الباب الأول
من كثُرت لحظاته دامت حسراته
قال بعض الحكماء ربَّ حربٍ جُنيت من لفظة وربَّ عشق غُرس من لحظة وقال العتبي أبو الغصن الأعرابي قال: خرجت حاجًّا فلما مررت بقباء تداعى النَّاس ألمًا وقالوا قد أقبلت الصقيل فنظرت وإذا جارية كأن وجهها سيف صقيل فلما رميناها بالحدق ألقت البرقع على وجهها فقلت يرحمكِ الله إنا سفرٌ وفينا أجرٌ فأمتعينا بوجهكِ فانصاعت وأنا أرى الضحك في عينيها وهي تقول:
وكنتَ متى أرسلتَ طرفكَ رائدًا ... لقلبكَ يومًا أتبعتكَ المناظرُ
رأيتَ الذي لا تأكلهُ أنتَ قادرٌ ... عليه ولا عنْ بعضهِ أنتَ صابرُ
وأنشدني أبو العباس أحمد بن يحيى النحوي لامرأةٍ من الأعراب:
أرَى الحرَّ لا يفنَى ولمْ يفنهِ الأُلى ... أُحينوا وقدْ كانوا علَى سالفِ الدَّهرِ
وكلهمُ قدْ خالهُ في فؤادهِ ... بأجمعهِ يحكونَ ذلكَ في الشِّعرِ
وما الحبُّ إلاَّ سمعُ أُذنٍ ونظرةٌ ... ووجبةُ قلبٍ عن حديثٍ وعنْ ذكرِ
ولوْ كانَ شيءٌ غيرهُ فنيَ الهوَى ... وأبلاهُ مَن يهوى ولوْ كانَ مِن صخرِ
وقال آخر:
تعرَّضنَ مرمى الصَّيدِ ثمَّ رَمينا ... منَ النَّبلِ لا بالطَّائشاتِ الخواطفِ
ضعائفٌ يقتلنَ الرِّجالَ بلا دمٍ ... فيا عجبًا للقاتلاتِ الضَّعائفِ
وللعينِ ملهًى في التلادِ ولمْ يقدْ ... هوَى النَّفس شيئًا كاقتيادِ الطَّرائفِ
وقال آخر:
وكمْ منْ فتًى جَلدٍ يقادُ لحينهِ ... بطرفٍ مريضِ النَّاظرَينِ كحيلِ
إذا ما الهوى منهُ تعزَّزَ جانبٌ ... فما شئتَ مِن مقتولةٍ وقتيلِ
وقال جرير بن عطية:
إنَّ العيونَ التي في طرفِها مرضٌ ... قتلننا ثمَّ لمْ يحيينَ قتلانا
يصرعنَ ذا اللُّبِّ حتَّى لا حراكَ بهِ ... وهنَّ أضعفُ خلقِ اللهِ أركانا
وقال جميل بن معمر العذري:
رمى اللهُ في عينيْ بثينةَ بالقذَى ... وفي الغرّ مِن أنيابِها بالقوادحِ
رمتْني بسهمٍ ريشهُ الكحلُ لمْ يضرْ ... ظواهرَ جلدي فهوَ في القلبِ جارِحي
أما معنى البيت الأول فقبيح أن يجعل في الغزل إن كان قصد في باطنه ما يتبين في ظاهره وقد زعم بعض أهل الأدب أن قوله رمى الله في عيني بثينة بالقذى إنَّما عنى به الرَّفيبَ وقوله. وفي الغرّ من أنيابها إنَّما عنى به سروات قومها والقوادح الحجارة وقد عرضتُ هذا القول على أبي العباس أحمد بن يحيى فأنكره وقال لم يعن ولم يرَ به بأسًا العرب تقول قاتله الله فما أشجعه ولا تريد بذلك سوءًا.
وقال العديل بن الفرج العجلي:
يأخذنَ زينتهنَّ أحسنَ ما ترَى ... فإذا عطِلنَ فهنَّ غيرُ عواطلِ
وإذا جلينَ خدودهنَّ أرَيْننا ... حدقَ المها وأخذنَ نبلَ القاتلِ
فرَمَيْنا لا يستترنَ بجُنَّةٍ ... إلاَّ الصِّبى وعلمنَ أينَ مَقاتلي
يلبسنَ أرديةَ الوقارِ لأهلِها ... ويجرُّ باطلهنَّ حبلَ الباطلِ
وقال عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي:
سَمْعي وطرفي حليفَا أعلَى جسدي ... فكيفَ أصبرُ عنْ سمعي وعنْ بصري
لوْ طاوَعاني علَى أنْ لا أُطاوعَها ... إذًا لقضَّيتُ مِن أوطارِها وطَري
وقال يزيد بن سويد الضبعي:
بيضٌ أوانسُ يلتاطُ العبيرُ بها ... كفَّ الفواحشَ عنها الأُنسُ والخفرُ
ميلُ السَّوالفِ غيدٌ لا يزالُ لها ... منَ القلوبِ إذا لاقينَها جزرُ
وأنشدني بعض الكلابيين:
يا مَن بدائعُ حسنِ صورتهِ ... تَثني إليهِ أعنَّةَ الحدقِ
لي منكَ ما للنَّاسِ كلّهمِ ... نظرٌ وتسليمٌ علَى الطُّرقِ
لكنَّهمْ سعدُوا بأمنهمِ ... وشقيتُ حينَ أراكَ بالفرقِ
وقال آخر:
دعا قلبهُ يومًا هوًى فأجابهُ ... فؤادٌ إذا يلقَى المِراضَ مريضُ
بمُستأنِساتٍ بالحديثِ كأنَّها ... تهلُّلُ مزنٍ برقهنَّ وميضُ
وأنشدني أحمد بن أبي طاهر:
طربتُ إلى حوراءَ آلفةِ الخِدرِ ... هيَ البدرُ أوْ إنْ قلتَ أكملُ مِنْ بدرِ
تُراسلُني باللَّحظِ عندَ لقائها ... فتخلسُ قلبي عندَ ذلكَ مِنْ صدري
وقال عمرو بن الأيهم:
1 / 1
ويومَ ارتحالِ الحيِّ راعتكَ روعةً ... فلمْ تنسَها مِنْ ذاكَ إلاَّ علَى ذكرِ
رمتكَ بعينيْ فرقدٍ ظلَّ يتَّقي ... شآبيبَ قطرٍ بينَ غُصنينِ مِنْ سدرِ
وقال آخر:
قلبي إلى ما ضرَّني داعِي ... يُكثرُ أسقامي وأوْجاعي
لقلَّ ما أبقَى علَى ما أَرى ... أُشكُ أنْ ينعانِيَ النَّاعِي
كيفَ احْتراسِي من عدوِّي إذا ... كانَ عدوِّي بينَ أضلاعِي
ما أقتلَ اليأْسَ لأهلِ الهوَى ... لا سيَّما مِنْ بعدِ إطماعِ
وقال الطرماح:
فلمَّا ادَّركناهنَّ أبدينَ للهوَى ... محاسنَ واسْتولينَ دونَ محاسنِ
ظعائنُ يستحدثنَ في كلِّ بلدةٍ ... رَهينًا ولا يُحسنَّ فكَّ الرَّهائنِ
وقال العجيف العقيلي:
خليليَّ ما صبرِي علَى الزَّفراتِ ... وما طاقَتي بالشَّوقِ والعبراتِ
تقطَّعُ نفسِي كلَّ يومٍ وليلةٍ ... علَى إثرِ مَنْ قدْ فاتَها حسراتِ
سقَى ورعَى اللهُ الأوانسَ كالدُّمى ... إذا قمنَ جنحَ اللَّيلِ مُنبهراتِ
دعونَ بحبَّاتِ القلوبِ فأقبلتْ ... إليهنَّ بالأهواءِ مُبتدراتِ
وأنشدني أحمد بن يحيى الشيباني أبو العباس النحوي:
إذا هنَّ ساقطنَ الأحاديثَ للفتَى ... سقوطَ حصَى المرجانِ مِنْ سلكِ ناظمِ
رمينَ فأنفذنَ القلوبَ ولا ترَى ... دمًا مائرًا إلاَّ جوًى في الحيازمِ
وخبَّركِ الواشونَ ألاّ أُحبّكمْ ... بلَى وستورِ البيتِ ذاتِ المحارمِ
أصدُّ وما الصَّدُّ الذي تعلمينهُ ... بنا وبكمْ إلاَّ جزع العلاقمِ
حياءً وبُقيا أنْ تشيعَ نميمةٌ ... بنا وبكمْ أُفٍّ لأهلِ النَّمائمِ
أمَا إنَّه لوْ كانَ غيركِ أرقلتْ ... صعادُ القنا بالرَّاعفاتِ اللَّهاذمِ
ولكنْ وبيتِ اللهِ ما طلَّ مسلمًا ... كغرِّ الثَّنايا واضحاتِ الملاغمِ
وإنَّ دمًا لوْ تعلمينَ جنيتهِ ... علَى الحيِّ جانِي مثلهِ غيرُ نائمِ
وقال عمر بن أبي ربيعة:
فلمَّا تواقَفْنا وسلَّمتُ أقبلتْ ... وجوهٌ زهاها الحسنُ أنْ تتقنَّعا
تبالَهْنَ بالعرفانِ لمَّا عرفنني ... وقلنَ امرؤٌ باغٍ أضلَّ وأوضعا
وقرَّبنَ أسبابَ الهوَى لمتيَّمٍ ... يقيسُ ذراعًا كلَّما قسنَ إصبعا
فقلتُ لمُطريهنَّ بالحسنِ إنَّما ... ضررتَ فهلْ تسطيعُ نفعًا فتنفعَا
وقال أيضًا:
وكمْ مِنْ قتيلٍ ما يُباءُ بهِ دمٌ ... ومِنْ غلقٍ رهنًا إذا لفَّهُ مِنَى
ومن مالئٍ عينيهِ مِنْ شيءِ غيرهِ ... إذا راحَ نحوَ الجمرةِ البيضُ كالدُّمى
أوانسُ يسلبنَ الحليمَ فؤادهُ ... فيا طولَ ما شوقٍ ويا حسنَ مُجتلَى
مع اللَّيلِ قصرًا قدْ أضرَّ بكفِّها ... ثلاثَ أسابيعٍ تعدُّ منَ الحصَى
فلمْ أرَى كالتَّجميرِ منظرَ ناظرٍ ... ولا كليالِي الحجِّ أفتنَّ ذا هوَى
وقال آخر:
بوارحُ رحنَ من برحٍ إلينا ... بأفئدةِ الرِّجالِ مبرِّحاتِ
رمينَ حصَى الجمارِ بخاضباتٍ ... وأفئدةَ الرِّجالِ بصائباتِ
وقال ذو الرمة:
فما ظبيةٌ ترعَى مساقطَ رملةٍ ... كسَا الواكفُ الغادي لها ورقًا خُضرا
بأحسنَ مِنْ ميٍّ عشيَّةَ حاولتْ ... لتجعلَ صدعًا في فؤادكَ أوْ عَقرا
بوجهٍ كقرنِ الشَّمسِ حرٍّ كأنَّما ... تهيجُ بهذا القلبِ لمحتهُ وقْرا
وعينٍ كأنَّ البابليَّيْنِ لبَّسا ... بقلبكَ منها يومَ لاقيتَها سِحرا
وقال كثير بن عبد الرحمن:
أصابكَ نبلُ الحاجبيَّةِ إنَّها ... إذا ما رمتْ لا يستبلُّ كليمُها
لقدْ غادرتْ في القلبِ منِّي أمانةً ... وللعينِ عبراتٌ سريعٌ سجومُها
فذُوقي بما أجنيتِ عينًا مشومةً ... عليَّ وقدْ يأتِي علَى العينِ شومُها
وقال آخر:
وتنالُ إذا نظرتْ إليكَ بطرفِها ... ما لا ينالُ بحدِّهِ النَّصلُ
وإذا نظرتَ إلى محاسنِ وجهِها ... فلكلِّ موضعِ نظرةٍ قتلُ
ولقلبِها حلمٌ تصدُّ بهِ ... عنْ ذي الهوَى ولطرفِها جهلُ
وقال حبيب بن أوس الطائي:
يا جفونًا سواهِدًا أعدمتْها ... لذَّةَ النَّومِ والرُّقادِ جفونُ
1 / 2
إنَّ للهِ في العبادِ منايَا ... سلَّطتْها علَى القلوبِ عيونُ
وأنشدتني أم حمادة الهمدانية:
دارَ الهوَى بعبادِ اللهِ كلّهمِ ... حتَّى إذا مرَّ بي مِنْ بينهمْ وقفَا
إنِّي لأعجبُ مِنْ قلبٍ يكلِّفكمْ ... ومَا يرَى منكمُ برًّا ولا لَطَفا
لولا شقاوةُ جدِّي ما عرفتكمُ ... إنَّ الشَّقيَّ الذي يشقَى بمنْ عرَفا
وأنشدني أبو طاهر أحمد بن بشر الدمشقي:
رمتْني وسِترُ اللهِ بيني وبينها ... عشيَّةَ أحجارِ الكَنَاسِ رميمُ
رميمُ الَّتي قالتْ لجاراتِ بيتها ... ضمنتُ لكمْ أنْ لا يزالَ يهيمُ
ألا ربَّ يومٍ لوْ رمتْني رَمَيْتها ... ولكنَّ عهدي بالنِّضالِ قديمُ
وبلغني أنَّ بثينة وعزَّة كانتا خاليتين تتحدثان إذ أقبل كثيِّر فقالت بثينة لعزَّة أتحبين أن أُبين لك إن كان كثيِّر فيما يظهره لك من المحبة غير صادق قالت نعم قالت: أدخلي الخباء فتوارت عزَّة ودنا كثيِّر حتَّى وقف على بثينة فسلم عليها فقالت له ما تركت فيك عزَّة مستمتَعًا لأحدٍ فقال كثيِّر والله لو أن عزَّة أمَة لوهبتها لكِ قالت له بثينة إن كنت صادقًا فاصنع في ذلك شعرًا فأنشأ يقول:
رمتْني علَى فوتِ بثينةُ بعدَ ما ... تولَّى شبابِي وارْجحنَّ شبابُها
بعينينِ نجلاوينِ لوْ رقرقتْهُما ... لنوءِ الثُّريَّا لاستهلَّ سحابُها
فبادرت عزَّة فكشفت الحجاب وقالت يا فاسق قد سمعت البيتين قال لها فاسمعي الثالث قالت وما هو فأنشأ يقول:
ولكنَّما ترمينَ نفسًا شقيَّةً ... لعزَّةَ منها صفوُها ولبابُها
وهذا الشعر وإن كان قبيحًا لمناسبته الخيانة والغدر فهو حسن من ثبات حدَّة الخاطر وسرعة الفكر.
