مقدمة
الباب الأول: الدراسات العملية
1 - نظرة الحضارات القديمة إلى ظاهرة المد والجزر
2 - ملاحظة ظاهرة المد والجزر في البحار والأنهار عند العرب
3 - تفسير ظاهرة المد والجزر عند العلماء العرب والمسلمين
4 - تفسير ظاهرة المد والجزر عند الأوربيين
5 - أساليب الاستفادة والوقاية من طاقة المد والجزر
الباب الثاني: المخطوطات العلمية المحققة
1 - رسالة في العلة الفاعلة للمد والجزر للكندي
2 - المد والجزر في كتاب المدخل الكبير في علم أحكام النجوم لأبي معشر الفلكي
3 - كتاب وري الزند بالجزر والمد (يتيمة العصر في المد والجزر)
خاتمة حول إسهامات العلماء العرب والمسلمين في نظريات وتطبيقات ظاهرة مد وجزر البحار
قائمة المصادر والمراجع
مقدمة
الباب الأول: الدراسات العملية
1 - نظرة الحضارات القديمة إلى ظاهرة المد والجزر
2 - ملاحظة ظاهرة المد والجزر في البحار والأنهار عند العرب
3 - تفسير ظاهرة المد والجزر عند العلماء العرب والمسلمين
4 - تفسير ظاهرة المد والجزر عند الأوربيين
5 - أساليب الاستفادة والوقاية من طاقة المد والجزر
الباب الثاني: المخطوطات العلمية المحققة
1 - رسالة في العلة الفاعلة للمد والجزر للكندي
2 - المد والجزر في كتاب المدخل الكبير في علم أحكام النجوم لأبي معشر الفلكي
3 - كتاب وري الزند بالجزر والمد (يتيمة العصر في المد والجزر)
خاتمة حول إسهامات العلماء العرب والمسلمين في نظريات وتطبيقات ظاهرة مد وجزر البحار
قائمة المصادر والمراجع
ظاهرة مد وجزر البحار في التراث العلمي العربي
ظاهرة مد وجزر البحار في التراث العلمي العربي
مراحل تطور النظريات العلمية التي تفسر ظاهرة المد والجزر في البحار وإسهامات العلماء العرب والمسلمين فيها مع تحقيق مجموعة من المخطوطات العربية المتعلقة بالموضوع
تأليف
سائر بصمه جي
مقدمة
تندرج ظاهرة المد والجزر
Tides
في البحار تحت راية علم المحيطات الفيزيائي
. وتعبر هذه الظاهرة الطبيعية عن التفاعل بين جاذبية الأرض والقمر والشمس.
وهي من الظواهر التي رصدها الإنسان وسجل تغيراتها منذ أن سكن بجوار شواطئ البحار. وقد اهتم بتفسير هذه الظاهرة الكثير من الحضارات القديمة، كما كانت محط أنظار وأفكار العلماء العرب والمسلمين. إلا أن ما يميز دراسة العلماء العرب والمسلمين للظاهرة أنها كانت تمتد في إطار الحقل الهيدروغرافي ، بحيث إنها تشمل الأنهار والبحار. وهذا ما جعلنا نفرد فصلا خاصا بأرصادهم للمد والجزر في البحار والمحيطات والأنهار.
في الحقيقة إن ما دفعني وشجعني للاهتمام والبحث في هذا الموضوع هو ما عثرت عليه من مجموعة المخطوطات
1
كان من شأنها أن تساعدنا على القيام بمشروع تخصصي من هذا النوع، وقد وجدت أن للمادة من الغنى ما يمكننا من إفراد كتاب كامل عن تاريخ دراسة هذه الظاهرة وكيف تم تفسيرها عبر كل الحضارات، مع التركيز الشديد على ما قدمه العلماء العرب والمسلمون من نظريات وأفكار وإسهامات جديدة تستحق الوقوف عليها وإبرازها.
قبل الشروع بالعمل كان يتوجب علينا القيام بخطوة بحثية بديهية لا بد منها، وهي تفحص كل الدراسات العربية والأجنبية السابقة في هذا الموضوع، فرجعنا إلى أضخم وأفضل مرجع في ذلك وهي سلسلة «الجغرافية الإسلامية» التي أصدرها مؤرخ العلوم فؤاد سزكين وهي تتألف من 259 مجلدا، حيث إنه حصر فيها كل ما نشر من دراسات وأبحاث ومخطوطات محققة وغير محققة عن الجغرافيا الإسلامية الوصفية على مدى 300 سنة، أي منذ القرن 18م وحتى نهاية القرن 20م. وبعد إجراء مسح شامل لها وللمئات من المصادر (المخطوط منها والمطبوع) والدراسات والمراجع العربية المتعلقة بعلوم البحار والجغرافيا والملاحة البحرية وتاريخها، لم نعثر على أي دراسة أو بحث عربي أو أجنبي درس موضوع المد والجزر في البحار في التراث العلمي العربي والإسلامي حتى وقت كتابتنا لهذا العمل. الأمر الذي أكسبنا زخما إضافيا للمضي قدما في هذا المشروع.
لذلك تكمن أهمية هذا العمل في أنه يسلط الضوء - ربما لأول مرة - على النظريات العلمية العربية التي تفسر ظاهرة المد والجزر في البحار والأنهار، وكيف كان العرب من أوائل الحضارات التي استفادت وسخرت طاقة المد والجزر، والأماكن التي كانت تحدث فيها هذه الظاهرة.
كما أن العمل يعرف القراء بكل ما وصلنا إليه من مخطوطات علمية عربية مخصصة لمعالجة هذا الموضوع. وبالتالي فإنه يؤسس لقاعدة تاريخية علمية عربية يمكن للباحثين في المستقبل الارتكاز عليها لدى دراسة تاريخ السواحل في البلاد العربية والإسلامية ، ومدى تأثرها بظاهرة المد والجزر خلال 1500 سنة.
ينقسم العمل إلى بابين؛ حيث إننا تناولنا في الباب الأول الدراسات العلمية لظاهرة المد والجزر ومحاولات تفسيرها والاستفادة منها منذ أقدم العصور وحتى نهاية القرن 19م، ويركز الباب الثاني على تحقيق المخطوطات التي وصلتنا وفق أصول التحقيق.
يمثل هذا العمل الجزء الثالث
2
من مشروع الموضوعات العلمية المتخصصة التي سنقوم بمعالجتها في التراث العلمي العربي، والتي ندرس ونحقق ونكشف من خلالها ما قدمه العلماء العرب والمسلمون من أعمال علمية متخصصة في جانب علمي محدد كانت غائبة عنا لزمن طويل.
والله الموفق.
الدكتور سائر بصمه جي
حلب، 2020م
الباب الأول
الدراسات العملية
الفصل الأول
نظرة الحضارات القديمة إلى ظاهرة المد والجزر
مقدمة
يتمثل أحد أسرار الفيزياء في أن أي كتلة تدور حول نفسها مثل القمر أو الأرض أو الشمس تولد جاذبيتها الخاصة بها. وكلما كانت الكتلة أكبر كانت الجاذبية أقوى. وما اكتشفه إسحاق نيوتن (توفي 1727م)
I. Newton
أنه في حين تجذب قوة الجاذبية الكتل الأخرى، فإن هذه القوة تضمحل بسرعة مع اتساع المسافة. وهكذا كلما كانت الكتل أقرب من بعضها كان تأثيرها أقوى. وبناء عليه، يوجد تأثير ثلاثي متبادل بين القمر والأرض والشمس. بداية، وفي حين تدور الأرض في أثناء اليوم، تجعلها جاذبية القمر، مع ضعفها نوعا ما، تنتفخ منجذبة نحوه بنحو 2-3 سنتمترات. وليس لهذا أي تأثير ملحوظ على اليابسة، وإنما له تأثير كبير على المحيطات، وهو ما ينشأ عنه ظاهرة المد والجزر. وعندما تمر الأرض بحيث تكون تحت تأثير قوة شد القمر الجاذبة، يسحب القمر باتجاهه أي كتلة كبيرة من الماء. يظهر هذا الانتفاخ على الجانب المواجه للقمر، والجانب البعيد المقابل له على الأرض. وبينما تدور الأرض يستمر هذا الانتفاخ تحت القمر، ويولد مدا عاليا. في المقابل فإن كتلة الماء المتعامدة مع الجذب القمري المباشر تنخفض وبالتالي بعد الانتفاخ، تعود مستويات البحر إلى الانخفاض فيحدث الجزر. وهكذا يتغير مستوى البحر كل اثنتي عشرة ساعة أو نحو ذلك، ومع انتقال الانتفاخين حول الكرة الأرضية يحدث مد تام كل 12 ساعة و25 دقيقة. ويقدم المدار المتغير للقمر توقيت حدوث كل مد عال بنحو 50 دقيقة كل يوم. ولحقل جاذبية الشمس أيضا دور، ولكن نظرا لبعدها الكبير عنا فإن تأثيرها أضعف من تأثير القمر. مع ذلك، عندما يكون القمر والشمس مصطفين على خط مستقيم، وهو ما يحدث مرتين شهريا (في طوري الهلال والبدر) تولد قوة جذبهما المشتركة مدا عاليا جدا يطلق عليه اسم المد الربيعي
Spring tide . وعندما يحدث العكس أي عندما يكون القمر والشمس على طول ضلعي زاوية قائمة نحصل على جزر منخفض جدا، أو جزر محاقي
Neap tide ، خلال تربيع القمر. وقد تمحورت العديد من الأحداث التاريخية بالغة الأهمية حول مواقيت المد والجزر، خصوصا في فترات ازدهار السفن الشراعية. ومن الأمثلة على ذلك مطاردة البحرية الإنكليزية للأرمادا أو الأسطول الإسباني في سنة 1588م وتدميره بإرسال سفن مشتعلة مع المد. كما أن المد الربيعي يكون في أعلى مستوى له في الحضيض القمري، ويقال إنه ساهم في غرق سفينة تايتانيك في سنة 1912م. فقبل بضعة شهور من اصطدام تايتانيك بجبل جليدي، أدى مد ربيعي عال بصورة استثنائية إلى انفصال جبال جليدية هائلة عن جزيرة جرينلاند. وفي الأحوال العادية، لا يشكل مثل هذا الجبل الجليدي الهائل خطرا على السفن العابرة؛ لأنه يكون قد ذاب قبل أن يطفو منجرفا نحو الجنوب ويصل إلى خط العرض الذي حصل فيه الاصطدام الشهير.
1
بينما يدور القمر حول الأرض، تشد جاذبيته مياه المحيط؛ فينشأ «انتفاخ». لكن حركة القمر تجعل الأرض تتحرك في الفضاء أيضا؛ فتنطلق المياه بعيدا عن القمر لتنتج انتفاخا آخر من المد والجزر. وعندما تدور الأرض، تتحرك سواحلها من وإلى خارج المد والجزر، مما يتسبب في ارتفاع المد والجزر. (مصدر الصورة والتعليق:
Woodward, John, Oceans, DK Eyewitness Books, New York, 2008, p. 48 .)
عندما يدور القمر حول الأرض، يتحرك تماشيا مع الشمس مرتين في الشهر عندما يكون بدرا وهلالا. وعندما يتم محاذاة الشمس والقمر على هذا النحو، فإن جاذبيتهما مجتمعة تسبب المد والجزر العالي كل أسبوعين. في الأسابيع الممتدة بين البدر والهلال، تعوض جاذبية الشمس بجاذبية القمر، وتقلل من تأثير انتفاخ المد والجزر وتتسبب في حدوث مد وجزر أقل) مصدر الصورة والتعليق:
Woodward, John, Oceans, p. 48 .)
إذن يوجد لدينا نوعان من المد والجزر:
العالي أو الربيعي: وهو يحدث عندما يكون القمر والأرض والشمس على خط واحد؛ بحيث يتزامن حدوث المد والجزر بسبب الشمس والقمر معا؛ الأمر الذي يجعل المد والجزر أعلى من المتوسط أو أدنى منه. وهو يحدث في أثناء الهلال أو البدر.
2
المنخفض أو المحاقي: وهو يحدث عندما يكون القمر في منتصف الطريق بين الهلال والبدر في كلا الاتجاهين. ويكون جذب القمر والشمس متعامدين؛ لذلك لا يتداخل المد والجزر الشمسي والقمري. وهذا لا يجعل المد مرتفعا ولا الجزر منخفضا.
3
ونظرا لكون قوة الجاذبية تضعف بالبعد، فإن حركة المد والجزر تكون أقوى في المحيط الهادئ عندما يكون القمر فوق هاواي مباشرة عنها عندما ينعطف القمر بعيدا ليصبح فوق المحيط الأطلسي.
4
كما أن احتكاك المد والجزر يؤدي إلى زيادة طول اليوم بنسبة 0,001 ثانية في كل قرن من الزمن.
5
بعد هذه المقدمة العلمية المبسطة التي قصدنا التوسع فيها لنكون على دراية بالنصوص العلمية التاريخية التي سترد معنا، وحتى ندرك الحالات التي تناولتها كل حضارة من الحضارات السابقة.
إذ منذ أقدم الحضارات حاول الكثير من الناس معرفة سبب هذه الظاهرة، فمنهم من ربطها بالقمر وحده، ومنهم من ربطها بالرياح، ومنهم من ربطها بالشمس، ومنهم من ربطها بأفعال الآلهة المصطنعة، ومنهم من كان يعتقد بوجود مخلوقات هائلة الحجم والضخامة كالحيتان تتسبب بهذه الظاهرة. (1) المبحث الأول: عصر الميغاليث
يشير مصطلح الميغاليث أو الجندل
Megalith
إلى أي صخر كبير أو حجارة ضخمة شكلت ووضعت على هيئة صروح وأوابد حجرية منتصبة يصل وزن أكبرها إلى أكثر من 20 طنا.
6
وقد أنشئت معظم الميغاليثات المعروفة بين فترة العصر الحجري الحديث والعصر البرونزي، ويعود أقدم ميغاليث إلى سنة 9500ق.م.
7
يوجد دليل، لكنه ذو طبيعة جدلية، بأن الناس الذين شيدوا الميغاليث قرب الشطآن الغربية لأوروبا حوالي 2500-1000 قبل الميلاد كانوا يختارون المواقع التي تشرق وتغيب الشمس والقمر منها، بحيث يمكن ملاحظتهما أمام علامات الحدود على الأفق. مثل هذه الملاحظات يمكن، من المفترض أنها خولت «المطلعين» في عصر الأحجار الضخمة أن يحافظوا على مسار الفصول وأن يلاحظوا تفاوتات مدار القمر، من ضمنها الأحوال والظروف التي تؤدي إلى حالات الخسوف القمرية. واقترح بأن التنبؤ بحدوث المدود ربما يكون أحد الحوافز للقيام بالأرصاد اليومية، حيث إن الكثير من المراصد القمرية المفترضة تكون واقعة قريبا من البحار التي مدودها خطرة جدا بالنسبة للملاحة. لكن الباحث سيبتيس
Scepties
شكك بهذا الاقتراح، على أساس أن المواقع الأفقية (المساوية إلى الميول) تقدم معلومات غير كافية «بحد ذاتها» من أجل التنبؤ بحدوث المد، وقلة من العلماء الآن يقبلون بهذه النظرية. أمام مشهد مكاني، يمكن للمرء أن يقول إن التنبؤ بحدوث الاعتدالين والانقلابين وثيق الصلة بالمد والجزر، حيث قام المراقبون المتدربون بتقييم دقيق أكثر لطور القمر وزمن الانتقال في بحار متوسطة. بالإضافة إلى هذا، إذا استطاعوا إدراك «معدل تغير» طور أو التغير في القطر الظاهر، والإشارة إلى اقتراب الحضيض القمري، فإن هذا سيعود بمنفعة متميزة لهم ليعرفوا كيف يستخدمونه. على أي حال، فإن الغياب الكامل لأي سجل مدون واضح، يبقي مثل هذه الأفكار مجرد خيال محض.
8 (2) المبحث الثاني: البابليون
رصد البابليون ظاهرة المد والجزر؛ ونظرا لعظم تأثير هذه الظاهرة في حياتهم فقد خصصوا لها الآلهة عشتار لتكون مسئولة عنها.
9
وقد ذكر الباحث واليس بودج
W. Budge
في كتابه «الحياة والتاريخ عند البابليين»، أنه عثر على لوح بابلي في عام 1883م، فيه سرد لمنافسة بين شيطان البحر العظيم تيامات
Tiamat
ومردوخ
Merodach
إله الحياة والنور، المفهوم الأسطوري، كما هو مذكور في النص، للصراع بين النور والظلام، والذي يعتقد أنه إشارة مبكرة إلى المد والجزر. إذ جاء في النص: أنه «بينما كانت المعركة مستمرة، من الواضح أن تيامات منع المد والجزر من التدفق، ثم قام مردوخ بتصحيحه.»
10
وقد وصلنا عن سلوقوس الكلداني أو البابلي (توفي 283ق.م)
Seleucus Chaldean
أنه اكتشف عدم تساوي المد واختلافه بين يوم ويوم آخر (المد الأعلى والمد الأدنى)، وذلك عندما كان يراقب الخليج العربي ونسب ذلك كله إلى موقع القمر من منطقة البروج.
11
وبشكل أكثر تحديدا فإن سبب الظاهرة هو الهواء الكائن بين الأرض والقمر، حيث يتحول بعكس الاتجاه بسبب الدوران المضاد لجرمي العالم، فيصطدم بالمحيط ويؤدي إلى تلك الحركات.
12
ويروي الجغرافي اليوناني سترابو (توفي 25 للميلاد)
Strabon
أن سلوقوس قد لاحظ أيضا التفاوتات الدورية في حركات المد والجزر في البحر الأحمر وقد نسب سبب ذلك إلى منازل القمر في منطقة البروج. وحاول أن يفسر حدوث هذه التفاوتات بفرضية وجود مقاومة يخضع لها القمر جراء دوران الغلاف الجوي للأرض بسبب حركته اليومية.
13
وقد يكون هذا - طبقا للتحليل المدي الحديث - إحدى مناطق المحيط القليلة التي تكون فيها الفترة اليومية غير متساوية نسبيا.
14
كما رصد سلوقوس المد والجزر أيضا من فينيسيا إلى ساحل المحيط الأطلسي في إسبانيا.
15 (3) المبحث الثالث: الهنود
زودنا البيروني (توفي 440ه/1047م) بكيفية تفكير الهنود بظاهرة المد والجزر، وكيف كانوا يفسرونها بطريقة أسطورية.
قال البيروني: «أما في سبب بقاء ماء البحر على حاله فقد قيل في «مج بران»: إن ستة عشر جبلا كانت في القديم ذوات أجنحة تطير بها وترتفع فأحرقها شعاع «إندر» الرئيس حتى سقطت حول البحر مقصوصة الأجنحة في كل جهة أربعة؛ فالشرقية «رشبه، بلاهك، جكر، ميناك» والشمالية «جندر، كنك، درون، سمه» والغربية «بكر، بدهر، نارذ، برنت» والجنوبية «جيمود، دراون، ميناك، بهاشير»، وفيما بين الثالث والرابع من الجبال الشرقية نار «سمرتك» التي تشرب ماء البحر، ولولا ذلك لامتلأ بدوام انصباب الأنهار إليه، قالوا: وهي نار ملك كان لهم يسمى «أورب» وهو أنه ورث الملك من أبيه وقد قتل وهو جنين، فلما ولد وترعرع وسمع خبر أبيه غضب على الملائكة وجرد سيفه لقتلهم بسبب إهمالهم حفظ العالم مع عبادة الناس إياهم وتقربهم إليه؛ فتضرعوا إليه واستعطفوه حتى أمسك، وقال لهم: فماذا أصنع بنار غضبي؟ فأشاروا عليه بإلقائها في البحر، وهي التي تتشرب مياهه، وقالوا أيضا: إن ماء الأنهار لا يزيد في البحار من أجل أن إندر الرئيس يأخذها بالسحابة ويرسلها أمطارا.»
16
وقد عثر لاحقا على نصوص هندية مختلفة ذات أصول دينية تبين اعترافات لتأثير القمر على حالتي المد والجزر؛ ففي وثيقة بورانا
المكتوبة باللغة السنسكريتية بين (300-400 قبل الميلاد) كانت تشبه المحيط «كأنه ماء في مرجل يتمدد تحت تأثير ارتفاع الحرارة؛ لذا فإن مياه المحيطات تنتفخ مع ازدياد القمر.» كما أننا سنجد تفسيرات عن ظاهرة المد والجزر التي تشتمل على «الخفقان» أو «التنفس» الذي يقوم به إله البحر الهائل في بعض النصوص الهندية والشرقية.
17 (4) المبحث الرابع: الصينيون
اقترح بعض الصينيين سببين للمد والجزر: الأول أن الماء هو دم الأرض، وأن المد والجزر هو إيقاع نبضه، والثاني أن المد والجزر ناتج عن تنفس الأرض. وقد قدم كو هونغ (توفي 343م)
Ko Hung ، وهو باحث من أسرة جين الشرقية، شرحا غامضا إلى حد ما لموجات المد والجزر. يقول إن السماء تتحرك كل شهر شرقا ثم غربا، وبالتالي يكون المد والجزر أكبر وأصغر بالتناوب. يقال إن المد والجزر في فصل الصيف أعلى من المد والجزر في فصل الشتاء؛ لأنه في الصيف تكون الشمس أبعد في الجنوب والسماء 15000 ليال (5000 ميل)، وبالتالي في الصيف، يكون المبدأ الأنثوي أو السلبي في الطبيعة ضعيفا، والذكر أو المبدأ الإيجابي قويا. في الصين، تظهر عدم المساواة النهارية في فصل الصيف؛ لأن المد يرتفع في النهار أكثر من الليل، في حين أن العكس صحيح في فصل الشتاء؛ لذلك فإن هذه الحقيقة توفر مبررا للقول بأن المد في الصيف قوي.
18
وقد كرس مؤرخ العلوم الصينية جوزيف نيدهام
J. Needham
إحدى عشرة صفحة لتفسيرات ارتبطت بمدود البحر في المؤلفات الصينية القديمة. ومن الواضح من الكتابات الأولى التي استشهد بها نيدهام أن الصينيين أدركوا وجود علاقة مع القمر منذ ما قبل الميلاد، كما كان عليه الحال في اليونان. وهناك كثير من التفسيرات المكتوبة عن ذلك الشأن والتي تركز على ارتفاع المد المدهش في نهر تشين-تانغ
Chhien-Thang
قرب هانغشو
Hangchow ، والتي، حسب الأسطورة، كان سببها روح كاهن مجرم ظالم معين يسمى وو تسو هسو
Wu Tsu-Hso ، حيث تم إلقاء جثمانه في النهر. لكن نيدهام، يتبع الباحث ريفيد مول
R. Moule ، ويقتبس عن وانغ تشهونغ
Wang Chhung ، الشكاك المعروف في القرن الأول للميلاد، الذي يستنتج بعبارات وثيقة الصلة: «أخيرا فإن ارتفاع الموج يتبع ظهور محاق القمر، إنه أصغر وأكبر، وأكثر كمالا أو أقل، ليس الشيء عينه مطلقا. إذا صنع وو تسو هسو الموجات، فإن غيظه لا بد وأن يكون محكوما بأطوار القمر.»
19
من العصر الأول لرصد ارتفاع المد ركز الانتباه على انتظام «حالتي المد والجزر الربيعي»، سواء مع اكتمال وتغير القمر، أو تفاوتها الموسمي في قوتها. وكانت التجربة مختلفة عن المدود اليومية التي تظهر في أوروبا وعلى سواحل الصين. يستشهد كل من مول ونيدهام بالإنشاء في القرن الأول للميلاد لجدران البحر المرتفعة لتحمي وادي النهر من الفيضانات التي يسببها ارتفاع المد. على أي حال، لم يكن لدى الصينيين ما يكافئ الفلاسفة الطبيعيين الأوربيين اللاحقين. بحلول القرن الثامن عشر، كان لم يزل الكتاب الصينيون يناقشون الأساطير الخارقة للطبيعة في تفسير أحوال المد والجزر، وفي الوقت ذاته، كان البحارة الصينيون لا يزالون يربطون بشكل واضح أحوال المد والجزر بالطور القمري بحكم التجربة. وعند هذه النقطة الأخيرة، يمكننا القول بأنه في كل الأوقات والبلدان كان يوجد انقسام في فهم أحوال المد والجزر بين الفلاسفة والبحارة العمليين. حتى في القرن العشرين وفي إنكلترا، قررت الكاتبة هيلاري بيلوك
H. Belloc ، أنه ليس هناك عالم نظري بحد ذاته بل بحار هاو متحمس، وكتبت: «عندما يكون [المنظرون] في منصب الأساقفة يتكلمون عن المد والجزر، فهذا ليس بالضرر الكبير؛ لأن البحار لا يأبه بأي شكل إلى نظرياتهم بل يمضي بمعرفة حقيقية.» من المحتمل أن سخرية بيلوك فيها صفاقة لكنها تعبر عن عدم وجود ثقة حقيقية وعميقة بين البحارة والمنظرين، وكان من الصعوبة بمكان أن يكون بينهما صلة.
20 (5) المبحث الخامس: اليونانيون
اعتقد اليونانيون القدماء أن تأثير القمر كان يقابل ويتعارض مع تأثير الشمس التي من خواصها التجفيف والتيبيس، وبشكل عام، امتصاص الماء. على النقيض من ذلك، ارتبط القمر بالماء والرطوبة وهطول المطر. كما وجدوا أنه في الليالي الصافية يضفي البدر وضياؤه شعورا بالبرودة والرطوبة والانتعاش على هواء ليل البحر الأبيض المتوسط، ويترك كمية وفيرة من الندى في الصباح الباكر (في الواقع؛ لأن درجات حرارة الهواء تكون عادة أدنى تحت السماء الصافية). وقد افترض اليونانيون القدماء أن القمر يؤثر أيضا على تدفق سوائل الجسم، مثل الدم والسائل الشوكي المحيط بالدماغ. ومن المفارقات أن اليونانيين لم يقيموا صلة بين القمر والمد والجزر، ويحتمل أن ذلك عائد إلى صغر المدى المدي للبحر الأبيض المتوسط.
21
ولعل هذا يفسر لنا لماذا ذهل جنود الإسكندر الأكبر المقدوني (توفي 323ق.م)
Alexander
من مشهد المد والجزر عندما بلغوا المحيط الهندي الذي شاهدوه لأول مرة.
22 (5-1) هيرودوت (القرن 5ق.م)
يقول هيرودوت (توفي 428ق.م)
Herodotus
في إشارة إلى خليج أو فرع معين من بحر العيد، (وهو يجزر ويتدفق يوميا) كان هذا هو الوصف الوحيد الذي ذكره عن المد والجزر بشكل صحيح، ولكنه لا يقول شيئا عن سبب حدوث ذلك. فقد كان يصف بذلك الفائض السنوي لنهر النيل: «فيما يتعلق بطبيعة هذا النهر، لم أتمكن من الحصول على أية معلومات، سواء من الكهنة أو أي شخص آخر. ومع ذلك، كنت أرغب في أن أتعلم منهم لماذا النيل، ابتداء من الانقلاب الصيفي، يملأ ويفيض في مائة يوم، وعندما يكمل هذا العدد تقريبا من الأيام، ينقص تدفقه، ويتراجع، بحيث يستمر منخفضا طوال فصل الشتاء، حتى عودة الانقلاب الصيفي.» يقدم هيرودوت بعد ذلك العديد من الآراء التي طورها الآخرون لشرح هذه الخاصية في نهر النيل، ويتبعها بشرح من جانبه، يرقى إلى عزو المراحل المنخفضة خلال فصل الشتاء إلى التبخر الناجم عن الشمس فوق ليبيا.
23 (5-2) أفلاطون (القرن 4ق.م)
مع أن أفلاطون (توفي 348ق.م)، اشترك مع معظم الفلاسفة اليونانيين بالاعتقاد أن الأرض حيوان، إلا أنه لا يعزو ارتفاع وانخفاض المياه إلى نفسها، بل إلى تذبذبات السائل الموجود داخل الأرض. والغريب أن الجغرافي والرياضياتي الفرنسي جورج فورنييه (توفي 1652م)
G. Fournier ، في كتابه الهيدروغرافيا (1643م)، لم يكن يعتبر أن هذه الفرضية الأخيرة غير قابلة للتطبيق نهائيا.
24 (5-3) أرسطو (القرن 4ق.م)
تخبط أرسطو (توفي 322ق.م)
Aristotle
في آرائه حول سبب ظاهرة المد والجزر في البحار؛ فتارة يعتقد أن سببها الرياح التي تولدها الشمس،
25
وتارة يعتقد أن سببها الصخور، حيث قال بوسيدونوس الرودسي (توفي حوالي 51ق.م)
إن أرسطو يعزو مد وجزر البحر في (قادس) إلى التكوين الصخري للساحل هناك، وقد وجد أن هذا الكلام محض هراء، خصوصا وأن ساحل إسبانيا مستو ورملي وليس صخريا.
26
ورد موضوع المد والجزر في كتاب أرسطو عن «الآثار العلوية» أو ما يصطلح عليه الآن «الأرصاد الجوية» ضمن موضوع الزلازل، معتبرا إياه مجرد وسيلة مقارنة. وقد استمر تأثير رأي أرسطو حتى القرن 11م؛ ليعاد معالجته على أساس أن المد والجزر من الظواهر البحرية.
27
وقيل إنه كان يشعر بالحيرة الشديدة بسبب عجزه عن فهم ما يسمى مد مضيق يوريبوس
Euripus Strait ، حيث توجد تيارات مدية محلية طويلة معروفة في المضيق بين البر الرئيس لليونان وجزيرة يوبيا
Euboea . لقد كان المد والجزر غير منتظم جدا بالمعنى الذي استخدمه سلوقوس الكلداني فقد كان اضطراب تواتره المحلي في فترات غير المد والجزر ناجما عن الطقس.
28
المقتطف الآتي مأخوذ من الفصل الرابع من الرسالة المنسوبة إليه (حول الكون) والموجهة إلى الإسكندر الأكبر المقدوني. وهي تشير إلى أن المد والجزر يحدث مرتين. وتذكر أن المد والجزر الكبير يوجد في شمال أوروبا، وأنه أكبر في البحر الكبير منه في البحر الصغير. وتشير إلى تواتر المد والجزر وعلاقته بحركة القمر، ولكن كما لو كان من خلال الإشاعات المنتشرة في وقته، وليس من قبيل الاستنتاج. بشكل عام تتعارض هذه المعلومات مع ما هو مؤكد من تخبط أرسطو في تفسيره لظاهرة المد والجزر؛ ولذلك يتبين أن الرسالة منسوبة إليه وليست من أعماله وأقواله.
قال أرسطو (الزائف): «توجد أشياء مماثلة لتلك الموجودة في البحر أيضا؛ لأنه في كثير من الأحيان تتشكل الفجوات في الماء عن طريق الأمواج المتراجعة، وتتقدم الأمواج القادمة، وأحيانا تتراجع مرة أخرى وأحيانا تتسارع بشكل مستقيم للأمام ... وغالبا ما توجد أيضا ثورات بركانية ملتهبة في البحر، وتتدفق النوافير، وتفتح أفواه الأنهار ، وتنبعث الأشجار، وتنشأ دوامات وفيضانات، تقابل تلك التي تصاحب الريح في كثير من الأحيان؛ البعض في عرض البحر العميق، والبعض الآخر في المضائق والخلجان. ويقال إن العديد من الانقلابات والانحسارات في البحر تأتي دائما مع القمر وفي أوقات محددة. باختصار، بما أن العناصر متداخلة مع بعضها بعضا؛ فهناك، على نحو مشابه، الهواء والأرض والبحر، وصلات مماثلة قد تؤدي إلى إنشاء وتدمير بعض الخصائص [لكل مادة] أو قد تحافظ عليها بطريقة غير متغيرة.»
29
نخلص مما سبق أن أرسطو قد فشل في التعرف على أي نمط إيقاعي سببي بسيط يربط بين حركة المد والجزر وجاذبية القمر والشمس. (5-4) بيثياس المسيلي (القرن 3ق.م)
يعتقد أن الرحالة والتاجر بيثياس المسيلي (توفي 285ق.م)
أول من اقترح أن سبب ظاهرة المد والجزر هو علة كونية أو شروق وغروب القمر.
30
ويعود السبب في توقعه ذلك إلى رحلاته البحرية خارج البحر المتوسط؛ لأن حركة المد والجزر داخل المتوسط ضئيلة لا تلفت الانتباه. أما على شواطئ المحيط الأطلسي فإن المد يرتفع بشكل واضح للعيان. ولما كان الأقدمون يخضعون القمر لمراقبتهم اليومية؛ فليس من المستبعد أنهم لاحظوا وجود علاقة بين المد والدورة القمرية.
31
يمكن اعتبار هذا التأكيد على وجود علاقة من نوع ما بين القمر وحركة المد والجزر نقطة الانطلاق في أبحاث المد؛ فقد تم نشره في كتاب بيثياس (حول المحيط)، وهو الآن مفقود لكن اقتبس منه المؤلفون القدماء. لم يكتشف بيثياس فقط أنه كان يوجد مدان عاليان بكل يوم قمري، بل وجد أيضا أن النطاق الواسع اعتمد على أطوار القمر.
32
ويقال إنه أول من قاس ارتفاعات المد.
33
إذ وفقا لبليني فإن بيثياس لاحظ مدا مجاله 80 كوبتات (أكثر من 3 كيلومترات) في الرحلة التي قام بها إلى بريطانيا في عام 325ق.م تقريبا. وربما يكون مبالغا في هذا التقدير كثيرا، سواء من بليني أو بيثياس، حيث إن مجالات المد تكون في بحر الشمال بحدود 1,5 متر.
34 (5-5) ديكايارخوس (القرن 3ق.م)
ربما يكون ديكايارخوس المسيني (توفي 290ق.م)
Dicaearchus
أول من تنبه إلى أن حركات المد والجزر لا تتأثر بالقمر وحده، وإنما بالشمس أيضا.
35 (5-6) إيراتوسثينس (القرن 2ق.م)
لم يشك إيراتوسثينس (توفي 194ق.م)
Eratosthenes
لحظة أن المحيطات عبارة عن كتلة واحدة،
36
من ناحية اتصالها ببعضها بعضا، وأن العالم المأهول (في عصره أوربا وآسيا وإفريقيا) ما هو إلا جزيرة واحدة. وأشار إلى تشابه المد والجزر في المحيطين؛ الهندي والأطلسي.
37
وقد فسر ظاهرة المد والجزر مثل بيثياس أن سببها هو القمر.
38
ووفقا للكتابات عن المد والجزر التي نسبها إليه سترابو. فإن هذه المدود «شاذة» لدرجة كبيرة حسب المفهوم الذي استخدمه سلوقوس، وهي موزعة بتوترات محلية في الفترة غير المدية التي استحثها الطقس.
39
ويعتقد إيراتوسثينس أن تيارات المد والجزر تحدث في البحر الأبيض المتوسط بسبب اختلاف في المستوى في النقاط المجاورة.
40 (5-7) بوسيدونوس (القرن 1ق.م)
عندما توجه بوسيدونوس الرودسي إلى (قادس) في إسبانيا، حيث أقام مدة شهر كامل هناك، لاحظ التيارات المائية في المحيط الأطلسي وحركة المد والجزر فيه، وقد عزا الظاهرة إلى وجود تأثير مشترك للشمس والقمر.
41
كما وجد أن دورات المد والجزر السنوية متزامنة مع الاعتدالين والانقلابين. ولكنه عندما بحث عن سبب ذلك عاد مرة أخرى إلى نظرية الريح التي وضعها أرسطو.
42
كما انطلق بوسيدونوس من فكرة التعاطف الكوني ليقدم لنا - ربما - أول تفسير لحركة المد والجزر من خلال ربطها بأطوار القمر.
43
حيث كتب لفكرة التعاطف الكوني أن تظهر مرة أخرى لدى بعض الفلاسفة الطبيعيين في عصر النهضة، الذين يؤمنون بأن الأجسام يمكن أن تؤثر على بعضها بعضا عن بعد، عن طريق قوى سحرية من التعاطف، أو التجاذب، أو التنافر. نجد ذلك في قول مارسيلو فيشنو (توفي 1499م)
M. Ficino
في شرحه لكتاب «المأدبة» لأفلاطون: «كل قوة السحر تنطوي على الحب، إن عمل السحر هو انجذاب شيء إلى آخر بفضل تعاطفهما الطبيعي. إن أجزاء العالم تشبه أعضاء الحيوان، موحدة فيما بينها في طبيعة واحدة. ومن علاقاتها المشتركة يولد حب مشترك ومن هذا الحب يولد تجاذب مشترك، وهذا هو السحر الحقيقي. وهكذا؛ [فإن] حجر المغناطيس يجذب الحديد ، والعنبر يجذب القش، والكبريت يجذب النار، والشمس تسحب الأوراق والأزهار باتجاهها، والقمر يجتذب البحار.»
44
أي يوجد مواد تجذب إليها الحرارة فتتأثر بها، ويوجد مواد أخرى لا تتأثر بالحرارة وتنفعل بها، كما أنه يوجد مواد لا تتأثر بالمغناطيس وتنفعل به.
لقد كرس بوسيدونوس جزءا من أعماله المكتوبة لمراجعة المعرفة المدية في زمنه. للأسف لم يعد عمل بوسيدونوس محفوظا بل اقتبسه سترابو في كتابه الرائع الجغرافية
Geographika . وقد ظهر هذا الكتاب في سنة 23 للميلاد وهنا بإمكاننا أن نقرأ نص بوسيدونوس الموجود عن النظرية المدية: «عندما يرتفع القمر فوق الأفق إلى حد الإشارة البرجية (30 درجة)، يبدأ البحر بالانتفاخ، ويعزى بشكل ملحوظ إلى كون القمر في خط الطول؛ لكن عندما بدأ الجرم السماوي بالانحسار، تراجع البحر ثانية، رويدا رويدا، ومن ثم غمر اليابسة مرة أخرى حتى وصل القمر إلى خط الطول أسفل الأرض ... يصبح الفيض والغيض أكبر حوالي مرة من الاقتران (قمر جديد)، ومن ثم يتناهى إلى أن يصبح نصف القمر؛ ومرة ثانية، يزدادان في حالة البدر ويتناهيان ثانية حتى محاق نصف القمر. وإذا كان القمر في الحالات الاعتدالية (الميل صفر)، فإن سلوك المد والجزر يكون منتظما، إنما في حالات الذروة الشمسية (أقصى الميل)، غير المنتظم، بالنسبة إلى الكمية وإلى السرعة، فإن العلاقة تكون متناسبة مع النقطة الأقرب لاقتراب القمر.» وقد كتب سترابو مضيفا: «يوجد ينبوع في «معبد هيراكليوم» في قادس، وقد كان يظهر الماء (الجيد للشرب) بشكل مفاجئ لخطوات قليلة، ويتصرف الينبوع بشكل عكسي مع تدفق وجريان البحر، حيث يفرغ في كل مرة من المد الفيضي ويملأ في كل مرة مع انحسار الجزر.» هذا الموضوع عن المد والجزر المعكوسين في البئر هو موضوع مهم؛ لأنه يمثل في الواقع الملاحظات الأولى للمد الأرضي (أي على شكل بقع مدية). مع أن الظاهرة في البئر كانت معروفة لفترة طويلة من الزمن إلا أنه يظهر أن بوسيدونوس كان أول عالم يدرسها في أثناء سفراته العلمية المذكورة آنفا إلى إسبانيا. في حين أن بوسيدونوس يقر بأن «الجزر» يحدث في زمن معين من تدفق البئر. إلا أنه لم يعتقد حقا بأنه كان لديه أي شيء يتعلق بالمد والجزر. على كل، ناقش سترابون المشكلة بالتفصيل، ووصل إلى استنتاج بأن الظاهرة يجب أن تكون ظاهرة مدية بعض الشيء.
45
ظاهرة المد والجزر التي تظهر في الآبار ستعود للظهور مرة أخرى من خلال محمد بن حوقل البغدادي الموصلي (توفي بعد 367ه/بعد 977م) وكيف قام بالتحقق منها والرد على الخرافات المتعلقة بها.
46
التفسيرات التي وردت أعلاه عند بوسيدونوس عن التفاوتات اليومية (مرتين يوميا) والشهرية (مرتين شهريا) هي صحيحة تماما. ربما يفترض أحدنا أن «فعل المدة والسرعة» كان يعني بها بوسيدونوس أو سترابو ازدياد المستوى العالي وسرعة تعاقب المياه عالية «المد»، وبالتالي فإن «السرعة» هي أكبر بقليل عند المد والجزر الربيعي. غير أن تفسير التفاوت السنوي خطأ بشكل ملفت؛ لأننا نعلم حديثا، أنه في أي نظام مد نصف يومي يصل المد والجزر في الربيع إلى مستويات هي «الأعلى» حوالي الاعتدالين تقريبا وإلى المستويات هي «الأدنى» عند الانقلابين.
47
نخلص مما سبق إلى أن بوسيدونوس تمكن من المساهمة في نظرية تقدم تفسيرا لحركات المد والجزر على أساس الجذب المشترك لكل من الشمس والقمر، وتمكن من خلالها أيضا من تفسير سبب نشوء حركة أعلى المد وحركة أخفض المد.
48
كما لاحظ بوسيدونوس وعرف بشكل صحيح الأسباب العامة الكامنة وراء ظاهرة المد والجزر في البحار، وكيف تؤثر المقابلة والاقتران بين الأرض والقمر والشمس على هذه الظاهرة.
49
ويرى الباحث و. كابيل
W. Capelle
أن تفسير بوسيدنوس هذا كان آخر تفسير مستقل قائم على مشاهدة الظاهرة الكونية وتفسيرها وصلنا من العصور القديمة.
50 (5-8) سترابو (القرن 1م)
كان سترابو جغرافيا مميزا، فقد قام بعدد كبير من الرحلات، وأودع معارفه الجغرافية بكتاب أسماه «الجغرافيا» وصلنا كاملا. ومما نجده في هذا الكتاب إصراره على القول بالمحيط الواحد، والدليل على ذلك برأيه أن المد والجزر ظاهرة تحدث في كل مكان؛ لذلك يمكن لأي شخص أن يبحر من إسبانيا إلى جزر الهند الشرقية.
