بواسطة الحواس، لا يخفى أن ما كان من قبل الحواس الخمس هو أظهر واسهل، ولذا شاركت فيه الحيوانات العجم والإنسان، وأن ما لم يكن من ذلك بنوع تعلق أصلا أخفى وأصعب وإسراف، وبمزية الاختصاص به كان الإنسان اشرف. فكل ما يدركه بحسب العادة الجارية استقراء، إما شيء وصل إليه من طرق الحواس، فيقع فيه بعد تأديه إليه منها نوع من التصور ونوع من التصرف بالتحليل والتركيب؛ وأما شيء يتأد إليه بالحواس، وهو إما شيء يجده عند نفسه أوّلًا كعلمه بان الموجود لا يكون معدوما، وأن الشيء الواحد لا يكون زمانا واحدا في مكانين، ونحو ذلك؛ وإما شيء يجد نظيره عنده بنوع من التشابه، أو يتأدى إليه نظيره من الحواس، كعلمنا بأن لله علما وقدرة وحلما وغضبا، لمّا علمنا في أنفسنا من علم وحلم وغضب، وإن كان الحادث خلاف قديم، لكن بينها ضرب من التشابه؛ ولولا ما علمناه بالوجدان من ذلك ما قدرنا أن نثبت نظيره في جانب الباري، كما قال تعالى:) وفي أنفسكم أفلا تبصرون. (وقال ﷺ: " من عرف نفسه عرف ربه ". إلاّ إن يخرق الله تعالى العادة في العقل فأنه مستعد لكل العلوم، وهكذا سائر الصفات. وكإدراكنا بحرًا من الزئبق، وجبلا من الياقوت، فانه لم يتأد إلى العقل قط من الحواس لعدم وجوده ولا وجود نظيره عنده كالأول؛ ولكن تأدى إليه نظير من الحواس، وكذلك إنّه تأدى إليه البحار من الماء والجبال من الأرض؛ وهو يعلم إنّ بحر الماء مثلا متركب من القطرات المائية؛ فإذا أدرك قطرات الزئبق بمشاهدة الحواس جوز أن تتركب وتتجمع اجتماع قطرات الماء، وتصور من ذلك بحرًا؛ وكذلك في أحجار الياقوت التي يراها، وما تصوره القوة الوهمية من أشياء لا حقيقة لها إنما ذلك من هذا القبيل، فإنها تستند إلى الحواس فتصور أشياء عل سبيل ما تأدى إليها منها، إلا إنها تحل ذلك حيث لا محل، كما تصور للغول أنيبا وأظفارا. فقد علم إن العقل غير واصل في العادة إلى غائب صرف من الأمور النظرية؛ وإنما مرجع إدراكه المحسوس هو أو نظيره بالحس الظاهر أو الباطن أو ما مادته ذلك. وكثيرًا ما يقع له الغلط في البابين لاشتباه الوهم أو لاشتباه الحس حتى فر الفارون إلى حصر العلوم في المحسوسات حذارًا من الوهم والالتباس الوقع بسببه، وفر الآخرون إلى حصرها في المعقولات حذارًا من اشتباه الحس،
1 / 32