.
(٣) ذكره ابن قدامة في المغني، ٤/ ١٥٤.
(٤) عثريًّا: العثريّ من الحبوب والثمار: هو الذي عثر على الماء بعروقه بلا عمل من صاحبه، النهاية في غريب الحديث لابن الأثير، ٣/ ١٨٢.
(٥) النضح: النواضح: هي الإبل يسقى بها لشرب الأرض.
(٦) البخاري، كتاب الزكاة، باب العشر فيما سُقي من ماء السماء والماء الجاري؛ برقم ١٤٨٣.
(٧) السانية: الناضح يسقى عليه: سواء كان من الإبل أو البقر. جامع الأصول لابن الأثير، ٤/ ٦١١.
(٨) مسلم، كتاب الزكاة، باب ما جاء في العشر أو نصف العشر، برقم ٩٨١.
1 / 5
بعلًا (١) -: العشر، وفيما سُقِيَ بالسواني أو النضح: نصف العشر» (٢)؛ ولحديث معاذ بن جبل ﵁ قال: «بعثني رسول الله ﷺ إلى اليمن فأمرني أن آخذ مما سقتِ السماء: العشر، وفيما سقي بالدوالي (٣): نصف العشر» (٤).
وأما الإجماع: فأجمع العلماء على أن الصدقة واجبة: في الحنطة، والشعير، والزبيب، والتمر، قاله ابن المنذر، وابن عبد البر (٥).
ثانيًا: شروط وجوب الزكاة في الحبوب والثمار
الشرط الأول: أن يكون حبًّا أو ثمرًا؛ لحديث أبي سعيد ﵁: أن النبي ﷺ قال: «ليس في حَبٍّ ولا تمرٍ صدقة حتى يبلغ خمسة أوسقٍ، ولا فيما دون خمس ذودٍ صدقة، ولا فيما دون خمس أواق صدقة» وفي رواية لمسلم: «... ليس في حبٍّ ولا ثمرٍ صدقة حتى يبلغ خمسة أوسق ...» (٦) وهذا يدل على وجوب الزكاة في الحب والثمر وانتفائها عن غيرها (٧).
_________
(١) البعل: ما شرب بعروقه من الأرض من غير سقي من السماء ولا غيرها، [جامع الأصول لابن الأثير، ٤/ ٦١٣] وجاء في سنن أبي داود برقم ١٥٩٨ عن وكيع: أن البعل الكبوس الذي ينبت من ماء السماء. وجاء عن النضر ابن شميل: البعل ماء المطر. وكذلك عن أبي إياس الأسدي: أن البعل: هو الذي يسقى بماء المطر. والله أعلم.
(٢) أصله في البخاري، برقم ١٤٨٣، وهذا لفظ أبي داود، برقم ١٥٩٦، والنسائي، برقم ٢٤٨٧.
(٣) جمع دالية: الدلو أو آلة لإخراج الماء.
(٤) النسائي، كتاب الزكاة، باب ما يوجب العشر، وما يوجب نصف العشر، برقم ٢٤٨٩، وابن ماجه، كتاب الزكاة، باب صدقة الزرع والثمار، برقم ١٤٨٤ - ١٨٤٥، وقال الألباني في صحيح النسائي، ٢/ ١٩٣: «حسن صحيح».
(٥) المغني لابن قدامة، ٤/ ١٥٤.
(٦) متفق عليه: البخاري بنحوه، كتاب الزكاة، باب ليس فيما دون خمسة أوسقٍ صدقة، برقم ١٤٨٤، ومسلم بلفظه، كتاب الزكاة، باب ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة، برقم ١ (٩٧٩.
(٧) الكافي، لابن قدامة، ٢/ ١٣١.
1 / 6
الشرط الثاني: أن يكون مكيلًا؛ لتقديره بالأوسق، وهي مكاييل، فيدل ذلك على اعتبارها (١).
الشرط الثالث: أن يكون مما يُدَّخر؛ لأن جميع ما اتفق على زكاته مدخر؛ ولأن غير المدخر لا تكمل ماليته؛ لعدم التمكن من الانتفاع به في المال، فتجب الزكاة في جميع الحبوب والثمار المكيلة التي تدخر: مثل: الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب، وغيرها من كل حبٍّ أو ثمرٍ يكال ويدخر (٢). (٣)
_________
(١) المرجع السابق، ٢/ ١٣١.
(٢) الكافي، لابن قدامة، ٢/ ١٣٢.
(٣) اختُلِفَ في الأنواع التي تجب فيها الزكاة: من الحبوب والثمار على النحو الآتي:
١ - أجمع أهل العلم على أن الزكاة تجب ... في ... البر، والشعير، والتمر، والزبيب إذا بلغ من كلّ صنفٍ منها ما تجب فيه الزكاة [الإجماع لابن المنذر، ص٥١] وقال ﵀ في موضع آخر: «وأجمعوا على أن الصدقة واجبة في: الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب» [الإجماع لابن المنذر، ص٥٢].
٢ - مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى: أن الزكاة تجب: في كل حبٍّ وثمرٍ يكال ويدخر مما ينبته الآدمي في أرضه إذا بلغ نصابًا قدره خمسة أوسق؛ لقوله ﷺ: «ليس في حب ولا ثمرٍ صدقة حتى يبلغ خمسة أوسق ...» [البخاري، ١٤٨٤، ومسلم، ٩٧٩] ويدخل في هذا عند الإمام أحمد: الحبوب كلها: كالحنطة - وهي تطلق على البر، والقمح، والسمراء – والشعير، والأرز، والدخن، والذرة، والباقلا – الفول – والعدس، والحمص، والحلبة، والسمسم، حتى ولو لم يكن قوتًا: كحب الرشاد، والفجل، والقرطم – وهو حب العصفر – والأبازير – جمع بذر وهو حب يبذر للنبات، والكمون، والحبة السوداء، وغيرها مما أشبهها، فهذه غير قوت؛ ولكنها حب يخرج من الزرع ... وفي كل ثمر يكال ويدخر: كالتمر، والزبيب، واللوز، والفستق، والبندق.
