ويقول انهم أنفع وأعود من المال. فقام الآخر ونهاه عن ذلك وقال: أمسك مالك فهو خير لك، متى كان عندك المال واحتجت إلى الرجال وجدتهم. فقال له الملك لابد لهذا من آيه؛ فمثل أي مثلا يتضح به ما ذكرته، فان الأمثال بها تنكشف الأشياء، فقال الوزير: علي بإناء عسل. فجيء به فقال: خمروه. ثم قال للملك: هل ترى هنا من نحل؟ قال: لا فأتى بإناء العسل، فلم يلبث أن جاءت النحل من كل أوب. فقال: هكذا الرجال على المال! فقام الوزي الآخر وقال: خمروا الإناء إلى الليل. فلما كان الظلام أخرج الإناء، فما تحركت نحلة أصلا ولا وقعت عليه. وهذا تشبه قصة الهررة والشمع، وستأتيك قريبا في الأمثال، وتتبع الحكايات يخرج عن العرض؛ وإنّما ذكرنا ما تقدم تنبيها على شدة اعتناء الناس بالتمثيل وعظم فائدته. وكان الحكماء الأولون مثلوا الدنيا بطائر رأسه المشرق وجناحاه اليمن والشام وذنبه المغرب، فبينوا بهذا المثل دناءة المغرب وخسته، لأن أخس ما في الطائر ذنبه. فلما خرج اليونان إلى الجزيرة واستخرجوا فيها المياه وغرسوا الأشجار وبنوا القصور حتى عادت الجزيرة احسن ما يكون قالوا: رجع الطائر طاووسا! لشرف ذنب الطاووس. ومن ما جعل الله تعالى فيما يراه النائم من أمثلة الأشياء، قضى العجب من حكمة الله تعالى وما أودعه في عالم المثال، وهو بحر عميق ليس من غرضنا ولسنا من رجال الخوض فيه، وما ذكرناه في الأمثال من حيث هي وستأتيك زيادة في الأمثال الشعرية في الفصل الذي بعد هذا إن شاء الله. وما ذكرناه أيضًا هو فائدة التمثيل الإصابة، لأن مرجع الغرض من التمثيل تشبيه الخفي بالجلي، والغائب بالشاهد، وفائدته العظمى التبيين والتوضيح كما مر. وقد يرد لأغراض أخرى غير ذلك، كالمدح أو الذم أو التزيين أو التشبيه أو غير ذلك مما قرر في علم الأدب؛ لكن مرجع الجميع إلى الفائدة الأولى وهي التبيين والتوضيح. فإنا إذا مثلنا أحدا بالبحر قصدنا إلى مدحه بالكرم، أو بالأسد قصدنا إلى مدحه بالشجاعة. فالقصد الأصلي بيان هذا الخصوصية التي يبلغ بها هذه الدرجة المخصوصة من الجود والجرأة لأنها هي المتلبسة علينا؛ لكن قد يتناسى هذا المعنى الأصلي ويفهم أن التمثيل سيف للمدح والذم حتى كأنه لا توضيح هنالك أصلا، ومثله في النعت. وأما سوق التمثيل لبيان الامكان أو بيان المقدار فلا إشكال أنه من المعنى الأصلي
1 / 37