وقال أبو عبادة البحتري:
نظرتْ قادرةً أنْ ينكفِي ... كلُّ قلبٍ في هواهَا بعلَقْ
قالَ بُطلًا وأفالَ الرَّأيَ مَنْ ... لمْ يقلْ إنَّ المنايا في الحدَقْ
كانَ يكفِي ميِّتًا مِنْ ظمإٍ ... فضلُ ما أوبقَ ميْتًا مِنْ غرَقْ
إنْ تكنْ محتسبًا مَنْ قدْ ثوَى ... لحمامٍ فاحتسبْ مَنْ قدْ عشِقْ
وقال القطامي وهو أحسن ما قيل في معناه:
وفي الخدورِ غماماتٌ برقنَ لنا ... حتَّى تصيَّدننَا مِنْ كلِّ مُصطادِ
يقتُلْننا بحديثٍ ليسَ يعلمهُ ... مَنْ يتَّقينَ ولا مكتومهُ بادِ
فهنَّ يُبدينَ مِنْ قولٍ يُصبنَ بهِ ... مواقعَ الماءِ من ذِي الغلَّةِ الصَّادي
قد ذكرنا من أقاويل الشعراء في الهوَى أنَّه يقع ابتداؤه من النظر والسَّماع ما في بعضه بلاغٌ ثمَّ نحن إن شاء الله ذاكرون ما في ذلك الأمر الَّذي أوقعه السماع والنظر ولمَ وقع وكيف وقع إذ قد صحَّ كونه عند العامَّة وخفيَ سببه على الخاصَّة أخبرنا أبو بكر محمد بن إسحاق الصاغاني قال حدثنا ابن أبي مريم قال أخبرنا يحيى بن أيوب عن يحيى بن سعيد عن عمرة عن عائشة عن النبي ﷺ أنَّه قال: الأرواح جنود مجنَّدة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف.
وفي مثل ذلك يقول طرفة بن العبد:
تعارفُ أرواحُ الرِّجالِ إذا التقَوْا ... فمنهمْ عدوٌّ يُتَّقى وخليلُ
وإنَّ امرءًا لمْ يعفُ يومًا فكاهةً ... لمنْ لمْ يردْ سوءًا بها لجهولُ
وزعم بعضُ المتفلسفين أن الله جلَّ ثناؤه خلقَ كلَّ روحٍ مدوَّرة الشكل على هيئة الكرة ثمَّ قطعها أيضًا فجعل في كل جسد نصفًا وكل جسد لقي الجسد الَّذي فيه النصف الَّذي قطع من النصف الَّذي معه كان بينهما عشقٌ للمناسبة القديمة وتتفاوت أحوال النَّاس في ذلك على حسب رقَّة طبائعهم.
وقد قال جميل في ذلك:
تعلَّقُ رُوحي روحَها قبلَ خلقِنا ... ومِنْ بعدِ ما كنَّا نِطافًا وفي المهدِ
فزادَ كمَا زِدنا فأصبحَ نامِيًا ... وليسَ إذا مُتنا بمُنتقضِ العهدِ
ولكنَّهُ باقٍ علَى كلِّ حالةٍ ... وزائرُنا في ظُلمةِ القبرِ واللَّحدِ
وفي نحوه يقول بعض أهل هذا العصر:
مَنْ كانَ يشجَى بحبٍّ ما لهُ سببٌ ... فإنَّ عندي لِما أشجَى بهِ سببُ
حُبِّيهِ طبعٌ لنفسِي لا يغيِّرهُ ... كرُّ اللَّيالِي ولا تُودي بهِ الحقبُ
1 / 3
إن كانَ لا بدَّ للعشَّاقِ من عطبٍ ... ففي هوَى مثلهِ يُستغنمُ العطبُ
وكتب بعض الظرفاء إلى أخ له إنِّي صادقت منك جوهر نفسي فأنا غير محمود على الانقياد إليك بغير زمام لأن النفس يتبع بعضها بعضًا وحُكي عن أفلاطون أنَّه قال ما أدري ما الهوَى غير أنِّي أعلم أنَّه جنون إلاهي لا محمود ولا مذموم.
وقد قال بعض الشعراء في مثله:
إنَّ المحبَّةَ أمرُها عجبٌ ... تُلقَى عليكَ وما لها سببُ
ولقد أحسن الحسين بن مطير في قوله:
قضَى اللهُ يا سمراءُ منِّي لكِ الهوَى ... بعزمٍ فلمْ أمنعْ ولمْ أُعطِهِ عمدا
وكلُّ أسيرٍ غيرُ مَنْ قدْ ملكتهِ ... مُرجًّى لقتلٍ أوْ لنعماءُ أوْ مُفدَى
وزعم بطليموس أن الصداقة والعداوة تكون على ثلاثة أضرب إما لاتفاق الأرواح فلا يجد المرء بدًّا من أن يحب صاحبه وإما للمنفعة وإما لحزن وفرح فأما اتفاق الأرواح فإنه يكون من كون الشَّمس والقمر في المولدين في برج واحد ويتناظران من تثليث أو تسديس نظر مودَّة فإنه إذا كان كذلك كانا صاحبا المولدين مطبوعين على مودَّة كل واحد منهما لصاحبه فأما اللذان تكون مودَّتهما لحزن أو لفرح فإنه من أن يكون طالع مولديهما برجًا واحدًا ويتناظر طالعاهما من تثليث أو تسديس وأما اللذان مودتهما للمنفعة فإن ذلك من أن يكون بينهما سعادتاهما في مولديهما في برج واحد أو يتناظر السهمان من تثليث أو تسديس فإن لك يدل على المولدين تكون منفعتهما من جهة واحدة وينتفع أحدهما بصاحبه فتجلب المنفعة بينهما الصداقة أو تكون مضرتهما من جهة واحدة فيتفقان على الحزن فيتوادان بذلك السبب ويُقوِّي ذلك كله نظر السعود في وقت المواليد ويضعفه نظر النحوس وقد ذكر بعض الشعراء الهوَى فقسمه على نحوٍ من هذا المعنى فقال:
ثلاثةُ أحبابٍ فحبُّ علاقةٍ ... وحبُّ تِملاقٍ وحبٌّ هوَ القتلُ
1 / 4
وزعم جالينوس أنَّ المحبة قد تقع من العاقلين من باب تشاكلهما في العقل ولا تقع بين الأحمقين من باب تشاكلهما في الحمق لأن العقل يجري على ترتيب فيجوز أن يُتفق فيه على طريق واحد والحمق لا يجري على ترتيب فلا يجوز أن يقع به اتفاق بين اثنين وقال بعض المتطببتن إنَّ العشق طمع يتولد في القلب وتجتمع إليه مواد من الحرص مكلما قوي ازداد صاحبه في الاهتياج واللجاج وشدَّة القلق وكثرة الشَّهوة وعند ذلك يكون احتراق الدم واستحالته إلى السوداء والتهاب الصفراء وانقلابها إلى السوداء ومن طغيان السوداء فساد الفكر ومع فساد الفكر تكون العدامة ونقصان العقل ورجاء ما لا يكون وتمنِّي ما لا يتمُّ حتَّى يؤدي ذلك إلى الجنون فحينئذ ربَّما قتل العاشق نفسه وربَّما مات غمًّا وربَّما نظر إلى معشوقه فيموت فرحًا أو أسفًا وربَّما شهق شهقة فتختفي فيها روحه أربعًا وعشرين ساعة فيظنون أنَّه قد مات فيقبرونه وهو حيٌّ وربَّما تنفس الصعداء فتختنق نفسه في تامور قلبه وينضمُّ عليها القلب فلا ينفرج حتَّى يموت وربَّما ارتاح وتشوَّق للنَّظر أو رأى من يحبُّ فجأة فتخرج نفسه فجأة دفعة واحدة وأنت ترى العاشق إذا سمع بذكر من يحبُّ كيف يهرب ويستحيل لونه وإن كان الأمر يجري على ما ذكر فإنَّ زوال المكروه عمَّن هذه حاله لا سبيل إليه بتدبير الآدميين ولا شفاء له إلاَّ بلطف يقع له من رب العالمين وذلك أن المكروه العارض من سبب قائم منفرد بنفسه يتهيَّأ التَّلطُّف في إزالته بإزالة سببه فإذا وقع الشَّيئان وكل واحد منهما علَّة لصاحبه لم يكن إلى زوال واحدة منهما سبيل فإذا كانت السوداء سببًا لاتصال الفكر وكان اتصال الفكر سببًا لاحتراق الدم والصفراء وقلبها إلى تقوية السوداء كلما قويت قوَّت الفكر والفكر كلما قوي قوَّى السوداء وهذا هو الداء الَّذي يعجز عن معالجته الأطبَّاء وقد زعم بعض المتصوفين أن الله جل ثناؤه إنَّما امتحن النَّاس بالهوى ليأخذوا أنفسهم بطاعة من يهوونه وليشق عليهم سخطه ويسرَّهم رضاؤه فيستدلّ بذلك على قدر طاعة الله ﷿ إذ كان لا مثل له ولا نظير وهو خالقهم غير محتاج إليهم ورازقهم مبتدئًا غير ممتنٍّ عليهم فإن أوجبوا على أنفسهم طاعة من سواه كان هو تعالى أحرى بأن يتَّبع رضاه والكلام في اعتبار ما حكيناه والإخبار عن جميعه بما يرضاه يكثر وربَّما استغني بالحكايات عن التَّصريح بالاختبارات ونحن إن شاء الله نذكر بعقب هذا الباب مبلغ الهوَى من قلوب ذوي الألباب ونصف مراتبه وتصرفه وازدياده وتمكنَّه ونخبَّر باقتداره على المقتدرين واستظهاره على المستظهرين وتلاعبه بقلوب المتفلسفين وتمالكه على خواطر المستسلمين.
الباب الثاني
العقل عند الهوَى أسيرٌ والشَّوق عليهما أميرٌ
قال جالينوس العشق من فعل النفس وهي كامنة في الدماغ والقلب والكبد وفي الدماغ ثلاثة مساكن التَّخييل وهو في مقدم الرأس والفكر وهو في وسطه والذِّكر وهو في مؤخره وليس يكمل لأحدٍ اسم عاشق إلاَّ حتَّى إذا فارق من يعشقه لم يخلُ من تخييله وفكره وذكره وقلبه وكبده فيمتنع عن الطعام والشراب باشتغال الكبد ومن النوم باشتغال الدماغ والتَّخييل والذِّكر له والفكر فيه فيكون جميع مساكن النفس قد اشتغلت به فمتى لم يشتغل به وقت الفراق لم يكن عاشقًا فإذا لقيه خلت هذه المساكن ولعمري لقد أحسن فيما وصف واحتجَّ لما قال فانتصف غير أَنه ذكر حال العشق وحده وترك ذكر أحوال ما قبله وأحوال ما بعده وذلك أنَّ الأحوال الَّتي تتولد عن السماع والنظر مختلفة في باب العظم والصِّغر ولها مراتب فأول ما يتولد عن النظر والسماع الاستحسان ثمَّ يقوى فيصير مودَّة والمودَّة سبب الإرادة فمن ودَّ إنسانًا ودَّ أن يكون له خلًاّ ومن ودَّ غرضًا ودَّ أن يكون له مُلكًا ثمَّ تقوى المودَّة فتصير محبَّة والمحبَّة سببًا للطاعة.
وفي ذلك يقول محمد الوراق:
تعصِي الإلهَ وأنتَ تُظهرُ حبَّهُ ... هذا محالٌ في القياسِ بديعُ
لو كانَ حبُّكَ صادقًا لأَطعتَهُ ... إنَّ المحبَّ لمنْ أحبَّ مُطيعُ
ثمَّ تقوى المحبَّة فتصير خُلَّة والخلَّة بين الآدميين أن تكون محبَّة أحدهما قد تمكَّنت من صاحبه حتَّى أسقطت السرائر بينه وبينه فصار متخلِّلًا لسرائره ومطَّلعًا على ضمائره.
1 / 5
وفي هذا النحو يقول بعض أهل هذا العصر:
فلا تهجرْ أخاكَ بغيرِ ذنبٍ ... فإنَّ الهجرَ مفتاحُ السُّلوِّ
إذا كتمَ الخليلُ أخاهُ سرًّا ... فما فضلُ الصَّديقِ علَى العدوِّ
ويقال إنَّ الخلَّة بين الآدميين مأخوذة من تخلُّل المودَّة بين اللَّحم والعظم واختلاطهما بالمخ والدم وهذا المعنى غير مخالف للأول بل هو أوضح سبب له لأن من حلَّ من النفس هذا المحل لم يستبدَّ عنه بأمر ولم يستظهر عليه بسرّ.
وقد أنشدنا لعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود في هذا النحو:
تغلغلَ حبُّ عَثمةَ في فؤادِي ... فباديهِ معَ الخافِي يسيرُ
تغلغلَ حيثُ لمْ يبلغْ شرابٌ ... ولا حزنٌ ولمْ يبلغْ سرورُ
ثمَّ تقوى الخلَّة فتوجب الهوَى والهوَى اسم لانحطاط المحب في مَحابِّ المحبوب وفي التوصُّل إليه بغير تمالك ولا ترتيب.
أنشدنا أبو العباس أحمد بن يحيى:
وإنَّ امرءًا يهوِي إليكِ ودونهُ ... منَ الأرضِ مَوْماةٌ وبيداءُ خَيْفقُ
لمحقوقةٌ أنْ تستجيبي لصوتهِ ... وإنْ تعلَمِي إنَّ المعينَ موفَّقُ
ثمَّ تقوى الحال فيصير عشقًا والعاشق يمنعه من سرعة الانحطاط في هوى معشوقه إشفاقه عليه وضنُّه به حتَّى أنَّ إبقاءه عليه ليدعوه إلى مخالفته وترك الإقبال عليه فمن النَّاس من يتوهَّم لهذه العلَّة أنَّ الهوَى أتمُّ من العشق وليس الأمر كذلك ثمَّ يزداد العشق فيصير تتْيِيمًا وهو أن تصير حال المعشوق مستوفية للعاشق فلا يكون فيه معها فضل لغيرها ولا يزيد بقياسه شيئًا إلاَّ وجدته متكاملًا فيها.