وفي رواية للإمام أحمد: أن الزكاة لا تجب إلا في أربعة أصناف فقط: البر، والشعير، والتمر، والزبيب؛ لحديث أبي موسى ومعاذ ﵄ حين بعثهما رسول الله ﷺ إلى اليمن يعلمان الناس أمر دينهم: «لا تأخذوا الصدقة إلا من هذه الأربعة: الشعير، والحنطة، والزبيب والتمر» [الدارقطني، ٢٠١، والحاكم، ١/ ٤٠١، والبيهقي، ٤/ ١٢٨، وابن أبي شيبة، ٤/ ١٩] وضُعِّف، ولكن قد صححه الألباني في الإرواء برقم ٨٠١، والأحاديث الصحيحة، برقم ٨٧٩، والله أعلم]. وانظر: المغني، لابن قدامة، ٤/ ١٥٤ - ١٥٦.
ولا زكاة في سائر الفواكه عند الإمام أحمد: كالخوخ، والكمثرى، والتفاح، والمشمش، والتين، والجوز، ولا في الخضراوات: كالقثاء، والخيار، والباذنجان، والجزر، وغيرها من الخضراوات ... [المغني، ٤/ ١٥٦]؛ لحديث معاذ ﵁ أنه كتب إلى النبي ﷺ يسأله عن الخضراوات؟ – وهي البقول - فقال: «ليس فيها شيء» [الترمذي، برقم ٦٣٨، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، ١/ ٣٥٠]، وفي إرواء الغليل، ٣/ ٢٧٩، قال الإمام الترمذي على هذا الحديث: «والعمل على هذا عند أهل العلم أن ليس في الخضراوات صدقة».
٣ - عند الإمام مالك والشافعي رحمهما الله تعالى: لا زكاة في ثمرٍ إلا التمر والزبيب، ولا في حب إلا ما كان قوتًا في حالة الاختيار لذلك، إلا في الزيتون على اختلاف. [المغني، ٤/ ١٥٦] فأخذ من هذا أن الزكاة تجب عند الإمام مالك والشافعي في كل ما كان مكيلًا مدخرًا قوتًا، ولا تجب في غير ذلك ولا في جميع الخضراوات.
٤ - عند أبي حنيفة ﵀: أن الزكاة تجب في كل ما يقصد بزراعته نماء الأرض إلا الحطب، والقصب، والحشيش؛ لعموم قوله ﷺ: «فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريًّا: العشر، وما سقي بالنضح: نصف العشر» [البخاري، برقم ١٤٨٣].
وأقرب الأقوال قول الحنابلة، والله تعالى أعلم. [المغني، ٤/ ١٥٦، والشرح الكبير مع المقنع والإنصاف ٦/ ٤٩٤، والشرح الممتع، ٤/ ٧٢].
وقد اختلف العلماء في زكاة الزيتون:
فعن الإمام أحمد ﵀ روايتان:
الرواية الأولى: أن فيه العشر إذا بلغ خمسة أوسق، وإن عصر قُوِّم ثمنه؛ لأن الزيت له بقاء، وهذا قول: الزهري، والأوزاعي، ومالك، والليث، والثوري، وأبي ثور، وأصحاب الرأي وأحد قولي الشافعي، وروي عن ابن عباس؛ لقول الله تعالى: ﴿وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾ [الأنعام: ١٤١] في سياق قوله: ﴿وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ﴾؛ ولأنه يمكن ادخار غلته أشبه التمر والزبيب.
والرواية الثانية: عن الإمام أحمد ﵀: «أن الزيتون لا زكاة فيه، وهو اختيار أبي بكر وظاهر كلام الخرقي، وهذا قول: ابن أبي ليلى، والحسن بن صالح، وأبي عبيد، وأحد قولي الشافعي؛ لأنه لا يدخر يابسًا فهو كالخضراوات، والآية لم يُرَد فيها الزكاة؛ لأنها مكية والزكاة إنما فرضت بالمدينة؟ ولهذا ذكر الرمان ولا عشر فيه ...» [المغني لابن قدامة ﵀، ٤/ ١٦٠ - ١٦١، والشرح الكبير مع المقنع والإنصاف، ٦/ ٥٠٣]. [وهذا القول الذي رجحه شيخنا ابن باز ﵀: وهو أن الزيتون لا زكاة فيه؛ لأنه من الخضراوات والفواكه] [فتاوى ابن باز، ٤/ ٧٠].
1 / 7
الشرط الرابع: أن ينبت بإنبات الآدمي في أرضه: فأما النابت بنفسه فلا زكاة فيه؛ لأنه إنما يملك بحيازته، والزكاة إنما تجب ببدو الصلاح، ولم
1 / 8
يكن ملكًا له حينئذٍ فلم تجب زكاته (١) وعبّر البعض عن هذا الشرط بقوله: «ويعتبر أن يكون النصاب مملوكًا له وقت وجوب الزكاة» (٢).
الشرط الخامس: أن يبلغ نصابًا قدره خمسة أوسق؛ لقول النبي ﷺ: «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ...» (٣).