51
وقال سترابو في أماكن أخرى إننا إذا ذهبنا غربا بعيدا عن العالم القديم، سنصل إلى الهند، ما لم يتدخل بعض القارة؛ ويقترح أنه قد يكون هناك واحد أو أكثر من هذه الهيئات من الأرض على التوازي مع إسبانيا. وهذا ما نجده في الاقتباس الآتي : «إن أولئك الذين عادوا من محاولة التنقل حول الأرض، لا يقولون إنهم منعوا من مواصلة رحلتهم بسبب أي قارة اعترضتهم؛ لأن البحر بقي مفتوحا تماما، ولكن من خلال الرغبة في الحل، وندرة التزويد. تتوافق هذه النظرية أيضا بشكل أفضل مع انحسار وتدفق المحيطات؛ لأن الظاهرة، سواء في الزيادة أو النقصان، موجودة ومتطابقة في كل مكان، أو في كل الأحوال يكون الفارق ضئيلا، كما لو كان ناتجا عن إثارة بحر واحد، وهي ناتجة عن سبب واحد. يجب ألا ننسب إلى هيبارخوس، الذي يعارض هذا الرأي، وننكر أن المحيط يتأثر بالمثل، أو حتى لو كان الأمر كذلك، فلن يتبع ذلك أن المحيط الأطلسي تدفق في دائرة، وبالتالي عاد باستمرار إلى نفسه. يتفق سلوقوس البابلي مع هذا التأكيد. ولمزيد من التحقيق حول المحيط والمد والجزر، نشير إلى بوسودينوس وأثينودوروس (توفي سنة 7م)
Athenodorus ، اللذين ناقشا هذا الموضوع بالكامل: سنلاحظ الآن فقط أن هذا الرأي يتفق بشكل أفضل مع توحيد الظاهرة؛ وكلما زادت كمية الرطوبة المحيطة بالأرض، كان من الأسهل تزويد الأجرام السماوية بالأبخرة من هناك.»
52
وتشير الاقتباسات الآتية إلى أن سترابو ميز بوضوح بين موجات المد والجزر العادية والحقيقية. فهو يعتبر أن موجات المد والجزر ناتجة عن الاضطرابات في قاع البحر؛ لكنه يميل إلى رأي أرسطو بوجود دور كبير للرياح؛ حيث قال: «لكن ارتفاع الأنهار ليس عنيفا ومفاجئا، ولا يستمر المد والجزر لأي مدة زمنية، ولا يحدث بشكل غير منتظم، ولا يسبب الغمر على طول سواحل بحرنا، ولا أي مكان آخر. وبالتالي، يجب أن نبحث عن تفسير للسبب إما في الطبقة المكونة لقاع البحر، أو في ما يفيض. نحن نفضل البحث عنه في الأول؛ لأنه بسبب رطوبته يكون أكثر عرضة للتحولات والتغييرات المفاجئة في الموضع، وعلينا أن ندرك في هذه الأمور أن الرياح هي العامل الأكبر بعد كل شيء. لكنني أكرر ذلك، أن السبب المباشر لهذه الظواهر، ليس في حقيقة أن جزءا من قاع المحيط يكون أعلى أو أقل من جزء آخر، ولكن في ارتفاع أو انخفاض الطبقات التي ترتكز عليها المياه. من الواضح أنه من الخيال، أنه حدث في أي وقت مضى فيضان ساحق، للمحيطات، وفي التأثيرات من هذا النوع التي تواجهها، تتلقى زيادة ونقصانا مستقرين ودوريين معينين.» ومع ذلك، لم يذكر ما يعتبره السبب المادي للمد والجزر، على الرغم من أنه قد ألمح بالفعل إلى الأبخرة المحيطة بالأجرام السماوية. إنه مجرد، بعد أن شبه أثينودوروس هذه الظاهرة بشهيق الكائن الحي، كما يفعل شعراء اليوم؛ «لأنه بعد طريقة الكائنات الحية، التي تستمر في شهيق وزفير أنفاسها باستمرار، وبالتالي فإن البحر بطريقة مماثلة يحافظ على حركة مستمرة داخل وخارج نفسه.»
53
خريطة العالم كما وضعها سترابو في القرن (1ق.م) (مصدر الصورة: سارتون، جورج، تاريخ العلم، ج6، ص19.) ونلاحظ كيف أنه أحاط اليابسة بكتلة مائية واحدة.
كما وصف سترابو المد والجزر حول إسبانيا والبرتغال والخليج العربي وإنجلترا وإيطاليا والدنمارك. ووصف المد والجزر في قادس وعدم المساواة في المرحلة وربطها بشكل صحيح مع عمر القمر، ولكن وصف الزيادة السنوية المفترضة (في النطاق) كان بلا شك يعتمد على الملاحظات غير الصحيحة. سترابو هو أول كاتب يقدم وصفا للمد والجزر المداري وعدم المساواة النهارية. في إشارة إلى عدم المساواة السنوية في مستوى المياه، ولاحظ المراحل الدورية لنهر النيل والأنهار في الهند.
54 (5-9) بلوتارخ (القرن 1م)
قدم بلوتارخ (توفي 100م)
نظريات العديد من الفلاسفة حول سبب المد والجزر، ولكن ملاحظاته على بيثياس تبين عدم دراسته للظاهرة. بينما يقول بلوتارخ إن معظم الفلاسفة اعتبروا الأرض بمثابة حيوان، إلا أنه لا يقول شيئا عن نسبة المد والجزر إلى تنفسه أو شربه لجزء معين من الماء. مثل هذه المفاهيم ذكرت من قبل سلينوس (القرن 3م)
Solinus ، وأبولونيوس التياني أو بليناس الحكيم (توفي 100م)
Apollonius of Tyana ، وغيرهما.
55 (5-10) بطلميوس (القرن 2م )
كان بطلميوس (توفي حوالي 169م)
يعتقد بتأثير كوكب زحل على مياه البحر. حيث يمكن له أن يولد المد والجزر فوق معدلاته الطبيعية مسببا الفيضانات وتلوث الماء.
56 (6) المبحث السادس: الرومانيون
لقد كان على الرومان، خصوصا بعد عصر القيصر، في كثير من الأحيان مواجهة المد الهائل الذي يزور سواحل البرتغال وفرنسا وبريطانيا العظمى.
57
لذلك ظهر عدد من المؤلفين والمهتمين بتفسير هذه الظاهرة. ويبدو أن صعود وهبوط المد كان معروفا وشائعا بين الرومان ويمكن الاستدلال عليه بسهولة من خلال إشارة المعجم اللاتيني لكلمات مثل
aestus
و
tumesco .
58 (6-1) سنيكا (القرن 1م)
تحدث الشاعر الروماني ماركوس آنايوس لوكانوس سنيكا (توفي 65م)
M. A. L. Seneca ، في كتابه (فارساليا
) عن ظواهر المد والجزر في السواحل الفرنسية متسائلا بعمق عن سبب حدوث هذه الظواهر، حيث قال: «هناك البهجة نفسها على هذا الشاطئ؛ لأنه يبدو أن الأرض والماء تتنازعان، حيث يتم هجرها وغمرها بدورها بالمحيط. هل المحيط هو نفسه الذي يلوح بموجاته من طرف المحور، ثم يعيدها إليها؟ هل هي العودة الدورية للنجوم الليلية التي تدفعها قبل ذلك؟ هل الشمس تجذبها لإطعام لهيبها، وتضخ البحر وترفعه نحو السماء؟ دع أولئك الذين يسعون لدراسة عمل الخلق يكشفون سر هذا اللغز. من ناحيتي، كما أخفتني الآلهة عن السبب العظيم لهذه الحركة العظيمة، أنا لا أسعى لفهمها.»
59
هذا التصور من جانب سينيكا حول السبب الرئيس للعمل المنتظم للمد والجزر، وجاذبية القمر، لم يقدم فيه أي جديد على من سبقه.
60 (6-2) بليني الأكبر (القرن 1م)
ربط الروماني گايوس بلينيوس سكوندوس (توفي 79م)
Gaius
أو بليني الأكبر بين ظاهرتي المد والجزر وتأثير القمر.
61
فقد وصف في كتابه (التاريخ الطبيعي) دورة المد والجزر مرتين يوميا وحدوث أقصى مدى للمد والجزر بعد أيام قليلة من قمر الهلال أو البدر. وقد حدد بليني الأكبر أن هناك فاصلا ثابتا محليا بين العبور القمري والمد العالي التالي في موقع معين. كما وصف كيف يكون نطاق المد والجزر في الاعتدالين في آذار (مارس)، وكانون الأول (ديسمبر) أكبر من الموجود في الانقلاب الصيفي في حزيران (يونيو)، وانقلاب الشتاء في كانون الأول (ديسمبر).
62
قال بليني الأكبر في «التاريخ الطبيعي»: «... كل هذه التأثيرات [المدية] هي من النمط نفسه الذي ازداد بفعل التغيرات السنوية للشمس، ويرتفع المد والجزر «للأعلى» عند الاعتدالين وأكثر من ذلك بكثير في الخريفي منه في الربيعي، بينما يكون «أدنى» حوالي الانقلاب الشتوي ويبقى أكثر من ذلك عند الانقلاب الصيفي ... وليس دقيقا عند البدر ولا حتى عند الهلال بل بعدهما.» وهكذا يقدم لنا بليني التفسير الصحيح عن التفاوت الاعتدالي/الانقلابي، والذي يناقض التفسير المنسوب إلى بوسيدونوس.
63
إذن فقد كان بليني على دراية بوجود فترة شهرية ثابتة تقريبا لمكان معين؛ وتوصل لحقيقة أن المد والجزر يحدث أعلى بالقرب من الاعتدالين منه قرب الانقلابين. وحقيقة أن المد والجزر على الساحل الخارجي يرتفع أعلى من ذلك الموجود على طول شواطئ البحر الأبيض المتوسط.
64
الفصل الثاني
ملاحظة ظاهرة المد والجزر في البحار والأنهار عند العرب
مقدمة
نظرا لأن أهم المدن العربية والإسلامية تقع على البحار أو الأنهار أو على مصبات الأنهار، فإن نسبة كبيرة من أرصاد المد والجزر التي لدينا تتعلق بهذه المواقع. هذه الأرصاد إما إنها سجلت من قبل المؤرخين المقيمين في هذه المدن، أو من قبل الجغرافيين والرحالة الذين زاروا تلك المدن.
وقد سجل لنا الجغرافيون العرب الكثير من مشاهداتهم وأرصادهم لظاهرة المد والجزر، وذلك سواء في البحار أو الأنهار. وقد حاولوا أن يقدموا لنا كل ما استطاعوا من معلومات أو قصص أو آراء حول أرصادهم تلك.
في الواقع لا يكاد يظهر أثر المد والجزر في الأنهار، والسبب في ذلك أنها صغيرة وتتحرك، وبالتالي لا يظهر فيها أثر الجاذبية كما هو الحال في البحار والمحيطات.
1
فالبحر يشبه بركة كبيرة وعميقة يرتفع فيها الماء ويهبط مع المد المحيطي، ويعتبر النهر بمثابة قناة تؤدي إليه. ويولد الارتفاع والهبوط الإيقاعيان للبحر أمواجا تنتقل إلى أعلى النهر، أيا كان سبب تذبذب البحر. تبعا لذلك، تعود موجة المد في النهر بأصلها مباشرة إلى المد في البحر، والتي تنتج في حد ذاتها عن عوامل تشكل المد والجزر بسبب جاذبية الشمس والقمر. وتتقدم تلك الأمواج الطويلة في المياه الضحلة بسرعة تعتمد فقط على عمق الماء، وتعتبر تلك الأمواج طويلة عندما يكون طولها ضعف عمق الماء على الأقل.
2
سنحاول في هذا الفصل إجراء مسح شامل لكل ما وصلنا من أعمال الجغرافيين والمؤرخين العرب (المخطوط منها والمطبوع)، وتوثيق أماكن أرصادهم للمد والجزر سواء في البحار أو الأنهار.
لكننا وجدنا أن نلقي في البداية نظرة سريعة على تعريف البحار عند العرب، وما هي التسميات الحديثة لأسماء البحار والمحيطات التي كانت شائعة ومنتشرة في كتب التراث العلمي العربي. (1) المبحث الأول: تعريف البحار
قدم لنا الحسن بن البهلول (القرن 4ه/10م) تعريفا مبسطا للبحار، منوها إلى الدورة الهيدرولوجية التي تنشأ بين البحار والأمطار والأنهار.
قال ابن البهلول: «إن البحار، إنما هي مواضع عميقة في الأرض. ومن شأن الماء طلب العمق، فتنصب المياه من الأنهار والأودية والسيول، فتستنقع فيه. فما كان من ذلك عذبا؛ فإنه يصير فوق لخفة العذب. وما كان مرا أو مالحا، صار إلى أسفل لثقله. فإذا مرت عليه الشمس، رفعت العذب لخفته. فما كان من ذلك لطيفا جدا، صار هواء. وما كان دون ذلك في اللطافة، صار ندى ومطرا. وإنما لا تستبين الزيادة في البحر، مع كثرة ما يجري فيه من الأنهار والأودية، لسعته. وإنها لا تبقى، بل ترفع الشمس منها لطيفها، فيصير منه الندى والأمطار. ولا تنقص أيضا؛ لأن الذي يرتفع منها، يعود إليها في الأودية والأنهار. وربما نقصت البحار في طول الزمان. وربما زاد بعضها. ولا يستبين ذلك في قدر عمر إنسان، ولا إنسانين.»
3
أما التعريف الحديث للبحار والمحيطات، فهو يقرر بأن البحار مسطحات مائية صغيرة إذا ما قورنت بالمحيطات التي تعد مسطحات مائية كبرى.
4
والحقيقة، هناك تقارب كبير بين تعريف ابن البهلول والتعريف الحديث. فالموضع العميق الذي افترضه ابن البهلول في تعريفه، لا يقل أهمية عن الانتشار السطحي للكتلة المائية.
لقد سمي البحر بحرا عند العرب لاتساعه وعمقه، ولكثرة الماء فيه، سواء كان عذبا أو مالحا، وفي لغة العرب يوجد عدة مرادفات لكلمة البحر مثل: القميس، والقاموس، والعيلم، والطيسل، والطيش، والخضم، واليم.
5
وذكر ابن فارس (توفي 395ه/1004م) في كتابه «معجم مقاييس اللغة» في مادة «قمس» هذا النص: «قمس: القاف والميم والسين أصل صحيح يدل على غمس شيء في الماء، والماء نفسه يسمى بذلك. من ذلك قمست الشيء في الماء: غمسته. ويقال : إن قاموس البحر: معظمه.»
6
وعلينا ألا نأخذ على العرب خلطهم بين «البحر» و«المحيط»؛ لأن ذلك يرتبط بالدرجة الأولى بالكشوفات الجغرافية التي كانت محدودة، وبالجغرافيين المنظرين.
كما أن هذا الخلط كان واضحا في التراث اليوناني الذي وفد إليهم مترجما. ففي مرحلة ما قبل الإغريق كان هناك تعبير اصطلاحي شائع هو «البحار السبعة»، وهو يشمل المحيطين الهندي والجنوبي، والمحيط المتجمد الشمالي، والمحيط الهادي الشمالي والجنوبي، والمحيط الأطلسي الشمالي والجنوبي، كلها كان يطلق عليها اسم بحر. وفي مرحلة ما بعد الإغريق، كان هناك تداخل بين تعريف البحر والمحيط، ففي (القرن 5ق.م) كان لا يزال تعبير البحار السبعة شائعا، وبدأ يتم تخصيص لفظ المحيط للمحيط الهندي فقط، أما البحار السبعة الأخرى فهي: البحر الأحمر، والأسود، وآزوف، والأدرياتي، وقزوين، والخليج العربي.
7
سترد معنا كثيرا في النصوص العربية أسماء بعض البحار التي عرفوها، وسنورد فيما يأتي قائمة بها كما وردت عند العلماء العرب مع مقابلاتها الحالية:
8 (1)
البحر الأخضر: أطلق على ثلاثة مسطحات مائية وهي: البحر الأبيض المتوسط، والمحيط الأطلسي والبحر الهندي. (2)
بحر الخزر أو بحر الأعاجم أو بحر جرجان أو البحر الخرساني: بحر قزوين. (3)
بحر الزنج أو بحر الحبش: المحيط الهندي المجاور لساحل أفريقيا الشرقي. (4)
مجمع البحرين أو بحر الزقاق أو معبرة هرقليس: مضيق جبل طارق. (5)
بحر مايطس أو ماوطس: بحر آزوف (متفرع من البحر الأسود). (6)
بحر هرقند: خليج البنغال (جزء من المحيط الهندي). (7)
بحر بنطس أو بحر البرغر: البحر الأسود. (8)
بحر الروم: البحر الأبيض المتوسط. (9)
البحر المحيط:
9
المحيط الأطلسي. (10)
بحر البنادقة: البحر الأدرياتي. (11)
بحر الهند: المحيط الهندي. (12)
بحر لاوري: البحر العربي. (13)
بحر فارس: الخليج العربي. (14)
بحر القلزم: البحر الأحمر. (15)
بحر أرميه: البحر الميت. (16)
بحر أخلاط: بحيرة وان. (17)
بحر خوارزم: بحر آرال. (18)
بحر ورتك: البلطيق.
خريطة توزع البحار والمحيطات كما رسمها ابن الوردي (توفي 852ه/1447م). (مصدر الصورة: مخطوطة خريدة العجائب وفريدة الغرائب، مكتبة الدولة، برلين، رقم (
Sprenger
14)، ص3ظ-4و.)
كما سترد معنا تقسيمات للمناطق الجغرافية، نوردها فيما يأتي حسب مساحتها (من الأكبر إلى الأصغر): (1)
الإقليم. (2)
الكورة. (3)
الرستاق. (4)
القصبة. (5)
مدينة . (6)
القرية.
خريطة توزع الأقاليم الإسلامية في القرن الرابع الهجري/العاشر للميلاد. (مصدر الصورة والتعليق: مجموعة من المستشرقين، تراث الإسلام، ترجمة: جرجيس فتح الله، ط2، دار الطليعة للنشر، بيروت، 1972م، ص126.) (2) المبحث الثاني: علماء القرن (3ه/9م) (2-1) أحمد البلاذري
تكلم أحمد بن يحيى بن جابر بن داود البلاذري (توفي 279ه/892م) عن نهر دجلة العوراء فقال: «حدثني جماعة من أهل العلم، قالوا: كان لدجلة العوراء وهي دجلة البصرة خور، والخور طريق للماء لم يحفره أحد، يجري فيه ماء الأمطار إليها ويتراجع ماؤها فيه عند المد وينضب في الجزر.»
10
وفي حديث سهراب بن سرابيون (توفي نحو 330ه/941م) عن صفة نهر دجلة العوراء قال: «وإذا خرج الخارج من نهر أبي الأسد فإن دجلة العوراء تستقبله معترض له؛ فالطريق إلى البصرة على يمين الخارج ويسرته إلى عبدسي والمذار وليس لها هناك مصب ولا مخرج بل هي نهاية يلحقها المد والجزر.»
11
وقد أضاف ابن الفقيه أحمد بن محمد بن إسحاق بن إبراهيم الهمذاني (توفي نحو 340ه/نحو 951.م) إلى رواية البلاذري قوله: «وكان طوله قدر فرسخ».
12 ،
13 (2-2) أبو القاسم بن خرداذبة
ذكر عبيد الله بن أحمد بن خرداذبة (توفي نحو 280ه/نحو 893م) أنه «لكل مرقى من مراقي الصين نهر عظيم تدخله السفن ويكون فيه المد والجزر.»
14 (3) المبحث الثالث: علماء القرن (4ه/10م) (3-1) سهراب بن سرابيون
قال سهراب بن سرابيون: «إن البصرة على فيض لها، وهذه الأنهار [الروافد التسعة] تصب إليه والمد والجزر يلحق إلى أواخرها ويجزر منها.»
15
وقد تحدث إبراهيم بن محمد الفارسي الإصطخري (توفي 346ه/957م) عن الأنهار التي تمر بالبصرة: «وهذه الأنهار مخترقة بعضها إلى بعض؛ ولذلك عامة أنهار البصرة، حتى إذا جاءهم المد تراجع الماء في كل نهار حتى يدخل نخيلهم وحيطانهم وجميع أنهارهم من غير تكلف. فإذا جزر المد انحطت حتى تخلوا منها البساتين وتبقى في الأنهار.»
16
كما ذكر أبو المظفر سبط ابن الجوزي (توفي 654ه/1265م) أن ملكشاه أقام في البصرة خصيصا لمشاهدة المد والجرز فيها، حيث قال: «وفي ربيع الأول توفي رئيس العراقيين أبو أحمد بن عبد الواحد بن الخضر النهاوندي على باب ملكشاه بأصبهان. وفيه سار ملكشاه إلى خوزستان، ودخل البصرة، فأقام يوما واحدا لمشاهدة المد والجزر.»
17
وأما عن سبب الملوحة التي في البصرة فيقول زكريا بن محمد القزويني (توفي 682ه/1283م): «وهي مدينة على قرب البحر كثيرة النخيل والأشجار. سبخة التربة، ملحة الماء لأن المد يأتي من البحر، يمشي إلى ما فوق البصرة بثلاثة أيام. وماء دجلة والفرات إذا انتهى إلى البصرة خالطه ماء البحر فيصير ملحا.»
18
ومما ذكره إبراهيم فصيح الحيدري (توفي 1299ه/1881م) في كتابه «تاريخ المجد في تاريخ بغداد والبصرة ونجد» أنه عندما زار البصرة وشاهد «ما فيها من عجائب الأنهار وغرائب النخيل والأشجار الممتنعة الحد والحصر مع ما فيها من المد والجزر في اليوم مرتين بحيث تمتلئ الأنهار والسواقي وكل عين وقد آلت إلى الخراب فلم يبق منها إلا الاسم واندرست آثارها فلم يبق إلا الرسم.»
19
و«في بيان أنهار البصرة الموجودة في هذا العصر، الكبار المحصية والصغار التي لا يحصيها عد ويجري فيها الماء من شط يقال له شط العرب، وهو مجتمع دجلة والفرات ويحصل لهذا الشط ولجميع الأنهار المد والجزر في اليوم والليلة مرتين؛ مرة في الليل وأخرى في النهار وتختلف ساعات المد تقديما وتأخيرا والأنهار الكبار لم تزل مملوءة من الماء إلا العشار فإنه يخلو من الماء حالة الجزر، وأما الصغار فهي خالية أثناء الجزر فإذا حصل المد امتلأت الصغار وازدادت الكبار التي تجري فيها السفن وجميع الأنهار الكبيرة خارجة من شط العرب.»
20 (3-2) أبو إسحاق الإصطخري
ذكر إبراهيم بن محمد الفارسي الإصطخري عددا من الأماكن التي رصد فيها المد والجزر. ففي حديثه عن خوزستان قال: «وتتصل زاوية من خوزستان بالبحر فيكون له خور يخاف على سفن البحر إذا انتهت إليه فإنه يعرض، واستجمع مياه خوزستان بحصن مهدي فيتصل بالبحر ويعرض هناك حتى ينتهي في طرفه المد والجزر ويتسع حتى كأنه من البحر.»
21
وقد كرر نقل هذه الرواية كل من: محمد بن حوقل البغدادي الموصلي (توفي بعد 367ه/بعد 977م)،
22
وياقوت الحموي (توفي 626ه/1229م)،
23
وعماد الدين إسماعيل بن محمد بن عمر أبو الفداء الحموي (توفي 732ه/1331م)،
24
ومحمد بن علي البروسوي سباهي زاده (توفي997 ه/1589م).
25
وفي حديث الإصطخري عن سجستان قال إن فيها: «نهر يسمى سناروذ فيجري على فرسخ من سجستان وهو النهر الذي يجري فيه السفن من بست إلى سجستان إذا امتد الماء ولا يجري إليهم السفن إلا في زيادة الماء، وأنهار مدينة سجستان كلها من سناروذ، ثم ينحدر فيأخذ منه نهر شعبة فيسقي مقدار ثلاثين قرية، ثم يأخذ منه نهر يسمى ميلى فيسقي رساتيق
26
كثيرة، ثم يأخذ منه زالق فيسقي رساتيق كثيرة وما يبقى من هذا النهر يجري في نهر يسمى كزك، وقد سكر هناك سكر يمنع الماء أن يجري إلى بحيرة زره حتى يجيء المد فإذا جاءت أيام المد زال السكر ووقع فضل هذا النهر إلى بحيرة زره.»
27
وقد أشار عبد المؤمن بن عبد الحق بن شمائل القطيعي البغدادي (توفي 739ه/1337م) إلى المد الحاصل في هذا النهر قائلا «سناروذ: بالفتح، وبعد الألف راء: اسم لنهر سجستان، يأخذ من نهر هندمند، فيجري على فرسخ من سجستان، يتشعب منه عدة أنهر يسقي الرساتيق وتجري فيه السفن أيام المد.»
28
وفي حديث الإصطخري عن بحر فارس قال: «ولهذا البحر في اليوم والليلة مرتان مد وجزر، من حد القلزم إلى حد الصين حيث انتهى، وليس لبحر المغرب ولا لبحر الروم ولا لسائر البحار مد وجزر غير بحر فارس، وهو أن يرتفع الماء قريبا من عشرة أذرع ثم ينصب حتى يرجع إلى مقداره.
29 ،
30
وقد كرر هذه الرواية كل من: محمد بن محمد بن عبد الله بن إدريس الإدريسي (توفي 560ه/1165م)،
31
وأبو الفداء الحموي.
32
لكن ابن حوقل تحدث عن بحر فارس برواية أخرى أدق في تحديد الأماكن التي لا يحدث فيها مد وجزر، حيث قال: «ولهذا البحر مد وجزر في اليوم والليلة مرتان من حد القلزم إلى حد الصين حيث انتهى، وليس لبحر المغرب من جانب المغرب ولا لبحر الروم من الجانب الشرقي مد ولا جزر إلا ما بالبحر المحيط في شمال الأندلس فإنه من ناحية جبل العيون إلى لب إلى أكشنبة إلى نواحي شلب وقصر بني ورديسن إلى المعدن ونواحي لشبونة وشنترين وشنترة فإن فيه مدا وجزرا وزيادة تظهر ويرتفع الماء هناك فوق العشر الأذرع كارتفاعه بالبصرة ثم ينضب حتى يرجع إلى قدره الأول.»
33
خريطة توزع البحار حسب الإصطخري. (مصدر الصورة: الإصطخري، أبو إسحاق، كتاب الأقاليم، ص19.)
وفي حديث الإصطخري عن النيل قال: «وبأرض مصر بحيرة يفيض فيها ماء النيل يتصل ببحر الروم تعرف ببحيرة تنيس، إذا امتد النيل في الصيف عذب ماؤها فإذا جزر في الشمال أوان الحر غلب ماء البحر عليها فملح ماؤها.»
34
صورة بحر الروم (البحر الأبيض المتوسط) وما يحيط به. (مصدر الصورة: الإصطخري، أبو إسحاق، كتاب الأقاليم، ص39.)
وفي حديثه عن بحر الخزر قال: «وهو بحر مالح مظلم لا مد له ولا جزر».
35 ،
36
وقد كرر هذه الرواية كل من: شمس الدين أبو عبد الله محمد الدمشقي (توفي 727ه/1327م)،
37
وزين العابدين محمد بن أحمد بن إياس (توفي 930ه/1523م) مضيفا أنه: «وهو بحر صعب السلوك، كثير الاضطراب، شديد الأمواج، لا مد فيه ولا جزر.»
38
ويفسر أبو حامد الغرناطي (توفي 565ه/1170م) سبب عدم حدوث مد وجزر فيه بقوله: «وأما بحر الخزر وبحر خوارزم وبحر أخلاط وبحر أرمية والبحر الذي عنده مدينة النحاس وغير ذلك من البحار الصغار فهي منقطعة عن البحر الأسود، ولذلك فهي ليس فيها جزر ولا مد، وإنما هي ماء له مادة من الأنهار الكبار. وأكبرها بحر الخزر.»
39
صورة بحر الخزر كما وردت عند الإصطخري. (مصدر الصورة: الإصطخري، أبو إسحاق، كتاب الأقاليم، ص97.) (3-3) شمس الدين المقدسي البشاري
قال محمد بن أحمد بن أبي بكر البناء المقدسي البشاري (توفي نحو 380ه/نحو 990م) عن نهر الأبلة: «والماء بالبصرة ضيق؛ لأنه يحمل في السفن من الأبلة
40
وأما الماء الملاصق لها فغير حلو ولا طيب ويقال فيه ثلثه ماء البحر وثلثه ماء الجزر وثلثه ماء الحجر؛ لأن الماء إذا جزر شمرت شطوط الأنهار فبلذ الناس عليها ثم يقبل المد فيحمل تلك البلاذات.»
41
وقد قال شاعر في مد وجزر هذا النهر:
ويا حبذا نهر الأبلة منظرا
إذا مد في إبانه النهر أو جزر
42
وحدثنا أبو الفداء الحموي بشكل مفصل أكثر عن نهر الأبلة فقال: «والأبلة بليدة عند فوهته وذلك بعد أن يتجاوز دجلة سمت البصرة ويسير نهر الأبلة إلى جهة البصرة ويتفرع منه أنهار تسقي ما على جانبيه من البساتين الملتفة التي هي إحدى متنزهات الدنيا ويجري نهر الأبلة مغربا، ثم يعطف إلى جهة الشمال كالقوس حتى يلتقي مع نهر معقل عند البصرة فإذا مد البحر جرى نهر الأبلة في نهر معقل ورجع الماء قهقرى حتى ينتهي المد وتأتي السفن من بحر الهند وتصعد من عبادان في دجلة إلى الأبلة وتصعد في نهر الأبلة إلى البصرة، ثم تسير في نهر معقل إلى دجلة، وإذا جزر البحر رجع الماء وجرى نهر معقل في نهر الأبلة وهما على ذلك دائما، ونهر معقل مع نهر الأبلة مثل نصف دائرة ودجلة بمنزلة الوتر أو القطر وما تحيط به هذه الأنهر تسمى الجزيرة العظمى وجميعها بساتين ومزدرع.»
43
ويضيف أبو الفداء: «وأما الأبلة فإنها في سمت الشرق عن البصرة، وملوحة ماء البحر تصل إلى فم نهر معقل عندما يمد البحر، وأهل تلك البلاد يسقون الماء الحلو عندما يجزر البحر. وأما بعد نهر معقل فلا تظهر الملوحة، ولا يؤثر فيه المد تغيرا.»
44
وقال البشاري: «وميراقيان لها رستاق واسع على نهر يصل إليه المد والجزر .»
45 (4) المبحث الرابع: علماء القرن (5ه/11م) (4-1) ناصر خسرو
رصد أبو معين الدين ناصر خسرو الحكيم القبادياني المروزي (توفي 481ه/1088م) المد والجزر في عبادان التي تقع «على شاطئ البحر؛ وهي كالجزيرة إذ إن الشط ينقسم هناك إلى قسمين مما يجعل بلوغها متعذرا من أي ناحية بغير عبور الماء، ويقع المحيط جنوب عبادان، ولذا فإن الماء يبلغ سورها وقت المد كما أنه يبتعد عنها أقل من فرسخين أثناء الجزر. ويشتري بعض المسافرين الحصير من عبادان ويشتري البعض الآخر المأكولات منها، وفي صباح اليوم التالي أجريت السفينة في البحر وسارت بنا شمالا وكان المد حلوا مستساغا لغاية عشرة فراسخ ذلك؛ لأن الشط يسير كاللسان في وسط البحر.»
46
وقد ذكر ابن سعيد المغربي (توفي 685ه/1286م) في الجزء الخامس من الإقليم الرابع حالة المد التي تحدث في نهر دجلة، وكيف أنها تستمر لمدة ستة أيام، وهو أمر غريب لم يذكره أحد غيره. كما أنه يسمي جزيرة «عبادان» ب «عبدان» دون ألف بعد الباء؛ قال ابن سعيد: «وإذا صعد المد من نهر فارس لم يشرب من هذه المياه.
47
ويذكرون أنه يصعد ستة أيام، وتحل البصرة طوله سبعة أيام من العين إلى العين، يعنون من عباس إلى عبدان. وتقع عبدان على نهر فارس، وهو يدور بها، فلا يبقى بينها وبين البر إلا قليل، حيث الطول خمس وسبعون درجة وثلاثون دقيقة والعرض إحدى وثلاثون درجة وخمس دقائق.»
48 (4-2) أبو عبيد البكري
تحدث عبد الله بن عبد العزيز بن محمد البكري الأندلسي (توفي 487ه/1094م) أنه يوجد في بلاد السودان جزيرة أيوني على مقربة من أوليل «وهي عند المد جزيرة لا يوصل إليها من البر وعند الجزر يوصل إليها على القدم.»
49
وقد كرر نقل هذه الرواية مؤلف مجهول (بعد القرن 6ه/12م).
50
وفي حديث البكري عن صفاقس قال إنها تقع في «وسط غابة زيتون، ومن زيتها يمتار أهل مصر والمغرب وصقلية والروم، وربما بيع الزيت بها أربعين ربعا بمثقال واحد، وهي محط لسفن الآفاق، وإذا جزر الماء بقيت السفن في الحمأة فإذا مد رجعت السفن وعامت، ولا بد من المد والجزر كل يوم.»
51
وقد كرر نقل هذه الرواية محمد بن عبد الله بن عبد المنعم الحميري (توفي 900ه/1495م).
52 (5) المبحث الخامس: علماء القرن (5ه/12م) (5-1) الشريف الإدريسي
تكلم الشريف الإدريسي عن أنهار البصرة بشكل مفصل حيث قال: «وجميع أنهار البصرة المحيطة بشرقيها يصب بعضها في بعض ويتشعب بعضها من بعض وأكثرها يدخله المد والجزر من البحر؛
53
فإذا كان المد دخل الماء من البحر وتراجعت مياه الأنهار فصبت في البساتين والمزارع وسقتها وإذا كان الجزر انحجزت وعادت الأنهار جارية على حسب عادتها. ومنها أنهار كثيرة محتفرة لا يجري بها ماء وإنما يدخلها ردع المياه الواصلة إليها مع المد، والغالب على مياه هذه الأنهار الملوحة.»
54
وقد أخذ عن الإدريسي محمد بن عبد الله بن عبد المنعم الحميري.
55
كما تحدث الإدريسي عن نهر تستر الذي يجري في خوزستان، حيث «يخرج من نهر تستر نهر يسمى بنهر المسرقان فيمر مغربا حتى ينتهي إلى مدينة عسكر مكرم، وعليه هناك جسر كبير نحو من عشرين سفينة، وتجري فيه السفن الكبار ويتصل بالأهواز. وبين عسكر مكرم والأهواز ثلاثون ميلا في الماء فإذا كان الماء في المد وزيادته في أول الشهر عبر هناك بالمراكب، وإن كان الجزر لم يمكن المراكب السير فيه لأن الماء به يجف ولا يبقى منه إلا عدد منقطعة عن اتصال الجري».
56
وقد تحدث أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن عبد المنعم الحميري عن نهر تستر أيضا فقال: «وبأرض خوزستان مياه جارية وأودية غزيرة وأنهار سائلة، وأكبر أنهارها نهر تستر، ويسمى دجيل الأهواز ... ولا يضيع شيء من ماء هذا النهر إنما يتصرف كله في سقي الأرض وغلات القصب وضروب الحبوب والنخيل والبساتين والمزارع، وفيه المد والجزر.»
57
وعندما تحدث الإدريسي عن أخوار الصين ذكر أن «المد يدخلها من البحر والجزر يكون منها أيضا في كل يوم وليلة مرتين.»
58
وذكر كذلك وادي سلا في الأندلس «وهذا الوادي يدخله المد والجزر في كل يوم مرتين وإذا كان المد دخلت المراكب به إلى داخل الوادي وكذلك تخرج في وقت خروجها.»
59
كما ذكر أبو الفداء الحموي أن «سلا متوسطة بين بلاد المغرب الأقصى وقريبة من الأندلس، وتربتها رمل أحمر، ونهرها كبير يصعد فيه المد وهي مدينة كثيرة الرخاء والرخص.»
60
وذكر أن بوادي قابس يوجد «نهر صغير يدخله المد والجزر وترسي به المراكب الصغار وليس بكثير السعة وإنما يطلع المد للإرساء نحوا من رمية سهم.»
61
وقد كرر هذه الرواية محمد بن عبد الله بن عبد المنعم الحميري.
62
خريطة توزع البحار حسب الإدريسي. (مصدر الصورة: نزهة المشتاق في اختراق الآفاق، مخطوطة بودليان، رقم (
MS
)، ص2.)
وفي الأندلس «مدينة شنت مارية على معظم البحر الأعظم (المحيط الأطلسي) والسور منها يصعد ماء البحر فيه إذا كان المد.»
63
وقد كرر هذه الرواية محمد بن عبد الله بن عبد المنعم الحميري.
64
وفي حديثه عن لشبونة قال: «ومن القصر المتقدم ذكره إلى مدينة لشبونة مرحلتان ومدينة لشبونة على شمال النهر المسمى تاجه وهو نهر طليطلة وسعته أمامها ستة أميال ويدخله المد والجزر كثيرا.»
65
وقال عن نهر بوغو: «ونهر بوغو نهر كبير تدخله المراكب والشواني وماؤه يدخله المد والجزر أميالا كثيرة ومنه إلى موقع نهر دويرة خمسة عشر ميلا. وهذا النهر نهر كبير خرار كثير الماء شديد الجرية عميق القعر وعلى ضفته مدينة سمورة وبين سمورة والبحر ستون ميلا.»
66
بعدها تكلم عن أربعة أنهار أندلسية يحدث فيها المد والجزر أيضا، حيث قال: «ومن هذا النهر إلى موقع وادي مينو ستون ميلا، وهو نهر كبير عظيم واسع كثير العمق، والمد والجزر يدخله كثيرا، والمراكب تدخله إرساء وسفرا لما على ضفتيه من القرى والحصون وفي وسط هذا الوادي، وعلى ستة أميال من البحر حصن في جزيرة متوسطة النهر وهو في نهاية من الحصانة والمنع؛ لأنه على قمة جبل وعر ليس بكثير العلو ويسمى هذا الحصن أبراقة.
ومن نهر مينو إلى موقع نهر طرون ستون ميلا وهو أيضا نهر كبير يدخله المد والجزر أميالا كثيرة وعلى مقربة من البحر في وسطه جزيرة وفيها حصن كبير والنهر يضرب سورية من كلتا الناحيتين وهو عامر كثير العمارات وله أقاليم وعمارات متصلة.
ومنه إلى موقع نهر الأذر ستة أميال وهو نهر صغير لكنه يحمل المراكب الكبيرة إرساء ومن هذا النهر إلى مصب نهر وادي مرار ستة أميال وهو أيضا نهر كبير والمد والجزر يدخله وترسي به كبار المراكب وهو نهر جريه من قريب وعلى موقع هذا النهر في البحر جزيرة صغيرة غير معمورة فيها مرسى وماء وحطب.
ومن موقع هذا النهر إلى موقع نهر شنت ياقوب ستة أميال ويسمى هذا النهر نهر أناشت وهو نهر كبير كثير الماء رحب الفناء يدخله المد والجزر وتطلع فيه المراكب الكبار نحوا من عشرين ميلا وهناك قنطرة عظيمة عدد قسيها خمس قسي كبار جدا وارتفاعها بمقدار ما يدخله المركب الكبير بقلاعه وعلى طرف القنطرة حصن عظيم يسمى أناشت.»
67
ثم أشار إلى المد والجزر في نهر أرتقيرة: «ومن الماء الأحمر إلى أرمدة ستة أميال وهو حصن كبير على مقربة من البحر وله عمارات وقرى متصلة ومنه إلى حصن الفارو وهو حصن كبير جدا وبه أثر كنيسة عظيمة ومن الفارو إلى وادي أرتقيرة وهو نهر يدخله المد والجزر وعليه حصن يسمى منتويه ذبليه ستون ميلا وله زراعات وحراثات متصلة.»
68 (5-2) أبو حامد الغرناطي
تحدث أبو حامد الغرناطي عن المد والجزر في البحر الأسود، لكن كان يقصد به المحيط الأطلسي وليس البحر الأسود الذي يقع بين الجزء الجنوبي الشرقي لأوروبا وآسيا الصغرى ويتصل بالبحر المتوسط عن طريق مضيق البوسفور وبحر مرمرة ويتصل ببحر آزوف عن طريق مضيق كيرتش. حيث قال: «فأما البحر الأسود الذي يخرج منه بحر الروم وبينهما مجمع البحرين الذي عرضه ثلاثة فراسخ، وطوله عشرون فرسخا، والله أعلم. وفيه الجزر والمد من طلوع الشمس يعلو البحر الأسود، وينصب في بحر الروم من مجمع البحرين، حتى يفيض في بحر الروم ويخرج على جوانب البحر حتى يصل المد إلى خلف القسطنطينية، مسيرة شهور في ساعة واحدة حتى إلى وقت الظهر، فإذا استوت الشمس في كبد السماء، غاص البحر الأسود فعاد ينصب الماء من البحر الأخضر الذي هو بحر الروم في البحر الأسود إلى وقت مغيب الشمس فيستوي البحران ثم يعلو الأسود فيعود الماء يجري في مجمع البحرين إلى بحر الروم إلى نصف الليل، ثم ينصب أيضا في البحر الأسود إلى الصباح، يمد ويجزر كل يوم مرتين.»
69
كما تعرض زكريا بن محمد القزويني لذكر البحر الأسود (المحيط الأطلسي) معتمدا رواية الغرناطي، ومضيفا عليها قوله: «ولون البحر أسود كالحبر. وإذا أخذته في الإناء لا ترى فيه السواد، فلا يزال البحر الأسود يصب في البحر الأخضر إلى الزوال، فإذا زالت الشمس عاد الأمر معكوسا فيصب البحر الأخضر في البحر الأسود إلى مغيب الشمس، ثم يعلو البحر الأسود ويفيض في البحر الأخضر إلى نصف الليل، ثم ينعكس الأمر فيعلو البحر الأخضر ويصب في البحر الأسود إلى طلوع الشمس، وهكذا على التواتر، ذلك تقدير العزيز العليم.»