وفي مثل هذا المعنى يقول أبو الشيص:
وقفَ الهوَى بِي حيثُ أنتِ فليسَ لِي ... مُتأخَّرٌ عنهُ ولا مُتقدَّمُ
أجدُ الملامةَ في هواكِ لذيذةً ... حبًّا لذكركِ فليلُمْنِي اللُّوَّمُ
أشبهتِ أعدائِي فصرتُ أُحبُّهمْ ... إذ كانَ حظِّي منكِ حظِّي منهمُ
وأَهنتِنِي فأهنتُ نفسِي جاهدًا ... ما مَنْ يهونُ عليكِ ممَّنْ أُكرمُ
ولو لم يقل أبو الشيص في عمره بل لو لم يقل أحد من أهل عصره غير هذه الأربعةِ الأبيات لكانوا مقصرين وإذا كانت كل خواطر العشَّاق فيما يتمنَّاه واقعة ممَّن يهواه على الأمر الَّذي يرضاه فهذه في المشاكلة الطبيعية الَّتي لا يفنيها مرُّ الزَّمان ولا تزول إلاَّ بزوال الإنسان وإذا صحَّ هذا المذهب لم يعجب من أن يميل الإنسان إلى الإنسان بخلَّة أوْ خلَّتين فإذا زالت العلَّة زال الهوَى فلا يزال المرابط متنقِّلًا إلى أن يصادف من يجتمع فيه هواه فحينئذ يرضاه فلا ينعطف عنه إلى أحد سواه.
ولبعض أهل هذا العصر في هذا المعنى:
أيا زاعمًا أنِّي لهُ غيرُ خالصِ ... وأنِّي موقوفٌ علَى كلِّ قانصِ
كمَا أنتَ فانظرْ في وفائكَ خالصًا ... تراهُ لمنْ يهواكَ أمْ غيرَ خالصِ
فحينئذٍ فارجعْ بما تستحقُّهُ ... عليَّ وطالبني إذًا بالنَّقائصِ
سأعرضُ نفسِي يمنةً وشآمةٌ ... علَى كلِّ ثاوٍ في البلادِ شاخصِ
إلى أن أرَى شكلًا يصونُ مودَّتِي ... فحينئذٍ أغلُو علَى كلِّ غائصِ
أمثلِي يخونُ العهدَ عنْ غيرِ حادثٍ ... رمانِي إذًا ربي بحتفٍ مُغافصِ
ثمَّ يزداد التَّتييم فيصير ولهًا والوله هو الخروج عن حدود الترتيب والتَّعطُّل عن أحوال التَّمييز حتَّى تراه يطلب ما لا يرضاه ويتمنَّى ما لا يهواه ثمَّ لا يحتذي مع ذلك مثالًا ولا يستوطن حالًا.
وقد قال حبيب بن أوس الطائي في نحو هذا:
ولَّهَتهُ العُلى فليسَ يعدُّ ال ... بؤسَ بؤسًا ولا النَّعيمَ نعيمًا
والشَّوق تابع لكلِّ واحدة من هذه الأحوال والمستحسن يشتاق إلى ما يستحسنه على قدر محلِّه من نفسه ثمَّ كلَّما قويت الحال قوي معها الاشتياق فالحبّ وما أشبهه يتهيَّأ كتمانه فإذا بلغت الاشتياق بطل الكتمان.
وفي مثل ذلك يقول يزيد بن الطثرية:
أعِيبُ الَّذي أهوَى وأُطرِي جواريًا ... يرينَ لها فضلًا عليهنَّ بيِّنا
برغمِي أُطيلُ الصَّدَّ عنها إذا بدتْ ... أُحاذرُ أسماعًا عليها وأعيُنا
فدْ غضبتْ أنْ قلتُ أنْ ليس حاجتِي ... إليها وقالتْ لمْ يُردْ أنْ يحبَّنا
1 / 6
وهلْ كنتُ إلاَّ مُعمَدًا قانطَ الهوَى ... أسرَّ فلمَّا قادهُ الشَّوقُ أعلَنا
أتانِي هواها قبلَ أنْ أعرفَ الهوَى ... فصادفَ قلبِي خاليًا فتمكَّنا
ولعمري إنَّ هذا لمن نفيس الكلام غير أنَّ في البيت ضعفًا وذلك أنَّه جعل سبب تمكُّن الهوَى من قلبه أنَّه صادفه خاليًا لم يسبقه إليه غيره وليست هذه من أحوال أهل التَّمام إذ كلُّ من صادف محلا لا يدافع عنه لم يتعذر عليه طريق التَّمكُّن منه.
وقد قال بعض أهل هذا العصر:
وقدْ كانَ يسبِي القلبَ في كلِّ ليلةٍ ... ثمانونَ بلْ تسعونَ نفسًا وأرجحُ
يهيمُ بهذا ثمَّ يعشقُ غيرهُ ... ويسلاهمُ مِنْ فورهِ حينَ يصبحُ
وكانَ فؤادِي صاحيًا قبلَ حبِّكمُ ... وكانَ بحبِّ الخلقِ يلهُو ويمزحُ
فلمَّا دعَا قلبِي هواكَ أجابهُ ... فلستُ أراهُ عنْ ودادكَ يبرحُ
رُميتُ بهجرٍ منكَ إنْ كنتُ كاذبًا ... وإنْ كنتُ في الدُّنيا بغيركَ أفرحُ
وإنْ كانَ شيءٌ في البلادِ بأسرِها ... إذا غبتَ عنْ عينيَّ عندِي يملحُ
فإنْ شئتَ واصِلْنِي وإنْ شئتَ لمْ تصلْ ... فلستُ أرَى قلبِي لغيركَ يصلحُ
فالمحبَّة ما دامت لهوًا ونظرًا فهي عذبة المبتدأ سريعة الانقضاء فإذا وقعت مرتَّبة على التَّمام في المصافاة تعذَّرت قدرة القلب على هواه فحينئذ تضلُّ أفهام المتميزين وتبطل حيل المتفلسفين.
وفي نحو ذلك يقول بعض الظرفاء:
طوَى شَجَنا في الصَّدرِ فالدَّمعُ ناشرُهْ ... فإنْ أنتَ لمْ تعذرهُ فالشَّوقُ عاذرُهْ
هوًى عذبتْ منهُ مواردُ بدرهِ ... فلمَّا نمَى أعيتْ عليهِ مصادرُهْ
وأنشدني أبو العباس أحمد بن يحيى لامرأة من قيس:
وما كيِّسٌ في النَّاسِ يُحمدُ رأيهُ ... فيوجدُ إلاَّ وهوَ في الحبِّ أحمقُ
وما مِنْ فتًى ما ذاقَ بؤسَ معيشةٍ ... فيعشقُ إلاَّ ذاقَها حينَ يعشقُ
وقال عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير:
ورمَى الهوَى منَّا القلوبَ بأسهمٍ ... رميَ الكُماةِ مَقاتلَ الأعداءِ
ومنَ العجائبِ قتلهُ لكرامِنَا ... وشِدادِنا بمكائدِ الضُّعفاءِ
وقال أبو دلف:
الحربُ تضحكُ عنْ كرِّي وإقدامِي ... والخيلُ تعرفُ آثارِي وأقدامِي
سيفِي مدامِي ورَيْحانِي مُثقفةٌ ... وهمَّتي مِقَةُ التَّقصيمِ للهامِ
وقدْ تجرَّدَ لي بالحسنِ مُنفردًا ... أمضَى وأشجعُ منِّي يومَ إقدامِي
سلَّتْ لواحظهُ سيفَ السَّقامِ علَى ... جسمِي فأصبحَ جسمِي رَبعَ أسقامِ
وقال آخر:
ألا قاتلَ اللهُ الهوَى كيفَ يقتلُ ... وكيفَ بأكبادِ المحبِّينَ يفعلُ
فلا تعذُلنِّي في هوايَ فإنَّني ... أرَى سَورةَ الأبطالِ في الحبِّ تبطلُ
وقال آخر:
الحبُّ يتركُ مَنْ أحبَّ مدَلَّهًا ... حيرانَ أوْ يقضِي عليهِ فيسرعُ
الحبُّ أهونهُ شديدٌ فادحٌ ... يهنُ القويَّ منَ الرِّجالِ فيصرعُ
مَنْ كانَ ذا حزمٍ وعزمٍ في الهوَى ... وشجاعةٍ فالحبُّ منهُ أشجعُ
وقال النابغة الذبياني:
لوْ أنَّها عرضتْ لأشمطَ راهبٍ ... يدعُو الإلهَ صرورةٍ مُتعبِّدِ
لرَنَا لبهجتِها وحسنِ حديثِها ... ولخالَهُ رشَدًا وإنْ لمْ يرشدِ
أسعُ البلادَ إذا أتيتكِ زائرًا ... وإذا هجرتكِ ضاقَ عنِّي مَقعدِي
وأنشدتني أعرابية بالبادية:
تبصَّرْ خليلِي هلْ ترَى بينَ وائشٍ ... وبينَ أحَيٍّ مِنْ ظعائنَ كالأثْلِ
ظعائنُ يَسلبنَ الفتَى الغرَّ عقلهُ ... وذا الأهلِ حتَّى لا يُبالِيَ بالأهلِ
وقال آخر:
أروحُ ولمْ أُحدثْ لليلى زيارةً ... لبئسَ إذًا راعِي المودَّةِ والوصلِ
ترابٌ لأهلِي لا ولا نعمةٌ لهمْ ... لشدَّ إذنْ ما قدْ تعبَّدنِي أهلِي
وقال ماني:
مُكتئبٌ ذُو كبدٍ حرَّى ... تبكِي عليهِ مقلةٌ عبرَى
يرفعُ يمناهُ إلى ربِّهِ ... يدعُو وفوقَ الكبدِ اليسرَى
يبقَى إذا كلَّمتهُ باهتًا ... ونفسهُ ممَّا بهِ سكرَى
تحسبهُ مُستمعًا ناصتًا ... وقلبهُ في أُمَّةٍ أُخرَى
وقال غيره وهو مجنون بني عامر:
1 / 7
وشُغلتُ عنْ فهمِ الحديثِ سوَى ... ما كانَ فيكِ وحبُّكمْ شُغلِي
وأديمُ نحوَ مُحدِّثي نظَرِي ... أنْ قدْ فهمتُ وعندكمْ عقلِي
وقال آخر:
مَنْ كانَ لمْ يدرِ ما حبٌّ وصفتُ لهُ ... إنْ كانَ في غفلةٍ أوْ كانَ لمْ يجدِ
الحبُّ أوَّلهُ روعٌ وآخرهُ ... مثلُ الحرارةِ بينَ القلبِ والكبدِ
وقال الحسين بن مطير الأسدي وهو من جيد ما قيل في معناه:
قضَى اللهُ يا أسماءُ أنْ لستُ زائلًا ... أُحبُّكِ حتَّى يغمضَ العينَ مُغمضُ
فحبُّكِ بلوَى غيرَ أنْ لا يسرُّني ... وإنْ كانَ بلوَى أنَّني لكِ مُبغضُ
إذا ما صرفتُ القلبَ في حبِّ غيرِها ... إذًا حبُّها مِنْ دونهِ يتعرَّضُ
فيا ليتَني أقرضتُ جَلدًا صبابَتي ... وأقرَضَني صبرًا علَى الشَّوقِ مُقرضُ
أما قوله فحبُّك بلوَى فكلام قبيح المعنى وذلك أنَّه كان صادقًا في هواها مختارًا لها على ما سواها فقد أتى على نفسه إذ جعل اختياره مضرًّا بقلبه وإن كان لم يدخل في الهوَى مختارًا وإنَّما وقع به اضطرارًا فقد أخطأ إذ سمَّى ما هو موجودٌ في طبعه مفارقٌ لنفسه باسم البلوى الَّتي تعرض له وتنصرف عنه وأمَّا إخباره بأنَّه لا يسرُّ بأن يكون مبغضًا لها فكلامٌ لو سكت عنه كان أولى أو أن يكفّه أنَّه مُبتلًى عند نفسه بهواها حتَّى يريد مع ذلك أن يكون مبغضًا مائلًا إلى سواها غير أنِّي أرجع إلى من ملكه الإشفاق وغلب على قلبه الاشتياق عذرًا بأن يُظهر ما يضمر سواه ويتمنَّى لنفسه غير ما يهواه ألم يسمع الَّذي يقول:
مِنْ حبِّها أتمنَّى أنْ يُلاقينِي ... مِنْ نحوِ بلدتِها ناعٍ فينْعَاها
كيْما أقولَ فراقٌ لا التقاءَ لهُ ... وتُضمرُ النَّفسُ يأسًا ثمَّ تسلاها
وهذا لعمري سرفٌ شديد وطريق الاعتذار لقائله بعيد وأقرب منه قول أبي الوليد بن عبيد الطائي:
مُقيمٌ بأكنافِ المصلَّى تصيدُني ... لأهلِ المصلَّى ظبيةٌ لا أصيدُها
أُريدُ لنفسِي غيرَها حينَ لا أرَى ... مُقاربةً منها ونفسي تريدُها
وهذا الكلام أيضًا حسن الظَّاهر قبيح الباطن وذلك أنَّه يعبِّر عن صاحبته أنَّه إنَّما يريدها ما دامت تواصله فإذا هجرته انصرف عنها قلبه إلاَّ أنَّه وإن كان مقصِّرًا في هذا البيت فما قصَّر في قوله:
يهواكَ لا أنَّ الغرامَ أطاعهُ ... حتمًا ولا أنَّ السُّلوَّ عصاهُ
مُتخيِّرٌ ألفاكَ خيرةَ نفسهِ ... ممَّن نآهُ الودُّ أوْ أدناهُ
وهذا ضد قول أبي علي البصير:
لوْ تخيَّرتُ ما عشقتُ ولوْ مُلِّ ... كتُ أمرِي عرفتُ وجهَ الصَّوابِ
وأقبح من هذا القول الَّذي يقول:
إنَّ الَّذي بعذابِي ظلَّ مُفتخرًا ... هلْ كنتَ إلاَّ مليكًا جارَ إذ قدرَا
لولا الهوَى لتَحَاربْنا علَى قدرٍ ... وإن أُفقْ يومًا ما فسوفَ ترَى
هذا يتوعد محبوبه بالعقاب وهو أسير في يده يجري عليه حكمه وينفذ فيه فكيف لو قد ملك نفسه وقدر على الإنصاف من خصمه هذه حالٌ لا يُخبر بها عن نفسه إلاَّ من قد غُلب على عقله أو تحيَّر في أمره وقد قال جميل في قريبٍ من هذا المعنى قولًا مليحًا وإن لم يكن معناه عندنا صحيحًا وهو:
فيا ربِّ حبَّبْني إليها وأعطِنِي المو ... دَّةَ منها أنتَ تُعطي وتمنعُ
وإلاّ فصبِّرني وإنْ كنتُ كارهًا ... فإنِّي بها يا ذا المعارجِ مولعُ
وللمجنون ما هو أقبح منه:
فيا ربِّ سوِّ الحبَّ بيني وبينها ... كَفافًا فلا يرجحْ لليلَى ولا ليَا
وإلاّ فبغِّضْها إليَّ وأهلَها ... تكنْ نعمةً ذا العرشِ أهديتَها ليَا
وأنشدني أبو العباس محمد بن يزيد النحوي ليزيد بن الطثرية في ضد هذا المعنى:
يقولونَ صبرًا يا زيدُ إذا نأتْ ... ويا ربِّ لا ترزقْ علَى حبِّها صبرَا
فهذا يختار لنفسه البلاء ضنًّا بمحلِّها من الهوَى ولعمري إنَّ هذه لحالٌ وكيدةٌ وإنَّها لو فارقته حتَّى يرى نفسه بعين الحريَّة من ملكها لانتقل عن رأيه وندم على وفائه وقد حدَّثتني مريم الأسدية قالت سمعت امرأة عقيليَّة تقول وهي على بعير لها تسير:
سُقينا سُلوةً فَسَلا كِلانا ... أراكَ اللهُ نعمةَ مَنْ سقانا
1 / 8
قالت مريم فسألتها عن خَبالها فقالت كنت أهوى ابن عمٍ لي ففطن بي بعض أهلي فسقوني وإيَّاه شيئًا فسلا كل واحد منا عن صاحبه وهذه حالٌ قلَّ ما يقع مثلها وهي ألطف محلًاّ من كل ما ذكرناه وما نذكره بعدها لأنّا إنَّما نصف من آثر المقام مع من يهواه على السلوّ عنه والرَّاحة من أذاه وهو بعد مقيمٌ في هواه وصاحبة هذا البيت قد سلت عن محبوبها وإنَّما تأسَّى على العشق لا على المعشوق وفي مثل هذا المعنى يقول بعض الهذليين:
إذا ما سألتُكَ وعْدًا تُريحُ ... بهِ مُهجتي فأنا المُستريحُ
فلا تُعطني الوعدَ خوفَ السُّلوِّ ... فإنِّي علَى حسراتي شحيحُ