والوسق ستون صاعًا (٤)، والصاع أربعة أمداد، والمد ملء كفي الرجل المعتدل، فيكون الصاع أربع حفنات بكفي الرجل المعتدل (٥). وتعتبر خمسة الأوسق بعد التصفية في الحبوب والجفاف في الثمر (٦).
وذكر الزركشي ﵀ شروطًا قريبًا من هذه الشروط، فقال: «يشترط في وجوب الزكاة في الخارج من الأرض شروط:
أحدها: أن يكون مما ييبس فلا تجب في الخضراوات
الشرط الثاني: أن يكون مما يبقى - أي يدخر عادة - فلا تجب في التين ونحوه (٧).
_________
(١) الكافي، ٢/ ١٣٤.
(٢) الروض المربع، انظر: الشرح الممتع، ٦/ ٧٨.
(٣) متفق عليه: البخاري، برقم ١٤٨٤، ومسلم، برقم ٩٧٩، وتقدم تخريجه.
(٤) الكافي، لابن قدامة، ٢/ ١٣٥.
(٥) حاشية ابن قاسم على الروض، ٤/ ٢٢٢.
(٦) المغني، ٤/ ١٦٢.
(٧) ونص شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀ على وجوب الزكاة في التين؛ لادخاره، وإنما اعتبر الكيل والوزن في الربويات، لأجل التماثل المعتبر فيها، وهو غير معتبر هاهنا ... ورجح أن المعتبر لوجود زكاة الخارج من الأرض: هو الادخار لا غير؛ لوجود المعنى المناسب لإيجاب الزكاة فيه بخلاف الكيل، فإنه تقدير محض فالوزن في معناه ... [الاختيارات الفقهية، ص١٤٩].
[ورجح الإمام ابن باز ﵀ أن: (التين والزيتون لا تجب فيهما الزكاة في أصح قولي العلماء؛ لأنهما من الخضراوات والفواكه]. [فتاوى ابن باز، ١٤/ ٧٠].
1 / 9
الشرط الثالث: أن يكون مما يكال، فلا تجب في الجزر ... والتين ... ونحوها.
الشرط الرابع: أن يبلغ خمسة أوسق» (١) والله تعالى أعلم (٢).
ثالثًا: تضم ثمرة العام الواحد لبعضها في تكميل النصاب:
فالتمر أنواع كثيرة يضم بعضها إلى بعض في تكميل النصاب، فمثلًا: السكري، والبرحي، والخلاص، وغير هذه الأنواع يضم بعضها إلى بعضٍ في تكميل النصاب.
وكذلك الزبيب أنواع يضم بعضها إلى بعض في تكميل النصاب. ولا يضم الجنس إلى جنس آخر: فلا يضم التمر إلى الزبيب ولا الزبيب إلى التمر في تكميل النصاب؛ لاختلاف الجنس؛ وإنما يضم أنواع الجنس الواحد إلى بعضه في تكميل النصاب.
_________
(١) شرح الزركشي على مختصر الخرقي، ٢/ ٢٦٧ - ٢٧٠.
(٢) اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في نصاب الحبوب والثمار على قولين:
القول الأول: أن الزكاة لا تجب في شيء من الحبوب والثمار حتى تبلغ خمسة أوسق، وهذا قول أكثر أهل العلم، منهم ابن عمر، وجابر، وأبو أمامة بن سهلٍ، وعمر بن عبد العزيز، وجابر بن زيد، والحسن، وعطاء، ومكحول، والحكم، والنخعي، ومالك، وأهل المدينة، والثوري، والأوزاعي، وابن أبي ليلى، والشافعي، وأبو يوسف، ومحمد وسائر أهل العلم، قال الإمام ابن قدامة ﵀: «ولا نعلم أحدًا خالفهم إلا مجاهدًا وأبا حنيفة ومن تابعه».
القول الثاني: مجاهد، وأبو حنيفة ومن تابعه، قالوا: تجب الزكاة في قليل ذلك وكثيره؛ لعموم قوله ﷺ: «فيما سقت السماء: العشر»؛ ولأنه لا يعتبر له حول، فلا يعتبر له نصاب، قال الإمام ابن قدامة: «ولنا قول النبي ﷺ: «ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة» متفق عليه: وهذا خاص يجب تقديمه وتخصيص عموم ما رووه به» [المغني، ٤/ ١٦١].
1 / 10
وكذلك ما يحمل في السنة الواحدة حملين يضم كل نوع إلى جنسه من الثمرة (١).
وتضم أنواع الحبوب إلى بعضها من كل جنس، فجنس الحنطة أنواع يضم بعضها إلى بعض، والشعير أنواع يضم بعضها إلى بعض، وهكذا لو جذّ الزرع ثم ظهر زرع آخر في نفس العام ضم بعضه إلى بعض في تكميل النصاب، ولا يضم الجنس إلى جنس آخر، فلا يضم البر إلى الشعير، ولا الذرة إلى الشعير؛ لاختلاف الأجناس: وكذلك إذا كان للرجل بساتين في أماكن مختلفة، فإنه يضم بعضها إلى بعض في تكميل النصاب (٢).
_________
(١) قال الإمام ابن قدامة ﵀: «ولا خلاف بين أهل العلم في غير الحبوب والأثمان أنه لا يضم جنس إلى جنس آخر في تكميل النصاب، فالماشية ثلاثة أجناس: الإبل، والبقر، والغنم، لا يضم جنس منها إلى آخر، والثمار لا يضم جنس إلى غيره: فلا يضم التمر إلى الزبيب، ولا إلى اللوز والفستق، ولا يضم شيء من هذه إلى غيره، ولا تضم الأثمان إلى شيء من السائمة، ولا من الحبوب والثمار، ولا خلاف بينهم في أن أنواع الأجناس يضم بعضها إلى بعض في إكمال النصاب، ولا نعلم بينهم أيضًا خلافًا في أن العروض تضم إلى الأثمان وتضم الأثمان إليها، إلا أن الشافعي لا يضمها إلا إلى جنس ما اشتريت به؛ لأن نصابها معتبر به» [المغني، ٤/ ٢٠٣ - ٢٠٤، والشرح الكبير مع المقنع والإنصاف، ٦/ ٥٢٠].