70
وقد كرر نقل هذه الرواية زين العابدين محمد بن أحمد بن إياس.
71 (6) المبحث السادس: علماء القرن (7ه/13م) (6-1) أبو الحسن الهروي
في إطار حديث علي بن أبي بكر بن علي الهروي (توفي 611ه/1215م) عن عجائب بحر الهند ذكر أن الجزر والمد الذي يحدث فيه «لا يوجد مثله في الربع المسكون إلا نهر مهران بمدينة المنصورة بالسند والملتان».
72 (6-2) ابن جبير
تحدث محمد بن أحمد بن جبير الأندلسي (توفي 614ه/1217م) عن مدينة ثرمة في جزيرة صقلية وعن المد والجزر الذي شهده بنفسه: «والجزيرة بأسرها من أعجب بلاد الله في الخصب وسعة الأرزاق. فأقمنا بها يوم الخميس الرابع عشر للشهر المذكور، ونحن قد أرسينا في واد بأسفلها ويطلع فيه المد من البحر ثم ينحسر عنه.»
73 (6-3) عبد الواحد المراكشي
ذكر عبد الواحد المراكشي (توفي 647ه/1250م) أن الناس بنوا قنطرة بين مدينة رباط الفتح وسلا العتيقة على نهر الرمان، وهي مصنوعة «من ألواح وحجارة يعبر الناس عليها حين يجزر النهر، فإذا مد عبروا في القوارب.»
74 (6-4) زكريا القزويني
لدى حديث زكريا بن محمد القزويني عن جزيرة دورقستان قال إنها «جزيرة بين بحر فارس ونهر عسكر مكرم خمسة فراسخ في خمسة فراسخ، ترفأ إليها مراكب البحر التي تقدم من ناحية الهند، لا طريق لها إلا إليها، وبها الجزر والمد في كل يوم مرتين.
75
وماؤها عذب، فإذا ورد المد عليها يبقى ملحا كثيرا.»
76
وقوله «مرتين» إشارة إلى المد والجزر نصف النهاري. (6-5) ابن سعيد المغربي
قال ابن سعيد المغربي عن النهر الكبير وموقعه في الأندلس: «وطول قرطبة، قاعدة الأندلس في مدة بني أمية، عشر درجات، وعرضها ثمان وثلاثون درجة ونصف. وهي على غربي النهر الكبير الذي عليه إشبيلية. وهذا النهر إنما حسن جانباه عند إشبيلية، ويصعد المد فيه من البحر المحيط اثنين وسبعين ميلا».
77 ،
78
كما تحدث عن المد الكبير الذي يحدث في نهر يانه: «وفي شرقي نهر تاجه، منبع نهر يانه، الذي يمر على بطليموس. وهو كبير يصعد فيه المد نحو ستين ميلا في آخر عرض الإقليم السادس.»
79 (7) المبحث السابع: علماء القرن (8ه/14م) (7-1) شيخ الربوة
ذكر شمس الدين أبو عبد الله محمد الدمشقي أن نهر قرطبة في الأندلس «يمد ويجزر كل ليلة ويوم.»
80
أما البحر الأبيض المتوسط فيذكر أنه يمد ويجزر مثل المحيط الأطلسي: «ولهذا البحر الرومي مد وجزر مع امتلاء القمر ونقصانه منه، وله مد وجزر في كل يوم وليلة كما البحر المحيط منه.»
81
طبعا لا يقصد أن البحر الأبيض المتوسط مثل المحيط الأطلسي من ناحية قوة المد والجزر، وإنما من ناحية حدوث الظاهرة. فهي بلا شك أقوى في المحيط الأطلسي.
وفي حديثه عن المحيط الجنوبي - والذي يدعى أيضا بالبحر الجامد وبحر الظلمات وبحر أصطيفون، وهو ما يعرف حاليا باسم «المحيط الهندي» - ذكر المد والجزر في جزيرة القمر الكبرى، وتحديدا في الخليج المتاخم لجبال أصطيفون، فقال: «وفي هذا الجبل خليج عظيم الدفع، لا يستطيع مركب صغير أو كبير أن يدخله لشدة حركته وسرعة جريانه بالمد والموج والغليان، دافعا أبدا من الجنوب إلى الشمال، وسعته نحو مائة ميل ومده وجزره هناك عظيم يرتفع في الأماكن المحصورة عن ست قامات، وينفرش في الأماكن المبسوطة نحو يوم. [و]يفعل ذلك في اليوم والليلة أربع مرات.»
82
وفي حديثه عن وادي الفرج في إشبيلية ذكر أنه «يأتيها من قرطبة يمد ويجزر في كل يوم.»
83 (7-2) أبو الفداء الحموي
ذكر عماد الدين إسماعيل بن محمد بن عمر أبو الفداء الحموي أن بحر أوقيانوس «يقع في هذا البحر أيضا المد والجزر في اليوم والليلة مرتين.»
84
وقد كرر هذه الرواية سباهي زاده.
85
وعن المد في نهر إشبيلية يقول الحموي: «ويقع في هذا النهر المد والجزر من البحر مثل دجلة عند البصرة ويبلغ فيه المد والجزر سبعين ميلا؛ وذلك إلى فوق إشبيلية عند مكان يعرف بالأرحى، ولا يملح ماؤه بسبب المد عند إشبيلية؛ بل يبقى على عذوبته.
86
وقد أضاف على هذه الرواية سباهي زاده «وبين مصب نهر إشبيلية في البحر وبين إشبيلية خمسون ميلا، فالمد يتجاوز إشبيلية عشرون ميلا ولا يبرح المد والجزر فيه يتعاقبان كل يوم وليلة وكلما زاد القمر نورا زاد المد، والمراكب لا تزال فيه منحدرة مع الجزر صاعدة مع المد.»
87
وقد ذكر أحمد بن محمد بن أحمد بن يحيى المقري التلمساني (توفي 1041ه/1631م) أن المد في نهر إشبيلية يبلغ 72 ميلا وليس 70 ميلا كما قال أبو الفداء: «ونهرها الأعظم الذي يصعد المد فيه اثنين وسبعين ميلا ثم يحسر، وفيه يقول ابن سفر:
شق النسيم عليه جيب قميصه
فانساب من شطيه يطلب ثاره
فتضاحكت ورق الحمام بدوحها
هزءا فضم من الحياء إزاره.»
88
أما عن المد والجزر قبالة شاطئ مدينة القطيف، وهي إحدى مدن المنطقة الشرقية ومركز محافظة القطيف في المملكة العربية السعودية حاليا فيقول الحموي: «وللقطيف سور وخندق، ولها أربعة أبواب، والبحر إذا مد يصل إلى سور القطيف، وإذا جزر ينكشف بعض الأرض، وللقطيف خور من البحر يدخل فيه المراكب الكبار الموسقة في حالة المد والجزر.»
89
وقد كرر هذه الرواية سباهي زاده.
90
وفي حديث لمؤلف مجهول (بعد القرن 9ه/15م) عن تاروت ذكر أنها «بليدة في الشرق عن القطيف ، وإذا مد البحر أحاط بها وبأرضها فتصير جزيرة، وإذا جزر البحر انكشفت بعض الأرض التي بينها وبين القطيف، فيصل إليها الناس بالبر.»
91
كما تحدث عن مدينة نبزرت في الأندلس حيث قال: «ومدينة نبزرت على نهر يجري في شرقيها وعليه المنازه، ولها بحيرة حلوة في جنوبيها وبحيرة مالحة في شرقيها تصب كل واحدة منهما في الأخرى ستة أشهر فلا الحلوة تفسد بالمالحة، ولا المالحة تعذب بالحلوة ... قال الشيخ عبد الواحد: وهي مدينة خراب، والبحيرات بها حسبما ذكروا ... قال العزيزي في أمر البحيرتين المذكورتين: إنه إذا جاء الشتاء وكثرت السيول على البحيرة فاضت على المالحة، ومدتها، وإذا جاء الصيف قل المد عنها وغارت واشتغلت عن المالحة فتمد المالحة إلى أيام السيول.»
92
أخيرا يحدثنا الحموي عن أحد أنهار أوربا، نهر طنابرس أو نهر دنيبر كما يسمى حاليا وكيف يعتريه مد كبير: «وأكبر الأنهار التي تنزل إلى بحيرة طوما نهر طنابرس الطويل الكبير المد الذي عليه كثير من عمائر البلغار والترك وعلى هذه البحيرة مدن كثيرة وعمائر غزيرة وأكثر سكانها البلغاريون ومعظمهم مسلمون وفيهم نصارى.»
93
وتقع مدينة البلغار التي ذكرت في النص في أوربا الشرقية قرب مدينة غازان الحالية في روسيا الوسطى، وينبغي ألا يخلط بينها وبين بلاد بلغاريا الحالية.
94 (7-3) ابن عبد الحق البغدادي
تحدث عبد المؤمن بن عبد الحق بن شمائل القطيعي البغدادي عن دير نهيا بالجيزة من أرض مصر فقال: «والماء يحيط به من جميع جهاته في المد، فإذا انصرف الماء وزرع ظهر في أراضيه أنواع الزهر.»
95 (7-4) ابن بطوطة
تحدث محمد بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم اللواتي الطنجي الشهير بابن بطوطة (779ه/1377م) عن كل المدن والبلدات التي زارها، وما يحدث فيها من مد وجزر. ففي حديثه عن البصرة قال: «والبصرة على ساحل الفرات والدجلة وبها المد والجزر كمثل ما هو بوادي سلا من بلاد المغرب وسواه، والخليج المالح الخارج من بحر فارس على عشرة أميال منها، فإذا كان المد غلب الماء المالح على العذب، وإذا كان الجزر غلب الماء الحلو على المالح، فيستسقي أهل البصرة الماء لدورهم، ولذلك يقال: إن ماءهم زعاق.»
96
ولدى ذكره مدينة القسطنطينية قال: «وهي متناهية في الكبر منقسمة بقسمين بينهما نهر عظيم فيه المد والجزر على شكل وادي سلا من بلاد المغرب.»
97
ولعله يقصد بالنهر العظيم مضيق البوسفور حاليا الذي يصل بين البحر الأسود وبحر مرمرة.
أما «مدينة كنباية، وهي على خور من البحر وهو شبه الوادي تدخله المراكب، وبه المد والجزر وعاينت المراكب به مرساة في الوحل حين الجزر فإذا كان المد عامت في الماء.»
98
وقد زودنا ابن عبد المنعم الحميري بتفاصيل أكثر عن مدينة كنباية الهندية حيث قال: «مدينة بأرض الهند من مملكة بلهرى وهي على خليج من البحر أعرض من النيل، فيجزر الماء في هذا الخليج حتى يبدو الرمل وقعر الخليج ويبقى فيه اليسير من الماء، فيرى الكلب على هذا الرمل وقد نضب ماؤه وصار كالصحراء، فإذا أقبل المد وأحس به الكلب أقبل يحضر ما استطاع ليفوت دفع الماء فلا يفيده ذلك ويغرقه.»
99
وفي «بلدة كاوي، وهي على خور فيه المد والجزر وهي من بلاد الري.»
100
أما «مدينة قوقة، وهي بضم القاف الأولى وفتح الثانية، وهي مدينة كبيرة عظيمة الأسواق أرسينا على أربعة أميال منها بسبب الجزر، ونزلت في عشاري مع بعض أصحابي حين الجزر لأدخل إليها فوحل العشاري في الطين، وبقي بيننا وبين البلد نحو ميل فكنت لما نزلنا في الوحل أتوكأ على رجلين من أصحابي، وخوفني الناس من وصول المد قبل وصولي إليها وأنا لا أحسن السباحة، ثم وصلت إليها وطفت بأسواقها.»
101
وبخصوص سندابور الهندية فهي «جزيرة في وسطها ست وثلاثون قرية، ويدور بها خور وإذا كان الجزر فماؤها عذب طيب، وإذا كان المد فهو ملح أجاج.»
102 (8) المبحث الثامن: علماء القرن (9ه/15م) (8-1) القلقشندي
في حديث أحمد بن علي بن أحمد الفزاري القلقشندي (توفي 821ه/1418م) عن أحد أعظم أنهار الأندلس وهو نهر إشبيلية، ذكر قادس التي سبق وأن مرت معنا عند أرسطو وبوسيدونوس الرودسي وسترابو؛ حيث قال: «جزيرة قادس في البحر الرومي على يسار مصبه، ويقع في هذا النهر المد والجزر من البحر كما في دجلة عند البصرة، ويبلغ المد والجزر فيه سبعين ميلا إلى فوق إشبيلية عند مكان يعرف بالأرحى، ولا يملح ماؤه بسبب المد عند إشبيلية بل يبقى على عذوبته، وبين إشبيلية وبين مصب النهر في البحر خمسون ميلا، فالمد يتجاوز إشبيلية بعشرين ميلا، والمد والجزر يتعاقبان فيه كل يوم وليلة، وكلما زاد القمر نورا زاد المد، والمراكب لا تزال فيه منحدرة مع الجزر صاعدة مع المد، وتدخل فيه السفن العظيمة الإفرنجية بوسقها من البحر المحيط حتى تحط عند سور إشبيلية.»
103 (8-2) محمد الحميري
تحدث أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن عبد المنعم الحميري عن جزيرة شيره في الأندلس حيث قال: هي «جزيرة بقرب ساحل وادي القرى تضيق هناك الشعاب والجزائر، فيرصد أهل السفينة فتور الماء في أول المد وفي آخر الجزر وقبل طغيان الماء وشدته .»
104 (9) المبحث التاسع: علماء القرن (10ه/16م) (9-1) ابن إياس
في حديث زين العابدين محمد بن أحمد بن إياس عن البصرة ذكر أن «من عجائبها المد والجزر، وذلك أن الدجلة والفرات يجتمعان من أعلى البصرة ويصيران نهرا واحدا يجري من ناحية الشمال إلى الجنوبي، ويسمونه جزرا. ثم يرجع من الجنوب إلى الشمال ويسمونه مدا، وذلك بحسب الريح في كل يوم وليلة مرتين. وفي ذلك يقول الشاعر:
وجازر ليس له صولة
إلا إذا ما هدت الريح
وهو إذا ما سكنت ساكن
كأنما الريح له روح
105 ،
106 (9-2) سباهي زاده
تحدث سباهي زاده عن البحر الأعظم (المحيط الأطلسي) فقال: «وأكثر ما يبلغ سالكو البحر الأعظم من جانب المغرب سفالة الزنج ولا يتجاوزونها، وسببه أن هذا البحر طعن في البر الشمالي في ناحية المشرق ودخله في مواضع كثيرة، وكثرت الجزائر في تلك المواضع كالرانج والرنجات وقير والوقواق والزنج، وعلى مثله بالتكافؤ طعن البر في البحر الجنوبي في ناحية المغرب وسكنه سودان المغرب وتجاوزوا فيه خط الاستواء إلى جبال القمر التي منها منابيع نيل مصر فحصل البحر هناك فيما بين جبال وشعاب ذوات مهابط ومصاعد، يتردد فيه الماء بالمد والجزر الدائمين ويتلاطم فيحطم السفن ويمنع السلاك، ومع هذا فليس بمانعه عن الاتصال ببحر أوقيانوس من تلك المضائق، ومن جهة الجنوب وراء تلك الجبال فقد وجدت علامات اتصالها ولم يشاهد، وبذلك صار بر المعمورة وسط ما قد أحاط به باتصال، وفي خلال هذا البر مستنقعات مياه كثيرة مختلفة المقادير؛ فمنها ما استحق بعظمته اسم البحر كبحر نيطش الأرمني وبحر الروم وبحر الخزر.»
107
وفي إطار حديثه عن البحر الأعظم ذكر مؤلف مجهول (توفي بعد 372ه/بعد 982م): «وفيه يحدث المد والجزر مرتين في اليوم والليلة من حدود القلزم حتى الصين. والمد هو أن يزداد الماء ويرتفع، والجزر هو أن يقل الماء وينخفض. وفي أي بحر آخر لا يكون المد والجزر إلا بزيادة أو انخفاض الماء في البحار.»
108
وقوله «مرتين» إشارة إلى المد والجزر نصف النهاري.
الفصل الثالث
تفسير ظاهرة المد والجزر عند العلماء العرب والمسلمين
مقدمة
من المعروف حاليا أن المد والجزر ظاهرة جغرافية-فلكية طبيعية تنشأ من عدم تساوي جاذبية كل من القمر والشمس للأرض في أجزائها المختلفة وأن النصف المواجه للقمر ينجذب ماؤه أكثر من النصف الآخر؛ وذلك لأن القمر أقرب إلى الأرض من الشمس البعيدة، ويتأرجح المد والجزر وفقا لتغير مواقع الشمس والقمر من الأرض بالتباعد أو التلاقي أو الانحراف على مدار الشهر. وعند تلاقي القمر والشمس على مستو واحد من الأرض - كما يحدث في أول الشهر ومنتصفه - يحدث المد الأعظم.
توجد نظرية حديثة تحاول تفسير المد والجزر تقول بتكوين موجة مدية كبرى في المسطح المائي في المحيطات الهادئ والأطلسي والهندي. وهذه الموجة تندفع من الجنوب إلى الشمال متفرعة إلى ثلاث شعب في المحيطات المذكورة. وتتفرع الموجة التي تدخل المحيط الأطلسي في شماله إلى فرعين: أحدهما يدخل بحر الشمال، والآخر يواصل سيره إلى جرينلاند. وعندما تصطدم الموجة المدية القادمة من الجنوب بسواحل فرنسا الشمالية ترتد ثانية إلى الشاطئ الإنكليزي، فتحدث على الشاطئ الجنوبي لإنكلترا موجتي مد عال مزدوجتين يفصل بينهما زمن قدره ساعتان وهذه حالة خاصة تعرف بالمد المزدوج.
1
كما أنه توجد عوامل طبيعية أخرى - إضافة لجاذبية الشمس والقمر - تؤثر على ظاهرة المد والجزر كالرياح واتجاهها؛ إذ عندما تهب الرياح نحو الشاطئ فإنها تسرع من دخول التيارات المتولدة عنها إلى الخلجان، وبذلك يزيد ارتفاع المد أكثر من المقدار المحسوب له، وقد يحدث قبل وقته، وقد تجعله الرياح يستمر في ارتفاعه مدة طويلة. وإذا كان اتجاه الرياح نحو البحر، فتؤخر من حدوث المد وتقلل من ارتفاعه. أيضا يؤثر الضغط الجوي على ارتفاع الماء، فإذا ارتفع الضغط انخفض الماء، وإذا انخفض الضغط ارتفع الماء.
2
ويبدو من خلال أشعار عرب الجاهلية أنهم عرفوا ظاهرة المد والجزر، كما سجلوا لنا ذلك؛ فقد قال سهم بن حنظلة الغنوي (نحو 70ه/نحو 690م):
مد الخليج ترى في مده تأقا
وفي الغوارب من آذيه حدبا
ويقصد بالتأق شدة الامتلاء، أما قوله «وفي الغوارب ...» أي تسمح سعة الخليج بتكوين الأمواج العالية .
3
كما ذكرت الظاهرة في أشعار اللاحقين من باب الاستعارة، وهو ما نجده في قول سبط بن التعاويذي (توفي 583ه/1187م):
تختلف الأيام في أهلها
مثل اختلاف المد والجزر
وما لإنسانيتي شاهد
عندي سوى أني في خسر
4
وقد قدم لنا اللغوي البارز أبو الحسن علي بن إسماعيل بن سيده المرسي (توفي 458ه/1066م) كل ما وصله من أوصاف العرب اللغوية لعملية جزر البحر واسم ما يجزر عنه، حيث قال: «جزر البحر يجزر جزرا وانجزر، والجزيرة ما جزر عنه. ابن دريد: سميت جزيرة لانقطاعها عن معظم الأرض، وقال ثبر البحر - جزر والدبر - قطعة تغلظ في البحر كالجزيرة يعلوها الماء وينضب عنها.»
5
انقسم العلماء العرب الذين فسروا ظاهرة المد والجزر في البحار من الناحية الفيزيائية والفلكية إلى ثلاثة فرق: (1)
فريق اعتمد نظرية جاذبية القمر والشمس. (2)
فريق اعتمد نظرية تمدد الهواء بتأثير الحرارة. (3)
فريق اعتمد نظرية الرياح.
والواقع أنهم كلهم كانوا على حق؛ إذ إنها عوامل وجدها العلماء العرب في أثناء دراستهم للظاهرة، لكن بعضهم اعتقد بتأثير أحد هذه العوامل أكثر من غيره.
وقد وصف لنا العلماء العرب المد والجزر نصف النهاري والمد الفيضي أو العالي أو المرتفع الذي يحدث في أوائل الشهر العربي ومنتصفه، وقاسوا الاهتزاز المدي وربطوا بين المد والجزر وأطوار القمر.
6
من الناحية الاصطلاحية؛ أطلق العرب في العصور الوسطى لفظي المد والجزر على مفهومين مختلفين:
7 (1)
على الحركة الرأسية للمياه، المقصود بها ارتفاع مستوى سطح البحر وانخفاضه في اليوم والليلة مرتين. (2)
وعلى الحركة الأفقية للمياه بمعناها الواسع ويقصد بها التيارات البحرية بشكل عام.
من الناحية العملية؛ كانوا يجدون أنه يتوجب على الملاح أن يعرف حركات المد والجزر الخاصة بكل منطقة سيبحر إليها؛ إذ بدون معرفتهما تتعرض سفينتهم لأخطار الارتطام بالصخور كما لا يستطيع تعيين وقت دخوله المرافئ.
خارطة توزع المد والجزر في العالم. ونلاحظ من خلالها أن العلماء العرب قد وصفوا لنا الأنواع الأساسية للمد والجزر التي تظهر في المناطق الواقعة بين خطي عرض (30 درجة جنوبا -60 درجة شمالا). وهي المناطق التي وصلوا إليها. (مصدر الصور:
https://en.wikipedia.org/wiki/Tide#cite_ref-25 .)
نشير أخيرا إلى أنه في حين تم وضع جداول (أزياج) فلكية خاصة بحركات الكواكب والأجرام السماوية، وإقرار معظم الفلكيين والبحارة العرب بوجود تأثير متبادل بين المد والجزر وظهور القمر؛ إلا أننا لم نجدهم قد قاموا بوضع جداول بمواعيد حدوث المد والجزر على مدار الشهر العربي، حتى في الرسائل والكتب المخصصة لدراسة هذه الظاهرة. لكن أبو معشر البلخي وضع طريقة فلكية عامة يمكن من خلالها معرفة مواقيت المد والجزر.
ربما لم تظهر مثل هذه الجداول؛ لأن السبب يعود إلى عدم عمومية الظاهرة وكون معظم البلاد العربية والإسلامية لا تتأثر بهذه الظاهرة، كما أنها لا تؤثر كثيرا على الواجبات الدينية، اللهم فقط بالنسبة للبلدان التي يرغب أهلها بالحج عن طريق البحر.
إذ يتميز المد في البحر المتوسط والبحر الأحمر بتغيرات ضعيفة في مستوى سطح البحر. لكن تيارات المد والجزر القوية تظهر في مضيق جبل طارق (مجمع البحرين) حيث تصل تيارات المد والجزر إلى 2 متر/ثانية. ونظرا لكون ارتفاع سطح البحر المد والجزر ضعيفا على طول الساحل، فقد بقيت ظاهرة المد والجزر غير مكتشفة على طول ساحل البحر الأبيض المتوسط لفترة طويلة.
8
في الصورة أربعة مخططات من تقويم بروسكون
Brouscon (حوالي 1546 تقريبا) «الصفحة العلوية اليسرى: «تعبر البوصلة عن حالات المد العالي عند موانئ ساحل جاسكون (خليج بيسكاري
Biscay )»، حيث لديها جميع «أقمار الجنوب الغربي»، وإلى اليمين «تنقيط» على طول الساحل الشمالي لفرنسا من بريطانيا إلى فلانديرس، تتضمن دونفير، مع الجنوب الغربي إلى «الأقمار الغربية».» (الصفحة في الأسفل) مخطط مدي من أجل حساب أوقات «المد العالي» حسب عمر القمر، عند المرافئ مع أقمار جنوب جنوب غرب
SSW (اليسار) وأقمار جنوب غرب
SW (اليمين). التقويم الذي أخذت منه هذه الصفحات يعتقد بأنه للسيد فرانسيس دراك
F. Drak . (مصدر الصورة والتعليق:
Cartwright, Tides: A Scientific History, p. 19 .)
في حين أننا سنجد ظهور هذا النوع من الجداول في دولة مثل بريطانيا كونها محاطة بالمحيط الأطلسي وبحر الشمال والقنال الإنكليزي وما يسمى بالبحر الأيرلندي؛ إذ هناك حاجة ماسة وكبيرة لوضع جداول للمد والجزر تساعد في حركة الملاحة البحرية النشطة جدا. (1) المبحث الأول: علماء القرن (3ه/9م)
تأسست في القرن (3ه/9م) أولى النظريات العلمية العربية التي حاولت تفسير ظاهرة المد والجزر. فقد حاول كل من الكندي وأبي معشر الفلكي، وضع أسس تفسير هذه الظاهرة والذي سيكون له أثر لعدة قرون لاحقة. وقد كتب عن هذه الظاهرة في هذا القرن تسعة علماء بين مجدد ومقلد. (1-1) محمد بن عبد الملك الزيات
قد يكون محمد بن عبد الملك الزيات (توفي 233ه/847م) أول من وضع «مقالة في المد والجزر».
9
لكنها للأسف لم تصلنا لمعرفة رأيه في هذه الظاهرة. (1-2) علي بن ربن الطبري
تناول علي بن ربن الطبري (توفي نحو 250ه/864م) في كتابه «فردوس الحكمة» موضوع المد والجزر واعتبر أن سببها المباشر هو القمر؛ حيث قال: «ويكون الجزر والمد أيضا في البحر بالقمر.»
10 (1-3) الجاحظ
قد يكون الجاحظ (توفي 255ه/869م) من أوائل العلماء الذين تناولوا موضوع نقد ما يتناقله عامة الناس من تفسير لظاهرة المد والجزر في البحار، وذلك في رسالته «التربيع والتدوير». فهو يريد أن يصل لسبب عقلي مقنع بعيدا عن المقترحات الغيبية. ويصل في النهاية إلى أن للقمر دورا فاعلا ورئيسا في الظاهرة.
قال الجاحظ: «وما تقول في المد والجزر، أمن ملك يضع رجلا ويرفع رجلا؟ فإن كان كذلك فلعل مدبر الفلك ملك ولعل صوت الرعد صوت زجر ملك، فندع الفلسفة ونأخذ بقول الجماعة، أم نزعم أن المد والجزر من نفس الجواذب إذا جذب وإذا رفع! وما تقول في قول من زعم أن القمر مائي وأشبه الكواكب بطبيعة الأرض، فإنما يكون الجزر والمد على مقادير جذبه للماء وإرساله له، ذلك معروف في منازله ومجاريه يعرف ذلك أهل الجزر والمد.»
11 (1-4) الكندي
أفرد أبو يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي (توفي 256ه/869م) رسالة خاصة بعنوان «رسالة في العلة الفاعلة للمد والجزر»،
12
وهي من أوليات الرسائل المتخصصة في معالجة هذا الموضوع والقائمة على نظرية التمدد الحجمي للمواد.
وبحسب تقييم سزكين لهذه الرسالة، فإنه يرى أنها «بعرضها المسهب في إطار المصادر حول الموضوع نفسه، فإنها قائمة بذاتها دون نموذج سابق مباشر، فعبارته تعد العبارة الوحيدة التي أقيم فيها الظاهرة الكونية بلا ثغرة. والفرق بين عبارة الكندي والوصف الحديث يكمن - بشكل رئيس - في أنه استبدل في الوقت الحاضر بالتفسير الحركي جذب القمر والشمس.»
13
وهو الرأي الذي يخالفه فيه المستشرق الألماني إيلهارد فيدمان
E. Wiedemann
عندما درس هذه المقالة، وقرر فيدمان أن الكندي وضع هذه الرسالة وهو متأثر بأرسطو.
14
لكننا في الحقيقة سبق وأن وجدنا في الفصل الأول من هذا الباب كيف أن أرسطو كان متخبطا في آرائه وتفسيره لهذه الظاهرة؛ فمرة كان ينسبها للرياح، ومرة للكتل الصخرية الساحلية. دون أن يأتي على ذكر أي دور للقمر. باستثناء الرسالة المزيفة المنسوبة إليه، والتي لا يمكننا اعتبارها تجسد أفكار أرسطو؛ لذلك فإننا نرجح رأي سزكين حتى تظهر دلائل وقرائن مغايرة لذلك.
مما يلفت إليه الانتباه أن الكندي ربط من خلال رسالته بين حركة القمر وحركة المد والجزر واعتقد بوجود أثر
15
متبادل فيما بينهما.
16
قال الكندي «فإن القمر إذا صار في مشرق موضع كان أول وقوع ضوئه عليه، فابتدأ في الحمي وقبول الزيادة في الأجزاء. إلا أن [ذلك] أظهر ما يكون في الماء؛ فكلما علا، كان حمي ذلك الموضع له أشد، حتى يصير في وتد سمائه. فهو نهاية قبول ذلك [الموضع] للحرارة، لحركة القمر، ونهاية مده؛ لأن الأجرام كلما حميت احتاجت إلى مكان أوسع، كما قلنا متقدما. فإذا انحدر عن ذلك الموضع الذي هو وسط السماء، نقص حر الموضع من الأرض المنفعل به.»
17
رأي الكندي هذا سيتبعه روبرت غروستيست (توفي 1253م)
R. Grosseteste
بشكل أو بآخر في رسالته عن المد والجزر، ولكن لم يستطع غروستيست أن يصل إلى مستواه،
18
مع أن بينهما أكثر من 400 سنة؛ حيث إن المطلع على رسالة غروستيست يجد أن العبارات الفيزيائية عنده لم تصل إلى غايتها كما هي عند الكندي، فهو يعتقد أن أشعة القمر تسبب، عن طريق توليد الأبخرة والرياح في مياه البحر، الزيادة في الحجم.
19
لقد ذكر الكندي في رسالته «في العلة الفاعلة للمد والجزر» أسباب المد والجزر وأنواعه، فعرف نوعين من المد:
الأول:
المد الطبيعي: وعرفه بأنه: «استحالة الماء من صغر الجسم إلى عظمه.»
20
والثاني:
المد العرضي وعرفه بأنه: «زيادة الماء بانصباب مواد فيه»،
21
كما في حالة الأنهار والأودية والفيوض التي أصلها من الأنهار، وأشار إلى أن مثل هذا المد لا تظهر فيه زيادة، وذلك لصغر كمية المياه المضافة إليه من الأنهار وغيرها، بالمقارنة مع مياه البحار، وكذلك بسبب البخر الواقع لها.
وقد قسم الكندي المد الطبيعي إلى ثلاثة أنواع:
الأول:
المد السنوي: وهو الزيادة في مياه البحار في وقت محدد من السنة في موضع دون موضع، حسب حركة الأجرام السماوية.
22
والثاني:
المد الشهري: وهو يحدث حسب تغير أوضاع القمر في دورانه حول الأرض.
23
والثالث:
الثالث المد اليومي: وهو واقع لتأثير ضوء القمر عليه، فيبتدئ مده مع طلوع القمر عليه، ويبتدئ جزره حين يبتدئ زوال القمر عن سمت رءوس أهله.
24
يرى مؤرخ الجغرافيا العربية أغناطيوس كراتشكوفسكي
I. Krackovski «مع أن نظرية الكندي في المد والجزر تستند على أفكار خاطئة إلا أنه من الطريف ملاحظة أنه قد اعتمد على الملاحظة والتجربة العلمية ليثبت صحتها.»
25
ونظرا لأهمية رسالة الكندي فقد وضعنا نصها بالكامل في الباب الثاني من هذا الكتاب. (1-5) حنين بن إسحق
وضع حنين بن إسحق (توفي 260ه/873م) «مقالة في المد والجزر».
26
وقد اقتبس منها الحسن بن البهلول الجزء المتعلق بالأنواء. وحول هذه النقطة نجد أن حنين قد حرص على توضيح تأثير القمر في مختلف منازله على المد والجزر، وكذلك على الصحة البشرية.
27 (1-6) أبو معشر البلخي
درس العالم الفلكي أبو معشر جعفر بن محمد بن عمر البلخي (توفي 272ه/886م) ظاهرة المد والجزر في البحار بشكل مفصل، وذكر الأنواع والأسباب المختلفة لها، وقد أودع ذلك في خمسة فصول محاولا تقديم نظرية متكاملة وشاملة تفسر كل ما يتعلق بظاهرة المد والجزر من وجهة نظره كعالم فلك.
ما يميز بحث أبي معشر في الفصول التي ناقش فيها المد والجزر أنه لم يتطرق إلى الأسباب الغيبية الخارقة للعادة التي طرحها بعض المؤلفين الذين ناقشوا هذه الظاهرة؛ وإنما حاول تفسيرها وفق الأسباب والمعطيات الفيزيائية التي كانت في عصره، خصوصا أثر القمر وحركته ومدى اكتماله ونقصانه خلال الشهر.
ونستشف من البداية إدراك كلام أبي معشر للعلاقة بين أثر القمر وحركة المد والجزر، سواء اليومي أو الشهري.
28
كما تحدث أبو معشر عن التيارات البحرية التي تتأثر بالرياح وتتزامن مع حركة المد، وكذلك تحدث عن التيارات البحرية الصاعدة من الأعماق للسطح.
29
وذكر أن المد والجزر لا يحدث بالأصل إلا بتوفر ثلاثة عوامل أساسية معا:
30 (1)
حالة موضع الماء: إذ يجب أن يكون الموضع عميقا وعريضا وطويلا، وفيه جبال تمكن الرياح من الاجتماع والقيام بدور في المد. (2)
حالة الماء نفسه: إذ يجب أن تكون كمية المياه كثيرة وساكنة، لا تدخل أو تخرج منها المياه. (3)
تحريك القمر للماء: بمعنى انتقال القمر في أطواره خلال اليوم أو الشهر.
وهكذا وباجتماع العوامل الثلاثة يحدث لدينا المد والجزر.
وهو يعتبر أن سبب كون ماء المد فاترا وماء الجزر باردا؛ لأن ماء المد يخرج من أعماق المياه التي تكون فاترة، ويزيد من فتورها حركة الماء نفسه وتحريك القمر له. وعندما يصل إلى الشاطئ فإنه يبرد ويعود مع الجزر باردا.
31
للتنبؤ بساعة المد والجزر الطبيعي ( ) اقترح أبو معشر طريقة حسابية عامة. وهي تتطلب معرفة درجة شروق القمر ( ) ودرجة غروب القمر ( ) وضرب الفرق بينهما بمعامل تصحيح ( ) يتعلق بتأخر أو تقدم شروق القمر وغروبه، مع إضافة درجة خط عرض ذلك البلد ( ) وتطبيق المعادلة الآتية:
وفي حال أردنا معرفة ساعة المد وحده أو الجزر وحده فيمكننا تقسيم الناتج على الرقم 2.
وهذا يعني أن أبا معشر قد تنبه إلى تأثر المد بعامل خط الطول والعرض وزاوية شروق وغروب القمر. وقد تكون هذه أول معالجة حسابية مقننة لظاهرة المد والجزر؛ إذ أننا لم نعثر على أي معاجلة أو طرح من هذا النوع لدى أي عالم سبق أبو معشر.
قال أبو معشر: «فإذا أردت أن تعرف عدد الساعات للمد والجزر والقمر فوق الأرض فاعرف الدرجة التي شع معها القمر والدرجة التي يغيب معها وصحح ذلك؛ لأن القمر ربما تقدم أو تأخر في الطلوع والغروب الدرجة التي هو فيها بالطول لعلة عرضه، فاعرف تلك الدرجة وخذ ما بين درجة طلوعه إلى درجة غروبه بدرج المطالع فاحفظه، ثم اجعل كل خمسة عشر درجة منه ساعة مستوية، وما لم تتم خمسة عشر درجة فاجعلها أجزاء من ساعة فما بلغ فهو ساعات المد والجزر الطبيعي ما دام القمر فوق الأرض، وإذا أردت أن تعرف ساعات المد وحده أو ساعات الجزر وحده فخذ نصف هذه الساعات المد والجزر الطبيعي أيهما أردت معرفته فإذا كان أدلة المد قوته زادت ساعات المد على هذا النصف بمقدار ضعف حركة الماء وما بقي إلى تمام الساعات المحفوظة فهو ساعات الجزر. فإذا أردت أن تعرف مقدار المد والجزر والقمر تحت الأرض فخذ من الدرجة التي يغيب معها القمر إلى الدرجة التي تطلع معها بدرج المطالع فاعمل به كما عملت بالقمر وهو فوق الأرض. واعلم أن مواضع البحر مختلفة العروض لاختلاف عروض البلدان، فإذا أردت معرفة ساعات المد والجزر في موضع من مواضع البحر فاعرف عرض ذلك الموضع ومطالعه ثم اعمل طلوع القمر بمطالع ذلك الموضع.»
32
بعدها ينتقل لتعداد أسباب قوة المد وضعفه وهي برأيه ثمانية:
33 (1)
بعد القمر من الشمس وزيادته في الضوء ونقصانه منه. (2)
زيادة تعديل القمر عن وسطه أو نقصانه منه. (3)
موضع القمر من فلك الأوج أو قربه من الأرض. (4)
صعوده أو هبوطه الفلك المائل وجهة عرضه. (5)
كون القمر في البروج الشمالية والجنوبية. (6)
الأيام التي يسميها البحريون الذين هم في ناحية المغرب ومصر أيام زيادة الماء ونقصانه. (7)
معرفة قوة المد وضعفه من طول النهار والليل وقصرهما من خاصة دلالة الشمس. (8)
معرفة الرياح المقوية للمد والجزر.
كما انتبه أبو معشر إلى أن المد والجزر يزيد وينقص في الحالة التي يكون فيها اجتماع واستقبال بين الشمس والقمر.
34
وقرر بوجود تناسب عكسي بينهما «فإذا طال زمان المد فإنه يقصر زمان الجزر الذي يكون بعده، وإذا قصر زمان المد طال زمان الجزر الذي بعده، والرياح التي يوافق هبوبها جرية المد والجزر أيهما وافق ذلك فإن تلك الريح تزيد في قوته وفي طول زمانه، والرياح التي تستقبل جرية أيهما كان فإنها تضعفه.»
35
وقد قدم لنا تصنيفه للمياه على أساس ما يحدث فيها من مد وجزر إلى ثلاثة أنواع:
الأول:
لا يكون فيه مد ولا جزر.
الثاني:
لا يتبين فيه المد والجزر.
الثالث:
ما يتبين فيه المد والجزر.
وقد ركز على النوع الأول الذي لا يظهر فيه مد ولا جزر، مثل: المياه الجارية والبحار التي لا تسامت القمر مباشرة، والمياه التي لا تكون على أرض صلبة فيتسرب الماء في جوفها.
36
كثيرا ما كان يستخدم أبو معشر ألفاظا مثل «سألنا»؛ لتدل على أنه كان يواكب بين النظرية والتجربة.
وقد توصل أبو معشر إلى تعريف المد والجزر على أن المد «الابتداء وهو الذي يفعله القمر بطبيعته، والجزر بعد المد وهو رجوع الماء إلى البحر بطبعه.»
37
بالمقارنة بين طروحات أبي معشر والكندي نجد أن أبي معشر قد فصل في حالات المد والجزر وما يتعلق بها من عوامل، كما كانت صياغته منطقية أكثر بكثير من صياغة الكندي.
وبتتبعنا لأثر نظرية أبي معشر البلخي على علماء أوربا في العصور الوسطى، وجدنا أنها مارست تأثيرا كبيرا، خصوصا بعد أن ترجم كتابه «المدخل» للغة اللاتينية مرتين؛ مرة من قبل يوحنا الإشبيلي (توفي 1180م)
John of Seville
في عام 1133م، ومرة من قبل هيرمان الكارينثي (توفي 1160م)
Herman of Carinthia
في عام 1140م. ومن هذه الترجمات اقتبس كل من جيرالد الويلزي (توفي حوالي 1223م)
Gerald of Wales
وروبرت غروستيست (توفي 1253م)
R. Grosseteste
ودانييل المورلي (توفي 1210م)
Daniel of Morley
نصوصا كثيرة عن المد والجزر التي وردت في كتاب أبي معشر ونسبوها لأنفسهم،
38
للأسف.
كما امتد تأثير أفكار أبي معشر إلى توما الأكويني (توفي 1274م)
Th. Aquinas
وروجر بيكون (1292م)
R. Bacon
فيما بعد.
39 (1-7) أبو القاسم بن خرداذبة
نقل لنا الجغرافي عبيد الله بن أحمد بن خرداذبة (توفي نحو 280ه/نحو 893م) عن أصحاب الخبرة العملية في البحار ملاحظتهم لتغير المد والجزر مع حركة القمر خصوصا المد السنوي.
قال ابن خرداذبة: «وسئل اشتيامو البحر (رؤساء البحارة) عن المد والجزر فذكروا أنه إنما يكون في بحر فارس على مطالع القمر، وأنه لا يكون في البحر الأعظم (المحيط الهندي) إلا مرتين في السنة: مرة يمد في شهور الصيف شرقا بالشمال ستة أشهر، فإذا كان ذلك طما الماء في مشارق البحر بالصين وانحسر عن مغارب البحر، ومرة يمد في شهور الشتاء غربا بالجنوب ستة أشهر فإذا كان ذلك طما الماء في مغارب البحر وانحسر بالصين.»
40 (1-8) أبو العباس السرخسي
للأسف ضاعت معظم أعمال أحمد بن محمد بن الطيب السرخسي (توفي 286ه/899م)، ومن بينها رسالة بعنوان «البحار والمياه والجبال»؛
41
إلا أن أبا الحسن المسعودي استطاع اقتناص رأيه مستنتجا أنه كان يتفق مع رأي الكندي أيضا الذي يقول بأن سبب المد والجزر هو الحرارة الناجمة عن دوران القمر حول الأرض.