أحَبُّ إليَّ من الصَّبرِ عنكَ ... فُؤادٌ قريحٌ وقلبٌ جريحُ
ولقد أحسن الوليد بن عبيد حيث يقول:
ويُعجبني فَقري إليكَ ولمْ يكنْ ... لِيُعجبني لولا محبَّتكَ الفَقرُ
وما ليَ عذرٌ في جُحودكَ نعمةً ... ولو كان لي عذرٌ لما حسُنَ العذرُ
وأحسن الَّذي يقول:
وما سرَّني أنِّي خليٌّ مِنَ الهوَى ... علَى أنَّ لي ما بينَ شرقٍ إلى غربِ
فإنْ كانَ هذا الحبُّ ذنبي إليكُمُ ... فلا غفرَ الرَّحمانُ ذلكَ من ذنبِ
وأحسن أيضًا الَّذي يقول:
أحببتُ قلبي لمَّا أحبَّكمُ ... وصارَ رأيي لِرأيهِ تبعا
ورُبَّ قلبٍ يقولُ صاحبهُ ... تَعْسًا لقلبي فبئسَ ما صنعا
وأنشدني أحمد بن يحيى عن الزبير بن بكار لجميل بن معمر:
خليليَّ فيما عِشتما هلْ رأيتُما ... قتيلًا بكى من حبِّ قاتلهِ قبلي
فلوْ تركتْ عقلي معي ما تبعتُها ... ولكنْ طِلابيها لما فاتَ من عقلي
وهذا المعنى الَّذي في البيت الثاني داخل فيما عينَّاه من أنَّ من أقبل على من يهواه ما دام مفتقرًا إليه فليست له في ذلك منَّةٌ عليه وحدثني أبو العباس أحمد بن يحيى النَّحويّ عن أبي سعيد عن القرويّ قال حدثني أخي عمران بن موسى قال أخبرني بعض أصحابنا أنَّ المجنون لما تغوَّل كان لا يؤخذ منه الشعر إلاَّ أن يجلس الرجل قريبًا منه فينشد النَّسيب فيرتاح إليه فإذا سمع ذلك أنشد قال فجلس إلى جنبه رجلٌ فأنشده بيتًا من النَّسيب فقال ما أحسن هذا ثمَّ أنشده:
عجبتُ لِذاكَ عُروةَ كيفَ أضحى ... أحاديثًا لقومٍ بعدَ قومِ
وعروةُ ماتَ موتًا مُستريحًا ... وها أنذا أموَّتُ كُلَّ يومِ
وأنشدني بعض الأدباء للمجنون أيضًا:
أراني إذا صلَّيتُ يمَّمْتُ نحوها ... أمامي وإنْ كانَ المصلَّى ورائيا
وما بيَ إشراكٌ ولكنَّ حبَّها ... مكانَ الشَّجى أعْيا الطَّبيبَ المُداويا
أُصلِّي فما أدري إذا ما ذكرتها ... أثنْتَيْنِ صلَّيتُ الضُّحى أمْ ثمانيا
وما جئْتها أبغي شفائي بنظرةٍ ... فأبصرتُها إلاَّ انصرفتُ بدائيا
وأنشدني بعض الكتاب لنفسه:
ولي فؤادٌ إذا طالَ السَّقامُ بهِ ... هامَ اشتياقًا إلى لُقيا مُعذِّبهِ
يفديكَ بالنَّفس صبٌّ لو يكونُ لهُ ... أعزُّ من نفسهِ شيءٌ فداكَ بهِ
الباب الثالث
من تداوى بدائه لم يصل إلى شفائه
قد ذكرنا في صدر هذا الكتاب أنَّ أصل الهوَى يتولَّد من النَّظر والسَّماع ثمَّ ينمي حالًا بعد حالٍ فإذا كان النظر الصَّاحي إلى الصُّورة الَّتي يستحسنها طرفه مؤكّدًا للمنظور إليه المحبَّة في قلبه كان نظر المحبّ بعد تمكُّن المحبَّة له أحرى أن يغلبه على لبّه ويزيده كربًا على كربه ألا ترى أنَّ من حمَّ يومين متواليين كان ألمه في الثاني من اليومين إذا تساوى مقدار الحمَّيين أصعب إليه من أوّل اليومين.
وفي مثل ذلك يقول حبيب بن أوس الطائي:
بَعثْنَ الهوَى في قلبِ من ليسَ هائمًا ... فقلْ في فؤادٍ رُعنهُ وهو هائمُ
وقال غيلان بن عقبة في نحو ذلك:
خليليَّ لمَّا خفتُ أنْ تستفزَّني ... أحاديثُ نفسي بالهوى واهتمامُها
تداويتُ من ميٍّ بتكليمةٍ لها ... فما زاد إلاَّ ضعفَ شوقي كلامُها
وقال أيضًا:
وكنتُ أرى من وجهِ ميَّةَ لمحةً ... فأبرقُ مغشيًا عليَّ مكانيا
وأسمعُ منها لفظةً فكأنَّما ... يُصيبُ بها سهمٌ طريقَ فُؤاديا
1 / 9
تُطيلينَ ليَّاني وأنتِ مليَّةٌ ... وأُحسنُ يا ذاتَ الوشاحِ التَّقاضيا
هيَ السِّحرُ إلاَّ أنَّ للسِّحرِ رُقيةً ... وأنِّيَ لا ألقى منَ الحبِّ راقيا
وقال أيضًا:
تحنُّ إلى ميٍّ وقدْ شطَّتِ النَّوى ... وما كلُّ هذا الحبِّ غيرُ غرامِ
لياليَ ميٌّ موتةٌ ثمَّ نشرةٌ ... لما ألمحتْ من نظرةٍ وكلامِ
وقال آخر:
يقولون ليلى بالعراقِ مريضةٌ ... فأقبلتُ من مصرٍ إليها أعودُها
فوالله ما أدري إذا أنا جئتُها ... أَأُبرئُها من دائها أمْ أزيدها
ولقد أحسن الطائي حيث يقول:
أمْتعتُ طرفي يومَ ذاكَ بنظرةٍ ... لا تُمتعُ الأرواحَ بالأجسادِ
وأنشدني أبو طاهر الدمشقي:
دوائيَ مكروهي ودائي محبَّتي ... فقدْ عيلَ صبري كيفَ بي أتقلَّبُ
فلا كمدٌ يبلى ولا لكِ رحمةٌ ... ولا عنكِ إقصارٌ ولا عنكِ مذهبُ
وقال علي بن محمد العلوي:
كمْ نظرةٍ منها شجيتُ لها ... قامتْ مقامَ الفقدِ للنَّظرِ
ولَّى بأوطاري ولستُ أرى ... عيشًا يُهشُّ لهُ بلا وطرِ
وأنشدنا أحمد بن أبي طاهر:
نازعني من طرفهِ الوَحْيا ... وهَمَّ أن ينطقَ فاستحْيا
جرَّدَ لي سيفيْنِ من لحظهِ ... أماتَ عن ذا وبِذا أحيى
وقال الحسين بن الضحاك المعروف بالخليع:
وأتاني مُفحمٌ بغرَّتهِ ... قلتُ لهُ إذ خلوْتُ مُحتشما
تحبُّ بالله من يخصُّكَ بالحبِّ ... فما قالَ لا ولا نعما
ثمَّ تولَّى بمُقلتيْ خجلٍ ... أراد ردَّ الجوابِ فاحتشما
فكنتُ كالمُبتغي بحيلتهِ بُرءًا ... من السُّقمِ فابتدا سقما
وقال آخر:
تأمَّلتُها مُغترَّةً فكأنَّما ... رأيتُ بها من سُنَّةِ البدرِ مَطلعا
إذا ما ملأتُ العينَ منها ملأتُها ... من الدَّمعِ حتَّى أنزفَ الدَّمعَ أجمعا
وقال آخر:
تمنَّيتُ من أهوى فلمَّا لقيتُهُ ... بَهتُّ فلمْ أُعملْ لِسانًا ولا طرفا
فأغضيتُ إجلالًا لهُ ومهابةً ... وحاولتُ أن يخفى الَّذي بي فلمْ يخفى
وأنشدني أحمد بن أبي طاهر لعلي بن الجهم لنفسه:
ولمَّا بدتْ بينَ الوُشاةِ كأنَّها ... عناقُ وداعٍ يُشتهى وهو يقتلُ
أيِسْتُ من الدُّنيا فقلتُ لصاحبي ... لئنْ عجلتْ للموتِ أوحى وأعجلُ
وقال آخر:
أيُّها النَّائمون حولي هنيئًا ... هكذا كنتُ حينَ كنتُ خليًّا
منْ رآني فلا يُديمنَّ لحظًا ... وليكنْ من جليسه سامريًّا
وقال مسلم بن الوليد:
أديرا عليَّ الكأسَ لا تشربا قبلي ... ولا تطلُبا من عندِ قاتلي ذحْلي
فما حزَني أنِّي أموتُ صبابةً ... ولكن علَى من لا يحلُّ لها قتلي
أُحبُّ الَّتي صدَّتْ وقالتْ لِترْبها ... دعيهِ الثُّريَّا منهُ أقربُ من وصلي
أماتتْ وأحيتْ مُهجتي فهيَ عندها ... مُعلَّقةٌ بينَ المواعيدِ والمطْلِ
وما نلتُ منها طائلًا غيرَ أنَّني ... بشجوِ المُعنَّيْنَ الأولى سلفوا قبلي
بلى ربَّما وكَّلتُ عيني بنظرةٍ ... إليها تزيدُ القلبَ خبلًا علَى خبْلِ
وقال أيضًا:
عرفتُ بها الأشجانَ وهيَ خليَّةٌ ... من الحبِّ لا وصلٌ لديها ولا هجرُ
أراها فأطوي للنَّصيحِ عداوةً ... وأحمدُ عُقبى ما جنى النَّظرُ الشَّزْرُ
فلا سيَّما العُذَّالَ فيها ملامهُمْ ... ألستُ إذا لاموا أبيتُ ولي عذرُ
شكوتُ فقالوا ضقتَ ذَرعًا بحبِّها ... متى تُملكُ الشَّكوى إذا غُلبَ الصَّبرُ
ألمَّتْ بنا في العائداتِ من أهلها ... فأذْكتْ غليلًا ما لديها بهِ خُبرُ
ولبعض أهل هذا العصر:
إذا كان اللِّقاءُ يزيدُ شوقًا ... وكان فراقُ من أهوى يشوقُ
فليسَ إلى السُّلوِّ وإنْ تمادى ... عتابُكَ في الهوَى أبدًا طريقُ
ومنْ يكُ ذا سقامٍ إنْ تداوى ... تزايدَ سُقمهُ فمتى يُفيقُ
وله أيضًا:
إذا زارَ الحبيبُ أثارَ شوقًا ... تفتَّتُ من حرارتهِ العِظامُ
وروَّاني بعينيهِ مُدامًا ... تدينُ بسُكرِ شاربها المُدامُ
فوصلٌ يُكسبُ المُشتاقَ سُقمًا ... ونأيٌ لا يقومُ لهُ قِوامُ
1 / 10
فهلْ يصلُ السَّقيمُ إلى شفاءٍ ... إذا كانَ الدَّواءُ هوَ السَّقامُ
وله أيضًا:
أغريْتَني بحياتي إذ غريتَ بها ... فصارَ طولُ بقائي بعضَ أعدائي
فكيفَ يُنعشُ من أرداهُ ناعشهُ ... ومن يرى جسمهُ رأيَ الأطبَّاءِ
أمْ كيفَ يبرأُ قلبي من صبابتهِ ... بطبِّكمْ ودوائي عندكمْ دائي
وله أيضًا:
متى يا شفاءَ السُّقمِ سُقميَ مُنقضي ... إذا ما دواءٌ كانَ للدَّاءِ مُمرضي
فهيهاتَ ما هذا علَى ذا يقلع ... أجلْ لا ولكن مدَّةُ العمرِ تنقضي
وقال آخر:
ومُختلسٍ باللَّحظِ ما لا ينالهُ ... قريبٍ بحالِ النَّازحِ المُتباعدِ
وفي نظرِ الصَّادي إلى الماء حسرةٌ ... إذا كانَ ممنوعًا سبيلَ المواردِ
وقال آخر:
خليليَّ أضحتْ حاجةٌ لأخيكُما ... بتوضحَ والحاجاتُ يُرجى بعيدُها
فكيفَ طِلابي حاجةً لا ينالُها ... بريدي ولا يجري إليَّ بريدُها
فهل ينفعُ الحرَّانةَ الكبدِ أن ترى ... حياضَ القِرى من دونها من يذودها
وهلْ ينفعُ العينَ الشَّقيَّةَ بالبُكا ... ذُرى طامسِ الأعلامِ لا بلْ يزيدها
وقال مجنون بني عامر:
تداويتُ من ليلى بليلى من الهوَى ... كما يتداوى شاربُ الخمرِ بالخمرِ
ألا زعمَتْ ليلى بأنْ لا أُحبُّها ... بلى واللَّيالي العشرِ والشَّفعِ والوترِ
إذا ذُكرتْ يرتاحُ قلبي لِذكرها ... كما انتفضَ العُصفورُ من بللِ القطرِ
وقال البحتري:
سقى الله أخلاقًا من الدَّهر رطبةً ... سقتْنا الجوى إذ أبرقُ الحزنِ أبرقُ
ليالٍ سرقناها من اللَّهوِ بعدما ... أضاءَ بإصباحٍ من الشَّيبِ مفرقُ
تداويتُ من ليلى بليلى فما اشتفى ... بماءِ الرُّبى من باتَ بالماءِ يشرَقُ
وقال جميل:
فيا حُسنها إذ يغسلُ الدَّمعُ كُحلها ... وإذ هيَ تُذري الدَّمعَ منها الأناملُ
عشيَّةَ قالتْ في العتابِ قتلْتني ... وقتلي بما قالت هناكَ تُحاولُ
فقلتُ لها جودي فقالتْ مُجيبةً ... ألِلْجدِّ هذا منكَ أمْ أنتَ هازلُ
لقدْ جعلُ اللَّيلُ القصيرُ لنا بكمْ ... عليَّ لِروعاتِ الهوَى يتطاولُ
والأصل في هذا كله هو لامرئ القيس:
وما ذرفتْ عيناكِ إلاَّ لتضْربي ... بسهميكِ في أعشارِ قلبٍ مُقتَّل
وقال بشار بن برد:
مريضةُ ما بينَ الجوانحِ بالضَّنى ... وفيها دواءٌ للعُيونِ وداءُ
عتابُ الفتَى في كلِّ يومٍ وليلةٍ ... وتقويمُ أضغانِ النِّساءِ عناءُ
وقال عبيد بني حسحاس:
تجمَّعنَ من شتَّى ثلاثًا وأربعا ... وواحدةً حتَّى كمُلنَ ثمانيا
يعُدنَ مريضًا هنَّ هيَّجنَ داءهُ ... ألا إنَّما بعضُ العوائدِ دائيا
وقال آخر:
كما تيقَّنتَ أنَّ الحيَّ قدْ رقدوا ... خطاكَ فوقَ رُقابِ النَّاسِ ما تجدُ
فلا بلغتَ الَّذي تشفي الغليلَ بهِ ... ولا ظفرتَ ولا نالتْ يديكَ يدُ
وقال آخر:
إنَّ الذينَ بخيرٍ كنتَ تذكُرهمْ ... همْ أهلَكوكَ وعنهمْ كنتُ أنهاكا
لا تطلُبنَّ حياةً عند غيرهم ... فليسَ يُحييكَ إلاَّ من توفَّاكا
فهذا البائس مع من قدَّمنا ذِكره مع نُظرائه قد صبر على مضاضة دائه مع علمه بأنه زائد في دائه ولم ير أن ينعطف إلى سواه ولا طلب الراحة إلاَّ من عند من ابتلاه وهذا ضدُّ الَّذي يقول:
ولمَّا أبى إلاَّ جِماحًا فُؤادهُ ... ولم يسلُ عن ليلى بمالٍ ولا أهل
تسلَّى بأخرى غيرها فإذا الَّتي ... تسلَّى بها تُغري بليلى ولا تُسلي
وضد الَّذي يقول:
تسلَّيتُ عن ذكرِ الحبيبِ بغيرهِ ... ومِلتُ إليهِ بالمودَّةِ والذِّكرِ
فما زادني إلاَّ اشتياقًا وحُرقةً ... إليهِ ولم أملكْ سُلوِّي ولا صبري
وما الحبُّ إلاَّ فرحةٌ إن نكلْتها ... بأخرى قرنتَ الضُّرَّ منكَ إلى الضُّرِّ
فلا تُطفِ نارَ الحبِّ بالحبِّ طالبًا ... سُلوًّا فإنَّ الجمرَ يُسعرُ بالجمرِ
1 / 11
وهذا وإن كان مخالفًا لذلك في أنَّه جرب الأدوية على نفسه والتمس الراحة في إلفٍ غير إلفه فإنه موافق للذي يقدمه في التماسه من نحو الجهة الَّتي حدث عنها الدَّاء في رجوع نفسه إلى وطنها وإقبالها بعد الانحراف على سكنها.