(٢) وذكر الإمام ابن قدامة ﵀: أن العلماء اختلفوا في ضم الحبوب بعضها إلى بعض في تكميل النصاب، وفي ضم النقدين إلى الآخر، فروي عن الإمام أحمد في الحبوب ثلاث روايات:
الرواية الأولى: لا يضم جنس منها إلى غيره، ويعتبر النصاب في كل جنس منها منفردًا، وهذا قول: عطاء ومكحول، وابن أبي ليلى، والأوزاعي، والثوري، والحسن بن صالح، وشريك والشافعي، وأبي عبيد، وأبي ثور، وأصحاب الرأي؛ لأنّها أجناس فاعتبر النصاب في كل جنس منها منفردًا: كالثمار والمواشي.
والرواية الثانية أن الحبوب كلها تضم بعضها إلى بعض في إكمال النصاب. وهذا قول عكرمة وحكاه ابن المنذر عن طاووس.
والرواية الثالثة: أن الحنطة تضم إلى الشعير، وتضم القطنيات بعضها إلى بعض – وهي صنوف الحبوب: من العدس، والحمص، والأرز، والسمسم، والدخن، والفول – وحكاه الخرقي عن أحمد، وهو مذهب الإمام مالك.
قال الإمام ابن قدامة ﵀: «والرواية الأولى أولى إن شاء الله تعالى؛ لأنها أجناس يجوز التفاضل فيها فلم يضم بعضها إلى بعض كالثمار» [المغني، ٤/ ٢٠٤ - ٢٠٥].
وانظر: الشرح الكبير مع المقنع والإنصاف، ٦/ ٥١٨ - ٥٢٢، والمغني، ٤/ ٢٠٧، والكافي، ٢/ ١٣٧، والشرح الممتع، ٦/ ٧٧.
1 / 11
رابعًا: تجب الزكاة في الحبوب والثمار:
إذا اشتد الحبُّ فصار قويًّا لا ينضغط إذا ضُغِطَ، وجبت الزكاة فيه. وإذا بدا صلاح الثمر: فاحمرَّ أو اصفرَّ في ثمر النخيل، وفي العنب: أن يموّه حلوًا: أي بدلًا من أن يكون قاسيًا يكون لينًا متموِّهًا وبدلًا من أن يكون حامضًا يكون حلوًا. فإذا اشتدَّ الحبّ وبدا صلاح الثمر وجبت الزكاة، وقد ثبت تفسير بدوِّ الصلاح عن النبي ﷺ من حديث أنس بن مالك ﵁ عن النبي ﷺ: أنه: نَهَى عن بيع الثمار حتى تُزهي. قيل: وما زَهْوَها؟ قال: «تَحْمَارُّ وتصفارُّ» (١) وعنه ﵁: أن النبي ﷺ «نَهى عن بيع العنب حتى يسودَّ، وعن بيع الحبِّ حتى يشتدَّ» (٢)، وعن ابن عمر ﵄ قال:
«نَهَى رسول الله ﷺ عن بيع الثمار حتى يبدُوَ صلاحها، نهى البائع والمبتاع». وفي لفظ للبخاري: كان إذا سُئل عن صلاحها قال:
«حتى تذهب عاهتها» (٣).
_________
(١) متفق عليه: البخاري، كتاب الزكاة، بابٌ: من باع ثماره أو نخله، أو أرضه، أو زرعه، وقد وجب فيه العشر أو الصدقة فأدى الزكاة من غيره أو باع ثماره ولم تجب فيه الصدقة، برقم ١٤٨٨، ورقم ٢١٩٧. ومسلم، كتاب المساقاة، باب وضع الجوائح، برقم ١٥٥٥.
(٢) رواه الخمسة إلا النسائي: أبو داود، كتاب البيوع، باب في بيع الثمار قبل بدوِّ صلاحها، رقم ٣٣٧١، والترمذي، كتاب البيوع، باب ما جاء في كراهية بيع الثمر حتى يبدو صلاحها، رقم ١٢٢٨، وابن ماجه، كتاب التجارات، باب النهي عن بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها، رقم ٢٢١٧، وأحمد، ٣/ ٢٢١، وصححه الألباني في صحيح أبي داود، ٢/ ٣٤٤.
(٣) متفق عليه: البخاري، كتاب البيوع، باب بيع الثمار قبل أن يبدوَ صلاحها، برقم ٢١٩٤، ورقم ١٤٨٦، ومسلم، كتاب البيوع، باب النهي عن بيع الثمار قبل بدوّ صلاحها بغير شرط القطع، برقم ١٥٣٤.
1 / 12
فإذا بدا صلاح الثمرة، واشتدّ الحبّ، وجبت الزّكاة في الحبوب والثمار (١) وفائدة ذلك: أن المالك لو تصرف في الثمرة أو الحب قبل الوجوب لا شيء عليه؛ لأنه تصرف قبل الوجوب، فأشبه ما لو أكل السائمة أو باعها قبل الحول، إلا أن يقصد الفرار من الزكاة فتجب عليه، وإن تصرف فيها بعد الوجوب لم تسقط الزكاة عنه، كما لو فعل ذلك في السائمة بعد اكتمال الحول، ولا يستقر الوجوب حتى تصير الثمرة في الجرين والزرع في البيدر، ولو تلف قبل ذلك بغير إتلافه أو تفريط منه فيه فلا زكاة عليه، سواء خرصت أو لم تخرص؛ لأنّها في حكم ما لم تثبت اليد عليه، وإن تلفت بعد جعلها في الجرين فحكمها حكم السائمة بعد الحول يضمنها؛ لأنه استقر الوجوب في ذمته فصارت دينًا عليه (٢).