42 (1-9) سليمان التاجر السيرافي
ذكر لنا سليمان التاجر أبو زيد حسن بن يزيد السيرافي (توفي بعد 237ه/851م) ملاحظته لارتباط المد والجزر مع حركة القمر. حيث قال: «وسائر الصين فيها الماء العذب من أنهار عذبة وأودية ومسالح وأسواق في كل ناحية. وفيها مد وجزر مرتين في اليوم والليلة، إلا أن المد يكون فيما يلي البصرة إلى جزيرة بني كاوان إذا توسط القمر السماء، [وإذا قابل وسط السماء]،
43
ويكون الجزر عند طلوع القمر وعند مغيبه، والمد يكون بناحية الصين إلى قريب من جزيرة بني كاوان إذا طلع القمر، فإذا توسط السماء جزر الماء فإن غاب كان المد، فإذا كان في مقابله وسط السماء جزر.»
44 (2) المبحث الثاني: علماء القرن (4ه/10م)
ناقش في هذا القرن ظاهرة المد والجزر ثمانية علماء، وقد بدا على مناقشاتهم تأثرهم بما سبق وأن طرحه الكندي وأبو معشر البلخي. (2-1) ابن الفقيه الهمذاني
أورد ابن الفقيه أحمد بن محمد بن إسحاق بن إبراهيم الهمذاني (توفي نحو 340ه/951م) الرواية التي سئل فيها ابن عباس عن المد والجزر وكان جواب ابن عباس: «إن ملكا موكلا بقاموس البحر، إذا وضع رجله فيها فاضت، وإذا رفعها غاضت. قال كعب: ولقي الخضر ملكا من الملائكة فسأله عن المد والجزر فقال الملك: إن الحوت يتنفس فيشرب الماء ويرفعه إلى منخريه فذلك الجزر، ثم يتنفس فيخرجه من منخريه فذلك المد.»
45
وقد أشار ابن الفقيه (مقتبسا عن سليمان التاجر السيرافي ) إلى المد والجزر نصف النهاري، وذلك في حديثه عن جزيرة صندرفولات الصينية قال: «ومن صندرفولات إلى الصين مسافة شهر، إلا أن الجبال التي تمر بها السفن مسيرة سبعة أيام، فإذا جاوزت الأبواب صارت إلى ماء عذب يقال له خانفو، يكون فيه مد وجزر في اليوم والليلة مرتين.»
46 (2-2) أبو الحسن المسعودي
ما طرحه الكندي وأبو معشر البلخي من تفاسير لظاهرة المد والجزر تبناها أبو الحسن المسعودي (توفي 346ه/957م)، وقد ناقش موضوع المد والجزر في كتابيه «مروج الذهب ومعادن الجوهر» و«التنبيه والإشراف» مناقشة موسعة. حيث قدم لنا المسعودي تعريفه لظاهرتي المد والجزر بشكل علمي، ثم دعم ذلك التعريف بأمثلة من الطبيعة. ثم قدم أنواع المد والجزر حسب الاهتزاز المدي.
قال المسعودي في «مروج الذهب ومعادن الجوهر»: «المد: مضي الماء في فيحته وسيحته وسنن جريته، والجزر: رجوع الماء على ضد سنن مضيه وانكشاف ما مضى عليه في هيجه، وذلك كبحر الحبش الذي هو الصيني والهندي وبحر البصرة وفارس المقدم ذكره قبل هذا الباب. وذلك أن البحار على ثلاثة أنواع: منها ما يتأتى فيه الجزر والمد ويظهر ظهورا بينا، ومنها ما لا يتبين فيه الجزر والمد ويكون خفيفا مستترا، ومنها ما لا يجزر ولا يمد.»
47
بعدها انتقل للتفصيل في أسباب عدم ظهور المد والجزر في بعض البحار وظهوره في البعض الآخر.
قال المسعودي: «فالبحار التي لا يكون فيها الجزر والمد امتنع منها الجزر والمد لعلل ثلاث؛ وهي على ثلاثة أصناف: فأولها ما يقف الماء فيه زمانا فيغلظ وتقوى ملوحته، وتتكيف فيه الأرياح؛ لأنه ربما صار الماء إلى بعض المواضع ببعض الأسباب فيصير كالبحيرة وينقص في الصيف ويزيد في الشتاء، ويتبين فيه زيادة ما ينصب فيه من الأنهار والعيون، والصنف الثاني البحار التي تبعد عن مدار القمر ومسافاته بعدا كثيرا، فيمتنع منه المد والجزر، والصنف الثالث المياه التي يكون الغالب على أرضها التخلخل؛ لأنه إذا كانت أرضها مخلخلة نفذ الماء منها إلى غيرها من البحار وتخلخل؛ وأنشبت الرياح الكائنة في أرضها أولا فأولا، وغلبت الرياح عليها، وأكثر ما يكون هذا في ساحل البحار والجزائر.»
48
بعدها يتناول المسعودي مختلف الآراء التي طرحت في عصره، وناقشت سبب حدوث هذه الظاهرة، وكيف انقسم الناس إلى فرق حول ذلك. فمنهم من قال إن سبب المد والجزر هي الحرارة التي يسخن بها القمر المياه، وهي نظرية الكندي.
قال المسعودي: «وقد تنازع الناس في علة المد والجزر؛ فمنهم من ذهب إلى أن ذلك من القمر؛ لأنه مجانس للماء، وهو يسخنه، فينبسط، وشبهوا ذلك بالنار إذا أسخنت ما في القدر وأغلته، وإن الماء يكون فيها على قدر النصف أو الثلثين، فإذا غلى الماء انبسط في القدر وارتفع وتدافع حتى يفور فتتضاعف كميته في الحس، وينقص في الوزن؛ لأن من شرط الحرارة أن تبسط الأجسام ، ومن شرط البرودة أن تضمها، وذلك أن قعور البحار تحمى فتتولد في أرضها عقبة وتستحيل وتحمى كما يعرض ذلك في البلاليع والآبار، فإذا حمي ذلك الماء انبسط، وإذا انبسط زاد، وإذا زاد ارتفع، فدفع كل جزء منه صاحبه، فطفا على سطحه وبان عن قعره، فاحتاج إلى أكثر من وهدته، وإن القمر إذا امتلأ حمي الجو حميا شديدا فظهرت زيادة الماء، فسمي ذلك المد الشهري، وإن هذا البحر تحت معدل النهار آخذا من جهة المشرق إلى المغرب ودور الكواكب المتحيرة عليه مع ما يساميه من الكواكب الثابتة إذا كانت المتحيرة في القدر مثل الميل على تجاوزه، وإذا زالت عنه كانت منه قريبة فاعلة فيه من أوله إلى آخره في كل يوم وليلة، وهي مع ذلك في الموضع المقابل الحمي، فقليل ما يعرض فيه من الزيادة ويكون في النهر الذي يعرض فيه المد بينا من أطرافه وما يصب إليه من سائر المياه».
49
ثم يستعرض رأي مجموعة أخذت بالرأي القائل إن الأبخرة المحتقنة بباطن الأرض هي السبب في توليد الظاهرة. «وقالت طائفة أخرى: لو كان الجزر والمد بمنزلة النار إذا أسخنت الماء الذي في القدر وبسطته فيطلب أوسع منها فيفيض حتى إذا خلا قعره من الماء طلب الماء بعد خروجه منه عمق الأرض بطبعه فيرجع اضطرارا بمنزلة رجوع ما يغلي من الماء في المرجل والقمقم إذا فاض وتتابعت أجزاء النار عليه بالحمي، لكان في الشمس أشد سخونة. ولو كانت الشمس علة مده لكان يمد مع بدء طلوع الشمس، ويجزر مع غيبتها فزعم هؤلاء أن علة الجزر والمد في الأبحر تتولد من الأبخرة التي تتولد من بطن الأرض؛ فإنها لا تزال تتولد حتى تكثف وتكثر فتدفع حينئذ ماء هذا البحر لكثافتها فلا تزال كذلك حتى تنقص موادها من أسفل، فإذا انقطعت موادها تراجع الماء حينئذ إلى قعر البحر، وكان الجزر من أجل ذلك، والمد ليلا ونهارا، وشتاء وصيفا، وفي غيبة القمر وفي طلوعه، وكذلك في غيبة الشمس وطلوعها، قالوا: وهذا يدرك بالحس؛ لأنه ليس يستكمل الجزر آخره حتى يبدأ أول المد، ولا ينقضي آخر المد حتى يبتدئ أول الجزر؛ لأنه لا يتغير توالد تلك البخارات، حتى إذا خرجت تولد غيرها مكانها، وذلك أن البحر إذا غارت مياهه ورجعت إلى قعره تولدت تلك الأبخرة لمكان ما يتصل منها من الأرض بمائة، وكلما عاد تولدت، وكلما فاض نقصت.»
50
وترى جماعة أخرى أن سبب المد والجزر هو البنية المادية لمياه البحر، التي تتراوح بين القوة والضعف. «وقال آخرون: ما هيجان ماء البحر إلا كهيجان بعض الطبائع، فإنك ترى صاحب الدم وصاحب الصفراء وغيرهما تهتاج طبيعته ثم تسكن، وكذلك مواد تمدها حالا بعد حال، فإذا قويت هاجت، ثم تسكن قليلا قليلا حتى تعود.»
51
وتأخذ الفرقة الأخيرة بالرأي القائل إن الهواء المحيط بالبحار هو السبب في تشكيل المد والجزر؛ كون الهواء يخضع لدورة تبادلية دائمة التحرك بينه وبين مياه البحر. «وذهبت طائفة أخرى إلى إبطال سائر ما وصفنا من القول، وزعموا أن الهواء المطل على البحر يستحيل دائما، فإذا استحال عظم ماء البحر وفاض عند ذلك، وإذا فاض البحر فهو المد، فعند ذلك يستحيل ماؤه ويتنفس فيستحيل هواء فيعود إلى ما كان عليه، وهو الجزر، وهو دائم لا يفتر، متصل مترادف متعاقب؟ لأن الماء يستحيل هواء، والهواء يستحيل ماء، قالوا: وقد يجوز أن يكون ذلك عند امتلاء القمر أكثر؛ لأن القمر إذا امتلأ استحال الهواء أكثر مما كان يستحيل، وإنما القمر علة لكثرة المد، لا للمد نفسه؛ لأنه قد يكون والقمر في محاقه، والمد والجزر في بحر فارس يكونان على مطالع الفجر في الأغلب من الأوقات.»
52
بعدها يحدثنا المسعودي عن الذي وصله من أصحاب الخبرات العملية من البحارة. فقد وجد هؤلاء أن المد والجزر يحدث بشكل سنوي في المحيط الهندي وبحر الصين. «وقد ذهب كثير من نواخذة (رؤساء السفن) هذا البحر وهم أرباب المراكب، من السيرافيين والعمانيين ممن يقطعون هذا البحر ويختلفون إلى عمائره من الأمم التي في جزائره وحوله إلى أن المد والجزر لا يكون في معظم هذ البحر إلا مرتين في السنة: مرة يمد في شهور الصيف شرقا بالشمال ستة أشهر، فإذا كان ذلك طغا الماء في مشارق الأرض بالصين وما وراء ذلك الصقع وانحسر بالصين من مغارب البحر، ومرة يمد في شهور الشتاء غربا بالجنوب ستة أشهر، فإذا كان الصيف طغا الماء في مغارب البحر وانحسر بالصين، وقد يتحرك البحر بتحرك الرياح، وإن الشمس إذا كانت في الجهة الشمالية تحرك الهواء إلى الجهة الجنوبية لعلل ذكروها فيسيل ماء البحر بحركة الهواء إلى الجهة الجنوبية، فكذلك تكون البحار في جهة الجنوب في الصيف لهبوب الشمال طامية عالية، وتقل المياه في جهة البحار الشمالية، وكذلك إذا كانت الشمس في الجنوب وسال الهواء من الجنوب إلى جهة الشمال سال معه ماء البحر من الجهة الجنوبية إلى الجهة الشمالية، فقلت المياه في الجهة الجنوبية منه، وينتقل ماء البحر في هذين الميلين أعني في جهتي الشمال والجنوب فيسمى جزرا ومدا، وذلك أن مد الجنوب جزر الشمال ومد الشمال جزر الجنوب، فإن وافق القمر بعض الكواكب السيارة في أحد الميلين تزايد الفعلان وقوي الحمي واشتد لذلك سيلان الهواء فاشتد لذلك انقلاب ماء البحر إلى الجهة المخالفة للجهة التي ليس فيها الشمس.»
53
ثم يذكر المسعودي وبأمانة علمية أن الرأي الذي عرضه كان رأي الكندي والسرخسي وليس رأيه الخاص. ويبدو أنه حاول أن يربط بين التفسير النظري والواقع الذي شاهده في بلاد الهند.
قال المسعودي: «فهذا رأي يعقوب بن إسحاق الكندي وأحمد بن الطيب السرخسي فيما حكاه عنه: أن البحر يتحرك بالرياح، ورأيت مثل ذلك ببلاد كنباية من أرض الهند، وهي المدينة التي تضاف إليها النعال الكنبائية الصرارة وفيها تعمل وفيما يليها مثل مدينة سندارة وسريارة، وكان دخولي إليها في سنة ثلاث وثلاثمائة، والملك يومئذ بانيا، وكان برهمانيا من قبل البلهرى صاحب المانكير، وكان لبانيا هذا عناية بالمناظرة مع من يرد إلى بلاد من المسلمين وغيرهم من أهل الملل، وهذه المدينة على خور من أخوار البحر، وهو الخليج، أعرض من النيل أو دجلة أو الفرات، عليه المدن والضياع والعمائر والجنان والنخل والنارجيل والطواويس والببغاء وغير ذلك من أنواع طيور الهند، بين تلك الجنان والمياه، وبين مدينة كنباية بين البحر الذي يأخذ منه هذا الخليج يومان، أو أقل من ذلك فيجزر الماء عن هذا الخليج حتى يبدو الرمل في قعر الخليج ويبقى في وسطه قليل من الماء، فرأيت الكلب على هذا الرمل الذي ينصب عنه الماء وقعر خليج قد صار كالصحراء، وقد أقبل المد من نهاية الخور كالخيل في الحلبة، فربما أحس الكلب بذلك فأقبل يحضر ما استطاع خوفا من الماء، طلب البر الذي لا يصل إليه الماء، فيلحقه الماء بسرعته فيغرقه. وكذلك المد يرد بين البصرة والأهواز في الموضع المعروف بالباسيان وبلاد القندر، ويسمى هناك الذئب له ضجيج ودوي وغليان عظيم يفزع منه أصحاب السفن، وهذا الموضع يعرفه من يسلك هنالك إلى بلاد مورق من أرض فارس، والله أعلم.»
54
ونلاحظ أنه تكلم في الجزء الأخير من النص السابق عن الفورة المدية
Tide Bore ، وهي موجة مدية عنيفة تدخل مصاب الأنهار والمضائق مسببة دويا وصخبا كبيرين تجعل من يراها يفزع.
55
كما ناقش حديث الملك الشائع بين الناس لتفسير الظاهرة، وقد اتخذ في البداية موقفا محايدا. فهو لا يصدق ولا يكذب، وإنما يوكل ذلك إلى علم الله.
قال المسعودي: «ومنها أن الملك الموكل بالبحار يضع عقبه في أقصى بحر الصين فيفر منه البحر، فيكون منه المد، ثم يرفع عقبه من البحر فيرجع الماء إلى مركزه، ويطلب قعره، فيكون الجزر، ومثلوا ذلك بإناء فيه ماء في مقدار النصف منه، فيضع الإنسان يده أو رجله فيملأ الماء الإناء، فإذا رفعها رجع الماء إلى حده، وانتهى إلى غايته، ومنهم من رأى أن الملك يضع إبهامه من كفه اليمنى في البحر فيكون منه المد، ثم يرفعها فيكون الجزر. وما ذكرنا فغير ممتنع كونه، ولا واجب، وهو داخل في حيز الممكن والجائز؛ لأن طريقه في النقل طريق الأفراد والآحاد، ولم يرد مورد التواتر والاستفاضة كالأخبار الموجبة للعلم، والعلل القاطعة للعذر في النقل، فإن قارنها دلائل توجب صحتها وجب التسليم لها، والانقياد إلى ما أوجب الله عز وجل علينا من أخبار الشريعة والعمل بها؛ لقوله عز وجل:
وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ،
56
وإن لم يصح ما ذكرنا فقد وصفنا آنفا ما قال الناس في ذلك، وإنما ذكرنا هذا ليعلم من قرأ هذا الكتاب أنا قد اجتهدنا فيما أوردناه في هذا الكتاب وغيره من كتبنا، ولم يعزب عنا فهم ما قاله الناس في سائر ما ذكرنا، وبالله التوفيق.»
57
ثم يعود للحديث عن المد والجزر السنوي الشهري الذي يحدث في البحار والمحيطات.
قال المسعودي: «والكلام في كيفية المد والجزر السنوي والقمري الذي هو الشهري، ولأية علة صار في بعض البحار أظهر وأقوى كالبحر الحبشي وبحر أوقيانس المحيط، وفي بعضها أضعف وأخفى كبحر الروم والخزري ومايطس. على أنه قد يظهر في بحر الروم مما يلي المغرب ظهورا بينا حتى إن مدينة في جزيرة من سواحل إفريقية يقال لها جربة بينها وبين البحر نحو ميل تخرج مواشيهم غدوا حين يجزر الماء وينضب فترعى ثم تروح عشيا قبل المد.»
58
ثم عاد وناقش موضوع الملك مرة أخرى، وقد كان واضحا من كلام المسعودي انتقاده الضمني لمن يحاول أن يفسر ظاهرة المد والجزر اعتمادا على الغيبيات ؛ لأن ذلك لا يجعلنا نفهم الحقيقة، وقد أراد أن يحول الأنظار والأفكار نحو التفكير العلمي، فذكر تنازع الفلاسفة حول سبب الظاهرة الفعلي، فقال ثمة جدل بينهم هل ينشأ المد من تأثير القمر أم الشمس، ويحاول أن يقدم تفسيره بذكاء ليتجنب أي صراع فكري مستقبلي مع أي شخص كان، فيشير إلى أن القمر هو المؤثر، ويقدم ذلك على أن له تأثيرا آخر على أجساد الكائنات الحية، سبق وأن ذكرها أهل العلم والطب.
قال المسعودي: «وقول بعض أهل الشرائع إن المد والجزر من فعل ملك وكله الله عز وجل بذلك في أقاصي البحار، يضع رجله أو بعض أصابعه فيها فتمتلئ فيكون المد، ثم يرفعها فيرجع الماء إلى موضعه فهو الجزر. وقول من قال منهم إن ذلك لأمور استأثر الله بغيبها لم يطلع أحدا من خلقه عليها ليعتبروا بذلك ويستدلوا على وحدانيته وعجيب حكمته، وتنازع الأوائل في ذلك من فلاسفة الأمم وحكمائهم أهو من أفعال الشمس أم من أفعال القمر عند زيادة نوره فيكون منه المد؟ أم عند نقصانه فيكون الجزر؟ على حسب ما يظهر من أفعاله عند زيادته في أبدان الحيوان من الناطقين وغيرهم من القوة وغلبة السخونة والرطوبة والكون والنمو عليها، وأن الأخلاط التي تكون في أبدان الناس كالدم والبلغم وغيرهما عند ذلك تكون في ظاهر الأبدان والعروق ويزيد ظاهر البدن بلة ورطوبة وحسنا، وأن الأبدان عند نقصان نوره تكون أضعف والبرد عليها أغلب وتكون هذه الأخلاط في غور البدن والعروق ويزداد ظاهر البدن يبسا، وذلك ظاهر عند ذوي المعرفة والعلم بالطب.»
59 (2-3) المطهر بن طاهر المقدسي
تناول المطهر بن طاهر المقدسي (توفي بعد 355ه/بعد 966م) تفسير المد والجزر لدى اليونانيين دون أن يبين لنا رأيه الخاص في الظاهرة، فيقول: «واختلفوا في المد والجزر فزعم أرسطاطاليس أن علة ذلك من الشمس؛ إذا حركت الريح فإذا ازدادت الرياح كان منها المد، وإذا نقصت كان عنها الجزر. وزعم طيماوس أن المد بانصباب الأنهار في البحر، والجزر بسكونها، وزعم بعضهم أن ذلك المد بامتلاء القمر والجزر بنقصانه.»
60
ويقصد «بامتلاء القمر» طور البدر.
وقد اقتبس سراج الدين أبو حفص عمر بن المظفر بن الوردي الحفيد (توفي 852ه/1447م)،
61
هذا الرأي من المقدسي.
62
كما أنه أشار المقدسي إلى حديث الملك الذي يقف وراء ظاهرة المد، مشككا بصدقه، حيث قال: «وقد روي في بعض الأخبار أن لله ملكا موكلا بالبحار فإذا وضع يده في البحر مد، وإذا رفعه جزر فإن صح ذلك والله أعلم.»
63
وقد أعلن ابن طاهر المقدسي أن أصحاب القصص والحكايات يطرحون أقوالا تتعلق بتفسير المد والجزر لا يمكن القبول بها، لا عقلا ولا نقلا. حيث قال: «وفي كتب قصاص المسلمين أشياء يضيق الصدر عنها، وروى أن الله تعالى لما خلق الأرض كانت تكفأ كما تكفأ السفينة فبعث الله ملكا فهبط حتى دخل تحت الأرض فوضع الصخرة على عاتقه ثم أخرج يديه إحداهما بالمشرق والأخرى بالمغرب ثم قبض على الأرضين السبع فضبطها فاستقرت ولم يكن لقدمه قرار فأهبط الله ثورا من الجنة له أربعون ألف قرن وأربعون ألف قائمة فجعل قرار قدمي الملك على سنامه فلم تصل قدماه إليه فبعث الله ياقوتة خضراء من الجنة غلظها مسيرة كذا ألف عام فوضعها على سنام الثور فاستقرت عليها قدماه وقرون الثور خارجة من أقطار الأرض مشبكة تحت العرش ومنخر الثور في ثقبين من ملك الصخرة تحت البحر فهو يتنفس كل يوم نفسين فإذا تنفس مد البحر وإذا رد نفسه جزر البحر. قال ولما لم يكن لقوائم الثور قرار فخلق الله كمكما كغلظ سبع سماوات وسبع أرضين فاستقرت عليه قوائم الثور ثم لو لم يكن للكمكم مستقر فخلق الله حوتا يقال له بهموت فوضع الكمكم على وتر الحوت والوتر الجناح الذي يكون في وسط ظهره وذلك الحوت [على الريح] العقيم وهو مزموم بسلسلة كغلظ السماوات.»
64 (2-4) أبو نصر القمي
أشار أبو نصر الحسن بن علي القمي (كان حيا 357ه/968م) إلى ارتباط المد والجزر بحركة القمر. حيث قال: «والأرض والبحر متصلة بالقمر، والدليل على ذلك أن المد والجزر في البحار يظهران بسير القمر؛ لأنه إذا طلع القمر من المشرق مد البحر فلا يزال زائد الارتفاع إلى أن يتوسط القمر السماء، فإذا توسط انتهى غاية المد، فإذا زال عن وسط السماء رجع المد، فلا يزال رجعا حتى يغرب القمر، فإذا غرب مد البحر ثانيا فلا يزال زائدا حتى يبلغ القمر وتد الأرض، فإذا زال القمر عن وتد الأرض رجع المد، فلا يزال راجعا إلى أن يطلع القمر.»
65 (2-5) ابن حوقل
حاول محمد بن حوقل البغدادي الموصلي (توفي بعد 367ه/بعد 977م) أن يرد على مزاعم وخرافات الناس بطريقة عقلية ومنطقية. إذ يحدثنا عن بئر يفيض ماؤها إذا أقسم أي شخص عليها، فقام وأقسم عليها ولم تفر ولم تتحرك، فتتبع منبعها، ووجده متصلا بالمياه التي تتأثر بحركة المد والجزر مرتين في اليوم.
قال ابن حوقل: «وبعبادان بئر يزعم ... أن الرجل إذا وقف عليها وأقسم على الماء بكل اسم خلق الله فإن الماء لا يتحرك فإذا أقسم عليه ... فإن الماء يفور ويصعد إلى شفير البئر؛ فمضيت إلى تلك البئر وأقسمت عليها بما زعموا فوالله ما تحرك ماؤها ولا تزعزع من موضعه، ففكرت وقلت: هذه الجزيرة في وسط الماء وهذا الماء في اليوم والليلة يمد ويجزر مرتين ومادة هذه البئر من ذلك الماء ولا يبعد أن يتحرك الماء في البئر عند الزيادة، وقد اتفق في تلك الساعة من لا يهتدي إلى حقائق الأشياء. أما المد والجزر فإنه من أعجب الأشياء وذلك أنه يبتدئ بالمد عند طلوع القمر ولا يزال يتزايد إلى أن يصير القمر في وسط السماء ثم يبتدئ بالجزر إلى أن يحصل القمر في أفق المغرب ثم يبتدئ بالمد إلى أن يصير القمر في درجة الرابع وتد الأرض ويبتدئ بالنقصان إلى وقت طلوع القمر ويعود في الزيادة وتختلف أوقاته باختلاف طلوع القمر ومغيبه وتبارك الله أحسن الخالقين.»
66 ،
67
وفي حديثه عن نهر المسرقان في خوزستان لاحظ الارتباط بين المد والجزر وحركة القمر، حيث قال: «وسرنا في وسط النهر وكان الباقي من هذا النهر إلى الأهواز طريقا يابسا لأن ذلك كان في آخر الشهر والقمر في نقصانه فنقص الماء عن ملء النهر من قبل المد والجزر اللذين ينقصان ويزيدان بزيادة القمر.»
68 (2-6) التميمي المقدسي الترياقي
ذكر محمد بن أحمد بن سعيد الحكيم التميمي المقدسي الترياقي (توفي عام 370ه/980م) أن القمر هو «سبب كون الجزر والمد في البحار.»
69 (2-7) شمس الدين المقدسي البشاري
ذكر محمد بن أحمد بن أبي بكر البناء المقدسي البشاري (توفي نحو 380ه/نحو 990م) حديث الملك المتسبب بظاهرة المد والجزر دون أن يعلق عليه لا سلبا ولا إيجابا، حيث قال: «ولهذا البحر الصيني زيادات في وسط الشهر وأطرافه وفي كل يوم وليلة مرتين، ومنه جزر البصرة ومدها إذا زاد دفع دجلة فانقلبت في أفواه الأنهار وسقت الضياع فإذا نقص جزر الماء، وقد اختلف الناس في سببه فقال قوم ملك يغمس فيه إصبعه كل يوم فيمد فإذا رفع إصبعه جزر. وقال كعب الأحبار لقي الخضر ملكا فقال: أخبرني عن المد والجزر فقال الملك: إن الحوت يتنفس فينساب الماء إلى منخريه فذلك الجزر ثم يتنفس فيخرجه من منخريه فذلك المد.»
70 (2-8) إخوان الصفا (القرن 4ه/10م)
ناقش إخوان الصفا وخلان الوفا (القرن 4ه/10م) ظاهرة المد والجزر معتمدين على ما سبق وطرحه الكندي.
قالوا: «وأما علة مدود بعض البحار في وقت طلوع القمر ومغيبه دون غيرها من البحار فهي من أجل أن تلك البحار في قرارها صخور صلبة فإذا أشرق القمر على سطح ذلك البحر وصلت مطارح شعاعاته إلى تلك الصخور والأبحار التي في قرارها ثم انعكست من هناك راجعة فسخنت تلك المياه وحميت ولطفت وطلبت مكانا أوسع وارتفعت إلى فوق ودفع بعضها بعضا إلى فوق وتموجت إلى سواحله وفاضت على سطوحها وأرجعت مياه تلك الأنهار التي كانت تنصب إليها إلى خلف فلا يزال ذلك دأبها ما دام القمر مرتفعا إلى وتد سمائه فإذا انتهى إلى هناك وأخذ ينحط سكن عند ذلك غليان تلك المياه وبردت وانضمت تلك الأجزاء وغلظت ورجعت إلى قرارها وجرت الأنهار على عاداتها فلا يزال ذلك دأبها إلى أن يبلغ القمر إلى أفق تلك البحار الغربي منها. ثم يبتدئ المد على مثل عادته وهو في الأفق الشرقي ولا يزال ذلك دأبه حتى يبلغ القمر إلى وتد الأرض أخذ المد راجعا إلى أن يبلغ القمر إلى أفقه الشرقي من الرأس.»
71 (3) المبحث الثالث: علماء القرن (5ه/11م)
في هذا القرن ناقش خمسة علماء ظاهرة المد والجزر. فمنهم من ربط بين الظاهرة وحركة القمر، ومنهم من اعتمد على نظريتي الكندي وأبي معشر. (3-1) أبو علي المرزوقي
رد أحمد بن محمد بن الحسن أبو علي المرزوقي (توفي 421ه/1030م) على المنجمين الذين يتشاءمون من رؤية هلال، وكيف أنهم يجهلون فوائده سواء بالنسبة للمواقيت أو بالنسبة لظاهرة المد والجزر في البحار. حيث قال المرزوقي: «والمنجمون يزعمون أن الهلال نحس، ونحن نجد عامة حاجات الناس إنما تجزئ مع الأهلة منها التاريخات كلها ... وزيادة المد، ونقصان الجزر.»
72 (3-2) أبو الريحان البيروني
تناول أبو الريحان البيروني (توفي 440ه/1047م) ظاهرة المد والجزر، وقال إن أهل الاختصاص يعرفون هذه الظاهرة، في اليوم بطلوع القمر وغروبه، وفي الشهر بزيادة نوره ونقصانه.
73
وقد فسر البيروني سبب حدوث هذه الظاهرة إلى التغير الدوري لوجه القمر.
74
كما أنه أشار إلى طريقة الكشف عن التيارات البحرية العميقة، التي سبق وأن تحدث عنها أبو معشر البلخي، لكن دون أن يربط بينها وبين المد والجزر، حيث قال في كتابه «الآثار الباقية عن القرون الخالية»: «ويستدل عليها بارتفاع الشباك من ذاتها من قعر البحر.» ويذكر الباحث أنور عبد المنعم، أنه في عام 1957م وخلال دراسة المحيطات إبان (السنة الدولية الجيو-فيزيائية) لاحظ العلماء أن شباك الصيد التي أدليت إلى المياه العميقة في المحيط الأطلسي قد انحرفت في الاتجاه المضاد لسير التيار السطحي، فثبت لهم بالدليل وجود التيارات العميقة، وقد تمكنوا من قياس سرعتها ومسارها.
75 (3-3) ابن حزم الأندلسي
لاحظ ابن حزم الأندلسي (توفي 456ه/1063م) الارتباط بين المد والجزر والقمر. فقال: «ولسنا ننكر أن تكون النجوم دلائل على الصحة والمرض وبعض ما يحدث في العالم كدلالة البرق على نعول البحر وكدلالة الرعد على تولد الكمأة وكتولد المد والجزر على طلوع القمر وغروبه وانحداره وارتفاعه وامتلائه ونقصه.»
76 (3-4) ناصر خسرو
طرح أبو معين الدين ناصر خسرو الحكيم المروزي (توفي 481ه/1088م) مجموعة من الدلائل عن المد والجزر اليومي الذي يحدث في بحر عمان ونهري الفرات ودجلة التي تشير إلى تأثرها بحركة القمر.
قال ناصر خسرو: «ويقال إن المد والجزر متعلقان بالقمر فيبلغ المد أقصى مداه حين يكون القمر على الأفقين يعني أفقي المشرق والمغرب ومن ناحية أخرى حين يكون القمر في اجتماع الشمس واستقبالها يزداد الماء، أي أن المد يزيد في هذه الأوقات ويعظم ارتفاعه وحين يكون القمر في التربيعات تأخذ المياه في النقصان يعني لا يكون علوها كثيرا وقت المد ولا ترتفع ارتفاعها وقت الاجتماع والاستقبال وكذلك يكون جزرها في هذه الحالة أقل هبوطا منه في وقت الاجتماع والاستقبال وبهذه الدلائل يقولون إن المد والجزر متعلقان بالقمر والله تعالى أعلم.»
77 (3-5) أبو عبيد البكري
يشترط عبد الله بن عبد العزيز بن محمد البكري الأندلسي (توفي 487ه/1094م) التسليم بحديث الملك المتسبب بالمد والجزر فقط في حال كان موثوقا وورد بشكل صحيح. حيث قال: «ومنها أن الملك الموكل بالبحر يضع عقبه في أقاصي بحر الصين فيفور البحر ويكون المد، ثم يشيل عقبه فيرجع الماء إلى مركزه. وإن كان كل ما ذكرنا عنه ممكنا فإنه من طريق الأفراد ولم يجئ مجيء التواتر الموجب للعلم والعمل، فإذا صحت هذه الآثار وجب التسليم والانقياد. وسيأتي ذكر بناء الباب إن شاء الله.»
78
ثم ينتقل البكري لطرح مختلف الآراء التي قالها العلماء حول تفسير الظاهرة دون أن يضيف لها أي رأي جديد.
قال البكري: «فأما علة المد والجزر فمختلف فيها، فقد قيل: علة ذلك القمر على ما بين أبو معشر. وقال قوم: هي الأبخرة التي تتولد في باطن الأرض، فإنها إذا كثفت دفعت حينئذ ماء هذا البحر فلا يزال على ذلك حتى تنقص موادها فيتراجع الماء حينئذ إلى قعور البحار فكان الجزر، فهذا يدل عليه كونه في كل أوان وفي غيبة القمر وطلوعه. وقال آخرون إن هيجان البحر كهيجان بعض الطبائع بالإنسان ثم تسكن. وقال آخرون إن الهواء المطل على البحر يستحيل دائما، فإذا استحال عظم ماء البحر، ثم يعاقب ذلك استحالة ماء البحر فيتنفس ويعود البحر إلى ما كان عليه، وإن الماء يستحيل هواء والهواء يستحيل ماء. وقال الشرعيون: كل حال لا يعلم له في الطبيعة مجرى فهو فعل إلهي لا يدخله قياس ولا يدرك بحس.»
79
بعدها ينقل لنا أقوال المسعودي (الذي رمز إليه بالحرف س) وأبو معشر. حيث قال: «قال س: وقد زعم قوم من نواتية (رؤساء السفن) البحر الفارسي أن المد والجزر لا يكون فيه إلا مرتين في العام ، فإذا كان الصيف كان الماء في مشارق البحر بالصين وما والاه وفي الشتاء بالضد.
قال س: رأيت بمدينة كنباية من أرض الهند، وهي مملكة البلهرى، وكانت على خليج من البحر أعرض من النيل، فيجزر الماء في هذا الخليج حتى يبدو الرمل وقعر الخليج ويبقى فيه اليسير من الماء. فرأيت الكلب على هذا الرمل الذي نضب ماؤه وصار كالصحراء، وقد أقبل المد وأحس به الكلب فأقبل يشتد ليفوت الماء، فلحق الماء بشدة دفعت الكلب فغرقته.
وأما علة ما لا يظهر فيه مد ولا جزر من البحار فهي التي تبعد عن مدار القمر ومسافته بعدا كبيرا، وقيل إنها التي يكون الغالب على أرضها التخلخل فينفذ الماء منها إلى غيرها من البحار وتنفس الرياح الكائنة في أرضها.»
80 (4) المبحث الرابع: علماء القرن (6ه/12م)
ناقش في هذا القرن ظاهرة المد والجزر اثنان من العلماء العرب. أحدهما رجع إلى النظريات اليونانية، والآخر اعتمد نظرية الكندي دون أية إضافة جديدة. (4-1) الشريف الإدريسي
استعرض محمد بن محمد بن عبد الله بن إدريس الإدريسي (توفي 560ه/1165م) في بداية تفسيره لظاهرة المد والجزر في البحار آراء الفلاسفة اليونانيين السابقين فقط، دون أن يأتي على ذكر ما طرحه الكندي أو أبو معشر. وهذا أمر مستهجن؛ لأن الأفكار التي طرحها الكندي أو أبو معشر كانت منتشرة وشائعة بشكل كبير منذ أن نشراها في أعمالهم في القرن (3ه/9م).
قال الإدريسي: «وحكى ربانيو البحر الهندي والبحر الصيني أن المد والجزر يكونان مرتين في السنة فمرة يمد في شهور الصيف شرقا ويجزر ضده البحر الغربي ثم يرجع المد غربا ستة أشهر. وقد ذكر في المد والجزر أقوال كثيرة وجب لنا أن نذكر بعضها بالوجيز من القول مع استيفاء المعنى. فأما أرسطوطاليس وأرشميدس فإنهما قالا في ذلك إن المد والجزر يحدثان عن الشمس إذا حركت الريح البحار وموجتها فإذا انتهى ذلك إلى البحر المسمى أطلنطيقس وهو البحر المحيط كان عنه المد، وإذا صارت هذه الريح في النقصان والسكون كان عنها الجزر. وأما ساطوطس
81
فإنه يرى أن علة المد والجزر تكون بامتلاء القمر وزيادته، وأن الجزر يكون بنقصانه وهذا كلام يحتاج إلى الزيادة فيه.»
82
بعدها حاول الإدريسي أن يؤكد صحة الأفكار أو بعضها من خلال ما شاهده لدى زيارته لبعض الدول الساحلية في أوربا، مثل البرتغال وبريطانية اللتين تطلان على المحيط الأطلسي. حيث يكون المد والجزر واضحا تماما هناك لدى رصده.
قال الإدريسي: «والبيان عما أتى به الفلاسفة مجملا فنقول إن المد والجزر الذي رأيناه عيانا في بحر الظلمات وهو البحر المحيط بغربي الأندلس وبلاد برطانية؛ فإن المد يبتدئ فيه في الساعة الثالثة من النهار إلى أول الساعة التاسعة، ثم تأخذ في الجزر ست ساعات مع آخر النهار، ثم يمد ست ساعات ثم يجزر ست ساعات هكذا يمد في اليوم مرة وفي الليل مرة ويجزر في اليوم مرة وفي الليل مرة أخرى. وعلة ذلك أن الريح تهيج هذا البحر في أول الساعة الثالثة من النهار وكلما طلعت الشمس في أفقها كان المد مع زيادة الريح ثم تنقص الريح عند آخر النهار لميل الشمس إلى الغروب فيكون الجزر أيضا وكذلك الليل أيضا تهيج الريح في صدره وتركد مع آخره. وزيادة الماء في المد يكون في ليلة ثلاث عشرة وليلة أربع عشرة وليلة خمس عشرة وليلة ست عشرة، ففي هذه الليالي المذكورة يفيض المد فيضا كثيرا ويصل إلى أمكنة لا يصل إليها إلا إلى مثل تلك الليالي من الشهر الآتي وهذا من آيات الله المبصرة في هذا البحر يراه أهل المغرب مشاهدة لا امتراء فيه ويسمى هذا المد فيضا.»
83
وقد كرر نقل هذه الفقرة محمد بن علي البروسوي سباهي زاده.
84
وكما نلاحظ من وصف الإدريسي فقد تحدث عن المد الفيضي أو الربيعي
Spring Tide
الذي يحدث وسط الشهر القمري، حيث تكون فيه المياه زائدة عن حالات المد بقية الأيام. (4-2) ابن رشد
اعتمد ابن رشد (توفي 595ه/1198م) نظرية الكندي بأن حرارة أشعة القمر هي المسئولة عن المد والجزر وليس جاذبيته. حيث قال: «أما ما كان من البحار أعلى منه فإنه يتحرك الماء الذي فيه إليه من قبل أن البحر المحيط أسفل منه، ويتحرك هو إليه من قبل تدافع أجزائه بما يحدث فيه من الحركة الموجودة بذاتها علوا، التي هي في الماء شبيه بحركة الريح، وهي التي تسمى عندنا حركة المد. وأما ما كان من البحار أسفل فإن الأمر فيه بالعكس، أعني أن الماء يتحرك من البحر الأسفل إليه علوا من قبل الريح المتولدة فيه عن حرارة القمر، ويتحرك هو إلى ذلك البحر بالطبع إذا خلا الماء السفلي عن هذه الحركة.»
85 (5) المبحث الخامس: علماء القرن (7ه/13م)
ناقش موضوع المد والجزر في هذا القرن خمسة من العلماء العرب. (5-1) نور الدين البطروجي
ساهم أبو إسحاق نور الدين البطروجي الإشبيلي (توفي حوالي 600ه/1204م) في فكرة أن المد والجزر سببها الدورة العامة للسماوات.
86
وقد بنى نظريته على الحركة الموجودة في المحيط الأطلسي، ملاحظا التواتر بين حركة السماء نفسها وحركة المد والجزر وليس تزامن حركة القمر مع حركة المد والجزر، كما قال بذلك كل من سبقه.
حيث قال: «وأما عنصر الماء فإن حركته تبين من أمرها أنها تابعة لحركة السماء بالضرورة، وإن لم تكن حركته على استدارة تامة، وذلك بما نشاهده من حركة البحر الأعظم من مده وجزره في الليل والنهار على نظام محفوظ كأنها حركة موازاة، وإنما [يحدث] ذلك لثقله وما في طباعه من الميل إلى الأسفل والرسوب إلى المواضع المنخفضة من الأرض. وأكثر ما يبين ذلك ويظهر حركة الماء في مجتمعه كالبحار التي لا تدرك لها إلا شد واحدة لغلظها وعمقها؛ فحركة الماء التي من جهة المشرق هي حركته التي يتبعها ما فوق، وحركته في الرجوع هي تثقله وميله إلى الأسفل لكثرته، وحركة الماء أقل سرعة من حركة الهواء، ولذلك يظن أنه تابع في الحركة لنقلة القمر لتقارب حركتيهما، وإنما ظن ذلك لأنها تأتي تابعة ومقصرة عنها فلا تنتهي القوة إلى إتمام الدورة حتى تأتي عليها دورة أخرى فتستعجلها عن التمام واستيفاء الدورة، فيضطرب الماء لذلك كما دلك فيها.»