وقال عبيد الراعي:
بني ولو نسى قدْ سئمنا جواركمْ ... وما جمعتنا نيَّةٌ قبلها معا
خليلانِ منْ شعبينِ شتَّى تجاورا ... قليلًا وكُنَّا بالتَّفرُّقِ أمتعا
أرى آلَ هندٍ لا يُبالي أميرهمْ ... علَى كبدِ المحزونِ أنْ تقطَّعا
وقال علي بن الجهم:
عيونُ المها بينَ الرّصافةِ والجسرِ ... جلبنَ الهوَى من حيثُ أدري ولا أدري
أعدْنَ لي الشَّوقَ القديمَ ولم أكنْ ... سلوتُ ولكن زِدْنَ جمرًا علَى جمرِ
وقُلنَ لنا نحنُ الأهلَّةُ إنَّما ... تُضيءُ لمنْ يسري بليلٍ ولا تقري
فلا نيلَ إلاَّ ما تزوَّدَ ناظرٌ ... ولا وصلَ إلاَّ بالخيالِ الَّذي يسري
وقال آخر:
وقالُوا لها هذا حبيبكِ مُعرضًا ... فقالتْ ألا إعراضهُ أيسرُ الخطبِ
فما هوَ إلاَّ نظرةٌ بتبسمٍ ... فتصطكُّ رِجلاهُ ويسقطَ للجنبِ
وقال أبو صخر الهذلي:
وإنِّي لآتيها وفي النَّفسِ هجرُها ... بَياتًا لأُخرَى الدَّهرَ ما طلعَ الفجرُ
فما هو إلاَّ أنْ أراها فُجاءةً ... فأبهتَ لا عُرفٌ لديَّ ولا نُكرُ
وأنسَى الَّذي قدْ جئتُ كيْما أقولهُ ... كما قدْ تُنسِّي لبَّ شاربِها الخمرُ
وقال آخر:
وكيفَ يحبُّ القلبُ منْ لا يحبُّهُ ... بلَى قدْ تُريدُ النَّفسُ مَنْ لا يُريدُها
وكنتُ إذا ما زرتُ ليلَى بأرضِها ... أرى الأرضَ تُطوَى لي ويدنُو بعيدُها
تحلَّلُ أحقادِي إذا ما لقيتُها ... وتنْمِي بلا جرمٍ عليَّ حقودُها
أما قول تحلَّل أحقادي إذا ما لقيتها فهو كلام صحيح ولو أبدل اسم الحقد بغيرها كان أحسن لأنَّ الحقد لا يتولَّد إلاَّ عن موجدة فتخفى في النفس ويظهر غيرها ويرصد صاحبها بالمكافأة عنها وهذا كلُّه محال بين المتحابين بين باب الجد والهزل جميعًا وقد ذكر الله تعالى جلَّ ثناؤه في باب محبَّته للمؤمنين دليلًا على ما قلناه وذلك قوله ﷿:) وقالتِ اليهودُ والنَّصارى نحنُ أبناءُ اللهِ وأحبَّاؤهُ قلْ فلمَ يعذِّبكمْ بذنوبكمْ بلْ أنتمْ بشرٌ ممَّن خلقَ يغفرُ لمنْ يشاء ويعذِّبُ مَنْ يشاء (فجعل جلَّ ثناؤه مكافأتهم بالمعاقبة على ذنوبهم دليلًا على تكذيب دعواهم ونحو ذلك قوله تعالى:) قلْ إنْ كنتمْ تحبُّونَ اللهَ فاتَّبعوني يُجيبُكمُ اللهُ ويغفرْ لكمْ ذنوبكمْ (فضمَّ جلَّ وعزَّ الذُّنوب إلى المحبَّة غير أن من أحسن في بيتين وقصَّر في بيت كان محسنًا معفيًّا على إساءته وأما قوله وتنمي بلا جرمٍ عليَّ حقودها فتعتورُه معانٍ أحدها أن يكون ضنُّه بودِّها دعاه إلى سوء الظنّ بها فنسبها أنَّها تضمر له حقدًا ويمكن أن يكون عرف من خلائقها ما هو مغيَّب عنَّا.
الباب الرابع
ليس بلبيبٍ من لم يصف ما به لطبيبٍ
قال أنو شروان لبزرجمهر متى يكون العييُّ بليغًا فقال إذا وصف هوًى أو حبيبًا وقيل لبعض أهل هذا العصر متى يكون البليغ عييًّا فقال إذا سئل عمَّا يتمنَّاه أو شكا ما به إلى من يهواه وقال:
ما يعلمُ الله أنِّي مذْ هويتكمُ ... أطيقُ إظهارَ ما ألقاهُ باللَّفظِ
كمْ قدْ تحفَّظتهُ حتَّى إذا نظرتْ ... عينِي إليكِ أزالتْ هَيْبتي حِفظِي
وقال بعض الأدباء في مثل ذلك:
أُفكِّرُ ما أقولُ إذا الْتقينا ... وأُحكمُ دائبًا حُججَ المقالِ
فترتعدُ الفرائصُ حينَ تبدُو ... وأنطقُ حينَ أنطقُ بالمحالِ
وقال آخر:
أتيتُ معَ الحدَّاثِ ليلَى فلمْ أقلْ ... وأخليتُ فاستعجمتُ عندَ خلائِي
وجئتُ فلمْ أنطقْ وعدتُ فلمْ أحِرْ ... جوابًا كلاَ اليومينِ يومُ عنائِي
فيا عجبًا ما أشبهَ اليأْسَ بالغِنَى ... وإنْ لمْ يكونا عندنا بسواءِ
وهذا المعنى الَّذي ذكره ليس بمستنكر قد تمنع المحبّ هيبة المحبوب من النيل الَّذي هو اللُّطف من الشَّكوى محلًا في القلوب ألم تسمع الَّذي يقول:
محبٌّ قالَ مُكتتمًا مُناهُ ... وأسعدهُ الحبيبُ علَى هواهُ
1 / 12
أضاعَ الخوفُ أنفسَ ما يُعانِي ... وما عذرَ المُضيعَ لما عَناهُ
فأصبحَ لا يلومُ بما جناهُ ... منَ التَّفريطِ إنسانًا سواهُ
أسرَّ ندامةَ الكُسَعيِّ لمَّا ... رأتْ عيناهُ ما صنعتْ يداهُ
وأنشدني أبو العباس أحمد بن يحيى:
وإنِّي لأخشَى أنْ أموتَ فُجاءةً ... وفي النَّفسِ حاجاتٌ إليكِ كمَا هيَا
وإنِّي ليُنْسيني لقاؤكِ كلَّما ... لقيتكِ يومًا أنِي أبثَّكِ ما بيَا
وقالُوا بهِ داءٌ عياءٌ أصابهُ ... وقدْ علمتْ نفسِي مكانَ دوائيَا
فهذا يخبرُ أنَّ لقاءها هو الَّذي يمنعهُ من شكوى ما يجده إلاَّ أنَّه يشفق من ضرره على نفسه ولا يُبقي بكتمانه على غيره على أنَّه قد قصَّر عنه كثير من أهل هذا العلم في قوله: إنَّ لقاءها يحدث في قلبه حالًا لم تكن قبل ذلك ظاهرة من نفسه إذ لو كان الهوَى قد استوفى منه حقَّه وتناهى به إلى غاية بعده لما كان اللقاء يزيد شيئًا ولا ينقصه.
كما قال يزيد بن الطثرية:
ولمَّا تناهَى الحبُّ في القلبِ واردًا ... أقامَ وسُدَّتْ بعدُ عنهُ مصادرهْ
فأيُّ طبيبٍ يُبرئُ الحبَّ بعدَما ... يسرُّ بهِ بطنُ الفؤادِ وظاهرهْ
وكما قال ذو الرمة:
ومَا زلتُ أطوي الشَّوقَ عنْ أمِّ خالدٍ ... وجاراتِها حتَّى كأنْ لا أُريدُها
فما زالَ يَنمِي حبُّ ميَّة عندنا ... ويزدادُ حتَّى لمْ نجدْ ما نزيدُها
ولقد أحسن حبيب بن أوس الطائي حيث يقول:
إذا أزهدَتْني في الهوَى خِيفةُ الرَّدى ... جلتْ ليَ عنْ وجهٍ يُزهِّدُ في الزُّهدِ
فلا دمعَ ما لمْ يبدُ في إثرهِ دمٌ ... ولا وجدَ ما لمْ تعيَ عنْ صفةِ الوجدِ
وأحسن علي بن محمد العلوي الكوفي حيث يقول:
قالتْ عَييتَ عنِ الشَّكوى فقلتُ لها ... جهدُ الشَّكايةِ أنْ أعيَا عنِ الكلمِ
أشكُو إلى اللهِ قلبًا لو كَحلتُ بهِ ... عينيكِ لاختضبتْ منْ حرِّهِ بدمِ
لا تُبرِمي فاقدَ الدُّنيا وبهجتَها ... وما يسرُّ بهِ منها بلا ولَمِ
على أنَّه من طلب لآدميٍّ مثله بما لم يطالب الله عباده فأخلق بأن يكون ظالمًا وقد مدح الله ﵎ قومًا فقال:) الذين إذا ذُكر اللهُ وجلتْ قلوبهمْ وإذا تُليتْ عليهمْ آياتهُ زادتهمْ إيمانًا (فلم يعبهم تعالى بأن كان ذكره بحضرتهم وظهرًا عليهم ما لم يمكن قبل موجودًا منهم ومن أحسن ما قيل وأعرفُ من الشِّعر في هذا المعنى:
تفديكِ نفسِي لستُ أدرِي أيُّما ... أيَّامكمْ مِن أيِّها أشجاهَا
في حبِّكمْ شغلٌ لقلبِي شاغلٌ ... عن كلِّ نائبةٍ يخافَ رَداها
ومن جيد ما قيل في نحو الفصل الأول:
جعلتُكَ دنيائِي فإنْ أنتَ لم تجُدْ ... عليَّ بوصلٍ فالسَّلامُ علَى الدُّنيا
كتمتُكَ ما ألقَى لأنَّكَ مُهجتي ... أخافُ عليها أنْ تذوبَ منَ الشَّكوَى
ولبعض أهل هذا الزَّمان في هذا المعنى:
بحُرمةِ هذا الشَّهرِ لما نعَّشتَني ... بعفوكَ إنِّي قدْ عجزتُ عنِ العذرِ
فلوْ كنتَ تدرِي ما أُلاقِي منَ الهوَى ... لساءَكَ ما ألقَى فليتكَ لا تدرِي
لأشقَى بما ألقَى وتبقَى منعَّمًا ... خليًّا ونارُ الشَّوقِ تُسعرُ في صدرِي
وأنشدني أبو العباس أحمد بن يحيى عن الزبير بن بكار عن ثابت بن الزبير عن أبي العتاهية:
مَنْ لعبدٍ أذلَّهُ مولاهُ ... ما لهُ شافعٍ إليهِ سواهُ
يشتكي ما بهِ إليهِ ويخشَا ... هُ ويرجوهُ مثلَ ما يخشاهُ
وهذه حال منقوضة لأنَّ من منعه من شكوى ما يلقاه إشفاقه من موجدة من يهواه فإنما أبقى على نفسه ومن امتنع من ذلك إشفاقًا على قلب صاحبه فقد اعترض على وجده التَّصنُّع إذ فعل ما يقدر على تركه.