وعلى هذا فيكون للثمر والزرع ثلاثة أحوال:
الحالة الأولى: أن يتلف قبل وجوب الزكاة: أي قبل اشتداد الحبِّ وقبل بدوِّ صلاح الثمر، فهذا لا شيء على المالك مطلقًا سواء تلف: بتعدٍّ أو تفريط أو بغير ذلك، إلا إذا قصد بذلك الفرار من الزكاة.
الحالة الثانية: أن يتلف بعد الوجوب: أي بعد اشتداد الحبِّ وبدوِّ
_________
(١) قال ابن قدامة ﵀: «وقال ابن أبي موسى: تجب زكاة الحب يوم حصاده؛ لقوله تعالى: ﴿وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾» [الأنعام: ١٤١]، [المغني، ٤/ ١٦٩] وقال بذلك: محمد بن مسلمة من المالكية، ولكن جمهور أهل العلم: أن وقت الوجوب في الحب إذا اشتد وفي الثمر إذا بدا صلاحه [حاشية الروض المربع المحقق، ٤/ ٨٩].
(٢) المغني لابن قدامة، ٤/ ١٦٩ - ١٧١، والكافي، ٢/ ١٣٨.
1 / 13
صلاح الثمر، لكن لم يجعله في البيدر أو الجرين ففي ذلك تفصيل: إن كان بِتَعَدٍّ من المالك أو تفريط؛ فإنه يضمن الزكاة، وإن كان بلا تعدٍّ ولا تفريط لم يضمن الزكاة.
الحالة الثالثة: أن يتلف بعد جعله في الجرين أو البيدر فتجب عليه الزكاة مطلقًا: سواء فرَّط أو تعدَّ أو لم يفرط ولم يتعدَّ؛ لأن الزكاة استقرت في ذمته فصارت دينًا عليه (١).
قال العلامة ابن عثيمين ﵀: «والصحيح في الحالة الثالثة أنّها لا تجب الزكاة عليه ما لم يتعدَّ أو يفرط؛ لأن المال عنده بعد وضعه في الجرين أمانة؛ فإن تعدّى أو فرط: بأن أَخَّر صرف الزكاة حتى سرق المال أو ما أشبه ذلك فهو ضامن، وإن لم يتعدَّ ولم يفرط وكان مجتهدًا في أن يبادر بتخليصه ولكنه تلف مع كمال التحفظ والحراسة فلا يضمن» (٢) والله تعالى أعلم.
خامسًا: قدر الزكاة في الحبوب والثمار على النحو الآتي:
١ - يجب العشر فيما سُقي بلا مؤنة: كالزرع الذي يشرب من الأمطار، والأنْهَار، والعيون التي تجري، وما يشرب بعروقه: وهو الذي يزرع ويغرس في أرضٍ ماؤها قريب من وجه الأرض فتصل إليه عروق الشجر فيستغني عن السقي، وكذلك ما كانت عروقه تصل إلى نهر أو ساقية، وكذلك ما يشرب من السيوح - وهي المياه الجارية على وجه
_________
(١) انظر: المغني، ٤/ ١٧٠ - ١٧١، والكافي، ٢/ ١٣٩، والشرح الممتع، ٦/ ٨٧.
(٢) الشرح الممتع، ٦/ ٨٧ - ٨٨.
1 / 14
الأرض: من الأنهار، والسواقي وغيرها -.
٢ – يجب نصف العشر فيما سُقِيَ بمؤنة: كالدّوالي – وهي الدولاب وهي الدلاء – والنّواضح – وهي الإبل، والبقر، وسائر الحيوانات -، وما يُسقى بالغروب والسواني، والمكائن، والآلات: كالرشاشات التي ترش الماء وتوزعه على الزرع (١). والأصل في هذا كله حديث عبد الله بن عمر ﵄ عن النبي ﷺ أنه قال: «فيما سقت السماء، والعيون، أو كان عثريًّا: العشر، وما سُقي بالنضح: نصف العشر» (٢)؛ ولحديث جابر بن عبد الله ﵄ أنه سمع النبي ﷺ يقول: «فيما سقت الأنهارُ والغيمُ: العشورُ، وفيما سقي بالسانية نصف العشر» (٣)؛ ولحديث معاذ ﵁ قال: بعثني رسول الله ﷺ إلى اليمن فأمرني: «أن آخذ مما سقتِ السماء العشر، وفيما سقي بالدوالي نصف العشر» (٤).
٣ – ويجب ثلاثة أرباع العشر فيما يشرب بمؤنة نصف، ويشرب بغير مؤنة نصف، ومثاله: نخل يُسقى نصف العام بمؤنة، ويُسقى النصف الثاني من العام بغير مؤنة: أي الصيف يُسقى بمؤنة، والشتاء يُسقى من الأمطار، فهذا فيه ثلاثة أرباع العشر؛ لأن كل واحد منهما لو وجد في جميع السنة لأوجب مقتضاه، فإذا وجد نصفه أوجب نصفه، وحكى الإجماع على ذلك غير واحد من أهل العلم (٥).