87
هذا الطرح الجديد الذي قدمه البطروجي عن المد والجزر كان غير مألوف بالنسبة لعلم الفلك الأرسطي، وقد انتقل لأوربا عبر الترجمة التي قام بها ميشيل سكوت (توفي 1232م)
M. Scotus
عام 1217م.
88
وقد تأثر به كثيرا روبرت غروستيست وحاول أن يرد على طرح البطروجي لكنه لم يوفق في ذلك.
89 (5-2) ابن ميمون
تنبه أبو عمران موسى بن ميمون القرطبي (توفي 603ه/1204م) إلى أن القدماء لاحظوا ارتباط قوة المد والجزر بالقمر فقال: «ذكرت الفلاسفة أن للقمر قوة زائدة وخصوصية باسطقس [مادة] الماء، [و]دليل ذلك زيادة البحور والأنهار بزيادة القمر. والجزر مع إدباره أعني صعوده وانحطاطه في أرباع الفلك على ما هو بين واضح عند ترصد ذلك.»
90 (5-3) ياقوت الحموي
رفض ياقوت الحموي (توفي 626ه/1229م) ما طرحه أصحاب القصص الخرافية والعجائبية من العرب والمسلمين حول ظاهرة المد والجزر، كما نبه إلى أنه ليس مؤمنا بصدقها.
قال ياقوت الحموي: «وفي أخبار قصاص المسلمين أشياء عجيبة تضيق بها صدور العقلاء، أنا أحكي بعضها غير معتقد لصحتها: رووا أن الله تعالى خلق الأرض تكفأ كما تكفأ السفينة، فبعث الله ملكا حتى دخل تحت الأرض، فوضع الصخرة على عاتقه، ثم أخرج يديه: إحداهما بالمشرق، والأخرى بالمغرب، ثم قبض على الأرضين السبع فضبطها، فاستقرت، ولم يكن لقدمه قرار، فأهبط الله ثورا من الجنة له أربعون ألف قرن وأربعون ألف قائمة، فجعل قرار قدمي الملك على سنامه، فلم تصل قدماه إليه، فبعث الله ياقوتة خضراء من الجنة، مسيرها كذا ألف عام، فوضعها على سنام الثور، فاستقرت عليها قدماه، وقرون الثور خارجة من أقطار الأرض، مشبكة تحت العرش، ومنخر الثور في ثقبين من تلك الصخرة تحت البحر، فهو يتنفس كل يوم نفسين، فإذا تنفس مد البحر وإذا رده جزر.»
91
بعدها ذكر ياقوت قولا للجاحظ «وقال الجاحظ: بالبصرة ثلاث أعجوبات ليست في غيرها من البلدان، منها: أن عدد المد والجزر في جميع الدهر شيء واحد فيقبل عند حاجتهم إليه ويرتد عند استغنائهم عنه، ثم لا يبطئ عنها إلا بقدر هضمها واستمرائها وجمامها واستراحتها، لا يقتلها غطسا ولا غرقا ولا يغبها ظمأ ولا عطشا، يجيء على حساب معلوم وتدبير منظوم وحدود ثابتة وعادة قائمة، يزيدها القمر في امتلائه كما يزيدها في نقصانه فلا يخفى على أهل الغلات متى يتخلفون ومتى يذهبون ويرجعون بعد أن يعرفوا موضع القمر وكم مضى من الشهر، فهي آية وأعجوبة ومفخر وأحدوثة، لا يخافون المحل ولا يخشون الحطمة.»
92
وقد رد عليه ياقوت مؤكدا صحة كلامه؛ لأنه تحقق من ذلك بنفسه، وشاهده معاينة.
قلت أنا: كلام الجاحظ هذا لا يفهمه إلا من شاهد الجزر والمد، وقد شاهدته في ثماني سفرات لي إلى البصرة ثم إلى كيش ذاهبا وراجعا، ويحتاج إلى بيان يعرفه من لم يشاهده، [وهو أن دجلة والفرات يختلطان قرب البصرة ويصيران نهرا عظيما يجري من ناحية الشمال إلى ناحية الجنوب فهذا يسمونه جزرا، ثم يرجع من الجنوب إلى الشمال ويسمونه مدا، يفعل ذلك في كل يوم وليلة مرتين]،
93
فإذا جزر نقص نقصانا كثيرا بينا بحيث لو قيس لكان الذي نقص مقدار ما يبقى وأكثر، وليست زيادته متناسبة بل يزيد في أول كل شهر، ووسطه أكثر من سائره، وذاك أنه إذا انتهى في أول الشهر إلى غايته في الزيادة وسقى المواضع العالية والأراضي القاصية أخذ يمد كل يوم وليلة أنقص من اليوم الذي قبله، وينتهي غاية نقص زيادته في آخر يوم من الأسبوع الأول من الشهر، ثم يمد في كل يوم أكثر من مده في اليوم الذي قبله حتى ينتهي غاية زيادة مده في نصف الشهر، ثم يأخذ في النقص إلى آخر الأسبوع ثم في الزيادة في آخر الشهر هكذا أبدا لا يختلف ولا يخل بهذا القانون ولا يتغير عن هذا الاستمرار.»
94 ،
95
وقوله «مرتين» إشارة إلى المد والجزر نصف النهاري. (5-4) سبط بن الجوزي
يبدو أن أبا المظفر سبط بن الجوزي (توفي 654ه/1265م) كان يناصر الرأي الديني في تفسير ظاهرة المد والجزر. فبعد أن استعرض ما سبق وطرحه أبو معشر البلخي من أنواع المياه التي يحدث فيها المد والجزر ، انتقل للبحث في الأسباب المختلفة للظاهرة. حيث قال: «فأما المد فمضي الماء بجريته، والجزر رجوعه عن ذلك، وقال علماء الهيئة: البحار ثلاثة أصناف:
منها: ما يكون فيه المد والجزر ويظهر فيه ظهورا بينا، كالبحر الحبشي عند البصرة، وهذا مشاهد محسوس. والثاني: يظهر فيه في وقت دون وقت كما في البحر الأعظم، فإنه يمد ستة أشهر، فيقل الماء في موضع ويكثر في موضع. والصنف الثالث: لا يظهر فيه المد أصلا، كغير الحبشي.»
96 «واختلفوا في علة المد والجزر: أما علماء الهيئة فقد اختلفوا فيه: قال بعضهم: علته القمر؛ لأنه مجانس لعلة الماء وهو يسخنه فينبسط، ومثلوه بقدر فيها ماء مقدار نصفها، فإذا غلى على النار ارتفع الغليان حتى يفور ويصعد، فإذا برد الماء نقص؛ لأن من شرط الحرارة أن تبسط الأجسام ومن شرط البرودة أن تضغطها، فإذا امتلأ القمر حميت أرض البحر فانبسط الماء وارتفع، وإذا نقص رجع الماء. وقال بعضهم: علته الأبخرة المتولدة في باطن الأرض، فإنها لا تزال تتولد حتى تكثر وتكثف فيرد ماء البحر بكثافتها، فإذا انقطعت المواد بقلة الكثافة عاد ماء البحر إلى قعره.»
97
بعد ذلك قدم ابن الجوزي رأيه موكلا أمر الظاهرة إلى قدرة الله قائلا: «والمختار عندي: أن المد والجزر من آيات الله تعالى، وأنه من آثار قدرته في العالم؛ لأن كل ما لا يوجد له قياس في الوجود فهو فعل إلهي يستدل به على عظمة الباري سبحانه وقدرته، وليس للمد والجزر قياس في العالم. وقال أحمد بن حنبل بإسناده قال: سئل ابن عباس عن المد والجزر فقال: قد وكل الله بقاموس البحر ملكا، فإذا وضع رجله فيه فاض البحر، وإذا رفعها غاض. وقد ذكره الجوهري فقال: وقاموس البحر وسطه ومعظمه. وروي عن مجاهد عن ابن عباس قال: الملك الموكل بالبحار يضع عقبه في بحر الصين فيكون منه المد، ثم يرفع عقبه فيكون منه الجزر. وقال مجاهد: وهذا ظاهر محسوس، فإن الإنسان لو وضع قدمه في إناء فيه ماء فإن الماء يرتفع إلى رأس الإناء، فإذا رفعها رجع الماء إلى حده.»
98
ثم رد على أصحاب الآراء المختلفة حتى أولئك الذين يربطون بين حركة القمر والمد، فكل ما يتكلمون به عار عن الصحة. «فإن قيل: فيلزم على هذا أن يكون الجزر والمد في جميع البحار، قلنا: قد ذهب قوم إلى هذا، وإنما لم يظهر في غير بحر البصرة لوجهين: أحدهما: لبعد المسافة واتساع البحار، ومن لجج من المسافرين في البحار يذكر أنه شاهده، والثاني: فلأن مكان المد والجزر في البصرة تحت خط الاستواء واعتدال الليل والنهار وعليه الكواكب الثابتة، وهذا المعنى لا يوجد في غيره.
وأما قول من علل بزيادة القمر ونقصانه، فغير صحيح؛ لأنه لو كان كذلك لتعلق بزمان مخصوص، فإن القمر يزيد في أول الشهر وينقص في آخره، والمد والجزر يكون في كل يوم وليلة فافترقا.
وأما من قال بأنه من الأبخرة في قلتها وكثرتها فباطل؛ لأنه يحتاج إلى زمان طويل يجتمع فيه، وهذا يوجد في كل يوم وليلة.»
99
موقف غريب من شخص مثل ابن الجوزي؛ فالكل مؤمن بقدرة الله - عز وجل - على فعل ما يريد وكيف يريد، لكن الله لم يحرم على عباده التفكير والبحث في الأسباب المادية الكامنة وراء الظواهر، ولو أنه عطلوا عبادة التفكر التي أمر بها بالقرآن لتعطلت الحياة نفسها، وهذا ما لا يريده الخالق بكل تأكيد. فنحن نعلم اليوم وجود خاصية الجاذبية في الشمس والقمر والفعل المتبادل بينهما وبين المياه في البحار والمحيطات، فهل ما توصل إليه التفكير العلمي يناقض أو يتعارض مع إيماننا بقدرة الله الذي أودع هذه الخصائص في هذه الأجرام؟!
بكل تأكيد لا يتعارض ولا بأي صورة من الصور، إذ أمكنت هذه المعرفة من أن تجعل الناس يدرءون عن أنفسهم خطر المد والجزر، ويحولونه إلى أحد مصادر الطاقة التي استفادوا منها بمختلف الأشكال.
نشير أخيرا إلى أن أبا بكر بن عبد الله بن أيبك ابن الدواداري (توفي بعد 736ه/بعد 1432م) اقتبس ما ذكره ابن سبط الجوزي كاملا، ويبدو أنه يتبنى رأيه.
100 (5-5) زكريا القزويني
تناول المؤرخ والجغرافي زكريا بن محمد القزويني (توفي 682ه/1283م) في كتابه «عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات» ظاهرة المد والجزر وعزاها إلى القمر.
قال القزويني: «زعموا أن تأثيراته بواسطة الرطوبة كما أن تأثيرات الشمس بواسطة الحرارة ويدل عليها اعتبار أهل التجارب ومنها أمر البحار، فإن القمر إذا صار في أفق من آفاق البحر أخذ ماؤه في المد مقبلا مع القمر، ولا يزال كذلك إلى أن يصير القمر في وسط سماء ذلك الموضع إذا صار هناك انتهى المد منتهاه، فإذا انحط القمر من وسط سمائه جزر الماء، ولا يزال كذلك راجعا إلى أن يبلغ القمر مغربه فعند ذلك ينتهي الجزر منتهاه. فإذا زال القمر من مغرب ذلك الموضع، ابتدأ المد مرة ثانية إلا أنه أضعف من الأولى، ثم لا يزال كذلك إلى أن يصير القمر في وتد الأرض فحينئذ ينتهي المد منتهاه في المرة الثانية في ذلك الموضع، ثم يبتدئ بالجزر والرجوع ولا يزال كذلك حتى يبلغ القمر أفق المشرق ذلك الموضع فيعود المد إلى ما كان عليه أولا، فيكون في كل يوم وليلة بمقدار مسير القمر في ذلك البحر مدان وجزران.»
101
ثم انتقل للحديث عن نظرية أصحاب حرارة أشعة القمر التي سبق وقال بها الكندي، ثم حاول تأكيدها بأن أورد حديث الملك المسئول عن الظاهرة. حيث قال: «وأما مد بعض البحار في وقت طلوع القمر فزعموا أن في قعر البحر صخورا صلدة وأحجارا صلبة، وإذا أشرق القمر على سطح ذلك البحر وصلت مطارح أشعته إلى تلك الصخور والأحجار التي في قرارها ثم انعكست من هناك متراخية فسخنت تلك المياه وحميت ولطفت فطلبت مكانا أوسع وتموجت إلى ساحلها ودفع بعضها بعضا وفاضت على شطوطها وتراجعت المياه التي كانت تنصب إليها إلى خلف فلا تزال كذلك ما دام القمر مرتفعا إلى وسط سمائه فإذا أخذ ينحط سكن غليان تلك المياه وبردت تلك الأجزاء وغلظت ورجعت إلى قرارها وجرت الأنهار على عادتها، فلا يزال كذلك دائما إلى أن يبلغ القمر إلى الأفق الغربي، ثم يبتدئ المد على مثال عادته في الأفق الشرقي، ولا يزال ذلك إلى أن يبلغ القمر إلى وتد الأرض وينتهي المد، ثم إذا زال القمر عن وتد الأرض أخذ الماء راجعا إلى أن يبلغ القمر إلى أفقه الشرقي. هذا قولهم في مد البحار وجزرها. وأما هيجانها فكهيجان الأخلاط في الأبدان فإن ترى صاحب الدم والصفراء وغيرهما يهتاج به الخلط ثم يسكن قليلا قليلا، وقد عبر النبي
صلى الله عليه وسلم
عن ذلك بعبارة لطيفة فقال: «إن الملك الموكل بالبحر يضع رجله بالبحر فيكون منه المد ثم يرفع فيكون منه الجزر».»
102
فقد أرجع القزويني التأثير إلى تسخين القمر لصخور البحار كما سبق وأن قال بذلك الكندي وأبو معشر. وقد علق المحقق عبد السلام هارون بأن القزويني «فاته أن تسخين الشمس في رابعة النهار أشد وأقوى فهذا غلط ظاهر وليس الأمر مبنيا على التسخين والتبريد وإنما هو نظام الجاذبية الفلكية.»
103
ويرى المؤرخ ديفيد كارتويت
D. Cartwright
أن تشارلز داروين (توفي 1882م)
Ch. Darwin
صاحب نظرية التطور قد اقتبس
104
بشكل كامل فكرة تقديم القمر للحرارة إلى البحر عن القزويني، كما أنه اقتبس أيضا عن وثيقة آيسلندية قديمة تشير إلى تسخين الشمس أيضا مثل القمر، في محاولة مضطربة منه لتفسير المد الربيعي الذي يحدث في حالتي اكتمال القمر (البدر) والقمر الجديد (الهلال).
105
ويبدو أن سبب هذا الاقتباس الكبير هو أن داروين يعتبر ما قدمه القزويني ممثلا للنظرية العربية في تفسير ظاهرة المد والجزر، لكنه بكل تأكيد لم يكن على صواب.
لم يكتف القزويني بما استعرضه من نظريات، وإنما استأنس بآراء أصحاب الخبرة من البحارة حيث «قال البحريون: جميع المد والجزر في بحر الهركند (الصين ) وما يتصل به كما في بحر فارس، وكيفيته أن القمر إذا بلغ مشرق البحر ابتدأ بالمد، ولا يزال كذلك إلى أن يبلغ القمر وسط سماء ذلك الموضع، فعند ذلك ينتهي المد منتهاه، فإذا انحط القمر عن وسط سمائه خرس الماء ورجع، ولا يزال كذلك إلى أن يصل القمر مغرب ذلك الموضع، فعند ذلك ينتهي الجزر منتهاه، فإذا زال القمر من مغرب ذلك ابتدر المد هناك مرة ثانية، ولا يزال كذلك إلى أن يصل القمر إلى وتد الأرض؛ فحينئذ ينتهي المد منتهاه ثانيا ويبتدئ الجزر مرة ثانية إلى أن يبلغ القمر أفق ذلك الموضع، فيعود الحال المذكور مرة ثانية.»
106
أيضا وفي حديثه عن بحر فارس استعان برأي البحارة عن المد والجزر السنوي الذي يحدث فيه، ويبدو أنه تأكد له التطابق بين الجانب النظري والعملي للظاهرة، حيث قال: «هو شعبة من بحر الهند الأعظم، من أعظم شعبها، وهو بحر مبارك، كثير الخير، لم يزل ظهره مركوبا واضطرابه وهيجانه أقل من سائر البحار، قال محمد بن زكريا: سئل عبد الغفار الشامي البحري عن مد البحار وجزرها؟ فقال: لا يكون المد والجزر في البحر الأعظم في السنة إلا مرتين؛ مرة يمد في شهور الصيف شرقا بالشمال ستة أشهر، فإذا كان ذلك طما الماء في مغارب البحر وانحسر عن مشارقه. وأما بحر فارس فإنه يكون على مطالع القمر، وكذلك بحر الصين والهند وبحر طرابزندة، فإن القمر إذا صار في أفق من آفاق هذا البحر أخذ المد مقبلا مع القمر ولا يزال كذلك إلى أن يصير القمر إلى وسط سماء ذلك الموضع، فيجزر الماء ولا يزال راجعا إلى أن يبلغ القمر مغربه، فعند ذلك يكون قد انتهى الجزر إلى منتهاه، فإذا زال القمر من مغرب ذلك الموضع ابتداء لمد هناك مرة ثانية، إلا أنه أضعف من الأولى، ثم لا زال كذلك إلى أن يصير القمر إلى وتد الأرض، فحينئذ انتهى المد إلى منتهاه في المرة الثانية في ذلك الموضع، ثم يبتدئ بالجزر والرجوع، ولا يزال كذلك حتى يبلغ القمر أفق مشرق ذلك الموضع، فيعود الماء على مثال ما كان عليه أولا، ولهذا البحر مد آخر بحسب امتلاء القمر ونقصانه، فإذا كان أول الشهر أخذ الماء في الزيادة ويزداد كل يوم إلى منتصف الشهر، فعند ذلك بلغ المد منتهاه، ثم يأخذ في النقصان وينقص كل يوم إلى آخر الشهر، فعند ذلك بلغ الجزر منتهاه، ثم يعود إلى ما كان أولا، ويأخذ في المد.»
107
وقد اعتبر الباحث مارتن إيكمان
M. Ekman
القزويني أول من حاول تفسير ظاهرة المد والجزر في البحار علميا للمرة الأولى في منتصف القرن الثالث عشر. لكن بحسب ما وجدنا سابقا أنه اعتمد على الكندي وأبي معشر في تفسيره، ولم يكن الأول في ذلك.
كما يعتبر إيكمان أن فرضية الكندي فشلت في تفسير لماذا القمر، وليس الشمس، يقوم بدور ريادي في هذه الظاهرة. ويرى أن الصعوبة الكبرى تكمن في فهم كيف القمر والشمس باستطاعتهما أن يكون لديهما تأثير على الأرض بحيث تجعل الناس يبحثون عن تفسيرات جديدة كليا عن المد والجزر. تعمل فكرة القمر والشمس بالكامل بطريقة مربكة ما. طبقا لفكرة أحدهم فإن سبب المد والجزر هو مد كبير
Malstrommen (دوامات بحرية عظيمة)، بعيدة عن شاطئ نرويج الشمالي، حيث إن المد المنخفض كان عبارة عن سلسلة من ماء البحر تختفي في دوامة، بينما يحدث المد العالي عندما عاود الظهور من الدوامة. اليوم نعرف بأنه يوجد في الواقع اتصال بين الدوامة والمد، لكنه المد الذي يسبب الدوامة، ليس بالطريقة الأخرى المحيطة.
108
ويبدو أنه وقع في الفخ نفسه الذي وقع فيه دارون من قبل، بأن اعتبر طرح القزويني ممثلا وحيدا عن النظريات العربية في المد والجزر. (6) المبحث السادس: علماء القرن (8ه/14م)
ناقش موضوع المد والجزر في هذا القرن أربعة من العلماء العرب دون أية إضافات جديدة. (6-1) شيخ الربوة
يحدثنا شمس الدين أبو عبد الله محمد الدمشقي (توفي 727ه/1327م) عن المد والجزر الذي يحدث عند الأنهار التي تتفرع عن شط العرب، ملتقى الفرات ودجلة، وهو من النوع نصف النهاري.
حيث قال: «وكل هذه الأنهار تمد وتجزر في كل يوم وليلة مرتين، فإذا مد البحر جرى الماء في شط العرب شمالا، وازداد وارتفع فامتلأت جميع الأنهار والسواقي، ومن أراد أن يسقي أرضه وبستانه فتح وأسقى ثم سد، ولا يزال كذلك إلى مضي ست ساعات ثم يقف الماء قليلا ويجزر، فيعود جريانه جنوبا كما كان أولا، وينقص وتغيض الأنهار وتخلو السواقي ولا يزال كذلك إلى أكثر من ست ساعات، فإن زمان الجزر أكثر من زمان المد، ثم يقف ويعود إلى المد هكذا أبدا. ويدور المد والجزر في الأيام والليالي مثلا ما يكون أول يوم أول ساعة، وثاني يوم في ثاني ساعة أو دونها، وكذلك تجزر.»
109
وما وصفه لنا شيخ الربوة هو ما يسمى بالدورة المدية، وفترة السكون التي تكون بعد المد، وكيف أن وقت المد يتأخر في كل يوم عن سابقه بالمدة نفسها التي يتأخر فيها ظهور القمر في المكان نفسه كل يوم.
وتابع قائلا: «وسائر البحار تمد وتجزر إلا بحر الخزر، وقد تقدم الكلام على سبب المد والجزر. والذي هو أقرب إلى الصحيح أن طبيعة المحيط اقتضت ذلك على ما هو عليه من المد والجزر، كما يربو جوف الإنسان بالنفس ويضمر عودا إلى حاله الأول أبدا ما دام حيا، وكما يمد سواد عين القط ويجزر، فيبتدئ من وسط النهار في الاتساع في أقطاره إلى نصف الليل، ثم يوجد في الانضمام من نصف الليل إلى نصف النهار، وكما يكون عند الخوف والانزعاج فإنه ينقلب جميع عينيه إلى السواد، وإذا سكن روعه واطمأن نقص السواد حتى يكون بقدر الشعيرة.»
110 (6-2) أبو الفداء الحموي
تكلم عماد الدين إسماعيل بن محمد بن عمر أبو الفداء الحموي (توفي 732ه/1331م) عن المد في نهر إشبيلية، وكيف أن المد يرتبط بحركة القمر، حيث قال: «وبين مصب نهر إشبيلية في البحر وبين إشبيلية خمسون ميلا؛ فالمد يتجاوز إشبيلية عشرين ميلا، ولا يبرح المد والجزر فيه يتعاقبان كل يوم وليلة؛ وكلما زاد القمر نورا زاد المد والمراكب لا تزال فيه منحدرة مع الجزر صاعدة مع المد، ويدخل فيه السفن العظيمة الإفرنجية بوسطها من البحر المحيط حتى يحط عند سور إشبيلية.
111
وقد قال بعض شعراء الأندلس في المد والجزر:
خليلي بادر بي إلى النهر بكرة
وقف منه، حيث المد يثني عنانه
ولا تجز الأرحا فإن وراءها
يبابا وعيني لا تريد عيانه.»
112 (6-3) شهاب الدين النويري
أشار شهاب الدين النويري (توفي 733ه/1333م) إلى حديث الملك المسئول عن المد والجزر، دون أن يبدي رأيه في ذلك أو يعلق عليه، حيث قال: «ويقال إن علة المد والجزر تكون عن وضع الملك الموكل بقاموس البحر عقبه في أقصى بحر الصين، فيفور فيكون منه المد؛ ثم يرفعه فيكون من رفعه الجزر. ومنهم من روى مكان العقب الإبهام. ومنهم من قال إن العلة فيه غير هذا كله. والله أعلم.»
113 (6-4) ابن كثير
يخبرنا أبو الفداء بن كثير (توفي 774ه/1373م) عن ارتباط المد والجزر بالقمر حيث قال: «ومن ذلك البحر الذي يخرج منه المد والجزر عند البصرة، وفي بلاد المغرب نظيره أيضا يتزايد الماء من أول الشهر، ولا يزال في زيادة إلى تمام الليلة الرابعة عشرة منه وهو المد ثم يشرع في النقص وهو الجزر إلى آخر الشهر.»
114 (7) المبحث السابع: علماء القرن (9ه/15م)
ناقش موضوع المد والجزر في هذا القرن اثنان من العلماء. (7-1) تقي الدين المقريزي
تناول أحمد بن علي بن عبد القادر المقريزي (توفي 845ه/1441م) الحديث عن المد والجزر كما هو معروف بأنواعه الثلاثة: اليومي والشهري والسنوي حيث قال: «ذهب بعضهم إلى أن زيادة ماء النيل إنما تكون بسبب المد الذي يكون في البحر فإذا فاض ماؤه تراجع النيل، وفاض على الأراضي ووضع في ذلك كتابا حاصله: إن حركة البحر التي يقال لها المد والجزر، توجد في كل يوم وليلة مرتين، وفي كل شهر قمري مرتين، وفي كل سنة مرتين. فالمد والجزر اليومي تابع لقرص القمر، ويخرج الشعاع عنه من جنبتي جرم الماء. فإذا كان القمر وسط السماء كان البحر في غاية المد، وكذا إذا كان القمر في وتد الأرض فإذا بزغ القمر طالعا من الشرق أو غرب كان الجزر. والمد الشهري يكون عند استقبال القمر للشمس في نصف الشهر، ويقال له: الامتلاء أيضا عند الاجتماع، ويقال له: السرار. والجزر يكون أيضا في وقتين عند تربيع القمر للشمس في سابع الشهر، وفي ثاني عشريه.»
115
كما أنه أشار إلى حالة ازدياد المد والجزر عند اجتماع الشمس والقمر في جهة واحدة، حيث قال: «والمد السنوي يكون أيضا في وقتين: أحدهما عند حلول الشمس آخر برج السنبلة، والآخر عند حلول الشمس بآخر برج الحوت، فإن اتفق أن يكون ذلك في وقت الامتلاء أو الاجتماع، فإنه حينئذ يجتمع الامتلاءان الشهري والسنوي، ويكون عند ذلك البحر في غاية الفيض، لا سيما إن وقع الاجتماع أو الامتلاء في وسط السماء، ووقع مع النيرين أو مع أحدهما أحد الكواكب السيارة فإنه يعظم الفيض. فإن وقع كوكب فصاعدا مع أحد النيرين، تزايد عظم الفيض، وكانت زيادة النيل تلك السنة عظيمة جدا، وزاد أيضا نهر مهران. فإن كان الاجتماع أو الامتلاء زائلا عن وسط السماء، وليس مع أحد النيرين كوكب فإن النيل ونهر مهران لا يبلغان غاية زيادتهما لعدم الأنوار التي تثير المياه.»
116
ثم يقدم لنا المقريزي قياسا رقميا تقديريا لمساحة المد التي يغطي بها اليابسة. فهو يرى أن كل درجة فلكية واحدة تقابل ستين ميلا، تتراوح قيمة الميل الواحد بين (1946-4912 مترا و1981,25 مترا)،
117
أو للتقريب 2 كيلومتر. «فأما المد اليومي الدافع من البحر المحيط فإنه لا ينتهي في البحر الخارج من المحيط أكثر من درجة واحدة فلكية، ومساحتها من الأرض نحو من ستين ميلا ثم ينصرف، وانصرافه هو الجزر وكذلك الأودية إذا كانت الأرض وهدة، والمد الشهري ينتهي إلى أقاصي البحار، وهو يمسكها حتى لا تنصب في البحر المحيط، وحيث ينتهي المد الشهري فهناك منتهى ذلك البحر وطرفه. وأما المد السنوي فإنه يزيد في البحار الخارجة عن البحر المحيط زيادة بينة، ومن هذه الزيادة تكون زيادة النيل وامتلاؤه، وامتلاء نهر مهران، والديتلو الذي ببلاد السند.»
118
ثم يعود لنظرية الكندي في تسخين أشعة القمر للبحار والتسبب في ظاهرة المد والجزر، حيث قال: «والمد كله واحد وهو أن القمر يقابل الماء كما تقابل الشمس الأرض، فنور القمر إذا قابل كرة الأرض سخنها كما تسخن الشمس الهواء المحيط فيعتري الهواء المحيط بالماء بعض تسخين يذيب الماء، فيفيض وينمو بخاصته كالمرآة المحرقة الملهبة للجو حتى تحرق القطنة الموضوعة بين المرآة والشمس. فهذا مثاله في المقابلة ومثاله في المسرار كون الزجاجة المملوءة ما يلقى الشعاع إلى حلقها، فتحترق القطنة أيضا. فالقمر جسم نوري باكتسابه ذلك من الشمس. فإذا حال بين الشمس والأرض خرج عن جانبي الماء شعاع نافذ يمر مع جنبي الماء فيسخن ما قابله فينمو.»
119
وقد ضرب - من باب تبسيط الفكرة - مثالا على أن النور الذي يخرج من المصباح يسخن المنطقة المقابلة له الهواء، وهذا ما يفعله القمر بالمنطقة المقابلة له من البحار، فكلما زادت كمية الشعاع الواصلة لقاع البحر، زاد مقدار المد.
قال المقريزي: «والماء جسم شفاف عن جانبيه يخرج الشعاع كما يخرج عن جانبي الزجاجة، فيحدث لها نور يسخن الهواء الذي يحيط بالزجاجة أو بالأرض، فيقترف الماء شبه تسخين ينمو به ويزيد وذلك قبالة القرص، وقبالة مخرج الشعاع من قبالة وتد القمر، فهذا هو المد دائما، ويستدير باستدارة الفلك، وتدويره لفلك القمر وتدوير فلك القمر للقمر. والمد الشهري هو أن يقابل القمر الشمس أو يستتر تحتها؛ لأنه ليس إلا كون القمر قبالة الشمس لكونه في تربيع الشمس أضعف وفي المقابلة أقوى، وكذلك إذا قابلها على وسط كرة الأرض بحيث تكون الحركة أشد، والاكتناف للماء والأرض أعم فذلك هو المد السنوي.»
120
ومع انضمام أشعة الشمس والكواكب لأشعة القمر يصبح المد أعظميا. وقد خلص المقريزي إلى السبب الرئيس في الزيادة الحاصلة في نهر النيل؛ هو مد البحر الذي يتصل به.
قال المقريزي: «والسبب في عظم المد والجزر كثرة الأشعة. فإذا زاحمت الشمس والقمر، الكواكب السيارة عظم فيض البحر، وإذا عظم فيض البحر فاضت الأنهار، وكذلك إذا نهض القمر لمقابلة أحد السيارة ارتفع البخار، وصعد إلى كورة الزمهرير، ونزل المطر فإذا فارق القمر الكواكب ارتفع المطر لكثرة التحليل. كما يكون في نصف النهار عند توسط الشمس لرءوس الخلق، وكما يكون عند حلول الكواكب الكبيرة على وسط خط أرين، والله تعالى أعلم بالصواب. قال مؤلفه رحمه الله تعالى: الذي تحصل من هذا القول أن النيل مخرجه من جبل القمر. وأن زيادته إنما هي من فيض البحر عند المد فأما كون مخرجه من جبل القمر فمسلم؛ إذ لا نزاع في ذلك. وأما كون زيادته لا تكون إلا من ردع البحر له بما حصل فيه من المد فليس كذلك.»
121
نشير أخيرا إلى أن زين العابدين محمد بن أحمد بن إياس (توفي 930ه/1523م) اقتبس النص الذي أورده المقريزي بالكامل.
122 (7-2) سراج الدين بن الوردي
تجاوز سراج الدين أبو حفص عمر بن المظفر بن الوردي (توفي 852ه/1447م)،
123
عن كل الروايات المتعلقة بالملك المسئول عن المد والجزر في بحر الصين، التي ذكرها السابقون، إذ يبدو أنه لم يقتنع بها لا عقلا ولا نقلا. ثم أشار إلى أن بحر الصين يحدث فيه مد وجزر، حيث قال: «بحر الصين وجزائره وما به من العجائب والغرائب: ويسمى هذا البحر بأسماء عديدة: بحر الصين وبحر الهند صنجي، وهو متصل بالمحيط من المشرق، وليس على وجه الأرض بحر أكبر منه إلا المحيط، وهو كثير الموج عظيم الاضطراب بعيد القعر، فيه المد والجزر، كما في بحر فارس.»
124 (8) المبحث الثامن: علماء القرن (11ه/17م)
وضع عبد القادر بن أحمد بن ميمي البصري (توفي 1085ه/1674م) كتابا خصصه لمناقشة ظاهرة المد والجزر في البحار أسماه «يتيمة العصر في المد والجزر»، ولنا أن نلخص ما جاء في هذا الكتاب دون إيراد لكل النصوص كوننا سنضعها في الباب الثاني كاملا بشكل محقق: (1)
رفض ابن ميمي أن يكون منشأ المد والجزر هو الرياح المتحركة بتأثير الشمس
125
متبنيا بذلك رأي فخر الدين الرازي (توفي 606ه/1209م).
126 (2)
كما رفض أن يكون منشأ المد والجزر هو تسخين أشعة الشمس لقاع البحار، وتوليد الرياح بداخلها والتي تدفع بالماء وتمدده.
127 (3)
وجد أن الرياح الساكنة تترافق مع المد، وأن المد يزداد عندما تنقص والعكس صحيح .
128 (4)
رفض أطروحة البعض بأن المد والجزر يكونان فقط في الحالة التي يكون فيها القمر بدرا فقط، وإنما نشاهد المد والجزر يوميا.
129 (5)
اتفق مع القائل بأن سبب المد والجزر هو طلوع القمر وغروبه. وهنا يشير إلى أنه لابد وأن في القمر خاصية «الجاذبية» حيث قال: «ولا مانع من أن يكون قد جعل الله في القمر خاصية جذب الماء وارتفاعه كما جعل في المغناطيس خاصية جذب الحديد.»
130
وهي الفكرة التي سيعود لها الفيزيائي البريطاني وليم جيلبرت (توفي 1603م)
W. Gilbert ، ويفسر ظاهرة المد والجزر على أساس أن الأرض تعمل مثل مغناطيس كبير.
131 (6)
وقد اعترض على قول كيماووس
132
الذي فسر سبب المد هو انصباب الأنهار في البحار، والجزر توقفها عن الانصباب.
133 (7)
كما أنه وقف محايدا من الأقوال العجيبة والغريبة التي وصلته، فهو لم يصدقها ولم يكذبها. مثل قول البعض إن سمكة أو دابة كبيرة جدا تمتص ماء البحر فيحصل الجزر، وتلفظه فيحصل المد.
134 (9) المبحث التاسع: علماء القرن (14ه/19م)
حاول الفيلسوف جميل صدقي الزهاوي (توفي 1354ه/1936م) أن يقدم لنا نظرية علمية جديدة مختلفة تماما عما قد طرحه العلماء العرب السابقون. فقد حاول الزهاوي من خلال أطروحته الجديدة في الجاذبية الثقالية والتي أودعها في كتابه «الجاذبية وتعليلها»، تفسير ظاهرة المد والجزر، معتمدا بذلك بالأساس على نظريته في تفسير الجاذبية، والتي أراد أن يخالف فيها نظرية نيوتن في الجاذبية العامة.
إذ يرى الزهاوي أن التجاذب والتدافع بين الأجسام ليس بسبب جذب المادة للمادة، وإنما يحدث بسبب دفعها لها بسبب ما تصدره من الإلكترونات؛
135
فالزهاوي عاصر اكتشاف الإلكترون عام 1897م على يد الفيزيائي البريطاني جوزيف جون طومسون (توفي 1940م)
J.J Thomson ، ويبدو أنه تأثر كثيرا بهذا الاكتشاف، وهو ما شجعه لتقديم نظريته بحيث إنها تشمل كل شيء، نظرا لأن الإلكترون جسيم موجود في كل شيء.
وسنورد فيما يأتي تفسيره لظاهرة المد والجزر الذي نشره في مجلة العلم عام 1910م اعتمادا على نظريته السابقة. ونستشف من هذا الرأي عدم معرفته أو قراءته للتراث العلمي العربي بشكل دقيق؛ فهو ينفي عنهم تفسيرهم للظاهرة، ويعتبر أن المعاصرين له بين القرنين التاسع عشر والعشرين كانوا على خطأ في تفسيرها. ويظن أن تفسيره هو الصحيح ضاربا بالكثير من الأدلة عرض الحائط، ومتمسكا بنظريته في الدفع.
قال الزهاوي : «إن المد الذي يشاهد على وجه البحر يصح أن يسمى ظاهرة طبيعية وفلكية في وقت معا، فإن ظهوره في الأرض وسببه في السماء.
قد علم منذ القديم أن للمد علاقة بالقمر، ولكن القدماء لم يعنوا بتعليله والمحدثين أخطئوا في وجه تعليله. أرادوا تعليل ما يحدث على وجهي الأرض من المدين المتقابلين في وقت واحد فقالوا إن القمر مثلا يجذب ماء الأرض خمسة أقدام؛ لأنه قريب منه ويجذب الأرض تحته قدمين ونصف قدم؛ لأنه بعيد عنه، ولا يجذب ماء الأرض على وجهها الثاني؛ لأنه أبعد عنه من الأرض فينتج من هذين الجذبين المتفاوتين أن الماء يعلو على الأرض في كل وجه قدمين ونصف قدم. وعللوا كون مد القمر أكبر من مد الشمس بقولهم إن المد ناتج من الفرق بين الجذب لماء البحر والجذب للأرض التي تحته، فإن القمر يبعد عن سطح الماء نحو 24000 ميل،
136
وعن مركز الأرض أكثر من ذلك بنحو أربعة آلاف ميل (هو نصف قطر الأرض)، فالفرق 1-60 من بعد القمر، ولكن هذه المسافة أي 4000 ميل لا تبلغ إلا نحو 1-24000 من بعد الشمس عن الأرض، فالفرق في البعد بالنسبة إلى القمر أكبر من الفرق في البعد بالنسبة إلى الشمس 400 ضعف، ولكن جاذبية الشمس للأرض لا تفوق جاذبية القمر لها إلا 180 ضعفا، فينبغي فعله أشد من فعلها على نسبة 400 إلى 180، وهذا هو سبب كون فعل القمر بالمد أشد من فعل الشمس به.»
137
ثم يقدم لنا الزهاوي اعتراضاته على التفسير السابق حيث قال: «اعتراضاتنا على تعليلهم: أما قولهم إن القمر يجذب الماء الأقرب إليه خمسة أقدام
138
ويجذب الأرض تحته قدمين ونصف ولا يجذب الماء الأبعد، فبعيد عن الصواب؛ لأن الواجب هو أن يجذب القمر الماء الأبعد نصف جذبه لنفس الأرض، وهو قدم وربع قدم، كما أنه يجذب الأرض نصف جذبه للماء الأقرب، وحينئذ لا يكون المدان المتقابلان متساويين، والواقع خلاف ذلك، بل الواجب ألا يحدث مد مقابل؛ لأن الأرض تجذب بنفسها الماء الأبعد، فهي تؤيد القمر الذي يجذبه نصف جذبه للأرض. ولأن انفصال الأرض في كل حين عن مائه الأبعد مقتربة منه يستلزم أن تصطدم الأرض بالقمر منذ عهد بعيد؛ لأن المد دائم الحدوث على وجه الأرض، اللهم إلا إذا أنكروا انفصال الأرض عن الماء الأبعد وحينئذ لا يبقى وجه للمد المقابل. ومن المعلوم أن المدين يكونان على معظمهما عند اقتران القمر بالشمس أو استقبالها. ونحن نجد لعظم المدين في الاقتران وجها لا نجده له في الاستقبال، فإن المد المقابل على زعمهم هو ناتج عن انفصال الأرض عن الماء إلا بعد اقترابها من الجرم المسبب له، ولكن الأرض إذا اقتربت إلى القمر لم تقترب من الشمس، وإذا اقتربت إلى الشمس لم تقترب من القمر، وهل يجوز أن يدنو الجسم من جرمين متقابلين في وقت معا؟!
وأما تعليلهم لكبر مد القمر وصغر مد الشمس بأن الفرق في بعد القمر عن ماء البحر وعن مركز الأرض أكبر منه في بعد الشمس عنهما فإنه يقتضي أن تجذب الشمس الماء الأقرب والأرض أكثر من جذب القمر لهما، ولكن بتفاوت أقل وهو معقول إذا نظرنا إلى قوة جاذبية الشمس، ولكنه مفض إلى حدوث مد مقابل كبير. والواقع خلافه، وإذا قيل إن الشمس تجذب الماء الأبعد كذلك بتفاوت أقل، قلنا وجب على هذا أن تكون الأرض قد اصطدمت بالشمس قبل ملايين من السنين. إلا إذا قالوا إن حركة الأرض في فلكها تقاوم جذب الشمس، فأقول لماذا لا تقاوم هذه الحركة جذب القمر لها فإن جذبه أضعف.»
139
بعدها يحاول الزهاوي أن يؤكد على صحة رأيه فيقول: «اغتر المحدثون بالظواهر فأخطئوا في تعليل المدين بأن القمر يجذب ماء الأرض الأقرب كثيرا، ويجذب الأرض تحته أقل. والصواب أن القمر أو الشمس لا يجذب ماء الأرض بل المد ظاهرة كهربائية تتولد من دفع القمر أو الشمس لوجه الأرض الأقرب ومن جذبه لوجه الأرض الأبعد، فتهبط الأرض من الوجهين ويعلو الماء عليهما وذلك هو المدان المتقابلان.