وقال آخر:
الجسمُ ينقصُ والسَّقامُ يزيدُ ... والدَّارُ دانيةٌ وأنتَ بعيدُ
أشكوكَ أمْ أشكُو إليكَ فإنَّهُ ... لا يستطيعُ سواهُما المجهودُ
وقال الحسن بن هانئ:
لا والَّذي لا إلهَ إلاَّ هوَ ... ما خانَ أحبابُنا وما تاهُوا
ما علمُوا بالَّذي يجنُّ لهمْ ... منْ طولِ شوقٍ ولا درَوْا ما هوَ
وللفتح بن خاقان:
1 / 13
قدرتُ علَى نفسِي فأزمعتَ قتلَها ... علَى غيرِ جدٍّ منكَ والنَّفسُ تذهبُ
كعصفورةٍ في كفِّ طفلٍ يسومُها ... ورودَ حياضِ الموتِ والطِّفلُ يلعبُ
وقال الحسين بن الضحاك:
أيَا مَنْ طرفهُ سحرُ ويَا مَن ريقهُ خمرُ ... تجاسرتُ فكاشفتُكَ لمَّا غلبَ الصَّبرُ
وما أحسنَ في مثلكَ إنْ ينهتكَ السِّترُ ... فإنْ عنَّفنِي النَّاسُ ففي وجهكَ لي عُذرُ
وقال أيضًا:
إنَّ منْ أطولِ ليلٍ أمدًا ... ليلَ مشتاقٍ تَصابَى فكتمْ
ربَّ فظِّ القلبِ لا لِينَ لهُ ... لوْ رأَى ما بكَ منهُ لرحمْ
وقال أيضًا:
أُكاتمُ وجدِي وما ينكتمْ ... فمنْ لوْ شُكيتُ إليهِ رحِمْ
وإنِّي علَى حسنِ ظنِّي بهِ ... لأحذرُ إنْ بُحتُ أنْ يحتشمْ
وقدْ علمَ النَّاسُ أنِّي لهُ ... محبٌّ وأحسبهُ قدْ علمْ
ولِي عندَ رؤيتهِ نظرةٌ ... تُحقِّقُ ما ظنَّهُ المتَّهمْ
وقال المجنون:
فأنتَ الَّذي إنْ شئتَ أشقيتَ عيشِي ... وإنْ شئتَ بعدَ اللهِ أنعمتَ لياليَا
وأنتَ الَّذي ما مِنْ صديقٍ ولا عِدا ... رأَى نِضوَ ما أبقيتَ إلاَّ رثَا ليَا
وقال أبو نواس:
قالتْ ظَلومُ سَميَّةُ الظُّلمِ ... ما لِي رأيتكَ ناحلَ الجسمِ
يا مَنْ رمَى قلبِي فأقصدَهُ ... أنتَ الخبيرُ بموقعِ السَّهمِ
وقال أبو تمام:
واللهِ لوْ تلقَى الَّذي ألقَى ... لحرجتَ أنْ تتجاوزَ الحقَّا
بي فوقَ ما تلقَى بواحِدِها ... أمٌّ تراهُ لجنبهِ مُلقَى
وقال أبو صخر الهذلي:
بيدِ الَّذي شغفَ الفؤادَ بكمْ ... تفريجُ ما ألقَى منَ الهمِّ
ما في الحياةِ إذا هيبت لنا ... خيرٌ ولا للعيشِ مِن طعمِ
ولمَا بقيتِ لَتُبقينَّ جوًى ... بينَ الجوانحِ مُضرِعًا جسمي
فتيقَّنِي أنْ قدْ كلفتُ بكمْ ... ثمَّ اصنَعِي ما شئتِ عن علمِ
وقال خليفة بن روح الأسدي:
قِفي يا أُميمَ القلبِ نقرأ تحيَّةً ... ونشكو الهوَى ثمَّ اصنعي ما بدَا لكِ
فلوْ قلتِ طَأْ في النَّارِ أعلمُ أنَّه ... هوًى لكِ أو مُدنٍ لنا مِن وصالكِ
لقدَّمتُ رِجلي نحوَها فوطئْتُها ... هُدًى منكِ لي أو هفوةً مِن ضلالكِ
فلا تجْعَلِيني كامرئٍ إنْ وصلتهِ ... أشاعَ وإنْ صرَّمتهِ لمْ يُبالكِ
وأنشدني ابن أبي طاهر:
قالتْ لقيتَ الَّذي لمْ يلقهُ أحدٌ ... قلتُ الدَّليلُ علَى ذاكَ الَّذي أجدُ
أودَعْتِني سقمًا لا أستقلُّ بهِ ... فليسَ ينفدُ حتَّى ينفدَ الأبدُ
وقال مضرس بن بطر الهلالي:
وكادتْ بلادُ اللهِ يا أمَّ مالكٍ ... بما رحُبتْ يومًا عليَّ تضيقُ
أذودُ سوادَ الطَّرفِ عنكِ وما لهُ ... إلى أحدٍ إلاَّ إليكِ طريقُ
ولوْ تعلَمينَ العلمَ أيقنتِ أنَّني ... وربِّ الهدايا المُشعَراتِ صديقُ
سلِي هلْ قلانِي مِن عشيرٍ صحِبتهُ ... وهلْ ذمَّ رَحْلي في الرِّفاقِ رفيقُ
وأنشدني آخر:
أمسيتُ لَعَّابًا وأمسَى الهوَى ... يلعبُ في رُوحي وجثمانِي
أُشفقُ إنْ بُحنا وإنْ لمْ أبحْ ... فالموتُ في سرِّي وإعلانِي
وأنشدني أبو الضياء لنفسه:
أُنظرْ إلى ناظرٍ قدْ شفَّهُ السّهدُ ... واعطفْ علَى مهجةٍ أودَى بها الكمدُ
لا ذقتَ ما ذاقهُ مَن أنتَ مالكهُ ... ولا وجدتَ بهِ مثلَ الَّذي يجدُ
أخفَى هواكَ فنمَّتهُ مدامعهُ ... والعينُ تُعربُ عمَّا ضمَّتِ الكبدُ
فإنْ جحدتَ الَّذي قاساهُ بينهما ... فشاهداهُ عليكَ الخدُّ والجسدُ
وقال أبو المنهال الأشجعي:
يا أُمَّ عمروٍ وخيرُ القولِ أصدقهُ ... أوْفي وأنتِ منَ المُوفينَ بالذِّممِ
أوْفِي وفاءَ كريمٍ ذِي محافظةٍ ... وإنْ أبَيتِ تقاضيْنَا إلى حكمِ
عدلٍ منَ النَّاسِ يُرضِي حينَ يبلغهُ ... أنْ كانَ حبلكِ أمسَى واهيَ الرِّممِ
فأعرَضَتْ ثمَّ قالتْ وهيَ لاهيةٌ ... بعدَ التَّغضُّبِ قولَ المؤسفِ الأطِمِ
إنْ تدعُ لي حكَمًا عدلًا أُحكِّمهُ ... أنطِقْ لديهِ بلا عيٍّ ولا بكَمِ
1 / 14
منِّي بأرضكِ شجوٌ لستُ ناسيهِ ... لوْ بالحجازِ هوَى أيَّامكِ القدُمِ
وكتب عبد الله بن الدمينة إلى أمامة:
وأنتِ الَّتي كلَّفتِني دلَجَ السُّرَى ... وجونُ القطَا بالجَلْهتينِ جثومُ
وأنتِ الَّتي قطَّعتِ قلبِي حزازةً ... وفرَّقتِ قرحَ القلبِ فهوَ كليمُ
وأنتِ الَّتي أحفظتِ قومِي فكلُّهمْ ... بعيدُ الرِّضا دانِي الصُّدودِ كتومُ
وكتبت إليه:
وأنتَ الَّذي أخلفْتَني ما وعدْتَنِي ... وأشمتَّ بِي مَن كانَ فيكَ يلومُ
وأبرزْتَنِي للنَّاسِ ثمَّ تركْتَنِي ... لهمْ غرَضًا أُرمَى وأنتَ سليمُ
فلوْ أنَّ قولًا يكلِمُ الجسمَ قدْ بدا ... بجسميَ مِنْ قولِ الوُشاةِ كلومُ
وكتب بعض أهل الأدب إلى أخ له من أهل هذا العصر:
سيِّدي أنتَ قدْ أسأْتَ بقولِي ... سيِّدي أنتَ فارضَ عبدَكَ عبْدا
لا تلقَّى الدُّعاءَ منِّي بنكرٍ ... فتُرى قاتلًا لنفسيَ عمدَا
فأجابه:
أنا بالرِّقِّ في الهوَى منكَ أولَى ... وأرَى ذاكَ يشهدُ اللهُ مجدَا
علمَ اللهُ أنَّني منكَ راضٍ ... أنْ ترانِي لعيدِ عبدِكَ عبدَا
وقال آخر:
يا مُوقدَ النَّارِ إلهابًا علَى كبدِي ... إليكَ أشكُو الَّذي بِي لا إلى أحدِ
إليكَ أشكُو الَّذي بِي مِن هواكَ فقدْ ... طلبتُ غيركَ للشَّكوَى فلم أجِدِ
وقال بعض الأعراب:
إذا لمتَها قالتْ عديمٌ وإنَّما ... صمتَّ فما جرَّبتَ جُودًا ولا بخلا
بلَى قلتُ هلْ ثمَّ انصرفتْ ولمْ تعدْ ... فتستنكِرَ الإعراضَ أوْ تعرفَ البذْلا
أمَّا هذه فقد قرعت صاحبها على تركه تقاضيها تقريعًا يُغري المغترّين بشكوى كل ما يجدونه وبالإلحاح على من يودُّونه في المطالبة بجميع ما يريدونه وهذه حال من تحكَّم على مواردها تحكَّمت عليه مصادرها فيندم حيث لا تنفعه الندامة وهرب إلى حيث لا تنفعه السلامة وكيف يتهيَّأ للنَّادم على إظهار ما في ضميره أن يخفيه بعد إظهاره وقد كان جديرًا أن يظهر منه بغلبات الحال في وقت حرصه على أسراره والمحبوب كثيرًا ما يُطمع محبُّه في نفسه هذا الإطماع أو نحوه ليطَّلع على حقيقة ما في ضميره وقلبه فإذا وثق بصحَّة الملك زالت عنه دواعي الشك فتراخى حينئذ عن الاستعطاف تراخي المالكين وحصلت للنَّاسي المُظهر ما في ضميره ذلَّة المملوكين ولم أجد فيما جريت إليه في هذا الفصل بأرزأ مني على من أظهر إلفه على ما يجد من المحبَّة وإنَّما جريت إلى عيب من يدعوه إلى إظهار ما في نفسه رجاء النَّوال من صاحبه ولعمري لقد قال حبيب بن أوس في هذا الباب ما يقرب من جهة الصواب وهو قوله:
يا سقيمَ الجفونِ غيرَ سقيمِ ... ومريبَ الألحاظِ غيرَ مريبِ
إنَّ قلبي لكمْ لكالكبدِ الحرَّ ... ى وقلبي لغيركمْ كالقلوبِ
لستُ أُدلي بحرمةٍ مستزيدًا ... في ودادٍ منكمْ ولا في نصيبِ
غيرَ أنَّ العليلَ ليس بمذمو ... مٍ علَى شرحِ ما بهِ للطَّبيبِ
لوْ رأيْنَا التَّوكيدَ خطَّةَ عجزٍ ... ما شفعْنا الأذانَ بالتَّثويبِ
وهذا الَّذي وصف أيضًا من الحال غير مستوعب لحد الكمال وذلك أن الكامل في حاله هو الَّذي كان غرضه في إظهار إلفه على كل ما يُلقى به أن يجعله مشاركًا له في علم ضمائره ومتحكِّمًا معه لا بل عليه في سرائره فلا يتحكَّم هو حينئذ على خليله في أمرٍ ولا يستظهر عليه بسرٍّ وكلُّ من زال عن هذه الحال فزائلٌ عن مرتبة الكمال.
الباب الخامس
إذا صحَّ الظفَرُ وقعتِ الغِيَرُ
أشعار هذا الباب من أولها إلى آخرها مضادَّة للأشعار الَّتي قبلها لأنَّ في أشعار الباب الماضي تحريضًا للمحبِّ على إظهار محبوبه على ما له في نفسه ولومًا لمن كتم عن صاحبه ما يجده به وما يلقاه بسببه وأشعار هذا الباب إنَّما هي تحريض على الكتمان وتحذير من الإعلان والعلَّة في هذا ما قدَّمنا ذكره من أنَّ المحبوب يستعطف محبَّه ليشرف على حقيقة ما في قلبه وليتمكَّن أيضًا هواه من نفسه فإذا وقع له اليقين استغنى عن التعرُّف وإذا حصل له الودُّ استغنى عن التَّألُّف فحينئذ يقع الغضب عن غير ذنب والإعراض من غير وجدٍ لسكون القلب الواثق واستظهار المعشوق على العاشق.