_________
(١) قال ابن قدامة ﵀: «لا نعلم في هذا خلافًا، وهو قول مالك والشافعي، والثوري، وأصحاب الرأي» [المغني، ٤/ ١٦٤].
(٢) البخاري، برقم ١٤٨٣، وتقدم تخريجه في أول الباب.
(٣) مسلم، برقم ٩٨١، وتقدم تخريجه.
(٤) النسائي، برقم ٢٤٨٩، وابن ماجه، برقم ١٤٨٤ - ١٨٤٥، وتقدم تخريجه.
(٥) المغني، ٤/ ١٦٥، والشرح الكبير، ٦/ ٥٣٠، والروض المربع مع حاشية ابن قاسم، ٢/ ٢٧٧.
1 / 15
٤ - ما يُسقى بمؤنة وبغير مؤنة مع الاختلاف: أي يُسقى أحدهما أكثر من الآخر: فالذي يكثر انتفاع النخل بسقيه، أو الشجر، أو الزرع فهو المعتبر، فإذا كان نموّه بمؤنة أكثر منه فيما إذا شرب بلا مؤنة فالمعتبر نصف العشر؛ لأن سقيه بالمؤنة أكثر نفعًا فاعتبر به، وإذا كان نموّه بغير مؤنة أكثر نفعًا فالمعتبر العشر، فاعتبر بالأكثر كالسوم (١).
٥ - وإن جُهِلَ المقدار غلَّبنا إيجاب العشر؛ لأنه الأصل، فالأصل وجوب الزكاة: العشر حتى نعلم أنه سُقِيَ بمؤنة (٢).
سادسًا: خرص النخيل والأعناب إذا بدا صلاح الثمر:
يسن للإمام أن يرسل ساعيًا إلى أهل النخيل والأعناب إذا بدا صلاح الثمر فيخرصه (٣) عليهم؛ ليتصرَّفوا في ثمارهم، ويعرِّف الساعي المالك قدر الزكاة كيلًا، ثم يخلي بينهم وبين ثمرهم؛ ليأكلوا أو يتصرَّفوا فيه، ثم يُؤدُّون الزكاة عند الجذاذ على قدر ما خُرِص، وهذا فيه توسعة على أهل الثمار؛ ليأكلوا، أو يبيعوا، أو يتصرَّفوا (٤) والخرص لثمر النخيل والأعناب فيه مسائل
_________
(١) قال الإمام ابن قدامة ﵀: «نص عليه أحمد وهو قول: عطاء، والثوري، وأبي حنيفة، وأحد قولي الشافعي، وقال ابن حامد: يؤخذ بالقسط وهو القول الثاني للشافعي؛ لأنهما لو كانا نصفين أخذ بالحصة فكذلك إذا كان أحدهما أكثر ...» [المغني، ٤/ ١٦٦].
(٢) المغني لابن قدامة، ٤/ ١٦٦.
(٣) الخرص: حزر مقدار الثمرة في رؤوس النخل وشجر العنب وزنًا بعد أن يطوف به الساعي ثم يقدره تمرًا، وزبيبًا، ثم يعرِّف المالك قدر الزكاة. [الإقناع لطالب الانتفاع، ١/ ٤٢٢].
(٤) اختلف العلماء في الخرص: فقال الإمام أحمد ﵀ بالخرص في النخيل والأعناب فقط، وبه قال عطاء، والزهري، ومالك، والشافعي، وأكثر أهل العلم [الشرح الكبير، ٦/ ٥٤٦، والمغني، ٤/ ١٧٨] قال الخطابي ﵀: «... والخرص عُمِلَ به في حياة النبي ﷺ، حتى مات، ثم أبو بكر وعمر فمن بعدهم، ولم ينقل عن أحد منهم ولا من التابعين تركه إلا عن الشعبي» [انظر: فتح الباري لابن حجر، ٣/ ٣٤٤].
فَحُكِيَ عن الشعبي، أن الخرص بدعة، وقال أهل الرأي: الخرص ظن وتخمين لا يلزم به حكم، وإنما كان تخويفًا للأكرة: أي الحراث من الخيانة.
والصواب القول الأول وهو قول الجماهير من أهل العلم [الشرح الكبير، ٦/ ٥٤٦].
1 / 16
على النحو الآتي:
١ – ثبتت مشروعية الخرص في السنة عن النبي ﷺ -؛ لحديث أبي حميد الساعدي ﵁ قال: غزونا مع النبي ﷺ غزوة تبوك فلما جاء وادي القرى إذا امرأةٌ في حديقةٍ لها فقال النبي ﷺ لأصحابه: «اخرصوا» وخرص رسول الله ﷺ عشرة أوسق، فقال لها: «أحصي ما يخرج منها» ... فلما أتى وادي القرى قال للمرأة: «كم جاء حديقتك»؟ قالت: «عشرة أوسقٍ خَرْصَ رسولِ الله ﷺ ...» (١).
وسمعت شيخنا الإمام ابن باز ﵀ يقول: «فيه جواز الخرص حتى يتصرف أهل النخيل في نخيلهم، والخرص يخرص بما يؤول إليه تمرًا» (٢).
٢ – يستحب أن يبعث الإمام من يخرص الثمار عند بدوِّ الصلاح؛ لحديث ابن عباس ﵄؛ أن النبي ﷺ حين افتتح خيبر، اشترط عليهم أنَّ له الأرض، وكُلَّ صفراءَ وبيضاء – يعني الذهب والفضة – وقال له أهل خيبر: نحن أعلم بالأرض فأعطناها على أن نعملها ويكون لنا نصف الثمرة ولكم نصفُها، فزعم أنه أعطاهم على ذلك، فلما كان حين تصرم النخل بعث إليهم ابن رواحة فحزر (٣) النخل، وهو الذي يدعونه أهل المدينة: الخرص، فقال: في ذا كذا وكذا، فقالوا:
_________
(١) متفق عليه: البخاري بلفظه، كتاب الزكاة، باب خرص التمر، برقم ١٤٨١، ومسلم، كتاب الفضائل، باب في معجزات النبي ﷺ، برقم ١٣٩٢.