ونقول إيضاحا لما تقدم إن القمر يدور حول الأرض مثل دورانها كما أن الأرض تدور حول الشمس ، كذلك فتكون حركتها مماثلة لحركة وجه الأرض الأقرب ومخالفة لحركة وجهها الأبعد، وهذه الحركة هي كهربائيتها والكهربائية تدفع المماثلة وتجذب المخالفة، فالقمر أو الشمس يدفع وجه الأرض الأقرب ويجذب وجهها الأبعد، ولا يدفع الماء الأقرب ولا يجذب الماء الأبعد؛ لأن الماء موصل جيد للكهربائية فيعلو الماء على وجهي الأرض؛ لأن الأرض فيهما تحته تغور. وهناك مثال لما نحن في صدده هو أن الأرض عند حدوث الزلزلة قد تغور في السواحل بفعل الكهربائية ويعلو عليها الماء فيجيء موجه مثلما يجيء موج المد ويغمر اليابسة ويغرق البلاد.»
140
أخيرا يحاول أن يجيب عن تساؤل لماذا يكون المد الناجم عن القمر أكبر من المد الناجم عن الشمس؟ فيقول: «الشمس وإن بعدت عن الأرض أكثر من القمر يبقى فعلها بالأرض أكثر من فعل القمر لكثرة مادتها، فكان الواجب أن يكون مدها أكبر من مده والواقع خلافه. فنقول: مجيبين إن دفع القمر يأتي كله في صورة كهربائية عادية تدفع الوجه الأقرب من الأرض ولا تدفع الماء؛ لأنه موصل لها، ودفع الشمس يأتي في ثلاث صور؛ اثنتان منها هما النور والحرارة والثالثة هي الكهربائية العادية، والماء للأوليين ليس بموصل فهما يدفعانه فلا يعلو، وهو للصورة الثالثة وهي الكهربائية العادية موصل فهي تدفع الأرض ولا تدفع الماء فيعلو والنور والحرارة يخففان فعل كهربائية الشمس في دفعها الأرض وعدم دفعها الماء؛ ولذلك كان مد القمر أكبر من مد الشمس.»
141 (10) المبحث العاشر: مؤلفون مجهولون
تناول عدد من المؤلفين العرب والمسلمين المجهولين ظاهرة المد والجزر في البحار. وقد وجدنا أن نفرد لهم مبحثا خاصا نناقش فيه آراءهم التي تدور في مجملها حول آراء من سبقهم دون أن يقدموا الجديد فيها. (10-1) مؤلف مجهول
يعرض هذا المؤلف عدة وجهات نظر حاولت أن تفسر ظاهرة المد والجزر؛ فالبعض يعتبر أن كوكب الأرض كله مخلوق هائل كبير، ولدى تنفسه يحدث المد والجزر. وبعضهم يرى أن السبب هو انصباب مياه الأنهار في البحار ورجوعها عنه، واقترح ثالث أن السبب هو وجود فتحة هائلة كبيرة تحت البحر ، واقتراح رابع أن البحر من خصائصه أن تغور المياه فيه وتمد، ويختم في النهاية أنه يعتقد بأن القمر هو السبب في ذلك، وذلك بفعل «حقل جاذبيته» المؤثر على الأرض كلها وليس البحار. ولعل هذا الرأي هو أحد أقرب التفاسير دقة وقربا من تفسيرنا العلمي الحالي. والذي سبق وأن وجدنا ظهور هذه الفكرة عند عبد القادر بن أحمد بن ميمي البصري.
إن «الذي يحير العقل ويصير اللبيب متحيرا في الفكر هاتان الحركتان العجيبتان، أعني المد والجزر، وقد اختلف العلماء النظار والحكماء الشطار في إدراك سبب المد والجزر؛ فالبعض منهم قال إن العالم هو حيوان مركب من الأربعة عناصر، متصف بالعقل والحياة، ومنخراه تحت البحر فإذا تنفس واجتذب الهواء اجتذب ماء البحر، ومتى أطلق النفس امتد الماء وهو المد.»
وقال البعض إن السبب في المد والجزر هو جريان الأنهار وانصبابها في البحر وعودها عنه، فإذا جرت المياه النهرية إلى البحر تزايد ماء البحر، وزيادة المياه تقتضي سعة المكان واتساعه، وهكذا يكون المد، وفي رجوع تلك المياه إلى أماكنها من القنايات وتجاويف الأرض عاد البحر إلى حاله وهو الجزر.
وقال البعض إن تحت البحر هوية عظيمة في غاية الاتساع، فإذا جرت المياه من البحور وأسرعت في الخرير بثقلها من شدة الجريان، صدر امتداد البحر؛ لأن المياه تتسع بكثرة الحركة، ويكون المد. وفي ضعفها تعود إلى حالها الأول وهو الجزر كما شوهد في المياه الجارية من رءوس الجبال، لأنها تعود صاعدة إلى العلو في نزولها إلى السفال بشدة الانصدام، ثم ترجع منعكسة، وهو كالمد، وبضعف الصدمة ورجوع المياه إلى حالها يكون كالجزر، وهذا رأي أفلاطون.
والبعض قالوا عن المد والجزر إنه من كيفيات البحر التي بتأثيرها يغيض ويغور، وبضعف تأثيرها يعود إلى حاله ويحصل الجزر، ويجري ذلك في مدة محدودة كما هو مشهود في بدن المحموم متى أصابته الحمى ، وكما تجتمع الطبائع في مدة محدودة وباجتماعها يتحرر البدن أو يبرد ثم تفترق الطبائع وتعود إلى درجة الاعتدال في مدة أخرى وتزول الحمى. هكذا البحر في زمن مخصوص تغيض مياهه باجتماع كيفياته المؤثرة ويفعل المد، وفي حين معلوم تعود الكيفيات إلى درجة الاعتدال فيسكن البحر ويعود إلى حاله وهو الجزر.
لكن الرأي الأصوب والقول الأرجح في معرفة السبب الموجب للمد والجزر هو القمر بتأثيره، وهذا التأثير إما ذاتي له وإما مكتسب من الشمس وهو بينهما، ولشرح ذلك اعلم أن البحر المتصف بالمد والجزر فإنه يبتدئ بالامتداد حتى ينتهي ساعات ثم يعود القهقرى إلى الوراء وهو الجزر، وهكذا ست ساعات، وفي بعض الأراضي يبلغ المد من المسافة نحو أربعين ميلا حتى قيل إنه أغرق كثيرا من الخلق في مرورهم على مجراه غفلة، واستدل من قال إن سبب المد والجزر هو القمر بأدلة مختلفة:
أولا:
من اختلاف نظر الشمس إلى القمر، وذلك مجرب أنه متى كان القمر بدرا واشتد تأثير الشمس فيه من الوجه الذي يلينا تزايد المد والجزر في ذلك الحين.
ثانيا:
ازدياد المد والجزر تابع لازدياد القمر وانمحاقه حتى إنه قد يتقدم ويتأخر في كل دور اثنتي عشرة درجة. مثلا: لو قدرنا إن ابتداء المد كان وقت الزوال في يومنا هذا، فإنه يتأخر غدا اثنتي عشرة درجة بعد الزوال؛ لأن القمر في كل دور يتأخر محله اثنتي عشرة درجة. وأيضا بازدياد القمر في نوره المكتسب من الشمس يتزايد المد وفي المحاق ينقص.
ثالثا:
هو حكم القمر على الأجسام الرطبة حتى إن جالينوس ومن يليه من الحكماء خصوا الأمراض الصادرة من ازدياد البلغم للقمر، وقالوا إنه بتأثيره يتزايد البلغم في الأبدان، ومن هنا نسبوا الجزر والامتداد للقمر، وكما أن القمر يقع بتأثيره في البلغم المتصف بالبرد والرطوبة هكذا يقع تأثيره في البحر المتصف بتلك الكيفيتين.
وإن سألنا أحد بقوله كيف القمر يفعل المد والجزر؟ فالجواب: إنه يفعل ذلك ببعض كيفياته الذاتية لا بضيائه، ولو قررنا بأن القمر يؤثر شيئا بضيائه لا بحركته كما زعم البعض من الحكماء، لأننا لو فرضنا بأن الأمر كذلك، لاقتضى عدم المد والجزر في انمحاق القمر؛ لأنه حينئذ يتعرى من النور، وقد شوهد وجود المد والجزر في محاقه، وشوهد أيضا متى كان القمر محتجبا بكرة الأرض، واتضح حينئذ أن حركة القمر لا يمكنها التأثير في البحر لمقابلة الأرض بينهما. وأقول لهذا الدليل إن المد والجزر من كيفية موجودة في القمر وبها يحرك البحر، وبالحركة يكون المد والجزر من ضعفها، وإن قال أحد كيف يمكن ذلك متى كان القمر محتجبا بكرة الأرض؟
فالجواب: إن القمر إذا كان محتجبا يفعل المد والجزر كحجر المغناطيس في جذبه الحديد إليه بقوته المؤثرة، ولو كان بينهما جسم حائل؛ ولذلك الشمس وبقية الكواكب في إنشائها المعادن والأحجار في جوف التراب فإن ذلك بمرور كيفياتها وإخراقها جرم الأرض، هكذا يمكن للقمر أن يخرق الأرض بكيفيته المؤثرة ويصدر المد والجزر، ويمكن للقمر أن يؤثر في البحر من حيث لا يرى، ووقوع ذلك التأثير في البحر إما من ضيائه المكتسب، أو من حركته أو كيفيته الذاتية أو باشتراك جميع هذه الأحوال في التأثير. ثم البحر فإنه متصل الأجزاء بعضها ببعض، فلما قبل التأثير في بعض أجزائه اشتركت البقية من الأجزاء في قبول ذلك التأثير، وحينئذ يكون المد والجزر فيما يرى من البحر، ولو صدر التأثير فيما لم ير منه. ومثال اتصال الأجزاء مع بعضها كالخشبة الممتدة متى طعنها الواحد بشيء تحركت جميعا، والحال إن الطعنة ما كانت إلا في جهة واحدة والسبب لذلك اتصال الأجزاء. وعلى هذا القياس لا يقتضي أن يقال عن القمر إنه خرق الأرض بكيفيته؛ لأن خرق الجرم المتلزز بكيفية واحدة من القمر لا يقبله العقل البشري. والرأي عندي أن امتداد البحر وجزءه فهو من ذاته بغير مؤثر فيه من الخارج؛ لأن البحر من ذاته يقتضي الامتداد على الأرض جميعا كما كان في أول وجوده ... وإذا سألنا أحد لماذا الأنهار لم تتصف بالمد والجزر؟ فالجواب: لعدم الاستعداد في المياه النهرية، لم يقع التأثير كحجر المغناطيس فإنه لا يجذب كل معدن مر عليه سوى الحديد، ولا يوجد فيما عداه استعداد للانجذاب فلو وجد الاستعداد لانجذب كما ينجذب الحديد، لذلك المياه النهرية لخلوها من الاستعداد تعرت من الجزر والامتداد. وعلى رأي من قال المد والجزر فهو من البحر بذاته لا من سبب خارج، فالجواب عن ذلك: إن السبب لخلو الأنهار من الجزر والمد خروجها من أماكنها وجريانها وعودها إلى البحر الذي هو مقرها وملجؤها. ويمكن أن يخص شيئا للماء الراكد في مكانه بخلاف الجاري والمفارق لمكانه.»
142 (10-2) مؤلف مجهول (القرن 3-4ه/9-10م)
143
تناول مؤلف مجهول
144
في كتاب «الروابيع»
145
المنسوب لأفلاطون مسألة قوة الجذب بين الشمس والقمر ومحاولة تفسير ظاهرة المد والجزر اعتمادا على وجود قوى جذب علوية، ونجد في هذا الكتاب حوارية بين شخص اسمه أحمد وأفلاطون، الأمر الذي يعني أن واضعه عربي وليس مترجما عن اليونانية. «قال أفلاطون: وعند انتدابك في العمل فاستعن في التحليل بالقمر، وفي التصعيد بالشمس إلى أن قال: فإن أثرهما يظهر.
قال أحمد: الذي أنبأك به قول له فيه وفي سائر آرائه مذهب أنا مخرج لك جمله، فلنبدأ ببعض ما أتي به بعض تلامذة الشيخ أفلاطون: فمنهم غلوقن.
فيقول: إن من رأي الأوائل أن ما بين الاجتماع والاستقبال القوة للقمر، وبين الاستقبال والاجتماع القوة للشمس. فكل أمر من الأمور التي يستولي عليها هذان الكوكبان يكون الأثر للكوكب في أوان قوته واستيلائه أكثر.
فيقول الفيلسوف: إن الاختيار لأوان التحليل بعد الاجتماع، والتعقيد بعد الاستقبال. وقد تكلم في هذا النوع تلامذة الشيخ وأكثروا القول وخطئوا الفيلسوف في رأيه هذا. وذلك أنهم رأوا أن القوة تنجذب إلى العلو بعد الاجتماع أكثر منه بعد الاستقبال، واحتجوا في ذلك بالمد والجزر وغير ذلك من القوى الطالبة للعلو.»
146
إذن الغاية من هذه الحوارية الخيالية بين أحمد وأفلاطون القول: إن ظاهرة المد والجزر تزداد عندما يحدث ما يسمى بعلم الفلك (الاجتماع) بين جرمين وأكثر مع الأرض، كأن تصبح الشمس والقمر والأرض على خط مستقيم واحد، عندها، وهذه حقيقة صحيحة، يصبح المد أعظميا فيجذب مياه البحار والمحيطات للأعلى على أحد طرفي كوكب الأرض، في حين أنه يحدث جزرا أعظميا على الطرفين المقابلين، وهو ما يؤكد فعل الجاذبية على الأرض. (10-3) مؤلف مجهول (4ه/10م) أو (5ه/11م)
يرى مؤرخ العلوم فؤاد سزكين أن أوسع معالجة لظاهرة المد والجزر قد وصلت إلينا هي تلك التي وضعها مؤلف مجهول في مخطوطة موجودة في مكتبة الإسكوريال (1636/2، 100ظ-117ظ، 588ه). حيث حاول المؤلف أن يوضح كلامه بأشكال فلكية ورسوم جغرافية. تتألف هذه الرسالة من ثلاثين بابا تغطي كافة جوانب ظاهرة المد والجزر. وقد أورد فيها آراء كل من سبقه في الظاهرة ثم ناقشها، وهو يعتقد أنه لا يوجد رأي قد أحاط علما بكل ظواهر المد والجزر.
فقد ذكر أن أسلافه أشاروا إلى أن «جرم القمر للبحر كالمغناطيس للحديد يجذبه إليه، حيثما توجه ومن أي جهة قابله وحاذاه ...» وبالتالي فإن قوة الجذب كانت معروفة حتى عصر المؤلف، وقد وجد ضرورة أن يكمل التفاسير التي حصل عليها، فقال إن فلك القمر يحرك بحركته فلك الهواء، وهو يزيح بدوره كتلة الماء باستمرار، كما أن الماء له أيضا في نفسه حركة أخرى وهي طلب المركز.
147 (10-4) مؤلف مجهول (بعد القرن 14ه/19م)
ينسب هذا المؤلف تأثير المد والجزر إلى نور القمر، وواضح تأثره بنظرية الكندي. حيث قال: «إذا كان القمر زائدا في النور أو صاعدا في ربع الفلك فهو يزيد الأشياء بماء، وإذا كان هابطا ناقصا فالقول ينعكس فيه، وإذا كان زائدا يكون النشوء والنماء في النباتات والحيوانات وذوي الأنفس وبالعكس ... أيضا في حال المد والجزر إذا صعد القمر في وسط السماء فأخذ القمر في المد، وإذا هبط في الغرب رجع الماء ويكون الجزر.»
148
الفصل الرابع
تفسير ظاهرة المد والجزر عند الأوربيين
مقدمة
اشتقت المصطلحات الإنجليزية لظاهرة المد والجزر من اللغة الألمانية لأهل شمال أوروبا. حيث تشير كلمة (
tide ) الإنكليزية إلى فترة من الزمن. وقد كان لاندفاع وانحسار البحر أثر عميق على حياة سكان السواحل الأوروبيين الأوائل، فأملى عليهم مواقيت الإبحار وصيد السمك. أما كلمة الربيع (
spring ) فمشتقة من الفعل (
springen ) ومعناه تدفق ، وليس من اسم الفصل، أما كلمة محاق (
neap ) فمشتقة من الألمانية القديمة وتعني (الخفيض).
1
كما اشتق مصطلح «المد الربيعي» من أعظم مد وجزر في السنة، والذي يحدث في الاعتدال الربيعي والخريف. في هذه الأوقات، يتزامن الحضيض القمر (القمر الأقرب إلى الأرض) والاعتدال (الشمس مباشرة في خط الاستواء) لتشكيل المد الربيعي.
2
لم يكن الكتاب والمؤلفون الأوربيون يملكون نظرية علمية في فترة عصورهم المظلمة؛ ولذلك فقد استند فهمهم لظاهرة المد والجزر في المقام الأول على أعمال الفلكيين المسلمين،
3
وخصوصا الكندي وأبو معشر البلخي والبطروجي، والتي أصبحت متاحة لهم من خلال الترجمات اللاتينية ابتداء من القرن الثاني عشر للميلاد. (1) المبحث الأول: علماء القرن 8م
اهتم بيدا المكرم (توفي 735م)
Bede the Venerable
بالمد والجزر الكبير حول بريطانية، حيث تعلم الرهبنة الإنكليزية. في بداية القرن الثامن اكتشف بيدا الطور الأخير لمدي المحيط، مدركا بأن كل ميناء كان لديه طور مدي خاص به. أما بالنسبة لسبب المد والجزر فقد كان الرأي بأن الجزر يحدث من خلال نفخ القمر على الماء، وأما المد فمن خلال تدفق عندما يتحرك القمر قليلا.
4
وقد كتب بيدا في القسم التاسع والعشرين من «أوبرا تيبو ريبوس
Opera de Temporibus » (عام 703م)، تحت عنوان «حول تجانس البحر والقمر والنجوم»: «إن الشيء الأكثر روعة من كل ذلك هو اتحاد المحيط مع مدار القمر. عند كل بزوغ وكل أفول للقمر يغطي البحر بعنف الساحل البعيد والعريض، إنه فجأة يرسل تيارا شديدا يدعوه اليونانيون «ريوما
reuma »، وعندما يتراجع هذا التيار الشديد نفسه فإنه يعري الشواطئ، وفي آن واحد يمزج التدفقات في حالتها وكميتها الأصلية من النقاء. إنه كما لو أن القمر تنفس قليلا فراح يسحب المياه بشكل غير متعمد، ومن ثم يعود إلى مستواه العادي عندما يتوقف نفس هذا التأثير.» يتبع تفسير بيدا حول سلوك المد والجزر عبر الزمن نمط العبارات اليونانية والرومانية، لكن دون أخطاء واقعية وبشكل سردي أكثر. على سبيل المثال: يشير بأنه خلال اثني عشر شهرا قمريا من 354 يوما يرتفع المد وينحسر 684 مرة. إلا أن مساهمة بيدا الأكثر أصالة الجديرة بالملاحظة، هي التفسيرات المحلية عن حالتي المد والجزر حول بريطانية، حيث إن المد العالي لا يحدث في آن واحد في جميع السواحل: «لأننا نحن نستوطن مختلف سواحل البحر البريطاني نعرف أي مد يبدأ بالانتفاخ، وأي جزر يتراجع في آن واحد.» ويضيف «لكن بخصوص المد نفسه على الشريط الساحلي، فإن الذين يقطنون إلى الشمال منا سيرون كل مد وجزر بحري يبدأ كلاهما وينتهيان أبكر بكثير مما أرى أنا، بينما في الحقيقة أولئك الذين في الجنوب سيرونه متأخرا كثيرا.» هذا الاعتراف عن الخاصية ذات الشبه بالموجة التقدمية للمد والجزر، تكون واضحة أكثر في شواطئ البحار حول بريطانية مما هي عليه حول الساحل المحيطي لشبه الجزيرة الإيبرية
Iberain (إسبانيا والبرتغال)، وهو بذلك يبطل افتراض بعض المؤلفين اليونانيين واللاتين بأن المياه تنتفخ في آن واحد في جميع البحار. كما طرح أيضا مسألة: متى يحدث «المد العالي» في مكان معين لدى مرور القمر؟
5 (2) المبحث الثاني: علماء القرن 13م (2-1) جيرالد الويلزي
تأثر جيرالد الويلزي (توفي حوالي 1223م)
Gerald of Wales
بكتابات غروستيست عن المد والجزر وجمع بعض البيانات المهمة عن ظاهرة المد والجزر التي تحدث قبالة شواطئ إنكلترا وإيرلندا، ومع أنه لاحظ علاقتهما بحركة القمر، إلا أنه لجأ إلى نظرية الدوامة المائية
Maelstrom (أو الدردور كما تسمى في الجغرافيا العربية)، ليفسرها.
6
بمعنى أنه لم يربطها بجاذبية القمر.
خريطة [رسمها أولوس ماغنوس (توفي 1557م)
O. Magnus
عام 1539م] تصور دوامة مائية على مقربة من النرويج، والتي قد تتسبب بغرق السفن وكل من يقترب منها، وهي برأي جيرالد الويلزي السبب في حدوث المد والجزر وليس القمر. (مصدر الصورة:
https://en.wikipedia.org/wiki/Whirlpool .) (2-2) روبرت غروستيست (القرن 13م)
تبنى روبرت غروستيست (توفي 1253م)
R. Grosseteste
الآراء والتفاسير التي قدمها كل من الكندي والبطروجي أبي معشر البلخي عن المد والجزر، وذلك في رسالته «التحقيق في أسباب المد والجزر».
7 ،
8
حيث إنه فسر ظاهرة المد والجزر الملحوظة بشكل واضح، وبعيدا عن نظرية الجاذبية. وقد افترض أن كمية الضوء القادمة من القمر والزاوية التي أشعتها تسقط على البحر هي التي فسرت التفاوتات في ارتفاع المد وانحسار الجزر، وأن الانتفاخ المدي الذي كان يسببه ضوء القمر كان يطلق مادة غازية كانت تنحصر تحت الماء.
9
ولدى مقارنتنا بين تفسيره وتفسير البطروجي وجدنا أنه اعتمد عليه كليا، كما أننا قارنا بين الأسباب الثمانية المؤثرة في قوة المد وضعفه والتي عددها في رسالته، وبين الأسباب التي أوردها أبو معشر البلخي وجدنا أيضا أنه قد اعتمدها نفسها. بناء على ذلك فإن رسالة غروستيست لا تعد في مجملها أكثر من تجميع بين آراء العلماء العرب وتفسيراتهم لظاهرة المد والجزر، ومن ثم نقلها للغة اللاتينية. (3) المبحث الثالث: علماء القرن 16م
بعد إعادة اكتشاف أمريكا، اقترح العالم الإيطالي يوليوس قيصر سكاليجير (توفي 1558م)
J. C. ScaIiger ، في عام 1557م بأن المد والجزر لم يكن سببهما القمر فقط، بل أيضا ماء البحر الذي يتأرجح بين شواطئ أمريكا وأوروبا. لعله اقترح هذا من خلفية الظواهر المتكررة التي كانت معروفة آنذاك بأنها تحدث في بعض البحيرات الكبيرة في سويسرا.
10
ونلاحظ أنه كانت لدى سكاليجير أفكار حول تفسير المد والجزر اعتمادا على الجاذبية، مثل العلماء العرب،
11
حيث إنه استخدم تشبيه المغناطيس والحديد. كما أنه شبه حركة المد والجزر المتكررة بانقباض وتوسع القلب. وتحدث سكاليجير عن المد والجزر في المحيط المتجمد الشمالي، وحول بريطانية العظمى، في البحر الجنوبي، والبحر الأدرياتيكي، والبحر الأحمر، ونهر إندوس، ونهر غارون، ويوريبوس، وأماكن أخرى؛ وحاول تحديد أسباب خصائصها. وهو يعتقد أن امتداد القارة الغربية الطويل هو السبب في تناوب التدفق والانحسار. وكما هو الحال مع معظم الكتاب الأوائل، كان سكاليجير يجد صعوبة في حساب مقدار الانحسار؛ أي لماذا ينحسر البحر؟ ليس فقط بسبب كراهية الشواطئ ورد الجميل، ولكن أيضا لأنها تتبع القمر. إن الأمر يختلف عن حركة المحيط.
12 (4) المبحث الرابع: علماء القرن 17م (4-1) وليم جيلبرت
النظرية الشعبية الأولى التي نالت قبولا حسنا في المجتمع العلمي الأوربي، والمعقول لتفسير ظاهرة المد والجزر كانت تلك التي اقترحها الفيزيائي البريطاني وليم جيلبرت (توفي 1603م)
W. Gilbert ، رائد البحث التجريبي في المغناطيسية والكهرباء الساكنة؛ إذ إن اكتشاف جيلبرت الأكبر هو أن الأرض تعمل مثل مغناطيس كبير، والذي نشره في أثناء حياته. أما في عمله المنشور بعد وفاته في 1651م، وهو بعنوان «الفلسفة الجديدة لعالمنا تحت القمر»، فقد مضى فيه بعيدا ليقترح بأن الكواكب موجودة في مداراتها حول الشمس وذلك بوساطة الجذب المغناطيسي المتبادل، وما حالتا المد والجزر إلا عبارة عن ظاهرة للجذب المغناطيسي بين الأرض والقمر. وعلى خلاف النظريات المدية اللاحقة لجاليليو جاليليه (توفي 1642م)
Galileo Galilei
ورينيه ديكارت (توفي 1650م)
R. Descartes ، فإن اقتراح الجذب المغناطيسي أقرب بشكل جدير بالملاحظة من قانون إسحق نيوتن عن الجاذبية. إلا أن جيلبرت لم يكن لديه خبرة عن حركة الأجسام؛ لذا فإنه كان عاجزا عن اقتراح ما يمنع الكواكب من السقوط في الشمس، أو سقوط القمر في الأرض، ناهيك عن دورية المد والجزر مرتين يوميا.
13
كما أكد جيلبرت، في فلسفته الجديدة، أن المد والجزر ينتج عن قوة القمر المغناطيسية وليس بواسطة أشعته أو نوره.
14
وسبق أن وجدنا أن ابن ميمي البصري قد قدم اقتراحا مماثلا، ربما يكون هناك نوع من التزامن بين الطرحين، أو أن أحدهما عرف عن اقتراح الآخر عبر الترجمة، لكننا لا نرجح الاحتمال الثاني لعدم الإشارة لذلك في أعمال الاثنين. (4-2) فرانسيس بيكون
فسر فرانسيس بيكون (توفي 1626م)
F. Bacon
حدوث الفعل المتبادل بين المد والجزر مرة واحدة كل ست ساعات وفق الطريقة الآتية: لنفترض بشكل خاطئ أن الأجرام السماوية لا تقتصر على كونها مجرد أجرام سماوية فحسب، وإنما تتحرك حول الأرض من الشرق إلى الغرب خلال أربع وعشرين ساعة، ونظرا لكون البحر مائعا، فإنه سيتحرك أيضا في الاتجاه نفسه وأنه سوف يتحرك مع الأجرام السماوية بالكامل في جميع أنحاء الأرض. ولكن حقيقة حركة الأرض قد تم فحصها في نصفي الكرة الأرضية، في العالم القديم والعالم الجديد، والتي امتدت عبر ما يقرب من ثلاث مناطق من العالم، وقد كانت تتصرف مثل المتراس. ويولد هذا، كما يقول بيكون، رد فعل مزدوج على كتلة المياه بأكملها، مما يجعل انحسارها وتدفقها مرتين يوميا واضحا.
15
لقد عرف عن بيكون أنه بحار، وكان مستشار إنكلترا تحت إشراف كل من إليزابيت الأولى وجيمس الأول. بالإضافة إلى براعته الفائقة كرجل دولة، فقد كان بيكون أيضا متعدد المواهب والثقافات وهاوي تحقيق علمي، حيث إنه كتب مقالة «حول مد وجزر البحر»،
16
فيها إطناب بعض الشيء، لكنها مثيرة برفضها للنظريات القديمة التي بدت غير معقولة في ضوء القياسات المعروفة في عصره. ونظرا لكون الإجراءات غير كافية، فقد حدد بيكون بشكل جلي أين ينبغي لها الإكمال أو الإضافة.
17
لقد كان بيكون يعتقد أن الأرض ستظل ثابتة في حين أن كل الكون الخارجي، بما في ذلك الهواء ومياه البحر، يميل غربا، والأجرام السماوية تتحرك بسرعة أكبر بكثير من الهواء أو مياه البحر. وكان يعتقد أن القارتين تعرقلان مياه المد والجزر، بحيث يتقدم بها بشكل موحد ولكن ببطء من الشرق إلى الغرب حول الأرض، وأن حركتها التقدمية تتحول إلى حركة تدوم نصف يوم القمر فيها؛ أيضا، بسبب هذه الحركة باتجاه الغرب، يجب أن يكون لتلك الخلجان المفتوحة شرقا مدا أكبر من الأجسام المماثلة التي تفتح غربا.
18 (4-3) يوهانس كبلر
كان عالم الرياضيات والفلكي الألماني يوهانس كبلر (توفي 1630م)
J. Kepler
مهتما بالقمر طوال حياته. وقد قضى معظم حياته الأكاديمية يدرس حركة الكواكب التي قادته للافتراض أن المدارات الإهليلجية تفسر أرصاد الكواكب بشكل أفضل، كما زاوج بين علم الكون الأرسطي والكوبرنيكي. وقد ضمن له هذا الاكتشاف العلمي المهم مكانة في تاريخ العلم بوصفه عالما عظيما.
19
وقد تناول كبلر - قبل نيوتن - فكرة التجاذب ومجال الجاذبية والقانون الناظم لقوة التجاذب، وإن كان غير صحيح، إلا أنه شعر بضرورة وجود قانون يمكننا من خلاله وصف هذه القوة. ولو قارنا كلامه بكلام العلماء العرب في مجال الجاذبية، فلن يختلف كثيرا، اللهم إلا في فكرة النسبة العكسية.
20
كتب كبلر يقول: «تثبت الملاحظة أن كل شيء يحوي رطوبة ينتفخ عندما يكبر القمر وينكمش حين ينحسر أو يتضاءل القمر.» وبعد ذلك صحح هذا الرأي قبل الأطروحة النيوتونية المتوقعة، حيث قال: «لا يتصرف القمر كنجم رطب، بل ككتلة مشابهة لكتلة الأرض، إنه يجذب مياه البحر ليس لأنها سوائل، بل لأنها ذات خاصية لديها مادة أرضية لها جاذبيتها الخاصة بها.» هذا التجاذب تبادلي، «فإذا كان من المستحيل أن يتأثر كل من الأرض والقمر بقوة مادية أو بقوة متساوية ما، فكل منهما في مداره، عندها سترتفع الأرض نحو القمر والقمر سيهبط نحو الأرض إلى أن يندمج هذان الجرمان. وإذا امتنعت الأرض عن جذب المياه التي تغطي بها نفسها، فسترتفع كل أمواج البحر وتجري باتجاه جسم القمر.» وبالعودة إلى الأطروحة التي طرحها قبل ذلك كل من كالكاجيني وجاليليو عن مد وجزر البحر والتي تم توضيحها بالحركة النسبية الآتية: تدور الأرض من الشرق إلى الغرب وفي الوقت نفسه تحركها السرعة
v
الانتقالية. عند
a
تضاف الحركتان سوية عند
b
وهما تميلان للتوازن (كما هو موضح في الشكل الآتي). وبسبب قصورهما الذاتي، فإن مياه البحر تتبع هذه الحركة تماما. وبسبب هذا التأخر، فإن الجزر يحدث مرتين مع هذا، إذا تم تركيب الحركتين بشكل تام، فسيكون لديهما فترة دوران الأرض. لهذا يئول جاليليو ظاهرة المد كدليل على حركة الأرض، في حين يتمسك مناوئو النظام الكوبرنيكي بالانجذاب القمري.
21
شكل يوضح حركة الأرض حول نفسها. (مصدر الشكل:
Dugas, Rene, A History of Mechanics, p. 214 .)
من الواضح أن كبلر كان متأثرا باكتشاف وليم جيلبرت الأخير عن الحقل المغناطيسي للأرض، حول تفسيره للمد والجزر.
22
لكن كبلر في البداية كان يشبه المد - كما ورد في القسم الرابع من كتابه (
Harmonics ) 1619 - بتنفس الحيوانات الأرضية وخاصة تنفس الأسماك؛ لكنه لم يلبث أن تخلى عن وجهة نظره هذه لاحقا مرة أخرى.
23 (4-4) جاليليو
فسر جاليليو جاليليه ظاهرة المد والجزر اعتمادا على حركة الأرض، وليس على وجود تأثير للقمر. بمعنى أنه يوجد عطالة في حركة الماء تجعله يتحرك بسرعة أقل من سرعة حركة الأرض حول نفسها، «ولذلك يتكوم الماء عاليا ثم يعود فيهبط مرة ثانية، كما يظهر في زهرية من الماء حركت بسرعة.» وقد رد عليه فرانسيس بيكون بقوله: «بني هذا على افتراض لا يصح أن يفترض (وهو أن الأرض تتحرك)، ودون أن يحيط علما بحقيقة حدوث المد كل عدة ساعات.»
24
والواقع أن جاليليو حاول أن يفسر المد والجزر على أنه نتيجة دوران الأرض حول نفسها مع دورانها حول الشمس. وهو ما يشرح لنا حدوث مد مرتفع واحد في اليوم، لكن هناك مناطق كثيرة في أوربا يحدث فيها مدان في اليوم الواحد،
25
وبالتالي فإن فرضيته كانت قاصرة عن الإجابة.
وقد كان غاليليو مستغربا كيف لشخص مثل كبلر العظيم «أن يهتم بتأثير القمر على الماء، وفي ظواهر خفية أخرى، وبطريقة صبيانية». كان يعتد غاليليو بنفسه، ويعتبر نفسه المدافع عن النظرية الكوبرنيكية لدوران الأرض.
26
مخطط يوضح نظرية جاليليو عن حالتي المد الجزر،
B
هي حوض البحر الصغير الذي يدور مع الأرض، والمركز
E ، والذي يدور بنفسه حول الشمس عند
S (حسب النظام الكوبرنيكي). سرعة
B
نسبة إلى
S
هي أكبر عندما موقع
B_1
مما هي عليه عند الموقع
B_2 . لهذا (حسب جاليليو)، يواجه البحر دورة يومية من التسارع حيث يسبب موجات (المد والجزر) مثل أمواج الماء التي يولدها الزورق المتسارع. (مصدر الصورة والتعليق:
Cartwright, David Edgar, Tides: A Scientific History, p. 29 .)
نشر غاليليو أفكاره عن المد والجرز أولا في عام 1616م في (دراسة عن مد وجزر البحر)،
27
لكن هذه الدراسة نشرت فيما بعد (مع بعض التغيرات الطفيفة الكلامية) في حواره الطويل (حوار حول النظامين العالميين، البطليموسي والكوبرنيكي) حيث كانت حالات المد والجزر موضوع «اليوم الرابع».
28
وقد حظيت نظرية جاليليو بالاعتراف من قبل عدد من العلماء لاحقا. فقد تبنى فكرته عالم الرياضيات والفيزياء بيير غاسندي (توفي 1655م)
في كتابه
De Aestu Maris
كما أن عالم الفلك جيوفاني باتيستا ريتشيولي الإيطالي (توفي 1671م)
G. B. Riccioli
شرح نظام جاليليو باستفاضة كبيرة؛ وفيما بعد مضت محاولات جان بابتيست باليانوس
J. B. Balianus
وجون واليس (توفي 1703م)
J. Wallis
في هذا الاتجاه. وقد كان فورنييه في بعض الأحيان، في كتابه
Hydrographie ، يستأنف نظرية جاليليو بصيغتها المعدلة من قبل غاسندي، لكنه لم يكن راضيا تماما عنها.
29 (4-5) رينيه ديكارت
كما نعلم أن المرتكز الرئيس في فلسفة رينيه ديكارت هو أنه لا يوجد خلاء في الطبيعة. وقد فسر الجاذبية كما يأتي: لما كانت أجزاء السماء المحيطة بالأرض تدور بسرعة أشد مما تفعله أجزاء الأرض، فإن أجزاء السماء تميل للخروج عن مجراها بقوة أشد من أجزاء الأرض أيضا، لكن ما يمنعها من ذلك هو عدم وجود خلاء في الطبيعة، أي خلف مادة السماء نفسها، وبالتالي لن يخرج أي جزء من هذه المادة عن مجراه دون أن يحل محله جزء آخر. وبالتالي فإنه من المحال أن تخرج أجزاء الأرض عن مسار حركتها، وهذا هو السبب في تماسك أجزاء الأرض مع بعضها بعضا، أو ما يعرف بالجاذبية.
30
ونظرا لكون الهواء والماء المحيطين بالأرض سائلين، فمن البديهي أن القوة نفسها التي تشد الأرض، أي دوران مادة السماء، هي التي تخفض هذين الجسمين نحو النقطة «ر» على الشكل، ليس من جهة (6، 2) فحسب، وإنما من الجهة المقابلة (8، 4)، وترفعهما بالمقابل في المواضع (1، 5) و (7، 3)، بحيث إنه مع بقاء سطح الأرض مستديرا، بسبب صلابته، يجب أن يتشكل سطح الماء والهواء السائلان بشكل إهليلجي. وللقمر دور في تشكيل أقصى مد وأقصى جزر خصوصا عندما يكون في طور البدر وفي طور الهلال.
31
تشكل المد والجزر في البحر حسب ديكارت. حيث إن الهواء يمثل (5، 6، 7، 8)، والماء (1، 2، 3، 4)، وهما يحيطان بالأرض، ويقع القمر في النقطة (ب)، وتحيط السماء الصغيرة (أ، ب، ج، د) بالجميع. (مصدر الصورة والتعليق: ديكارت، رينيه، العالم أو كتاب النور، ص112، 117.)
لقد افترض ديكارت، في عام 1644م، أن كلا من القمر والأرض محاطان بدوامة كبيرة. الضغط الذي تمارسه دوامة القمر على ذلك لدى الأرض كان منتقلا إلى سطح الأرض، حيث يسبب المد والجزر. على أي حال، نظرية الدوامات توقعت الجزر بشكل خاطئ عندما كان يوجد فعلا مد عال، مع أنه لا بد من الاعتراف أن الصورة كانت معقدة جدا بسبب الطور الأخير لمد وجزر المحيط.
32
ووفقا لنظرية الدوامة الديكارتية، فإن الشمس، التي تقع في مركز النظام الشمسي ويحيط بها سائل لا حدود له (أثير)، تقوم عن طريق دورانها المحوري، بإطلاق طبقة المائع المجاورة لها؛ حيث تضفي هذه الطبقة حركتها على الطبقة المجاورة؛ وهذا بدوره ينتقل إلى التالي، وهلم جرا إلى الأجزاء البعيدة من الفضاء. فالكواكب الموضوعة في طبقات السائل الخاصة بها تحمل بهذه الطريقة الشمس. وبالمثل، فإن كل كوكب، بسبب دورانه المحوري، هو مركز نظام دوامة ثانوي. وعلى هذا، لا يقتصر الأمر على الأقمار التي تحيط بالكوكب، ولكن أيضا على الهواء والماء المحيط به. وعن طريق السائل المتداخل، يفترض أن القمر يمارس ضغطا على الغلاف الجوي وينتج المد والجزر بطريقة ما عندما يكون على خط الطول ويكون الماء عاليا عندما تكون 90 درجة بعيدة. وهو يفترض أن المد والجزر في فصل الربيع يرجع إلى اقتراب القمر من الأرض وهو في حالة انجذاب، وأن المد والجزر المقرب يرجع إلى تراجعهما عن الأرض عندما تكون الأرض في التربيع. لقد مارست نظرية الدوامة الديكارتية تأثيرا كبيرا على المجتمع العلمي لنحو مائة عام. كان آخر تكريم حصل عليه أنطوني كافاليري (توفي 1765م)
A. Cavalleri
من أكاديمية العلوم في باريس في عام 1740م عندما تلقى مقاله جائزة مع مقالات دانيل بيرنولي (توفي 1782م)
D. Bernoulli
وكولين ماكلورين (توفي 1746م)
C. Maclaurin
وليونارد أويلر (توفي 1783م)
L. Euler.
كما تأثر بنظرية ديكارت في المد والجزر الجغرافي الألماني برنارد فارين (توفي 1670م)
Bernhard Varen
ونشرها في كتابه (الجغرافيا العامة
Geographia Generalis ) مع بعض التعديل.
33 (4-6) روبرت موراي
شك روبرت موراي (توفي 1673م)
R. Moray
في الافتراض القائل بأن زيادة المد والجزر من الجزر المحاقي إلى الربيعي تتبع قانون الجيوب بشكل كامل. وأشار إلى أن الشذوذات في الوقت الذي يتطلبه القمر للانتقال من الهلال إلى البدر، أو العكس، ستحول دون أي قانون دقيق في هذا الشأن. كما اقترح ما قد يكون أول مقياس صندوقي أي مقياس بطوافة. ومن بين الأشياء الأخرى، كان يوصي بمراقبة ارتفاع المد وسرعة التيار كل 15 دقيقة؛ وكذلك الارتفاعات الدقيقة للمياه العالية والمنخفضة؛ واتجاه وسرعة الرياح. حالة الطقس، بما في ذلك القراءات البارومترية. وعلى هذا ستستمر سلسلة القياس لعدة أشهر أو بالأحرى سنوات.
34 (4-7) توماس براون (القرن 17م)
عرض توماس براون (توفي 1682م)
T. Browne
في عمله (
) تفسيره للمد والجزر بأن القمر يؤثر على المياه، «ليس بعملية بسيطة على مناطق سطحية أو أعلاها، وإنما من خلال إثارة أرواح نترات الكبريت والأجزاء التي تعود بشكل مرتب ومنتفخ إلى القاع.» وكذلك ترتفع المياه وتسقط وفق حركة القمر من الذروة للقاع. وعبر عن رأيه بالقول: «لهذا فإن بعض البحار تتدفق أعلى من بحار أخرى وفق ما يكفي من هذه الأرواح، في قوامها التحت مائي؛ لذلك فإن مد وجزر البحر يحدده فورا المركب الكيميائي للماء، وبشكل غير مباشر، التأثير الفيزيائي للقمر.»