1 / 15
قال بشار بن برد:
أبكِي الَّذي أذاقُونِي مودَّتهمْ ... حتَّى إذا أيقَظُونِي للهوَى رقَدُوا
واسْتنهَضُوني فلمَّا قمتُ منتصبًا ... بثقلِ ما حمَّلونِي ودَّهمْ قعدُوا
لأخرجنَّ من الدُّنيا وحبُّكمُ ... بينَ الجوانحِ لمْ يشعرْ بهِ أحدُ
ألقيتُ بينِي وبينَ الحزنِ معرفةً ... لا تنقضِي أبدًا أوْ ينقضِي الأبدُ
وقال طلحة بن أبي بكر:
لا تُظهرنَّ مودَّةً لحبيبِ ... فترَى بعينيكَ منهُ كلَّ عجيبِ
أظهرتُ يومًا للحبيبِ مودَّتِي ... فأخذتُ منْ هجرانهِ بنصيبِ
وقال جميل بن معمر:
إذا قلتُ ما بِي يا بثينةُ قاتلِي ... منَ الحبِّ قالتْ ثابتٌ ويزيدُ
وإنْ قلتُ رُدِّي بعضَ عقلِي أعِشْ بهِ ... معَ النَّاسِ قالتْ ذاكَ منكَ بعيدُ
فلا أنا مردودٌ بما جئتُ طالبًا ... ولا حبُّها فيما يبيدُ يَبيدُ
إذا فكَّرتْ قالتْ قدْ أدركتُ ودَّهُ ... وما ضرَّني بُخلِي ففيمَ أجودُ
يموتُ الهوَى منِّي إذا ما لقيتُها ... ويحيَى إذا فارقتُها فيعودُ
وقال ذو الرمة:
ولمَّا شكوتُ الحبَّ كيْما تُثيبَنِي ... بوجدِي قالتْ إنَّما أنتَ تمزحُ
دلالًا وإبعادًا عليَّ وقد أرَى ... ضميرَ الحشَى قدْ كادَ بالقلبِ ينزحُ
وقال آخر:
ولمَّا شكوتُ الحبَّ قالتْ أمَا ترَى ... مكانَ الثُّريَّا وهو منكَ بعيدُ
فقلتُ لها إنَّ الثُّريَّا وإنْ نأتْ ... يصوبُ مرارًا نوْؤُها فيجودُ
وأنشدتني أم حمادة الهمدانية:
شكوتُ إليها الحبَّ قالتْ كَذَبْتني ... ألستُ أرَى الأجلادَ منكَ كواسِيا
رُويدكَ حتَّى يبتلِي الشَّوقُ والهوَى ... عظامكَ حتَّى يرتجعنَ بَوادِيا
ويأخذكَ الوسواسُ مِنْ لوعةِ الهوَى ... وتخرسَ حتَّى لا تُجيبُ المنادِيا
وقال آخر:
أحينَ ملكْتِنِي أعرضتِ عنِّي ... كأنّي قد قتلتُ لكمْ قتيلا
فهلاَّ إذ هممتِ بصرمِ حبلِي ... جعلتِ إلى التَّصبُّرِ لي سبيلا
وقال آخر:
أطعَمَتْني فقلتُ أخذًا بكفِّي ... ثمَّ عادتْ مِنْ بعدِ ذاكَ بخُلفِ
زعمتْ أنَّها تريدُ عفافًا ... قلتُ ردِّي عليَّ قلبِي وعفِّي
وقال العباس بن الأحنف:
يا ويحَ مَن ختلَ الأحبَّةَ قلبهُ ... حتَّى إذا ظفِروا بهِ قتلوهُ
عزُّوا ومالَ بهِ الهوَى فأذلَّهُ ... إنَّ العزيزَ علَى الذَّليلِ يتيهُ
أُنظرْ إلى جسدٍ أضرَّ به الهوَى ... لولا تقلُّبُ طرفهِ دفنوهُ
مَنْ كانَ خِلوًا مِنْ تباريحِ الهوَى ... فأنا الهوَى وحليفهُ وأخوهُ
وقال أيضًا:
أحرَمُ منكمْ بما أقولُ وقدْ ... نالَ بهِ العاشقونَ ما عشِقُوا
صرتُ كأنِّي ذُبالةٌ نُصبتْ ... تُضيءُ للنَّاسِ وهيَ تحترقُ
وأنشدنا أحمد بن يحيى الشيباني:
وما أنصفتْ ذَلفاءُ أمَّا دنوُّها ... فهجرٌ وأمَّا نأْيُها فيشوقُ
تباعدُ ممَّنْ واصلتْ وكأنَّها ... لآخرَ ممَّنْ لا تودُّ صديقُ
وقال آخر:
وما أنصفتْ أمَّا النِّساءُ فبغَّضتْ ... إلينا وأمَّا بالنَّوالِ فضنَّتِ
دعتْنِي بأسبابَ الهوَى فاتَّبعتُها ... حنينًا فلمَّا أقصدَتْنِي تولَّتِ
وقال المجنون:
أأدْنَيْتِني حتَّى إذا ما ملكتِنِي ... بقولٍ يُحلُّ العُصْمَ سهلَ الأباطحِ
تجافيتِ عنِّي حينَ لا لي حيلةٌ ... وخلَّفتِ ما خلَّفتِ بينَ الجوانحِ
وقال آخر:
دنتْ فعلَ ذِي ودٍّ فلمَّا تبعتُها ... تولَّتْ وأبقتْ حاجتِي في فؤادِيا
فإنْ قلتمُ إنَّا ظَلمنْا فلمْ نكنْ ... ظَلمنَا ولكنَّا أسأْنا التَّقاضيا
وقال ذو الرمة:
وتهجرهُ إلاَّ اختلاسًا نهارَها ... وكمْ منْ محبٍّ رهبةَ العينِ هاجرِ
إذا خشِيتْ منهُ الصَّريمةُ أبرقتْ ... له برقَةً من خلَّبٍ غيرِ ماطرِ
وقال المجنون:
لعمرُ أبيهَا إنَّها لبخيلةٌ ... ومِنْ قولِ واشٍ إنَّها لغضوبُ
رَمَتْني عنْ قوسِ العداوةِ إنَّها ... إذا ما رأتْنِي مُعرضًا لخلُوبُ
وقال أبو ذهيل:
1 / 16
أبعدَ الَّذي قدْ لجَّ تتَّخذيننِي ... عدوًّا وقدْ جرَّعتنِي السُّمَّ مُنْقعا
وشفَّعتِ مَن ينعَى عليَّ ولمْ أكنْ ... لأُرجعَ من ينعَى عليكِ مُشفَّعا
فقالتْ وما همَّتْ برجعِ جوابِنا ... بلْ أنتَ أبيتَ الدَّهرَ إلاَّ تضرُّعا
فقلتُ لها ما كنتُ أوَّلَ ذِي هوًى ... تحمَّلَ حِملًا فادحًا فتوجَّعا
وقال آخر:
وقالتْ وصدَّتْ وجهَها لتغيظَنِي ... أبِالصَّدِّ تُجزَى أمْ علَى الذَّنبِ توصلُ
فقلتُ متى أذنبتُ قالتْ تريدهُ ... فقلتُ فلمْ أفعل فقالتْ ستفعلُ
فقلتُ وهلْ أُجزَى بذنبٍ لمْ آتهِ ... ولكنْ ظفرتمْ بالمحبِّينَ فاقْتُلوا
وقال آخر:
شكوتُ فقالتْ كلُّ هذا تبرُّمًا ... بحبِّي أراحَ اللهُ قلبكَ مِن حبِّي
فلمَّا كتمتُ الحبَّ قالتْ لشدَّ مَا ... صبرتَ وما هذا بفعلِ شَجِي القلبِ
فشكوايَ تُؤذيها وعَتْبي يسوؤُها ... وتغضبُ مِن بعدِي وتنفرُ مِن قربِي
فيا قومِ هلْ منْ حيلةٍ تعرِفونَها ... أشِيروا بِها واستوجبُوا الأجرَ في الصَّبِّ
وأنشدني أعرابي بنجد:
ذكرتكِ إذا نامَ الخليُّ ولمْ أنمْ ... وإذْ أنتِ في شغلٍ بلهوكِ عنْ ذكرِي
وإذْ أنتِ تثنينَ الكَعابَ بقصرهِ ... وقلبِي لهُ لذعٌ أحرُّ منَ الجمرِ
فإنْ أنا لمْ أشكُو الهوَى قلتِ قدْ صحَا ... وإنْ بحتُ فيهِ خفتِ أنْ يعلَمُوا أمرِي
وليسَ خليلِي بالمُرجَّى ولا الَّذي ... إذا غبتُ عنهُ كانَ عونًا علَى الدَّهرِ
ولكنْ خليلِي مَن يصونُ مودَّتِي ... ويحفظُنِي إنْ كانَ مِن دونِ البحرِ
وأنشدني أحمد بن طاهر لنفسه:
ذهبتِ علَى صبٍّ شكَا ألمَ الهوَى ... كما ذهبتْ أرضٌ وَطئتِ ترابَها
وكانَ يُرجِّي نفعَ شكواهُ إذْ شكَا ... إليكِ فقدْ أمسَى يخافُ عقابَها
وقال المؤمل:
شكوتُ وجدِي إلى هندٍ فما اكترثتْ ... يا قلبَها أحديدٌ أنتَ أمْ حجرُ
إذا مرِضْنا أتيناكمْ نعودكمُ ... وتذنِبونَ فنأتيكمْ فنعتذرُ
وبلغني أنَّ عبد الملك بن مروان جلس يومًا للنظر في المظالم فرُفعت إليه قصةٌ منسوبة إلى عمرو بن حارث وكان فيها:
عَلِقتُ بأسبابِ المودَّةِ والهوَى ... فلمَّا حوتْ قلبِي ثنتْ بصدودِ
فلوْ شئتَ يا ذا العرشِ حينَ خلقْتَني ... شقِيًّا بمنْ أهواهُ غيرَ سعيدِ
عطفتْ عليَّ القلبَ منها برحمةٍ ... وإنْ كانَ قلبًا مِنْ صفًا وحديدِ
فقلْ يا أميرَ المؤمنينَ فإنَّما ... تُحكَّمُ والأحكامُ ذاتُ حدودِ
فلمَّا قرأها عبد الملك قلبها ثمَّ وقَّع في ظهرِها:
أرَى الجَورَ منها ظاهرًا يا ابنَ حارثٍ ... وما رأيُها فيما أتتْ برشيدِ
أمِنْ بعدِ ما صادتْ فؤادكَ واحتوت ... عليهِ ثنتْ وجهَ الهوَى بصدودِ
فإنْ هيَ لمْ ترحمْ بكاكَ ولا حنَتْ ... عليكَ فما منكَ الرَّدى ببعيدِ
سأَقضِي عليها أنْ تُجازِي بودِّها ... أخَا صبوةٍ جارتْ عليهِ وَدودِ
ولبعض أهل هذا العصر:
مَنْ لي بعطفِ أخٍ خلَّى الإخاءَ ورَا ... ظهرٍ ومِن ثمَّ مارَى الرُّوحَ في اللَّطَفِ
حتَّى يصيِّرَها إنْ خُيِّرتْ تلَفًا ... وفُرقةً منهُ لمْ تخترْ سوَى التَّلفِ
أغريتَ بيني وبينَ الدَّهرِ فاحتشدتْ ... بيَ الخطوبُ احتشادَ المُحنَقِ الأسِفِ
حتَّى إذا أنِسَتْ نفسِي بأنَّكَ لي ... واستعذبَتْ طيبَ ذاكَ المشربِ الأُنُفِ
أمْكنتَ منِّي اللَّيالي فانتصفنَ ومَنْ ... يُظلَمْ ويُمكنْ مِنَ الإنصافِ ينتصفِ
يا قلبُ وصفكَ يُغرِي مَن كلفتَ بهِ ... فاكْمِدْ بكتمانِ ما تلقَى ولا تصفِ
إنْ كنتَ لمْ تشجَ بالكتمانِ فاشجَ بهِ ... أوْ كنتَ لمْ تعترفْ بالصَّرمِ فاعترفِ
قلْ للَّيالي مَلَكتِ الحكمُ فاحتَكِمِي ... وللمصائبِ قدْ مُكِّنتِ فانتصفِي
وله أيضًا:
يا مُنيةَ القلبِ لوْ آمالهُ انفسحتْ ... وحظَّ نفسيَ مِنْ دينِي ودُنيائِي
قلْ لِي تناسيتَ أمْ أُنسيتَ أُلفَتَنا ... أيَّامَ رأْيكَ فينا غيرُ ذا الرَّائِي
1 / 17
كانتْ لقلبيَ أهواءٌ مفرَّقةٌ ... فاستجمعَتْ مُذْ رأتكَ العينُ أهوائِي
فصارَ يحسدُنِي مَن كنتُ أحسدهُ ... وصرتُ مولَى الورَى مذْ صِرتَ مولائِي
حتَّى إذا استيأَسَ الحسَّادُ مِن دَرَكي ... وقلَّ أعدائيَ مذْ قلَلَتْ أكْفائِي
حَمَيتَ طعمَ الكرَى عينيَّ فاهتجرا ... فصارَ طِيبُ الكرَى مِن بعضِ أعدائِي
مَن خانَ هانَ وقلبِي رائدٌ أبدًا ... مَيلًا إليكَ علَى هجرِي وإقصائِي
لا بدَّ لي منكَ فاصنعْ ما بدَا لكَ بي ... فقدْ قدرتَ علَى قتلِي وإحيائِي
وأنشدني محمد بن الخطاب:
علَّمتنِي الإصدارَ والإيرادا ... فارْفِقي بِي فقدْ ملكتِ القيادا
لا تقولِي إذا نأيتُ سلاَ عنَّ ... اوإن زُرتكمْ أرادَ البعادا
علِّميني الدُّنوَّ منكِ إذا شئ ... تِ وعنكِ البعادَ ألْقَ الرَّشادا
وقال الأعشى:
دارٌ لقاتلةِ الغُرانقِ ما بِها ... إلاَّ الوحوشُ خلتْ لهُ وخلا لَها
ظلَّتْ تُسائلُ بالمتيَّمِ أهلهُ ... وهيَ الَّتي فعلتْ بهِ أفعالَها
وقال عمر بن أبي ربيعة:
دارُ الَّتي صادتْ فؤادكَ إذْ رمتْ ... بالخَيفِ يومَ التفَّ أهلُ الموسمِ
فتجاهلتْ عمَّا بِنا ولقدْ رأتْ ... أنْ قدْ تخلَّلتِ الفؤادَ بأسهمِ
أرسلتُ جاريَتِي فقلتُ لها اذْهبِي ... فاشْكِي إليها ما لقيتُ وسلِّمِي
قولِي يقولُ تخوَّفِي في عاشقٍ ... صبٍّ بكمْ حتَّى المماتِ متيَّمِ
ويقولُ إنِّي قدْ علمتُ بأنَّكمْ ... أصبحتمُ يا بِشرُ أوجهَ ذِي دمِ
فتبسَّمتْ عُجبًا وقالتْ قولةً ... إلاَّ فيُعْلِمَنا بما لمْ نعلمِ
عهدِي بهِ واللهُ يغفرُ ذنبهُ ... فيمَا بدَا لِي هوًى متقسِّمِ
قالتْ لها بلْ قدْ أردتِ بعادَهُ ... لمَّا علمتِ فإنْ بذلتِ فتمِّمِي
فهذا التَّجنّي والمباعدة أمتع من الإقرار والمواصلة لأن الوصل المتقدم لوقوع العلم إن كان عن مودّة صادقة لم يزده العلم بحقيقة الحال إلاَّ توكيدًا وإن كان امتحانًا وتعرُّفًا لم تزده الثقة إلاَّ وفاء وتعطُّفًا وإن كان الَّذي تظهره الثقّة والإدلال نعمة لا يؤدى شكرها إذْ كان دليلًا على تمام الحال الَّتي قصدها ومنهم من يتظاهر عليه ثقلها فيضعف فؤاده عن حملها فتراه ينهى ويأمر بالكتمان ومن قنع بهذه الحال كان انتفاعه قليلًا وقلقه بتعرُّف حاله عند صاحبه طويلًا وليست تنال الرُّتب إلاَّ بالتَّجاسر ولا تصحّ العلى إلاَّ للمخاطر وربَّما نجَّت الجبان قناعته وأهلكت الشُّجاع جسارته بلغني أن فتًى من الأعراب يكنَّى امرء القيس هويَ فتاة من الحيّ فلمَّا وقفت على ما لها عنده هجرته فأشفى على التلف فلما بلغها ذلك جاءت فأخذت بعضادتي الباب وقالت كيف نجدك يا امرء القيس فأنشأ يقول:
دنتْ وظلالُ الموتِ بيني وبينها ... وأدلتْ بوصلٍ حينَ لا ينفعُ الوصلُ
ثمَّ لم يلبث إلاَّ يسيرًا حتَّى مات فمن غلب عليه الجبن من مثل هذه الحال مال إلى التستُّر والكتمان ومن طمع في مثل ما ذكرنا من حسن المجازاة بالعدل والوصال مال إلى الإعلان وبلوغ الغاية في الوجهين جميعًا شديد والتَّوسُّط أقرب إلى السَّلامة لأن من لم تعلمه بما تنطوي له لم تلذَّ بما يبدو لك من وصله والهجر الَّذي يتولَّد عن الثّقة بالوداد خير من الوصال الَّذي يقع من غير اعتماد ومن أطلعته على كل ما تضمره له لم تجد سبيلًا إلى مكافاته على ما يتجدد لذلك من إحسانه هذا إذا سلمت من الدَّالة المؤدية إلى التلف فخير الأمور لمن أطاقه أن يظهر بعضًا ويخفي بعضًا ثمَّ يظهر الازدياد حالًا فحالًا على أن الحال إذا استغرقت صاحبها كان استعمال الاختيار فيها محالًا.