(٢) سمعته أثناء تقريره على صحيح البخاري، الحديث رقم ١٤٨١.
(٣) حزر: قدَّر. [فتح الباري، لابن حجر، المقدمة، ص١٠٤].
1 / 17
أكثرت علينا يا ابن رواحة، فقال: فأنا أحزر النخل وأعطيكم نصف الذي قلتُ: قال: فقالوا: هذا الحقُّ وبه تقوم السماءُ والأرضُ. فقالوا: قد رضينا أن نأخذ بالذي قلتَ (١).
٣ - يجزئ أن يرسل الإمام خارصًا واحدًا؛ للحديث السابق؛ ولأنه يفعل ما يؤديه إليه اجتهاده فجاز أن يكون واحدًا، كالحاكم، ويعتبر أن يكون مسلمًا، أمينًا، غير متهم، ذا خبرة.
٤ - يخرص الرطب والعنب؛ لحديث عتابِ بنِ أُسيدٍ ﵁ قال: أمر رسول الله ﷺ: «أن يُخرصَ العنبُ كما يخرصُ النخلُ، وتؤخَذَ زكاتُهُ زبيبًا كما تؤخَذُ صدقةُ النخلِ تمرًا» (٢).
٥ - يترك الخارص لصاحب الثمار الثلث أو الربع، توسعة على رب المال؛ لأنه يحتاج إلى الأكل هو وأضيافه، ويطعم جيرانه وأهله،
_________
(١) أخرجه ابن ماجه، كتاب الزكاة، باب خرص النخل والعنب، برقم ١٤٨٥ - ١٨٤٧، وحسنه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه، ٢/ ١٠٨.
(٢) أبو داود، كتاب الزكاة، باب في خرص العنب، برقم ١٦٠٣، والترمذي، كتاب الزكاة، باب ما جاء في الخرص، برقم ٦٤٤، وابن ماجه، كتاب الزكاة، باب خرص النخل والعنب، برقم ١٨١٩، والنسائي، كتاب الزكاة، باب شراء الصدقة، برقم ٢٦١٨. والحديث قال عنه أبو داود: «وسعيد - يعني ابن المسيب - لم يسمع من عتابٍ شيئًا» وقال الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام: «وفيه انقطاع» قال الإمام ابن باز ﵀: «لأنه من رواية سعيد بن المسيب عن عتاب وسعيد لم يدرك عتابًا، لكن مراسيل سعيد جيدة، والحديث له شواهد كحديث سهل بن أبي حثمة ﵁» [حاشية ابن باز على بلوغ المرام، الحديث رقم ٥٩٠].
وسمعته أيضًا ﵀ يقول أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم ٦٣٩: «هذا إما مرسل جيد من مراسيل سعيد بن المسيب، وإما متصل إذا سمع سعيد من عتاب؛ ولهذا عمل به الأئمة ويشهد له حديث سهل في شرعية الخرص» [والحديث ضعفه الألباني؛ لانقطاعه كما تقدم].
1 / 18
ويأكل منها المارَّةُ، ويكون في الثمرة الساقطة، وينتابها الطير، فلو استوفى الكلّ أضرّ بِهم، والمرجع في تقدير المتروك إلى اجتهاد الساعي الخارص، فإن رأى الأكلة كثيرًا ترك الثلث، وإلا ترك الربع؛ لحديث سهل بن أبي حثمة ﵁ قال: أمرنا رسول الله ﷺ: «إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث، فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع» (١) وسمعت شيخنا الإمام ابن باز ﵀ يقول: «هذا يدل على الخرص، وأنه مستحب، فإن تُرِكوا وصُدِّقوا فلا بأس، والخرص عليهم هو السنة؛ لأن فيه مصالح منها:
١ - معرفة مبلغ هذا التمر، والعنب
٢ - التوسعة على أهله: يتصرَّفون، ويبيعون، وقد عرفوا ما لديهم من الزكاة، والسنة أن يترك لهم الربع أو الثلث، يتحرّى الخارص على حسب ضيوفهم وكثرتهم فيدع ما هو الأنسب" (٢).
سابعًا: زكاة الحبوب والثمار على مستأجر الأرض:
قال الإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى: «ومن استأجر أرضًا فزرعها
_________
(١) أحمد، ٣/ ٤٤٨، ٤/ ٢، ٣، وأبو داود، كتاب الزكاة، باب في الخرص، برقم ١٦٠٥، والترمذي، كتاب الزكاة، باب ما جاء في الخرص، برقم ٦٤٣، والنسائي، كتاب الزكاة، باب كم يترك الخارص؟ برقم ٢٤٩١، وصححه ابن حبان، برقم ٣٢٨٠، والحاكم، ١/ ٤٠٢، قال الإمام ابن باز رحمه الله تعالى في حاشيته على بلوغ المرام الحديث، رقم ٥٨٩: «كلهم من رواية عبدالرحمن بن مسعود بن نيار عن سهل المذكور، ورجاله ثقات ما عدا عبدالرحمن المذكور، قال الحافظ في التقريب: مقبول، وقال في تهذيب التهذيب: وثقه ابن حبان، وقال البزار: معروف، وبذلك يعتبر إسناده حسنًا؛ لِمَا ذُكِرَ؛ ولِمَا له من الشواهد منها حديث عتاب المذكور بعده، والله ولي التوفيق. حرر في ٨/ ٥/١٤١٦هـ".