35
ونلاحظ أن نظريته لا تختلف كثيرا عن نظرية الكندي وبعض العلماء العرب الذين اقترحوا أن القمر يرسل أشعة نوره فتسخن قاع البحر ويحدث المد والجزر. (4-8) إسحاق فوسيوس
زعم الهولندي إسحاق فوسيوس (توفي 1689م)
I. Vossius
في كتابه المعنون
De Motu Marium et Ventorum ، أن المد والجزر ينتج عن حرارة الشمس، وأن ارتباطهما الظاهري بالقمر ليس سوى تزامن غير سببي.
36 (5) المبحث الخامس: علماء القرن 18م (5-1) جون واليس
اقترح عالم الرياضيات الإنكليزي جون واليس في عام 1666م نسخة مطولة لنظرية جاليليو. حيث إن التذبذبات المدية التي تنشأ من دوران الأرض، لا تنجم فقط عن حركة الأرض حول الشمس، بل أيضا عن حركتها حول مركز جاذبية نظام الأرض- القمر. وبذلك حاول واليس أن يضمن تأثير القمر في نظرية أهملت تأثيره. لقد كان الوضع برمته مربكا جدا؛ فإذا لم يتحكم القمر والشمس بالمد والجزر، فكيف يفسر المرء الأرصاد؟ وإذا كانت الأرصاد صحيحة، كيف يفسر المرء أن القمر والشمس استطاعا أن يتحكما بالمد والجزر على الأرض؟
37
وضع واليس مناقشته عن حالات المد والجزر في مقالة نشرتها (جمعية لندن الملكية لتقدم المعرفة العلمية) عام 1663م، وهي حديثة العهد. وقد كان واليس مستعدا لمجاراة جاليليو في إدراك أهمية التغيرات في السرعة المطلقة سوية مع المدار ذي الدوران المحوري، لكنه كان مهتما بشكل جدي - مع أن جاليليو لم يكن كذلك - بعلاقة حالات المد والجزر بالقمر.
38 (5-2) جون فلامستد
نشر جون فلامستيد (توفي 1719)
J. Flamsteed (في الإجراءات الفلسفية) جدولا عن المد والجزر يعطي أوقات ارتفاع المياه في جسر لندن لعام 1683م، واستمر بنشر هذه الجداول لعدة سنوات متتالية. كما صحح جداول هنري فيليبس
H. Philips
من الأرصاد التي قام بها. بعد حوالي عام نشر فلامستيد جدولا للاختلافات في المد والجزر ليتم تطبيقه على المد والجزر في لندن.
39 (5-3) إسحاق نيوتن
حل إسحاق نيوتن مسألة المد والجزر في القضية 24 من كتابه «المبادئ» وأثبت أن المد والجزر ينشآن من تأثير الشمس والقمر.
40
وهو يرى أن خطوط قوة الجاذبية (حقل الجاذبية) تنتشر في الفضاء من مصدرها في الأجسام الكبيرة. وعندما تنتشر هذه الخطوط عبر كرة الأرض، فإنها تخلق قوى مد إضافية إلى قوة الجاذبية. وقد أطلق على هذه النظرية اسم «النظرية الساكنة» للمد والجزر.
41
حسب نظرية نيوتن فإن قوى المد التي تظهر على الأرض ناجمة عن القمر. ويظهر هذا النموذج عندما نطرح متوسط قوة الجاذبية على سطح الأرض من الاختلافات الناجمة عن خطوط الحقل المنتشرة. وهي عبارة عن قوى مد تدفع بعيدا عن مركز الأرض إلى مسار يصل القمر بالأرض. وهناك قوى مد تدفع باتجاه مركز الأرض بشكل عمودي على محور القمر-الأرض. (مصدر الصورة والتعليق: هوث، جون إدوارد، الفن الضائع ثقافات الملاحة ومهارات اهتداء السبيل، ص139.) (5-4) إدموند هالي
لاحظ إدموند هالي (توفي 1742م)
E. Halley
علاقة انحراف القمر والمد والجزر في تونكوين
Tonquin ، والتي أظهرت ملاحظات المؤرخة الأمريكية فرانسيس دافنبورت
F. Davenport
أنها كانت نهارية. لكن القانون الذي اقترحه للتأكد من ارتفاع المياه العالية أو المنخفضة في خطوط الطول المختلفة للقمر، غير صحيح بشكل واضح. وفي المناقشة نفسها، اقترح وجود عدم مساواة في «نطاق المد الربيعي» (أي نطاق مدار كبير) الذي يعتمد على ميل مدار القمر على مستوى خط استواء الأرض. وفي عام 1697م، استرعى هالي الانتباه إلى تميز مبدأ نيوتن في شرح سبب ظواهر المد والجزر. حيث إنه لاحظ أن قوة القمر المزعجة ستؤدي إلى أن يصبح سطح الكرة المحيطي كرويا، وأن الشمس والقمر لهما آثار مماثلة، وأن المد والجزر الربيعي يتوافق مع القمر وهو في طوري الهلال والبدر. وأن المد والجزر الربيعي متساوي الطول هو الارتفاع، لكن قرب الشمس في فصل الشتاء يحل بها إلى حد ما، مما يجعلها في فبراير (شباط)، وأكتوبر (تشرين الأول)؛ في حالة عدم مساواة نهارية؛ لكن عدم المساواة في المد والجزر يجب أن يكون لها زمن؛ وأن المد والجزر حتى اليوم، مثل تلك الموجودة في تونكوين، قد حسب.
42 (5-5) كولين ماكلورين
كانت مقالة كولين ماكلورين «الأسباب الفيزيائية للمد والجزر في البحر»،
43
عبارة عن تمرين هندسي بحت في نظرية «التدفق»، لكنها كانت مرجعية ورائدة في مجالها. فقد تمكن من خلال الحسابات أن يثبت ما قد افترضه نيوتن، وبطريقة أخرى حساب شكل المحيط الكروي في حالة التوازن الساكن مع القوة المدية للجسم المضطرب الشبيه بالكرة القطبية التي محورها يشير نحو ذلك الجسم. وقد ظهر ماكلورين أنه أول عالم تمكن من تقدير انحراف الأثر بسبب دوران الأرض، الذي يعرف الآن بأثر كوريوليس
Coriolis Effect
وهو عبارة عن تأثير كتلة متحركة في نظام دوار يواجه قوة متعامدة مع اتجاه الحركة ومع محور الدوران. الدور المهم لهذا الأثر في القوى الحركية المدية كان قد حلله فيما بعد لابلاس؛ ولم يمض ماكلورين أبعد في نظرية القوة الحركية
44 (5-6) دانيل برنولي
لقد ركز عصر اكتشافات نيوتن على الأسس الرياضياتية التي تعالج ظاهرة المد والجزر. وقد كتب عالم الرياضيات والفيزيائي السويسري دانيل بيرنولي في 1740م مقالة عن المد والجزر بعنوان «أطروحة حول مد وجزر البحر»
45
مستندا على نظرية نيوتن، لكنه لم يحرز فيها تقدما كبيرا. مع ذلك، كان بيرنولي أحد الذين اكتشفوا أن نيوتن قد بالغ في تقدير النسبة بين المد والجزر الشمسي باستعمال الأرصاد المدية الفرنسية، ووجد أن النسبة 2,5 قريبة إلى القيمة الحديثة.
46 (5-7) ليونارد أويلر
المساهمة الأكثر أهمية لليونارد أويلر كانت في مقالته «التحقيق الفيزيائي في سبب مد وجز البحر»
47
حيث بين بأن المركبة «الأفقية» وليس العمودية لمجال القوة هي التي تحدد الحركة المدية. فالمركبة الشاقولية هي التي توازن بواسطة الضغط على قاع البحر، لكن نسبة القوة الأفقية لكل وحدة كتلة إلى الجاذبية الشاقولية
g
يجب أن يوازنها ميل مقابل لسطح البحر، بالإضافة إلى فعل التغيرات الممكنة في قوة زخم التيار. في الواقع لم يحلل أويلر ديناميكية الحركة الأفقية، بل حاول، وعلى نحو غير مناسب وفاشل، أن يطور نظرية ديناميكية ترتكز على حركة الماء «الشاقولية». النظرية الصحيحة، كما وضحها لابلاس، تطور الحركة «الأفقية» ويستحضر السرعة الشاقولية خلال استمرارية كتلة الماء.
48 (6) المبحث السادس: علماء القرن 19م (6-1) إيمانويل كانط
توصل العالم والفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (توفي 1804م)
I. Kant . لاكتشاف سمة جديدة تماما للمد والجزر هي سمة (الاحتكاك المدي)، كان قد نشر عنها مقالة عام 1754م في مجلة كونيجسبيرج
Konigsberg
الأسبوعية الألمانية. فقد أدرك كانط أنه بسبب احتكاك الحركة المدية للمحيط مع الأرض فإن هذا قد يسبب تأخرا ملحوظا لدوران الأرض. وقد وجد بأن هذا الحال سيستمر حتى تصل الأرض لمرحلة تدور فيها دائما بالجانب نفسه نحو القمر، أي حتى يصبح طول اليوم مساويا لطول الشهر. وقد كتب كانط قائلا: «لا يمكن أن يساور أحد الشك بأن الحركة الأزلية للمحيط من المساء حتى الصباح (من الشرق نحو الغرب)، قوة كبيرة وحقيقية، ستساهم دائما بشيء ينقص من دوران الأرض حول محورها. هذا التأثير يجب أن يصبح بشكل حتمي ملحوظ بعد فترة طويلة من الزمن. وبينما تقترب الأرض تدريجيا من التوقف التام عن دورانها، فإن فترة هذا التغير ستصل إلى النهاية عندما يصل سطح الأرض إلى استقراره مع القمر، أي عندما تدور الأرض حول محورها في الوقت نفسه الذي يدور فيه القمر حول الأرض.» وأقر كانط بأنه ليس بوسعه أن يقدم أي دليل لدعم فرضيته هذه وإنما يترك القيام بذلك للآخرين.
49 (6-2) بيير دي لابلاس
الإنجاز الجديد بالنسبة إلى النظرية الرياضياتية للمد والجزر قام به عالم الرياضيات والفلك الفرنسي بيير دي لابلاس (توفي 1827م)
Laplace . حيث إنه قدم نظرية الجهد المدي
The tidal potential theory
إلى الأكاديمية الفرنسية للعلوم في باريس عام 1775م. فيما بعد توسع بنظريته بشكل كبير ووضعها في «أطروحة في الميكانيك السماوي»
50
في عام 1799م. وقد وضع «صيغة لابلاس المدية» التي تعبر عن الجهد المدي على أنه تابع لخط العرض، والميل الزاوي والساعة الزاوية. وقد كتب لابلاس قائلا: «تسبب العناصر الثلاثة السابقة ثلاثة أنواع مختلفة من التذبذبات. فترات التذبذبات طويلة جدا؛ وهي مستقلة عن الحركة الدورانية للأرض، وتعتمد فقط على حركة الجرم السماوي
L
في مداره. فترات التذبذبات للنوع الثاني تعتمد بشكل رئيس على الحركة الدورانية للأرض
t ؛ هي يوم واحد تقريبا، أخيرا، فترات التذبذبات للنوع الثالث تعتمد بشكل أساسي على الزاوية 21؛ وهي حوالي نصف يوم.» وهكذا بين لابلاس أن المد قابل للانفصال بشكل رياضياتي إلى ثلاثة أنواع مختلفة من المدود: دوري طويل ويومي ونصف يومي. ومنذ قيامه بهذا الفصل أصبح الركن الأساسي في النظرية المدية. علاوة على ذلك، كان لابلاس في العمل نفسه أول من عالج مد وجزر المحيط على أنهما مسألة ماء في حالة الحركة وليس ماء في حالة استقرار. معادلاته الحركية المائية، تصف تولد الموجات المدية خلال المحيط، والتي لم تصل لحل عملي حتى اختراع الحاسوب. في غضون ذلك، فإن المخططات المدية المشتركة كانت قائمة على استخدام تقريب غير موثوق.
51 (6-3) وليم ويويل
لقد كانت العلاقة بين القمر والمد والجزر واضحة جدا قبل فترة طويلة من صياغة نظرية مرضية يمكنها وضع تنبؤات دقيقة إلى حد ما للظاهرة. وقد قدم وليم ويويل (توفي 1866م)
W. Whewell
مساهمة في ذلك، حيث قال: «كان المسار الذي سيوصى به لتهذيب معرفتنا بالمد والجزر وهو التأكد من تحليل سلسلة طويلة من الأرصاد وتأثيرات التغيرات وقت العبور، واختلاف المنظر، وميل القمر، وبالتالي الحصول على قوانين للظواهر؛ ثم المضي قدما في التحقيق في قوانين السببية. ومع أن هذا لم يكن المسار الذي اتبعه علماء النظريات الرياضياتية، إلا أنه كان يتبع فعليا من أولئك الذين قاموا بحساب جداول المد والجزر عمليا؛ وتطبيق المعرفة على الأغراض المفيدة للحياة، وبالتالي فصلها عن الترويج للنظرية، كان يعامل بشكل طبيعي على أنه خاصية مربحة، ويتم الحفاظ عليها بسرية. لقد وضعت جداول لليفربول، ولندن، وأماكن أخرى، وقد صنعت بطرائق غير مكشوفة، والتي في بعض الحالات على الأقل، تم نقلها من الأب إلى الابن لعدة أجيال كممتلكات عائلية؛ واستنكر نشر جداول جديدة مصحوبة ببيان عن طريقة الحساب باعتبارها انتهاكا لحقوق الملكية.»
52 (6-4) شارل دولوني
في 1865م توصل الفلكي الفرنسي شارل دولوني (توفي 1872م)
Ch. Delaunay ، إلى استنتاج مشابه لاستنتاج وليم فيريل (توفي 1891م)
W. Ferrel ، على ما يبدو دون معرفة بعمله؛ حيث إنه أعاد تطوير نظرية الاضطراب القمري، وصارت مسألة الاحتكاك المدي معروفة من خلال دولوني على نطاق واسع في الأوساط العلمية.
53
وقد كتب دولوني: «إذا كانت الأرض بهيئة صلبة تماما، فإنها ستكون بمجالها تحت تأثير الجاذبية التي يمارسها القمر على أجزائها المختلفة، دون أن تمر بأقل تغيير في الشكل. لكن الأرض ليست صلبة تماما. إذ يتم تغطية جزء من سطحها بمياه المحيط، والتي، بسبب سيولتها، يتم تحريكها بسهولة بواسطة القوى التي تؤثر عليها مباشرة. حاليا، الأجزاء المختلفة من هذه المياه، المنتشرة في جميع أنحاء العالم الأرضي، وبالتالي، تقع على مسافات غير متساوية من القمر، لا تنجذب بالقدر نفسه. ففي منطقة من سطح الكرة الأرضية التي أصبحت مواجهة للقمر، فإنها تجذب مياه البحر بقوة أكبر من الجزء الصلب من الأرض، حيث تأخذها ككل؛ وفي المنطقة المقابلة، من ناحية أخرى، فإن مياه البحر تكون أقل انجذابا من الجزء الصلب. وينتج عن ذلك أن المياه الموجودة على الجانب المواجه للقمر تميل باتجاهها بسبب هذا الفائض من الجاذبية، وأنه على الجانب الآخر من الأرض، تميل المياه إلى الانحسار نسبيا إلى كتلة الكرة الأرضية التي هي تنجذب بقوة أكثر مما هي عليه.»
54 (6-5) وليم فيريل
أشار عالم جغرافيا المحيطات والأرصاد الجوية الأمريكي وليم فيريل إلى أن الاحتكاك المدي الذي يسبب طول اليوم قد يؤدي إلى تسارع ظاهر في حركة الأجرام السماوية. حاول أن يحسب هذا التأثير بالنسبة إلى حركة القمر، إذ يفترض مد المحيط شبه يومي حيث لديه طور أخير متوسط من 30 درجة. وقد تمت ملاحظة التسارع الصغير للقمر من خلال دراسة السجلات القديمة للكسوفات الشمسية التي كشف عنها هالي سابقا في عام 1693م. على كل، من المعروف أن ذلك سببه توزيع قوى الشمس الجاذبة والكواكب. ثم، كيف فسر فيريل لماذا تأثيره لم يكن ملحوظا؟ هنا اعتمد على وجهة نظر شعبية كانت مفيدة في حينها. كان يعتقد بأن الأرض تتبرد وبالتالي فإن هذا قد يجعل الأرض تدور أسرع. افترض فيريل بأن تأثير الاحتكاك المدي وتبرد الأرض حدث ليوازن أحدهما الآخر، وبذلك لا يمكن ملاحظة شيء. وفي الوقت نفسه نشر فيريل تقريره عن خطأ تم اكتشافه في حسابات معقدة لاضطرابات جاذبية حركة القمر. وعند تصحيح هذا الخطأ وجد بأن نصف التسارع الملحوظ للقمر لم يعد من الممكن تفسيره. الأمر الذي جعل فيريل يدعي - في عام 1864م - بأن التسارع المتبقي يمكن تفسيره بالاحتكاك المدي الذي يسبب إطالة اليوم الذي يصل إلى ثانية واحدة كل 300 سنة.
55 (6-6) جورج آيري
في 1866م علق عالم المثلثات والفلك جورج بيدل آيري (توفي 1892م)
G. B. Airy
على تقرير الفلكي الفرنسي شارل دولوني. وقد وجد آيري أن الاحتكاك المدي، بالإضافة إلى إطالة اليوم، ينبغي أن يسببا زيادة بعد القمر عن الأرض. لكن الصعوبات في تناول هذه المشكلات كانت غامرة؛ وهذا ما صوره آيري بأناقة في المثال البسيط: «على سبيل المثال: تصور أن هناك طاحونة (لكن بشكل كبير) لطحن الذرة. فإن الماء الذي سمح له بأن يرتفع مع ارتفاع المد، ليس مسموحا له أن يهبط مع المد الهابط، لكن بعد فترة سمح له بالهبوط، وبذلك يقوم بالعمل، وينتج حرارة في الجرش وطحن الذرة. لا أشك بأن هذه الحرارة هي تمثيل للطاقة الحية (
vis viva )، المفقودة في مكان ما، لكنني عاجز تماما عن القول: أين هي مفقودة؟ في دورة الأرض أم في دورة القمر؟»
56 (6-7) اللورد كلفن
بدأ الفيزيائي المشهور وليم طومسون والمعروف باسم اللورد كلفن (توفي 1907م)
Lord Kelvin
النظر بطريقة جديدة وقوية في تذبذبات المد والجزر. إذ امتلك أسلوبا مشابها لذاك المستخدم بالفعل في مناقشة الشذوذات في حركات القمر والكواكب.
57
فقد طرح كلفين العديد من الأفكار من أجل فهم حالات المد والجزر بالنسبة للخواص الفيزيائية للأرض التي من الممكن اشتقاقها منها. وتوسع في تمثيل لابلاس المنسجم مع البيانات المدية. هنا سنهتم بمقدمة طومسون عن الحل البسيط لمعادلات لابلاس المدية
LTE
والتي أثارت حتى ذلك الوقت الانتباه، باستخدام بعدين أفقيين عوضا من بعد آيري الواحد. وقد توصل إلى شكل الموجة المدية على الشريط الساحلي، وقد لوحظت هذه السمات للموجات المدية ذات التقدم التصاعدي في القناتين الإنكليزية والإيرلندية وعلى طول الساحل الغربي لبحر الشمال. وصار من المعروف حاليا معظم شكل الموجة المتميزة لحركات المد والجزر في المحيط العميق، مع بعض استثناءات قليلة. وقد دعي شكل الموجة المدية هذا فيما بعد باسم «موجة كلفن». وفي علم جغرافية المحيطات، تسمى «موجة كلفن» (أو من الأفضل موجة كلفن المضاعفة
Double Kelvin Wave ) المستخدمة أيضا لوصف نوع الموجة (الداخلية) غير المنظمة للحركة المدية، والتي تنتقل نحو الغرب على طول خط الاستواء بسعة تنتقل نحو الشمال والجنوب.
58
الفصل الخامس
أساليب الاستفادة والوقاية من طاقة المد والجزر
مقدمة
تعتبر الطاقة التي تنقلها موجات المد والجزر هائلة عندما تكون على المقياس الكبير. وقد تعددت أشكال الاستفادة من طاقة المد والجزر، فإما كانت تستخدم لتدوير طواحين الحبوب، وإما لتسيير حركة السفن. كما كانت هناك إجراءات احترازية وقائية تتخذ للتحذير من ضرر حركة المد والجزر في البحار والأنهار على حركة الملاحة، كأن توضع مؤشرات تنبه البحارة على ذلك.
سنرى في هذا الفصل كيف أن العرب ربما كانوا أول من استفاد من طاقة المد والجزر وتحويلها إلى عمل مفيد من خلال الطواحين المائية، وإذا تأكد ذلك فإنهم يكونون قد سبقوا الأوربيين في هذا التطبيق بنحو ثلاثة أو أربعة قرون.
في المسح الذي أجراه الباحث و. إ. منشنتون
W. E. Minchinton
لمعرفة إسهامات كل الحضارات في صناعة طواحين المد والجزر قال: «أخبرني جوزيف نيدهام أنه لم يكن لدى أهل الصين أو الهند معرفة بطواحين المد والجزر، بينما أكد لي ماريون جونسون بأنه ما من دليل على وجود طواحين المد والجزر في أفريقيا. وأعرف أنه ما من دليل قبل الدليل الأوروبي عن شمال وجنوب أمريكا والكاريبي.»
1 (1) المبحث الأول: طواحين طاقة المد والجزر
تشير الوثائق إلى معرفة كل من العرب والأوربيين بطواحين المد والجزر. وقد كان للعرب السبق على الأوربيين في هذا المجال.
أولا: العرب والمسلمون
يعود أقدم نص عربي وصلنا عن الطواحين التي استخدمت طاقة المد والجزر إلى القرن العاشر للميلاد، وهذا يعني أن هذه الطواحين كانت موجودة على الأقل منذ ذلك القرن، إن لم يكن أبكر من ذلك . فنحن نعلم أن مدينة البصرة قد بناها الصحابي الجليل عتبة بن غزوان (توفي 17ه/ 638م) في عهد الخليفة عمر بن الخطاب (توفي 23ه/644م) سنة 14ه وقيل 15ه عند ملتقى نهري دجلة والفرات،
2
أي منذ القرن السابع للميلاد.
يروي لنا محمد بن أحمد بن أبي بكر البناء المقدسي البشاري (توفي نحو 380ه/نحو 990م) كيف استفاد أهل البصرة من ظاهرة المد والجزر واستغلوا طاقتها، من خلال وضع طواحين مائية عند مخرج المد، بحيث إنه يديرها. ويشير هذا إلى أن مستوى المد كان يصل إلى مترين.
3
قال المقدسي البشاري: «قل في البصرة ما شئت من مياهها وبركها ومدها وجزرها ... والجزر والمد أعجوبة على أهل البصرة ونعمة؛ يزورهم الماء في كل يوم وليلة مرتين ويدخل الأنهار ويسقي البساتين ويحمل السفن إلى القرى، فإذا جزر أفاد أيضا عمل الأرحية لأنها على أفواه الأنهار فإذا خرج الماء أدارها. ويبلغ المد إلى حدود البطائح وله وقت يدور مع دور الأهلة».
4
وقد ذكر مؤرخ التكنولوجيا المعروف ر. ج. فوربيس
R. J. Forbes
أن: «البصرة تقع على الخليج العربي وقد كان فيها طواحين مد وجزر، معظمها من أجل طحن الذرة.»
5
طبعا يمكن استخدام الطاحونة لطحن أي نوع من الحبوب، سواء قمح أو شعير، ولا يمكننا الجزم بشكل قاطع أنها استخدمت فقط من أجل الذرة.
يبدو أن هذا النوع من الطواحين قد انتشر واستخدم بكثرة في البصرة لكلفته الرخيصة وكفاءته العالية طوال أيام السنة، مقارنة بالطواحين المائية التي تعتمد على حركة التيار المائي فقط التي تتأثر بين الصيف والشتاء. وهو ما قد يفسر لنا لماذا حظيت البصرة فقط بظهور هذا النوع من الطواحين دون غيرها من المدن العراقية أو حتى العربية الأخرى التي تقع على ضفاف الأنهار.
شكل 5-1: لم يكن هناك تفصيل كاف في رواية المقدسي البشاري حول الطاحونة ومبدأ عملها؛ لذلك فإننا نرجح أن البصريين استخدموا طريقة التدفق السفلي كونها أسهل في البناء وتأمين عودة مياه الجزر.
كما تحدث سراج الدين أبو حفص عمر بن المظفر بن الوردي (توفي 852ه /1447م) عن تحكم أهل البصرة بالمد والجزر عن طريق حاجز (غالبا خشبي) فقال: «وقال الحافظ في المد والجزر بالبصرة: ما قولكم وظنكم بقوم يأتيهم الماء صباحا ومساء فإن شاءوا أذنوا له وإن شاءوا حجبوه.»
6
ونستدل من كلام ابن الوردي على أمر آخر هو أن اختيار موقع طاحونة المد والجزر كان يتم اختياره بعناية كبيرة ، خصوصا من ناحية صلابة الأرضية التي ستوضع عليها.
شكل 5-2: بناء على المعلومة التي أضافها إلينا ابن الوردي، فإننا نتوقع أن يكون تصميم طاحونة المد والجزر في البصرة وفق هذا الشكل التخيلي. حيث: (1) حاجز مياه المد. (2) قناة تصريف فرعية لتصريف الماء الفائض. (3) الناعورة ذات العنفات. (4) مكان الطاحونة. (5) جدار استنادي لمحور الناعورة. (6) قناة تصريف مياه المد بعد خروجها من الناعورة.
شكل 5-3: أحد أشكال الطواحين المائية التي كانت تستخدم لطحن القمح في مدينة مرند في أذربيجان، كما وصفها ورسمها لنا شيخ الربوة. ويبدو أن المبدأ نفسه قد تم تطبيقه في حالة طواحين المد والجزر. (مصدر الصورة: الدمشقي، شمس الدين أبو عبد الله، نخبة الدهر في عجائب البر والبحر، طبعة فرين وأغسطس بن يحيى مهرن، كوبنهاجن، 1865م، ص188.)
لا تزال ظاهرة المد والجزر تحدث عند شط العرب في البصرة كما يقول أنستاس ماري الألياوي الكرملي: «ومن أجل نعم الله تعالى على البصريين هي وجود «المد والجزر» في شط العرب فإن ماء «المد» يزورها كل أربع وعشرين ساعة مرتين فيسقي النخيل والأراضي (بدون استعمال آلات السقي أو نصب الكرود) وبعد أن تأخذ تلك البقاع قسطها من الري بفضل تلك النعمة الجليلة يرجع الماء من حيث أتى ثم يعود بعد اثنتي عشرة ساعة وأربع وعشرين دقيقة، فسبحان من تحيرت في صنعه العقول.»
7
ويبدو من كلام الكرملي أنه في أواخر القرن 19م لم يعد هناك أي ذكر لأي طاحونة تدار أو تستفيد من طاقة المد والجزر المهدورة هناك.
ثانيا: الأوربيون
بحسب الوثائق التي وصلتنا فقد تأخرت أوربا في الاستفادة من طاقة المد والجزر حتى القرن 12م.
إذ لم يتم استكشاف تاريخ طواحين مد وجزر فرنسا بالتفصيل، إنما يذكر بأنه في القرن الثاني عشر كانت توجد مطاحن مد وجزر في جوار نانتيس
Nantes
عند بياون
Bayonne (1120-1125م) وفي منطقة لابورد
Labourd ، وفي «بارثيس
burthes » لأدور أو النيف
Nive ، حيث قيل بأن طاحونة موفيل
Mufel
يعود تاريخها بين عامي (1125-1133م)، وعند إسبوك
Esbouc
قبل 1251م وسانت بيرنارد في القرن الثالث عشر، بينما في بيرتاني، وفي قنال كويمياك
Quimiac ، واستحوذت تيمبلارس
Templars
على طاحونتين بحريتين بين ماريل
Marel (ميركويل
Merquel ) وميسكوير
Mesquer
في عام 1182م. في القرن الثالث عشر كانت توجد طواحين مد وجزر تعود إلى دير فيكامب
Fecamp
عند فيوليس
Veules (1235م) وعند بونت دوف
قرب كارينتان
Carentan (1277) حيث استغلت، كما ذكر، حتى عام 1619م، بينما رئيس أساقفة روين
Rouen
كان لديه طاحونتين دي ماري
de maree
عند ديب
Dieppe
في القرن الرابع عشر وواحدة عند لا روشيل
La Rochelle
قبل 1325م. ولا يزال بعد المعلومات عن هذه الفترة حول تأريخ طواحين المد والجزر في فرنسا سرا.
8
وقد وضع المهندس الفرنسي برنارد فورست دي بليدور (توفي 1761م)
B. F. de Bélidor
في كتابه «العمارة الهيدروليكية»،
9
رؤيته حول الطاقة المفقودة من حركات المد والجزر. ومنذ أن صدر الكتاب في منتصف القرن 18م ظهرت عدة كتابات حول الاستفادة من هذه الطاقة، وقد قامت بعدها عدة منشآت صغيرة لهذا الغرض. وأكثر هذه المنشآت شهرة، والتي ما زالت تعمل حتى اليوم، هي السد المقام على نهر لارانس في شمال فرنسا، والذي يولد طاقة كهربائية استطاعتها 240 ميجاواط.
10
بالنسبة إلى بريطانية فقد ظهرت طواحين المد والجزر بشكل مؤكد في ووتون
Wootton (الجزيرة البيضاء)، والتي يعود تاريخها إلى سنة 1132م، هذا ما تم افتراضه؛ وفي بروميلي بمحاذاة بو
Bromely-by-Bow
سنة 1135م؛ وفي وودبريج
Woodbridge
الجسر الخشبي (سوفولك
Suffolk ) سنة 1170م؛ وفي بياردس كاسيل-قلعة ساحات الخليج
Bayards Castle (لندن) سنة 1180م. وقيل بأن ستة طواحين مد وجزر أخرى بنيت في القرن الثاني عشر، وصنع إحدى عشرة طاحونة بحلول 1200م. في القرن الثالث عشر، بنيت سبع وعشرون طاحونة؛ في القرن الرابع عشر ثمان، وفي القرن الخامس عشر، ست، بينما كان يوجد سبع لكن لا يمكن إعطاء تاريخ لها بدقة أكثر من العصور الوسطى. في القرن السادس عشر بنيت ثلاثون أخرى. وهكذا فإن حاصل طواحين المد والجزر تسعة وثمانون شيدت في إنكلترا بحلول القرن السابع عشر.
11
ومع عدم جدوى حصول الأوربيين على محركات دائمة الحركة
، إلا أن هؤلاء الباحثين قد قاموا بدور مفيد بجعل الآخرين يصلون إلى قانون حفظ الطاقة.
12
وأوحت تصميماتهم بإمكانية الاستفادة من مصادر جديدة في الطبيعة، إذ أصبحت ظاهرة المد والجزر شكلا من أشكال الساعات الكونية. يقول الباحث كرومبي: «في عام 1582م، زودت لندن بالمياه ، عن طريق مضخة دافعة تعمل بوساطة دولاب يحركه المد، أقامه بالقرب من جسر لندن، المهندس الألماني بيتر موريس (توفي 1588م)
.»
13
أما في إيطاليا فقد وضع الإيطالي مارينو تاكولا (توفي حوالي 1458م)
M. Taccola
في كتابه «الآلات»
14
تصميما لطاحونة تعتمد على حركة المد والجزر بحلول عام 1430م (انظر الشكل4)، التي تدور وفق الطريقة الآتية: لنفترض بأنه يوجد بركة طبيعية أو حوض ماء يمكن أن يتدفق وينحسر، قرب المحيط أو على طول الأنهار إنما بالقرب من المحيط إلى حد كبير. إذا لم يكن هناك بركة طبيعية، فلنفترض بأنه توجد بركة صناعية لها قناتان؛ إحداهما تسمح للماء أن يدخل في البركة عندما يرتفع البحر، والأخرى عندما ينخفض ماء البحر، ندع الفتحة مغلقة ببوابة مناسبة، ومن ثم نترك القناة الأخرى مفتوحة كمخرج، يمكن بعد ذلك للماء أن يمضي إلى دواليب الطاحونة كما هو واضح في تصميم الطاحونة المذكورة أعلاه. وهذه العمليات يمكن تكرارها من حين إلى حين.» ويذكر محرر التعليقات أن حركات المد والجزر كانت «القوى المدهشة كثيرا في ذلك.» وقد «قيست» جزئيا في اعتمادها على أطوار القمر، وبطريقة يستحيل فهمها. وقد «كانت موثوقة بما يكفي لاستخدامها وأيضا بحجم كبير بشكل كاف.» ويواصل: «على الأقل في بحر الأدرياتيك، مع أنه ليس مثل بحر ليجوريان
Ligurian Sea
قرب سينا، لاستخدامها بشكل اقتصادي جدير بالاهتمام.» ربما استمد تاكولا معلومات هذا الفصل من المنطقة الأدرياتيكية؛ كما يحدث في أحيان كثيرة، حيث تكون قنوات المعلومات ومصادرها مجهولة. أيضا عرف بأن حالات المد والجزر الموجودة في الأنهار يمكن للطواحين الوصول إليها نسبيا، هذه الحقيقة كانت قد سجلت جزئيا من قبل (ظهرت على سبيل المثال عند غروستيست
Grosseteste
في أوائل القرن الثالث عشر).
15
شكل 5-4: تصميم مارينو تاكولا لطاحونة تستفيد من طاقة المد والجزر. (مصدر الصورة:
Gustina, Mariano Taccola and his book De ingeneis, Cambridge, Mass., MIT Press, 1972, p. 86 .)
وبعد تاكولا بقرنين تقريبا وضع الإيطالي فاوستو فيرانزيو (توفي 1617م)
F. Veranzio
تصميما آخر في كتابه «علم الميكانيك الجديد»، يحصر من خلاله مياه المد ويوجهها نحو عنفات الطاحون بشكل أفضل من تصميم تاكولا. وقد طرح فيرانزيو سؤالا: «هل من الممكن حتى هذه الساعة وضع رباط على البحر يمكنه أن يدير الرحى، ويخدم في عمليات أخرى تحتاج إلى الحركة؟ ثم رد على مسألته البلاغية: نحكم بأنه من الممكن إنجاز هذا، مع أنه ليس في كل مكان، بل فقط في الأماكن الضيقة والمحصورة.» يقول الباحث كيلير
Keller
بأن فكرة فيرانزيو في وضع طاحونة على مضيق ساحلي ضيق بشكل مفترض اقترحته طواحين المد والجزر الأخرى. ويقترح فيرانزيو أن المستودع المتشكل والذي يملؤه المد ويفرغه الجزر، يدير دواليب الطاحونة كلما قام بذلك. ويتابع فيرانزيو قائلا: «من الممكن تطبيق هذا بشكل مناسب على المحيط [يعني الأطلسي، كما يقترح كيلير]، حيث يكون المد والجزر أكبر ما هو في البحار الداخلية.» وقد تقدم بهذا المقترح كفكرة متأخرة في مشروعه لتكون «في صدع جرف ما، حيث تكون قوى الماء بحد ذاتها عنيفة جدا (في مياه البحر المقابل). والطاحونة بحد ذاتها سيكون لديها عجلة مائية ذات ريش مفصلية.»
16
شكل 5-5: تميز تصميم فاوستو فيرانزيو بقدرته على الاستفادة القصوى من طاقة المد والجزر. (مصدر الصورة:
Veranzio, Fausto, Machinae novae Favsti Verantii siceni, Venice, p. 132 .)
نشير هنا إلى أنه في حالتي تصاميم تاكولا وفيرانزيو لا نعرف فيما إذا كانت قد نفذت أم أنها كانت مجرد اقتراحات وحبر على ورق، على غرار الكثير من التصاميم التي كان يضعها ليوناردو دافنشي (توفي 1519م)
L. da Vinci . خصوصا وأنه لم يوثق انتشارا لمطاحن المد والجزر في إيطاليا كون حركة المد والجزر ضعيفة فيه.
أخيرا، فإن السؤال المشروع الذي يحق لنا طرحه الآن - في ضوء ما وصلنا من وثائق حتى الآن: إذا كانت طواحين المد والجزر في البصرة هي الأولى من نوعها، فكيف انتقلت إلى أوربا؟ هل تم ذلك عن طريق السفراء أم الرحالة والتجار، أم عن طريق الأندلس، كما هو الحال في طواحين الهواء؟ قد تكون الإجابة صعبة حاليا، ولكن ربما تكشف لنا الوثائق عما نجهله حاليا. (2) المبحث الثاني: الوقاية من أثر المد والجزر
على الجانب الآخر، فإن الناس الذين لم يفكروا في الاستفادة من طاقة المد والجزر ركزوا جهودهم على حماية أنفسهم من أضرارها. وقد تراوحت هذه الطرائق بين الخرافية وتلك التي تعتمد على وضع الحواجز والموانع.
أولا: الهنود
في الواقع لم نعثر على محاولات التحكم بحركة المد والجزر عند الحضارات القديمة سوى عند الهنود. فقد ذكر لنا محمد بن مسعود بن علي بن أحمد بن المجاور البغدادي (توفي 690ه/1291م) طريقة خرافية كان الهنود يعتقدون بها للتخلص من المد، حيث قال: «وفي أجه وجميع أعمال الهند والسند إذا زرع أحد قصب السكر ينذر للصنم نذرا؛ إذا طلع قصبه جيدا فدي بإنسان، فإن صح قصبه احتال على بعض قصار الأعمال يذبحه ويرش بدمه أصول قصب السكر في يوم عيد لهم يسمى الديواني، وإذا زاد شط السند في الأخذ على المد والحد يؤخذ خشف غزال يجلل بثوب أحمر ويعطر ويبخر ويطلق في أغزر موضع وأقوى جريان في السيل وأشد سوار، فحينئذ ينقص الماء بإذن الله تعالى.»
17
وبعيدا عن الأساطير والخرافات؛ فإن أول استخدام موثق للتحكم بظاهرة المد والجزر في الهند يعود إلى عام 2450 قبل الميلاد، وقد أبلغ عنه في منطقة أحمد آباد الهندية، حيث بنى الهارابانيون
Harappans (تقع في باكستان حاليا) أحواض بناء سفن للمد والجزر، وأحواض مدية كبيرة على جانب الجدار مع مدخل ضيق للبحر، بحيث يمكن إغلاقها بواسطة بوابة السد. على الرغم من أنهم كانوا قادرين على بنائها واستخدامها، ومن ثم فهم مدى انتظام المد والجزر وإمكانية التنبؤ به، إلا أنه لا يوجد توثيق حول معرفتهم بالعلاقة بين المد والجزر والقمر والشمس.
18
ثانيا: العرب والمسلمون
ذكر لنا خمسة من الجغرافيين والمؤرخين العرب ملاحظاتهم لوجود مؤشرات ومقاييس كانت تستخدم في العراق لمراقبة حالة المد والجزر منذ القرن (4ه/10م). كما أنه كانت تتخذ إجراءات وقائية للحيلولة دون ضرر المد والجزر.
أبو إسحاق الإصطخري
أشار إبراهيم بن محمد الفارسي الإصطخري (توفي 346ه/957م) إلى اعتماد طريقة الخشبات كمقياس على ارتفاع المد في نهر دجلة، وقد خصص لها شخص يراقبها ويشعل النار بالليل ليحذر السفن. حيث قال: «بحر فارس وهو عريض البطن جدا في جنوبه بلدان الزنج وفي هذا البحر هوارات كثيرة ومعاطف صعبة ومن أشدها ما بين جنابة والبصرة فإنه مكان يسمى هور جنابة وهو مكان مخوف لا تكاد تسلم منه سفينة عند هيجان البحر، وبها مكان يعرف بالخشبات من عبادان على نحو من ستة أميال على جري ماء دجلة إلى البحر ويرق الماء حتى يخاف على السفن الكبار إن سلكته أن تجلس على أرض إلا في وقت المد. وبهذا الموضع خشبات منصوبة قد بني عليها مرقب يسكنه ناظور يوقد بالليل ليهتدى به ويعلم به المدخل إلى دجلة وهو مكان مخوف إذا ضلت السفينة فيه خيف انكسارها لرقة الماء.»
19
أبو الحسن المسعودي
تحدث أبو الحسن المسعودي (توفي 346ه/957م) عن موقع اسمه الجرارة (الحدارة)
20
أيضا كانت تتخذ فيه إجراءات احترازية للوقاية من ضرر المد والجزر، حيث قال: «وللبصرة أنهار كبار: مثل نهر شيرين، ونهر الرس، ونهر ابن عمر، وكذلك ببلاد الأهواز فيما بينها وبين بلاد البصرة، أعرضنا عن ذكر ذلك، إذ كنا قد تقصينا الأخبار عنها وأخبار منتهى بحر فارس إلى بلاد البصرة والأبلة وخبر الموضع المعروف بالجرارة وهي دجلة من البحر إلى البر تقرب من نحو بلاد الأبلة، ومن أجلها ملح الأكثر من أنهار البصرة، ولهذه الجرارة اتخذت الخشبات في فم البحر مما يلي الأبلة وعبادان، عليها أناس يوقدون النار بالليل على خشبات ثلاث كالكرسي في جوف الليل خوفا على المراكب الواردة من عمان وسيراف وغيرها أن تقع في تلك الجرارة وغيرها، فتعطب، فلا يكون لها خلاص، وقد ذكرنا ذلك فيما سلف من كتبنا، وهذه الديار عجيبة في مصبات مياهها واتصال البحر بها، والله أعلم.»
21
ناصر خسرو
أشار ناصر خسرو الحكيم المروزي (توفي 481ه/1088م) إلى وجود مقياس على شكل عمود أو جدار طوله حوالي 5 أمتار ليكون بمثابة مؤشر على حدوث المد أو الجزر. حيث قال: «يحدث المد ببحر عمان عادة مرتين كل أربع وعشرين ساعة، فيرتفع الماء بمقدار عشرة أذرع، وحين يبلغ الارتفاع أقصى مداه يبدأ الجزر بالتدريج فينخفض الماء عشرا أو اثنتي عشرة ذراعا، ويعرف بلوغ ارتفاع الماء مقدار الأذرع العشر بظهوره على عمود أقيم هناك أو على حائط ولو كانت الأرض مستوية وغير عالية لعظم امتداد البحر إليها، ويسير النهران دجلة والفرات بغاية البطء حتى يتعذر في بعض الجهات معرفة اتجاه التيار فيهما، وحين يبدأ المد بدفع البحر ماءهما مسافة أربعين فرسخا حتى يظن إنهما يرتدان إلى منبعيهما. أما في الأماكن الأخرى التي تقع على شاطئ البحر فإن امتداد المد إليها يتوقف على ارتفاعها وانخفاضها فحيثما استوت الأرض ازداد المد وحيثما ارتفعت قل.»