ولقد أحسن العباس بن الأحنف حيث يقول:
مَنْ كانَ يزعمُ أنْ سيكتمُ حبَّهُ ... حتَّى يشكِّكَ فيهِ فهوَ كذوبُ
الحبُّ أغلبُ للرِّجالِ بقهرهِ ... مِنْ أنْ يُرَى للسِّرِّ فيهِ نصيبُ
وإذا بدَا سرُّ اللَّبيبِ فإنَّهُ ... لمْ يبدُ إلاَّ وهوَ مغلوبُ
إنِّي لأُبغضُ عاشقًا مُتحفِّظًا ... لمْ تتَّهمهُ أعينٌ وقلوبُ
الباب السادس
التَّذلُّلُ للحبيبِ مِن شيمِ الأديبِ
1 / 18
قد ذكرنا أن تقصير المحبوب عن مواصلة محبّه وتراخيه عن إظهاره على كل ما له في قلبه إنَّما يتولَّدان عن وقوع الثقَّة به فربَّما جهل المحبُّ على نفسه فتوهَّم أنَّ ذلك داخل في باب الخيانة والغدر فكافى عليه بالانحراف والهجر فيجني على نفسه ما لا يتلافاه العذر ولا يقاومه الصبر والحازم من صبر على مضاضة التَّدلُّل والتمس العزَّ في استشعار التَّذلُّل فحينئذ يتمكَّن من وداد محبوبه ويظفر من هواه بمطلوبه.
قال الحسن بن هانئ:
يا كثيرَ النَّوحِ في الدِّمنِ ... لا عليها بلْ على السَّكنِ
سُنَّةُ العشَّاقِ واحدةٌ ... فإذا أحببتَ فاسْتَكنِ
وقال معاذ ليلى:
عفَا اللهُ عنِي ليلَى وإنْ سفكتْ دمِي ... فإنِّي وإنْ لمْ تُجزِنِي غيرُ عاتبِ
عليها ولا مُبدٍ لليلَى شكايةً ... وقدْ يُشتكَى المُشكِي إلى كلِّ صاحبِ
يقولونَ تبْ عن حبِّ ليلَى وذكرِها ... وما خلتُنِي عنْ حبِّ ليلَى بتائبِ
وقال عمر بن أبي ربيعة:
لستُ مِن ظالمَتِي منتصِفًا ... قبَّحَ اللهُ محبًّا يَنتصفْ
وفتاةٍ أنْ تغبْ شمسُ الضُّحى ... فهيَ للنَّاسِ منَ الشَّمسِ خلَفْ
أجمعَ النَّاسُ على تفضيلِها ... وهواهمْ في سِواها مُختلفْ
وقال المؤمل:
أمنْ فقدِ الحبيبِ عيناكَ تبكِي ... نعمْ فقدُ الحبيبِ أشدُّ فقدِ
بَرانِي الحبُّ حتَّى صرتُ عبدًا ... فقدْ أمسيتُ أرحمُ كلَّ عبدِ
فأُقسمُ لو هممتِ بمدِّ قلبِي ... إلى جوفِ السَّعيرِ لقلتُ مُدِّي
وقال أبو الوليد عبيد الطائي:
منِّيَ وصلٌ ومنكَ هجرُ ... وفيَّ ذلٌّ وفيكَ كِبرُ
عذَّبني حبُّكَ المُعنِّي ... وغرَّني منكَ ما يغرُّ
قدْ كنتُ حرًّا وأنتَ عبدٌ ... فصرتُ عبدًا وأنتَ حرُّ
يا ظالمًا لي بغيرِ جرمٍ ... إليكَ مِنْ ظُلمكَ المفرُّ
أنتَ نَعيمي وأنتَ بؤسِي ... وقدْ يسوءُ الَّذي يسرُّ
وقال آخر:
تُسيءُ بنا هندٌ ونحسنُ جهدَنا ... فحتَّى متى هندٌ تُسيءُ ونُحسنُ
وأَجبنُ عنْ تقريعِ هندٍ بذنبِها ... ولوْ غيرُ هندٍ كانَ ما كنتُ أجبنُ
وأنشدني محمد بن الخطاب الكلابي قال أنشدني ماني لنفسه:
يزيدُنِي ما استزدتُ مِن صلتهْ ... وعنْ قليلٍ يعودُ في هبتهْ
لوْ حزتُ قطرَ السَّماءِ لانهملتْ ... عليَّ ظُلمًا سماءُ مَوْجَدتهْ
كمْ زلَّةٍ منهُ قدْ ظفرتُ بها ... فقامَ حبِّي لهُ بمعذرتهْ
تُفنِي اللَّيالي وعيدَهُ وأنا ... قريبُ عهدٍ بسوءِ مملكتهْ
وقال أبو تمام الطائي:
ظنِّي بهِ حسَنٌ لولا تجنِّيهِ ... وأنَّهُ ليسَ يرعَى عهدَ حُبِّيهِ
عمَّتْ محاسنهُ عنِّي إساءتَهُ ... حتَّى لقدْ حسُنتْ عندِي مساويهِ
تاهتْ علَى صورةِ الأشياءِ صورتهُ ... حتَّى إذا خضعتْ تاهتْ علَى التِّيهِ
لمْ تجتمعْ فرقُ الحُسنِ الَّتي افترقتْ ... عنْ يوسفِ الحسنِ حتَّى استجمعتْ فيهِ
وقال آخر:
مُستقبلٌ بالَّذي يهوَى وإنْ كثرتْ ... منهُ الإساءةُ معذورٌ بما صنعَا
في وجههِ شافعٌ يمحُو إساءتَهُ ... منَ القلوبِ وجيهٌ حيثُ ما شفعَا
وأنشدني بعض إخواننا:
يا مَنْ أراهُ أحقَّ بِي منِّي ... إنْ غبتُ عنكَ فلمْ تغبْ عنِّي
أغفلْتَنِي لمَّا اعتللتُ ولمْ ... يكُ ذاكَ منكَ يدورُ في ظنِّي
وأمرُّ ما ذاقَ امرؤٌ فهِمٌ ... ما جاءهُ مِن موضعِ الأمنِ
كنْ كيفَ شئتَ فما منَحْتُكَهُ ... صفوٌ بلا كدرٍ ولا منِّ
وقال كثيِّر:
أسيئِي بنا أوْ أحسنِي لا مَلولةً ... لدينا ولا مقليَّةً إنْ تقلَّتِ
أصابَ الرَّدى مَن كانَ يهوَى لكِ الرَّدى ... وجُنَّ اللَّواتي قلنَ عزَّةُ جُنَّتِ
خليليَّ هذا رسمُ عزَّةَ فاعْقِلا ... قلوصَيْكُما ثمَّ ابْكِيا حيثُ حلَّتِ
وقال آخر:
إنَّ الهوانَ هو الهوَى نقضُ اسمهِ ... فإذا هويتَ فقدْ لقيتَ هوانَا
وإذا هويتَ فقدْ تعبَّدكَ الهوَى ... فاخضعْ لإلفكَ كائنًا مَنْ كانا
وقال آخر:
1 / 19
صفحتُ برغمِي عنكَ صفحَ ضرورةٍ ... إليكَ وفي قلبِي ندوبٌ منَ العتبِ
خضعتُ وما ذنبِي إنَّما الحبُّ عزَّنِي ... فأَغضيتُ ضُعفًا عنْ معالجةِ الحبِّ
وما ذاكَ بِي فقرٌ إليكَ مُنازعٌ ... يُذلِّلُ منِّي كلَّ ممتنعٍ صعبِ
إلى اللهِ أشكُو أنَّ ودِّي مُضيَّعٌ ... وقلبِي جميعٌ عندَ مقتسمِ القلبِ
وقالت امرأة من الأعراب:
بنفسِي وأهلِي مَن لَوَ انِّي أتيتهُ ... علَى البحرِ فاستسقيتُهُ ما سقانِيَا
ومَن لوْ رأَى الأعداءَ ينتَضِلونَنِي ... لهمْ غرضًا يرمونَنِي لرَمانِيا
ومَن قدْ عصيتُ النَّاسَ فيهِ جماعةً ... وصرَّمتُ خُلاَّني لهُ وجفانِيَا
فيا أخويَّ اللائِمَيَّ علَى الهوَى ... أُعيذُكما باللهِ منْ مثلِ ما بِيَا
سألتُكُما باللهِ لِمَّا جعلتُما ... مكانَ الأذَى واللَّومِ أنْ ترثيا لِيَا
ولا تغْفَلا إنْ لامَنِي ثَمَّ لائمٌ ... ولو سخطَ الواشونَ أنْ تعذُرانِيا
فأُقسمُ لو خُيِّرتُ بينَ فراقهِ ... وبينَ أبِي اخترتُ أنْ لا أبا لِيَا
ثكلتُ أبي إنْ كنتُ ذُقتُ كريقهِ ... لشيءٍ ولا ماءً منَ المزنِ صافِيَا
وقال كثيّر:
وقائلةٍ دعْ وصلَ عزَّةَ واتَّبعْ ... مودَّةَ أُخرى وابلُها كيفَ تصنعُ
أراكَ عليها في المودَّةِ زارِيًا ... وما نلتَ منْها طائلًا حيثُ تسمعُ
فقلتُ ذَريني بئسَ ما قلتِ إنَّني ... علَى البخلِ منها لا علَى الجودِ أتْبعُ
وقال البحتري:
أميلُ إليكَ عنْ ودٍّ قريبٍ ... فتُقصيني علَى النَّسبِ البعيدِ
فما ذنبي بأنْ كانَ ابنُ عمِّي ... سواكَ وكانَ عودُكَ غيرَ عودي
وفي عينيكَ ترجمةٌ أراها ... تدلُّ علَى الضَّغائنِ والحُقودِ
وأخلاقٍ عَهدْتُ اللِّينَ فيها ... غدتْ وكأنَّها زُبرُ الحديدِ
وقد عاقدْتَني بخلافِ هذا ... وقال الله أوْفوا بالعقودِ
وما ليَ قوَّةٌ تنهاكَ عنِّي ... ولا آوي إلى رُكنٍ شديدِ
سأرحلُ عاتبًا ويكونُ عتبي ... علَى غيرِ التَّهدُّدِ والوعيدِ
وأحفظُ منكَ ما ضيَّعتَ منِّي ... علَى رَغمِ المُكاشحِ والحسودِ
هذا الكلام وإن كان فيه شيء من التَّواضع والاستكانة فإنَّ فيه ضربًا من الضَّجر الدَّاعي إلى الخيانة لأنَّ صاحبه لم يصبر على التَّذلُّل نفسه على ما صبر عليه من بدأنا بذكره.
وفي نحو هذا المعنى قول الآخر:
فإنْ يكُ هذا منكَ جدًّا فإنَّني ... مُداوي الَّذي بيني وبينكَ بالهجرِ
ومُنصرفٌ عنكَ انصرافَ ابنِ حرَّةٍ ... طوى ودَّهُ والطَّيُّ أبقى علَى النَّشرِ
وفي مثله يقول البحتري:
وكنتُ أرى أنَّ الصُّدودَ الَّذي مضى ... دلالٌ فما إنْ كانَ إلاَّ تجنُّبا
فوا أسفا حتَّامَ أسألُ مانِعًا ... وآمنُ خوَّانًا وأُعتبُ مُذنبا
سأثْني فؤادي عنكِ أو أتبعُ الهوَى ... إليكِ إنِ استعصى فؤادي أوْ أبى
وأنشدني أحمد بن أبي طاهر لنفسه في نحوه:
ما لي أُقرِّبُ منكَ نفسي جاهدًا ... وأراكَ منِّي جاهدًا تتباعدُ
قدَّمتَ دونَ أخيكَ من هو دونهُ ... وعندْتَ عنهُ وهوَ منكَ يُعاندُ
أيأستني بعدَ الرَّجاء فمنْ ترى ... يرجوكَ بعدي أوْ عليكَ يُحاسدُ
أمْ كيفَ يأملُ منكَ يومًا صالحًا ... أحدٌ ورأيكَ فيَّ رأيٌ فاسدُ
وقال ابن حازم في نحو ذلك:
لا ترضَ عيشًا علَى امتهان ... ولا تردْ وصلَ ذي امتنانِ
أشدُّ منْ عَيلةٍ وفقرٍ ... إغضاءُ حُرٍّ علَى هوانِ
إذا نبا منزلٌ بحُرٍّ ... فمنْ مكانٍ إلى مكانِ
وهؤلاء كلُّهم ومن جرى في هذا القول مجراهم إنَّما يتضاجرون على خلاَّنهم لثقلهم إيَّاهم عن عاداتهم ومنعهم إيَّاهم ما استعبدوه من مواصلاتهم لتغلُّب الحيرة على قلوبهم يحسبون أنَّ انحرافهم عن أحبابهم أقلُّ أذًى عليهم من الصبر لهم على محبَّاتهم ولو قد أنفذوا ما عزموا عليه من الفراق والهجر لشاهدوا ما يضطرُّهم إلى الرُّجوع بالصِّغر والتَّوسل إلى الصَّفح بالعذر ما لم يسمع الَّذي يقول:
مزحتَ بالهجرِ ولا علمَ لي ... أنَّكَ مُشتاقٌ إلى الهجرِ
1 / 20