(٢) سمعته أثناء تقريره على بلوغ المرام، الحديث رقم ٦٣٨.
1 / 19
فالعشر عليه دون مالك الأرض» (١) وقال ﵀: «ولو استعار أرضًا فزرعها فالزكاة على صاحب الزرع؛ لأنه مالكه، وإن غصبها فزرعها وأخذ الزرع فالعشر عليه أيضًا؛ لأنه ثبت على ملكه، وإن أخذه مالكها قبل اشتداد حبه فالعشر عليه، وإن أخذه بعد ذلك احتمل أن يجب عليه أيضًا؛ لأن أخذه إياه استند إلى أول زرعه، فكأنه أخذه من تلك الحال، ويحتمل أن تكون زكاته على الغاصب؛ لأنه كان مالكًا له حين وجوب عشره، وهو حين اشتداد حبه» (٢).
ثامنًا: زكاة الحبوب والثمار: المزارعة، والمساقاة
قال الإمام ابن قدامة ﵀: «وإن زارع رجلًا مزارعة فاسدة فالعشر على من يجب الزرع له، وإن كانت صحيحة فعلى كل واحد منهما عشر حصته إن بلغت خمسة أوسق أو كان له من الزرع ما يبلغ بضمه إليها خمسة أوسق، وإلا فلا عشر عليه» (٣) أي لا زكاة على من لم يبلغ عنده النصاب.
تاسعًا: يجتمع العشر والخراج في الأرض الخراجية:
الأرض قسمان: أرض صلح، وأرض عنوة:
فأما أرض الصلح: فهي كل أرض صُولِحَ أهلها عليها؛ لتكون لهم ويؤدون عنها خراجًا معلومًا، فهذه الأرض مِلك لأهلها، وهذا الخراج
_________
(١) فالجمهور على أن زكاة الحبوب والثمار على مستأجر الأرض: أحمد، ومالك، والشافعي، وابن المنذر. وقال أبو حنيفة: هي على مالك الأرض، ويرد عليه: أن الزكاة واجبة في الزرع فكانت على مالكه، وهو المستأجر. [المغني لابن قدامة، ٤/ ٢٠١].
(٢) المغني لابن قدامة، ٤/ ٢٠٢.
(٣) المرجع السابق، ٤/ ٢٠٢.
1 / 20
في حكم الجزية متى أسلموا سقط عنهم، وإن انتقلت إلى مسلم لم يكن عليهم خراج. وهذه الأرض تجب الزكاة في حبوبها وثمارها إذا لم يكن عليها خراج؛ لأن الخراج في أرض الصلح لا يؤخذ إلا من الكفار ولا زكاة فيها في هذه الحالة. أي مادامت في أيدي أهلها الكفار، فإذا أسلموا أو انتقلت إلى مسلم سقط الخراج ووجبت الزكاة في ثمارها وحبوبها إذا اكتملت شروط وجوب الزكاة.
وأما أرض العنوة فهي ما أُجلِيَ عنها أهلها بالسيف؛ لامتناعهم عن الدخول في الإسلام أو عن دفع الجزية، فإذا لم تقسم بين الغانمين فهذه تصير وقفًا للمسلمين يضرب عليها خراجٌ معلومٌ يؤخذ منها في كل عامٍ يكون أجرةً لها، ثم ينظر في باقي ثمرتها وحبوبها فإن كان الباقي نصابًا ففيه الزكاة إن كانت بيد مسلم، وإن لم يبلغ الباقي نصابًا أو بلغ نصابًا ولم يكن لمسلم فلا زكاة فيه.
فعلى هذا يجتمع العشر والخراج في أرض فتحت عنوة: الخراج في رقبتها، والعشر زكاة في غلتها؛ لأن الخراج كالأجرة (١). والله تعالى أعلم (٢).
_________
(١) انظر: المغني لابن قدامة، ٤/ ١٨٦ - ٢٠٠، والشرح الكبير مع المقنع والإنصاف، ٦/ ٥٥٨، ومنتهى الإرادات، ١/ ٤٧٧، وشرح الزركشي، ٢/ ٤٨٠، والكافي، ٢/ ١٤٤.
(٢) وهذا قول جمهور أهل العلم رحمهم الله تعالى ومنهم الإمام أحمد، وهو قول عمر ابن عبد العزيز، والزهري، ويحيى الأنصاري، وربيعة، والأوزاعي، والإمام مالك، والثوري، ومغيرة، والليث، والحسن بن صالح، وابن أبي ليلى، وابن المبارك، والإمام الشافعي، وإسحاق، وأبي عبيد. قالوا: ما فتح من الأرض عنوة ووُقف على المسلمين، وضرب عليه خراجٌ معلومٌ فإنه يؤدى الخراج عن غلته وينظر في باقيه فإن كان نصابًا ففيه الزكاة إذا كان لمسلم، وإن لم يبلغ نصابًا أو بلغ نصابًا ولم يكن لمسلم فلا زكاة فيه؛ فإن الزكاة لا تجب على غير المسلمين، وكذلك الحكم في كل أرض خراجية.
وأما أبو حنيفة ﵀ ومن معه من أصحاب الرأي فقالوا: لا عشر في الأرض الخراجية واستدلوا بحديث ضعيف «لا يجتمع العشر والخراج في أرض مسلم» والصواب: اجتماع العشر والخراج بالضوابط المتقدمة. [انظر: المغني لابن قدامة، ٤/ ١٩٩].
1 / 21