22
ابن المجاور الشيباني
ذكر لنا يوسف بن يعقوب بن محمد بن علي الشيباني الدمشقي (توفي 690ه/1291م) طريقة للتخلص من المد الزائد، لكن من غير الواضح هل هي من عنده أم أنه أخذها عن الهنود، حيث قال: «وإذا زاد شط السند في الأخذ على المد والحد يؤخذ خشف غزال أحمر ويعطر ويبخر ويطلق في أغزر موضع وأقوى جريان في السيل وأشد سوار فحينئذ ينقص الماء بإذن الله تعالى.»
23
عبد الغني بن أحمد المصري
قدم لنا عبد الغني بن أحمد المصري (توفي 854ه/1450م) مخططا لمدينة المهدية (وهي مدينة في المغرب أسسها الأمير المهدي) محاطة بسور وبداخلها ثلاثة قصور، وحولها خندق. ويحدد على المخطط المسافة بين المهدية وغيرها من المدن والجزر. وقد روعي في تصميم هذا الخندق مد وجزر البحر بحيث لا يدخله.
24
شكل 5-6: مخطط مدينة المهدية كما هو مرسوم في المخطوطة، ونلاحظ من الرسم السفلي كيف أن باب المدينة مرتفع لا تصل إليه مياه المد، كما هو موضح إلى يسار الرسم . (مصدر الصورة: المصري، عبد الغني، غرائب الفنون وملح العيون، مخطوطة مكتبة بودليان رقم (
MS. Arab. c. 90 )، ص34و.)
ابن عبد المنعم الحميري
تكلم أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن عبد المنعم الحميري (توفي 900ه/1495م) عن واد يقع بالقرب من مدينة سلا الأندلسية، حيث إن «هذا الوادي يدخله المد والجزر مرتين في كل يوم، فإذا كان المد دخلت المراكب به إلى داخل الوادي وكذلك تخرج في وقت خروجها.»
25
وهذا يعني أن الملاحة في النهر كانت تستفيد من حركة المد والجزر التي كانت تحدث مرتين في اليوم.
سباهي زاده
ويحدثنا محمد بن علي البرسوي سباهي زاده (توفي997 ه/1589م) عن كيفية اتخاذ الإجراءات الاحترازية من المد والجزر التي كانت تتخذ في مدينة عبادان أو عبدان التي تقع حاليا في محافظة خوزستان جنوب غرب إيران على جزيرة عبدان ضفاف نهر شط العرب. وهي مدينة عرفت في العصر العباسي على أنها ميناء رئيس. «وفي جنوبي عبادان وشرقيها الخشبات، وهي علامات في البحر للمراكب تنتهي إليها ولا تتجاوزها خوفا من الجزر لئلا تلحق الأرض.»
26
الباب الثاني
المخطوطات العلمية المحققة
سنقدم في هذا الباب ثلاثة فصول مرتبة تاريخيا من الأقدم للأحدث، يتوزع عليها ثلاثة نصوص لثلاثة مؤلفين وكلها تركز على ظاهرة المد والجزر.
وقد كانت منهجيتنا في التحقيق تقوم على:
وضعنا بدلا من حرف الياء المستخدمة بكثرة، الهمزة التي على نبرة، مثل (السايل = السائل).
أصلحنا الكلمات التي يكون فيها العدد يخالف المعدود.
أهملنا التكرار الذي وقع فيه النساخ ولم نذكره ضمن الفروقات بين النسخ.
قمنا بشرح الكلمات الصعبة أو التعريف بالأعلام في الحاشية أول مرة ترد في متن الكتاب.
أما بالنسبة للرموز المستخدمة في التحقيق فهي:
ما بين قوسين معقوفين[]، هو إضافة من قبل المحقق داخل النص.
إشارة الناقص (-) تعني أن الكلمة أو الجملة ناقصة عن النسخ الأم.
إشارة الزائد (+) تعني أن الكلمة أو الجملة مضافة عن النسخ الأم.
النقطتان (:) تعني حلول (كلمة/جملة) محل (كلمة/جملة) في النسخ الأخرى.
إلخ. إلى آخره.
ت. توفي
د.ت . دون تاريخ نشر
د.م. دون مكان نشر
د.ن. دون ناشر
ص الصفحة
ظ ظهر الورقة
و وجه الورقة
ق.ه. قبل الهجرة
ق.م. قبل الميلاد
م الميلادي
ه الهجري
الفصل الأول
رسالة في العلة الفاعلة للمد والجزر للكندي
لم يكن موضوع المد والجزر ليفوت فيلسوف العرب الأول أبو إسحاق الكندي، فقد أفرد له رسالة كاملة لمناقشة سبب هذه الظاهرة وقدم نظريته الخاصة بذلك. وقد شرح وعلق وترجم هذه الرسالة إلى اللغة الألمانية مؤرخ العلوم الألماني إيلهارد فيدمان.
1 (1) المبحث الأول: التعريف بالمؤلف
أبو يوسف يعقوب بن إسحاق بن الصباح الكندي (توفي نحو 260ه/نحو 873م) فيلسوف العرب والإسلام في عصره، وأحد أبناء الملوك من كندة. وقد نشأ في البصرة ثم انتقل إلى بغداد، فتعلم واشتهر بالطب والفلسفة والموسيقى والهندسة والفلك. وقد حظي عند المأمون عندما استلم الخلافة - ومن ثم المعتصم - بمنزلة كبيرة.
2
وقد قال عنه ابن النديم: «فاضل دهره وواحد عهده في معرفة العلوم القديمة بأسرها.»
3 (2) المبحث الثاني: أعماله
ألف الكندي وترجم وشرح كتبا كثيرة، يزيد عددها على ثلاثمائة. لن نأتي هنا على ذكرها وإنما سنحيل إلى المصادر التي تناولتها.
4 (3) المبحث الثالث: تعريف بالرسالة
في الواقع تعد رسالة الكندي هذه واحدة من أهم رسائله. إذ بدأ فيها الكلام عن المد وأنواعه - الطبيعي والعرضي - واستطرد من ذلك إلى الكلام عن عيون الماء وأنواعها، وكيفية تكوينها، وعن أنواع المياه الظاهرة على وجه الأرض والباطنة فيها، وعن أحوالها وقوانين نشأتها واستحالتها، ثم تكلم عن بعض الأجرام السماوية وسرعتها وأحجامها وبعدها عن الأرض، وعن فعلها فيما على ظهر الأرض، ويتكلم عن المد وأنواعه وأنواع الاضطراب الناشئة في المياه البحرية والبرية بسبب التعفن والنتن، وينتهي بالكلام عن المد والجزر بمعناهما العادي. (4) المبحث الرابع: توثيق النسخة المعتمدة في التحقيق وأوصافها
لقد حصلنا على نسخة مخطوطة من هذه الرسالة من مكتبة آيا صوفيا، وهي موجودة ضمن مجموع من الصفحة (153ظ-157و).
عنوان المخطوط: رسالة يعقوب بن إسحاق الكندي إلى بعض إخوانه في العلة الفاعلة للمد والجزر.
رقم المخطوط: (
AYASOFYA-4832 ).
اسم الناسخ: حرره الفقير أحمد شيخ زاده المفتش بأوقاف الحرمين الشريفين غفر الله له.
تاريخ نسخ المخطوط:
التملكات: صار لابن الحمامي أبي زيد بن علي في التاسع عشر من رجب سنة ثمان وستين وخمس مائة، وقد وقف هذه النسخة سلطاننا الأعظم والخاقان المعظم مالك البرين والبحرين، خادم الحرمين الشريفين السلطان بن السلطان بن السلطان الغازي محمود خان وقفا صحيحا شرعيا.
عدد الورقات: 4 ورقات.
المسطرة: 32 سطرا.
حالة الورق: جيدة.
ملاحظات: المخطوطة ليست واضحة كثيرا، وإنما يعاني من يحاول قراءتها.
الصفحة الأولى من رسالة الكندي (نسخة آيا صوفيا).
الصفحة الأخيرة من رسالة الكندي (نسخة آيا صوفيا).
بسم الله الرحمن الرحيم
وما توفيقي إلا بالله (5) رسالة يعقوب بن إسحاق الكندي إلى بعض إخوانه في العلة الفاعلة للمد والجزر
سدد الله خطاك لدر الحق، وأعانك على نيل مستوى عراته. سألت، أسعفك الله بمطالبك عن العلة الفاعلة للمد والجزر، وقد كنت أظن أنه قد تقدم عندك من أكثر الأقاويل التي سمعت منا ما فيه الكفاية في إيجاد ذلك.
وقد رسمت لك من ذلك قدر ما ظننت بك إليه حاجة، وبالله التوفيق وعليه توكلنا. أول ما ينبغي أن نقول في ذلك بأن نبين المد والجزر، فنقول: إنما سمي بهذا الاسم، أعني المد، زيادة الجسم الرطب، أعني الماء، زيادة طبيعية؛ والزيادة الطبيعية إنما تكون من صغر إلى عظم، لا بزيادة مادة. وإنما رسمت بهذا الاسم المد البحري الذي ذكرت أن بحثك عنه؛ لأن هذا الاسم، أعني المد، قد يستعمل في حالين مختلفتين:
إحداهما استحالة الماء من صغر الجسم إلى عظمه، وهو المد الطبيعي.
والأخرى زيادة الماء بانصباب مواد فيه، وهو المد العرضي؛ وهذا المد العرضي كثير في الأنهار والأودية والفيوض التي أصلها من الأنهار.
فأما البحار فإن المواد التي تصب فيها لا تظهر بها زيادة فيها، لصغر قدر المواد عند قدر البحر، وأن الأول فالأول مما يفيض منها في البحار يحلله الجو بدور الشمس والأشخاص العالية، أولا أولا، فيصير بخارا، وينعقد سحابا؛ ويصير مطرا وثلجا وبردا عائدا إلى الأرض، سائلا إلى البحار، دائما بهذا الدور أبدا ما بقي العالم.
فأما المنصب من المواد من هذه الأشياء التي حددنا، الآتية من العلو، مما ارتفع من الأرض والبحار، فظاهر في الزيادة في الأنهار والأودية والفيوض والعيون والأحساء.
فتبين إذن أن رسم المد الذي في الأودية والفيوض والأنهار والأحساء إنما هو زيادة الماء فيها بمواد تصب إليها. فأما العيون، فقد تكون الزيادة فيها بعلتين:
إحداهما أن هذه [المواد] النازلة من العلو تصير إلى الأرض، فتقبلها بطون الأرض، وأن لها بطونا، أعني أودية في باطنها، كالعروق في أبدان الحيوان، التي يجري فيها الدم، ثم تظهر في بعض المواضع بإحدى حالتين :
إما أن ترشح إلى تربة ظاهرة أو باطنة؛ فإن كانت ظاهرة سميت عينا متوشلة، وإن كانت باطنة، فانتهى الحفر بالمهنة إليها، سميت قليبا، وإن كان ظهور الماء فيها رشحا بريا سميت حسيا. وهذا الحسي أيضا على حالتين (كذا):
إما قريب من وجه الأرض، فيسمى حسيا، ولا يعبر عن اسمه، وإما أن يكون بعيدا من وجه الأرض، فيسمى ركيا، وهذه الركايا أيضا: إما أن تكون مفردة أو حادا، فتسمى بأسمائها: ركايا فقط.
وإما أن تكون كثيرة، تنبعث من بعضها إلى بعض لقربها، حتى تجتمع بمائها أجمع في ركي، فتسمى فقيرا. وهذا الفقير، وهذه الفقر، إنما أسيحت على وجه الأرض، إذا كانت مبتدأ ركاياها من مواضع أعلى، وحطت إلى مواضع أسفل وأهبد، وكان من الأرض شيء أهبط وجها من وجه الماء، الذي في الفقير الأعظم، الذي يفيض إليه ماء الركايا.
وربما لم تكن إساحته على وجه الأرض، فينزع بالدلاء، فما كان منها غزير الماء غير منقطع في دور السنة كلها سميت السدم والأعداد. وقد تسمى سوائل هذه الرشوح عيونا بالاسم المستعار.
فأما العين خاصة فهي النوع الآخر، وهي الخروق المنفجرة من بطون الأرض انفجارا. وبطون الأرض هذه تقبل الماء على وجهين:
أما إحدى الجهتين فما حددنا من [الماء] النازل من العلو والواصل إلى بطون الأرض بالنشف؛ والثاني الداخل من وجه الأرض من خروق المغارات التي في بطونها، أعني الأودية التي في بطونها. وكذلك خروجها لمعنيين اثنين:
أما أحدهما فبالرشح.
والآخر بانفجار من الخروق التي حددنا، تسيل وتسيح على وجه الأرض، وهذه هي المسماة عيونا فوارة؛ لأن الفائر منها [ما] كان على وجه الأرض سيله.
فأما الخرارة فربما كان [الماء] منحطا من عل إلى أسفل؛ فكان لجريه صوت خريري، وهذا أبلغ العيون نفعا، إذا تساوي غئور أقدار المادة؛ لأنه ينفذ في الجري بسرعة ويغور في الأرض، ويكون ألطف من الهابط،
5
بشدة الحركة في جريه.
فأما كون الماء في بطون الأرض فيكون بحالين:
أما أحدهما فالجاري من عل، كما وصفنا.
وأما الآخر فالمستحيل في بطون الأودية.
فإن ظاهر الأرض، إذا حمي، برد باطنها لاقتسام الكيفيات المواضع المتضادة، كما حددنا في غير موضع من أقاويلنا وأثباتنا، فتبرد بردا شديدا، فيستحيل الهواء الذي في الأودية ماء؛ لأن الهواء والماء مشتركان في الكيفية المنفعلة، أعني الرطوبة، متضادان في الكيفية الفاعلة، أعني الحرارة والبرودة؛ فإذا استحال الهواء باردا، وعدم الحرارة، صار عنصرا باردا رطبا، وهذا هو الماء.
وقد يعرض في القلب البعيدة العمق مثل ذلك؛ فإنه إذا صادف الحفر موضعا رملا عذبا أو حجريا غير مستحيل الكيفية إلى الكبريتية أو الشبوية أو ما أشبه ذلك من الكيفيات الدالة على الحرارة أو ما أشبه ذلك، أو انتهى إلى طينة عذبة حرة، واشتد برد الموضع الذي انتهى إليه الحفر، استحال فيه ماء.
وقد يعلم ذلك حسا بأن يوضع في القليب، في قراره، طرجهار أو إناء قريب من ذلك الشكل. فإن أصبت الإناء، إذا اجتمع الماء في البئر، غرقا، علمت أن الماء حدث من استحالة الهواء؛ لأنه استحال من باطنه كما استحال من خارجه.
وإن أصبت الإناء طافيا على الماء، فاستدل بذلك على أن الماء توشل ورشح تحته، فأعلاه فوقه، فبقي عليه طافيا، ولم يستحل في باطنه شيء.
وإن أصبت الإناء قد استحال في باطنه شيء من الماء، وهو طاف فوق الماء، والماء في البئر أكثر من سمك الإناء ، فاعلم أنه من العلتين جميعا، أعني أن ماء البئر توشل حسيا واستحال هواه معا؛ لأن توشله أكثر من استحالته.
وقد يمكن أن يوجد حسا على وجه الأرض كيف يستحيل الهواء ماء لشدة البرد، بأن تأخذ زجاجة قنينة أو ما أشبه ذلك، فتحشوها بالثلج حشوا تاما، ثم تستوثق من سد رأسها، ثم تزنه وتعرف وزنها، ثم تضعها في قدح تقرب أرجاؤه من ظاهرها، فإن الهواء يستحيل على ظاهر القنينة كالرشح على القلال، ثم يجتمع منه شيء له قدر في باطن القدح، ثم يوزن الإناء والماء والقدح معا، فيوجد وزنهما زائدا على ما كان قبل.
وقد يظن بعض الأغبياء أنه ترشح الثلج من الزجاج ، والماء الذي هو ألطف من الثلج وأدق مسلكا وأحمى من مس الثلج يعسر نفاذه من الخزف المتخلخل منه الجديد؛ فأما الزجاج فلا حيلة في إظهاره منه أبدا، فكيف ينفذ منه الجسم الغليظ البارد المنحصر؟
فقد بينا المد الذي يعرض بالمواد، والمد الطبيعي الذي ليس بمواد، أعني زيادة جسم المادة زيادة طبيعية، لا بمادة منصبة فيه، بل بالاستحالة.
وهذا طبيعي يكون بحمي الأجسام أولا، فإن كل جسم حمي احتاج إلى مكان أوسع منه، وهذا موجود حسا بآلة تتخذها، توجد ذلك عيانا؛ [و] هو أن تكب قنينة أو ما أشبهها من زجاج كهيئة المساقي التي تتخذ للحمام بقدر ما يترك رأس القنينة على وجه سطح الماء وترصدها؛ فإنه كلما ازداد الهواء حرا نش الماء بما يخرج من الهواء الذي في القنينة، إذا تغير الهواء إلى الحرارة بالإضافة إلى ما كان عليه أولا، أعني عند نصب الآلة، وعظم جسمه لذلك، فاحتاج إلى مكان أوسع، فزحم الماء الذي في الإناء وخرقه خارجا، وكان لخرقه، نفاخات الكنشيش صغار بقدر تغيره إلى الحرارة، فإذا برد الهواء بالإضافة على ما كان عليه في وقت حميه انقبض واحتاج إلى مكان أضيق، فصغر جسمه في الإناء، فاحتاج إلى أن يجذب الماء ليملأ المواضع التي كان فيها قبل حميه الجزء الذي خرج خارقا للماء، فرئي الماء عيانا صاعدا في عنق القنينة جائزا وجه سطح الماء علوا، إذ ليس في العالم فراغ من جسم، فمتى زال جسم عن موضع، جذب إليه الجسم المماس له إلى خلاف جهة حركته الطبيعية، أعني الفراغ من أحد الجسمين لا الفراغ المطلق.
فتبين بما وصفنا أن الأجسام إذا حميت عظمت وإذا بردت صغرت. فإذا تقدم بيان ذلك فلنقل الآن ما العلة المحمية للهواء والماء، وما العلة المبردة فنقول: إن حمي الأرض والماء والهواء يعرض لحركة الأشخاص العالية عليها، أعني الحركة الدورية، فإنا نحس جميع الأشياء إذا تحركت على شيء أحمته، حتى ينقدح من ذلك النار، فإنا نجد الخشب إذا حك على الخشب
6
حركة سريعة، قدح النار ، وكذلك نراه في الحجارة والحديد وغير ذلك الأجسام الرخوة، إلا أن ما ينقدح من النار، في قوته، على قدرة قوة الجسم الفاعل له. فما عظم من ذلك واشتدت الحركة وقوة الجسم الفاعل لذلك ظهر ظهورا بينا، حتى يرى مع ضياء الشمس وضياء النيران، وما صغر وضعفت قوته، خفي ذلك، ولم يظهر مع ضياء الشمس والنيران وظهر في الظلام. فإذا قرعنا جسما ضعيفا في الظلام، ظهرت النار، حتى ربما رئي في الثوب ينفض أو يمسح باليد مسحا بحركة سريعة أو الوبر أو بعض الحيوانات الوبرة فضلا عن الأجسام الصلبة.
وأيضا فإنا نرى الأشياء المتحركة حركة سريعة، سيما حركة الذي يحمى حميا ظاهرا للجسم، ويحمى من الهواء ما قرب منها، كما نرى ذلك في الآلات التي تسمى الخذاريف، أعني الفلك المستديرة ذوات الثقبين المنظوم في ثقبها خيط واحد موصول الطرفين، إذا وضع في الخيط أصبع من إحدى جهتي الفلكة، ومن الجهة الأخرى أصبع من اليد الأخرى ومد، حتى يستغرق المد طول الخيط الموصول الطرفين، ثم حرك حركة تدير الفلكية، ثم جذب باليدين، فإذا انتشر الأقل أرخي بعض الإرخاء، ثم جذب، يفعل به ذلك مرارا متواترة، فإذا أدني من بعض الجلد من غير أن يماسه، حس العضو الذي دنا منه حرارة بينة.
وقد ذكر أرسطوطاليس، فيلسوف اليونانيين، أن نصول السهام، إذا رمي بها في الجو، ذاب الرصاص الملصق بها، الموصول بالنصول.
فأما نحن فإنا ظننا أن الحكاية عنه زالت بعض الزوال؛ لأن ذوب الرصاص الممسك لأجزاء الحديد المولد لها لا يذوب، إذا كان في نار المدة التي للسهم أن يخرق بها الجو حفزا، وليس يمكن أن يحمى الهواء بقدر أشد من [أن] يصير نارا. وأيضا إن السهم بخرقه، للهواء في كل حال، يماسه هواء جديد.
وقد جربنا هذا القول؛ لأنه كان عندنا ممكنا، لكن لنصنع التجربة بهاته المحنة، فإن الشيء إذا كان خبرا عن محسوس، لم يكن نقضه إلا بخبر عن محسوس، ولا تصديقه إلا بخبر عن محسوس.
فعملنا آلة كالسهم، موضع نصلها كرة من قرن، وثقبناها ثقبا خارقة إلى الكرة موازية لطول السهم، وأمكنا بواطن الثقب برصاص رقيق، ثم رميناها في الهواء عن قوس شديدة، فوقعت السهام إلى الأرض، ولا رصاص فيها. وليس بمدفوع أن يكون جرى الهواء في تلك الثقب بالحفز الشديد، فقشر الرصاص، وقلعه من غير إذابة، لأنا وجدنا رائحة ما حول تلك الثقب، رائحة القرن الذي مسته النار.
فتبين بما قلنا - وأشياء كثيرة لا حاجة بنا إلى ذكرها فيما قلنا من الكفاية عن إبانة ما أردنا إبانته - أن الحركة محدثة حرارة، أعني حركة الأشخاص العالية على الجرم الأوسط، أعني الأرض والماء، وأن إحدى المتحركات على الجرم الأوسط، بإحمائه، أعظم الأشخاص المتحركة عليه وأسرعها عليه حركة وأقربها منه، وأحرى المواضع من الجرم الأوسط بشدة الحمي الدائرة منه العظمى، التي هي الدائرة التي يرسمها الجرم المتحرك عليه في سطح واحد.
فأما القمر فأقرب المتحركات على الجرم الأوسط من الجرم الأوسط؛ لأن كرته نهاية الجرم الأقصى، المتحرك حركة مستديرة، من جهة الجرم الأوسط. فأما سرعته في الحركة على الجرم الأوسط، فإنه يدور عليه دورة كاملة، 373 زمانا ودقائق بالحركة الوسطى، أعني بالزمان من هذه الأزمان ما يطلع منه جزء من 360 من دائرة معدل النهار.
فأما الشمس فتدور على الجرم الأوسط دورة كاملة 365 زمانا ونط [] دقيقة وح [] ثوان، بالحركة الوسطى من هذا الزمان، فهي أسرع حركة عليه من حركة القمر. وأما زحل فإنه يتحرك على الجرم الأوسط دورة كاملة 365 زمانا ودقيقتين، بالحركة الوسطى من هذه الأزمان.
فزحل أسرعها حركة إلا أن بعده من الأرض، في بعده الأبعد، على ما أتى به علم المساحة، مثل نصف قطر [الأرض] عشرين ألف مرة.
فأما القمر فإذا كان في بعده الأبعد، كان بعده من الأرض مثل نصف قطر الأرض 660 مرة ودقائق.
فأما الشمس فإذا كانت في بعدها الأبعد، فإن بعدها من الأرض مثل نصف قطر الأرض 1260 مرة.
فأما جسم القمر فقريب من جزء من 40 [جزءا] من الأرض. وأما جسم الشمس فمثل الأرض 166 وثلاثة أثمان. وأما جسم زحل فأقل من 90 مرة.
والشمس
7
أعظمها جميعا قدرا، وحركتها في السرعة قريبة من حركة زحل، وبعدها منه، على قدر عظمها وسرعتها، أقرب، وهي أشد المتحركة على الوسط تأثيرا في الجرم الأوسط.
فأما القمر فلشدة قربه من الأرض وائتلاف نسبته إلى نسبة كرة الماء والأرض، كما أوضحنا في أقاويلنا التأليفية، فإن نسبة موضع كرة القمر من العدد إلى كرة الماء والأرض [واحدة]، إلا أن فعله في الماء أظهر لسيلانه وانقياده للحركة، فأما في الأرض، فإنه وإن كان بينا جدا فيما يظهر من نمو الناشئات منها في الحرث والنسل، عند تفقد ذلك، فإن فعله في الماء أبين كثيرا.
فأما أفعال الشمس فإنها في الهواء والنار أوضح؛ لأن كرة الشمس من كرة النار في نسبة التضاعف لا تتبين. فأما القمر من كرتهما [فنسبته] هي نسبة الزائد جزءا لثلاثين.
فالشمس أشد ائتلافا بكرتيهما من القمر كثيرا، وأفعال القمر في الجرم الأوسط، مع ما يلحقه من فعل الشمس، أزيد؛ فإنه يفعل أفعاله زمان غيبة الشمس، وظهور بدؤه على الجرم الأوسط.
ولذلك ما قال كثير من الحكماء، الذين وصفوا تأثيرات الأشخاص العالية في الجرم الأوسط: إن القمر متصل بالماء والأرض، مشاكل لهما، دال على أحوالهما والكائنة الفاسدة التي في الماء والأرض.
ولذلك أيضا ما قال بعضهم: إن القمر مائي، عند حاجته إلى الدلائل على كون الأمطار . وقال بعضهم: أرضي، عند حاجته إلى الدلائل على كون الحرث والنسل الكائن على الأرض وبالأرض ومن الأرض، إذا كانت أقوالهم في ذلك خبرية مجملة.
فتبين إذن أن حركة القمر الدليل الأول على زيادة الجرم الأوسط السائل ونقصانه، لحركته ومسامتته العلو. وقد يعرض لذلك عارض من المكان، وذلك أنا نجد الأشياء المستحيلة لنتونيته تحمى حما شديدا، ويحمى ما لاقت من ماء وهواء. وقد يحس ذلك حسا في الآبار والبلاليع.
فإن الماء إذا قدم فيها أماع التربة إلى حمئة ولطف أجزاءها، وشدد تلزيجها. فإذا بطنت الحرارة في الأرض، عند ظهور البرد على وجه الأرض، باقتسام الكيفيات على المواضع المتضادة بالوضع، حدث فيها استغراء واستحالة إلى العلكية والدهنية.
فإذا تغير فحمي ظاهر الأرض وبطن البرد، أجمد تلك اللزوجات والدهانة، وحدث النتن، انحصار تلك الدهنية والمائية في جسم تلك الطينة. فإذا عادت عليها حرارة، أحالته إلى شدة الإحماء، فقبلت من الحمي أكثر مما قبلت أولا.
ولا تزال كذلك تزداد في كل دور حتى يكمل عفنها ونتنها وحميها، فيرتفع بخارها عظيما مغالبا للماء الذي عليها، خارقا له، حتى ربما أهلكت تلك الأبخرة بغلظها وشدة نتنها وحميها وضعف القلوب عن تنسمها من داخل تلك الآبار.
فإذا ارتفعت تلك الأبخرة علا الماء الذي فيها عن سمت وجهه قبل علوها، وظهر فيها غليان، يغلب الهواء له، ظاهر للحس، وهذه الحال تسمى الخب، في كل ما عرضت فيه من نقائع المياه، صغرت أو عظمت، فيعرض في لجج البحار، التي قد عرض لطينها هذا العرض، غليان شديد، وموج متلاطم سيال. ويعلو سطح الماء فيها علوا شديدا، مع تلاطم الأمواج وشدة الدوي والنتن، نتنه لانبثاثه في الجو الواسع غير مهلك، كما يهلك نتن المواضع المحصورة في الجو كالآبار والبلاليع.
وهذا العرض مشهور عند من يسلك البحار، كما حددنا الخب، وهو نوع من أنواع ظهور الماء وزيادته.
فإذا قدمنا ما قدمنا فلنقل الآن على المد السنوي، وهو الزيادة في ماء البحار في وقت محدود من السنة، في موضع دون موضع، بحركة الأشخاص العالية، فنقول: إنا قد ذكرنا في غير موضع من أقاويلنا الطبيعية أن الريح الجارية بحركة الأشخاص العالية ريحان هما الهابتان من الأقطاب: إحداهما الهابة من جهة القطب الشمالي، تسمى الشمال، والأخرى الهابة من جهة القطب الجنوبي، [و]تسمى الجنوب.
وهاتان الريحان هما سيلان الهواء إلى خلاف جهة الشمس، أعني أن الشمس إذا كانت في الميل الشمالي، سال الهواء إلى الميل الجنوبي، وإذا كانت في الميل الجنوبي، سال الهواء إلى الميل الشمالي؛ للعلل التي قدمنا وصفها في أقاويلنا التي ذكرنا فيها الرياح، وهي أن الشمس إذا سامتت جهة من الأرض أحمت ذلك الجو حميا شديدا، فاتسع، واحتاج إلى مكان أوسع، وانقبضت الجهة من الجو المضاد لجهة الشمس، لشدة بردها ببعد الشمس عنها، فاحتاج إلى مكان أضيق، فسال الهواء المتسع إلى جهة الهواء المنقبض المحتاج إلى مكان أضيق، لأنه لا فراغ مطلقا
8
ولا نقصان مطلقا للجرم.
فإذا كانت الشمس في الجهة الشمالية سال الهواء إلى الجهة الجنوبية، فيسيل ماء البحر بحركة [الهواء] إلى جهة البحر الجنوبية؛ فلذلك تكون البحار في جهة الجنوب في الصيف بهبوب الرياح طامية عالية، فيسمى ذلك مدا سنويا، وتقل المياه في جهة البحر الشمالية لسيلانه إلى الجنوب، فيسمى ذلك جزرا سنويا.
فإذا صارت الشمس في جهة الجنوب سال الهواء بالجنوب إلى جهة الشمال للعلة التي قدمنا ذكرها، فسالت جهة ماء البحر الجنوبية إلى جهة الشمال، فطمت الجهة الشمالية وعلا الماء فيها، وسمي ذلك مدا سنويا، وقلت المياه في جهة البحر الجنوبية ونقصت، فسمي ذلك جزرا سنويا.
فإذا وافق بعض الكواكب السيارة الشمس، وهي في أحد البيوت الجنوبية أو الشمالية، واشتد حموها، واشتد لذلك سيلان الهواء، فكان المد السنوي في خلاف جهتها أشد وأكبر، وكان الجزر أيضا أشد وأكبر.
فأما المد الشهري فإنه يعرض في كل شهر، في الاجتماع والامتلاء، بحالين مختلفتين. أما الاجتماع فإنه لمقارنة الشمس يزيد في المد السنوي، ويضعف عن زيادة مثل ذلك [في المد الشهري] لاضمحلال نوره وانعكاسه إلى العلو؛ أعني إلى جهة الشمس.
فأما في الامتلاء فيحمى الجو حميا شديدا، وتظهر زيادته في المد الشهري ظهورا بينا. وكذلك يعرض إذا ربع الشمس من الشمس من الجهتين جميعا؛ أعني من يمين الشمس ويسارها فإنه في ذلك الأوان ينقص بالدنو وشدة الهبوط إلى الأرض. فإن وافق في ذلك الأوان أن يكون في فلك حضيض تدويره،؛ كان المد الشهري أزيد، وإن اتفق أن يكون في ذروة فلك تدويره، كان أقل من ذلك.
فأما المواضع من الفلك الفاصلة أبعاد ما بين الاجتماع والتربيع [الأول] وما بين التربيع [الأول] والمقابلة، وما بين المقابلة والتربيع الثاني، وما بين التربيع الثاني والاجتماع، بنصفين نصفين، فإنه المواضع التي إذا حلها القمر، كان نقص الماء وجزره الشهري أشد ما يكون وأكبره، إلا أن الفاصل ما بين التربيع الأول والامتلاء، و[الامتلاء] والتربيع الثاني، بنصفين نصفين، أفضل جزرا من الفصلين الآخرين، أعني المتوسطين بين الاجتماع والتربيع الأول، والتربيع الثاني والاجتماع؛ لأن القمر في الفصلين اللذين يليان الامتلاء أكثر ضوءا منه في الفصلين الآخرين اللذين يليان الاجتماع.
وقد يغير ذلك مشاهدة الزهرة وعطارد للقمر أو غيبتهما عنه ومخالفتهما له في الجهة، لمشاكلتهما للجرم الأوسط، أعني الأرض والماء، فإنهما ظاهرا الأثر فيهما، لمثل العلة التي قدمنا من مشاكلة القمر للأرض. فإن العدد الأول التأليفي المنسوب إلى كرتيهما وهي الرابعة من الأكر من العدد المنسوب إلى كرة الأرض والماء، وهي الكرة الأولى من السفل من نسبة المضاعف الاثنيني، كما بينا ذلك في كتابنا «في نضد العالم ومشاكلة أكره».
فنقول إن فلك معدل النهار وفلك البروج دائرتان عظيمتان، تقاطعان على أنصافهما. وميل دائرة فلك البروج على دائرة معدل النهار في جهة الشمال مساو ميل دائرة فلك البروج عن دائرة معدل النهار في جهة الجنوب. فالمنقلبان اللذان هما نهاية الميل في الجهتين جميعا بالطبع متفقان، وأما بالعرض فمختلفان، أعني أنهما جميعا منقلبان، إلا أن أحدهما تقبل منه [الشمس] من الشمال إلى معدل النهار، والآخر تقبل منه من الجنوب إلى معدل النهار.
وكذلك الاعتدالان بالطبع واحد، إلا أن أحدهما تخرج منه المتحركات السماوية إلى جهة الشمال، والآخر تخرج [منه] إلى جهة الجنوب.
وكذلك الحر المتوسط بين المنقلب والاعتدال متساو بالطبع ونظيره، متضادان بالعرض؛ لأن أحدهما يخرج منه إلى ضد الجهة التي يخرج من الآخر إليها.
فإذ كل فلكي ونظيره بالطبع واحد، فينبغي أن يفعل فعلا واحدا فيما نسبته إليه متساوية. فأما دائرة معدل النهار والدائرة الموازية لها، فهي واحدة بالطبع، وليس يعرض لها ما يعرض للمائلة؛ فينبغي أن يكون فعلها فيما فعلت فيه من جهتها فعلا واحدا. وأما من جهة المنفعل بها [فيكون الفعل] على قدر المواضع الموضوعة
9
للانفعال بها.
وأرض كرية، فنهايات المواضع المتباعدة فيها جدا، حتى تعرض فيها نهايات الأفعال ومباديها، أربعة مواضع، وهي: سمت الرأس من فوق الأرض، وهو الذي يسميه القدماء من المنجمين وتد السماء، ومقابل ذلك من تحت الأرض، وهو الذي يسميه القدماء من المنجمين وتد الأرض، وأفق المشرق والمغرب، وهو الذي يسميه القدماء من المنجمين وتد [المشرق ووتد] المغرب.
وأما الأفعال التي تكون في الانقلابات والاعتدالات فهي المنسوبة للشمس والشهرية للقمر.
ولكل كوكب من [الكواكب] سنته؛ إذ لكل كوكب سنة من دوره وشهر من مقارنته الشمس.
فأما الانفعالات التي تكون في دائرة معدل النهار والدائرة الموازية لها في الأوتاد الأربعة [ف] هي على الانفعالات اليومية؛ لأن الدور في الدور في الدوائر المتوازيات يتم في يوم وليلة.
فإذا كان لا تضاد لكل دائرة من الدوائر المتوازية، [لا] بالطبع ولا بالعرض، فليس يختلف الفعل فيها من جهة ما حل فيها من الأشخاص العالية.
فإذن أيضا يختلف الفعل فيها من جهة الموضوع لقبول الانفعال منها، أعني الأرض وما عليها من الكائنات الفاسدة؛ وإنما يختلف الموضوع للانفعال بوضعه من الفاعل؛ إذ هو أيضا بالطبع أحد، وإنما يختلف بعرض، أعني أن كل موضع من الأرض هو بالطبع واحد، إلا أنه يعرض له أن يكون مشرقا لموضع ومغربا لآخر، ومسامتا وسط السماء لآخر، ومسامتا وتد الأرض لآخر.
فإذن للمنفعل أن يقبل من الفاعل فيه، إذا كان في مشرقه ضد ما يقبل في وسط سمائه، وإذا كان في مغربه ضد ما يقبل منه، إذا كان في وسط سمائه، وإذا كان في وتد أرضه ضد ما يقبل منه، إذا كان في مغربه، وإذا عاد إلى مشرقه ضد ما يقبل، إذا كان في وتد أرضه، وإذا كان في مشرقه أو مغربه، قبل منه ضد ما يقبل منه، إذا كان في وسط سمائه أو وتد أرضه.
فإذا كان في مشرقه أو مغربه قبل منه قبولا واحدا؛ فلذلك ما تعرض الأحداث في كل موضع من الأرض، في جوه ومائه وأرضه، إذا حلت الأشخاص العالية الفاعلة في أحد الأوتاد الأربعة، مضادة ما كانت عليه قبل ذلك، في الأكثر أعني ما لم يكن بعض الأشخاص العالية المشتركة في الفعل مناقضا لبعض.
فأما إذا كان الواحد منها منفردا وأقواها فعلا، فإنه يفعل، متى صار في أحد الأوتاد، ضد ما فعل في الوتد الذي قبله. وإن كان أقوى الفاعلة فيه وكان غيره مناقضا له، رئي فعله أنقص بقدر قوة مناقضه.
وإن كان المشارك له في الفعل أضعف منه، وهو موافق له في الفعل غير مناقض له، رئي فعله أقوى.
والمد والجزر اليومي، كما حددنا، أكبر الفعل فيه للقمر. فإذا كان القمر يتحرك حركة اليوم والليلة، التي هي حركة الدوائر المتوازية، ففعله واحد من قبله. وليس يمكن أن يكون المد أبدا لحركة القمر اليومية، فيكون لا نهاية له، وينطبق وجه الأرض كله بالماء، بل يصير مواضع العناصر كلها وما فوقها، وتبطل العناصر وما فوقها.
وليس يمكن أن تستحيل العناصر بكليتها إلى عنصر واحد. ولا يمكن أن يستحيل الذي لا ضد له مما فوق العناصر؛ فإذن يكون ما لا يكون، إن كان مد بلا نهاية، وتكون أجرام العالم كلها ليس إلا ماء فقط.
فإذن باضطرار أن يكون مدا وجزر، لتكون الأشياء ثوابت على سرح واحد ونظم واحد وتدبير واحد، أيام مدتها التي قسم لها مبدع الكل، تبارك وتعالى. فما أعجب ما هيأت حكمته الجليلة اللطيفة في سبلها، من التقدير في الغرض ، من جهة المنفعل؛ إذ كان الفاعل واحدا غير متبدل. فإنها صيرت هذه المواضع الأربعة، المسماة أوتاد العالم، لكل موضع من الأرض وما عليها من الكائنة الفاسدة، أسبابا لقبول اختلاف الفعل من الفاعلة الحالة لها.
فإن القمر إذا صار في مشرق موضع كان أول وقوع ضوئه عليه، فابتدأ في الحمي وقبول الزيادة في الأجزاء، إلا أن [ذلك] أظهر ما يكون في الماء، فكلما علا، كان حمي ذلك الموضع له أشد، حتى يصير في وتد سمائه، فهو نهاية قبول ذلك [الموضع] للحرارة، لحركة القمر، ونهاية مده؛ لأن الأجرام، كلما حميت احتاجت إلى مكان أوسع، كما قلنا متقدما.
فإذا انحدر عن ذلك الموضع الذي هو وسط السماء نقص حر الموضع من الأرض
10
المنفعل به، بقدر ما انحط، وبردت أجرام ذلك الموضع، فاحتاجت إلى مكان أضيق، فجزر الماء، أعني نقص، ثم لم يزل متزايدا في الجزر.
ولذلك ما قلنا إن حلوله في كل وتد يضاد الوتد الذي قبله، لأن النهاية فيه في البعد في الدور، أعني [نهاية] التصعد ونهاية الهبوط.
فإذن وسط السماء يضاد المشرق في الفعل، والمغرب يضاد وسط السماء في الفعل، ووسط السماء يضاد المغرب في الفعل، والمشرق يضاد وتد الأرض في الفعل.
فإذن المشرق والمغرب يضاد كل واحد منهما وسط السماء، ووتد الأرض ووسط السماء يضاد كل واحد منهما المشرق والمغرب.
فإذن عندما ابتدأ المد في الموضع، حين صار القمر في المشرق من ذلك الموضع، ابتدأ في مقابلته التي تسمى وتد الأرض.
وحين ابتدأ الجزر في الموضع، حين زال عن مسامتته الثمر، ابتدأ الجزر في مقابلة المسمى [سمت] وتد الأرض.
وكذلك إذا صار في مغربه، ابتدأ المد في الموضع المسمى وتد الأرض؛ فابتدأ المد أيضا في مقابلة الذي هو الموضع الذي فرضنا أولا.
وحين انتهى القمر إلى وتد الأرض، كانت نهاية المد في الموضع المقابل له الذي فرضنا، وهو سمت وسط السماء.
وحين زال القمر عن سمت وتد الأرض ابتدأ الجزر في الموضع المسمى وتد الأرض وفي الموضع المقابل له الذي فرضنا، الذي هو سمت وتد السماء.
وحين صار القمر إلى مشرق الموضع الذي فرضنا ثم صار الموضع المسمى وتد الأرض ومقابله الذي فرضنا الذي هو سمت وتد السماء، وحين زال القمر عن مشرق [الموضع] الذي فرضنا، عاد المد مبتدئا في الموضع الذي فرضنا ومقابله، للعلل التي فرضنا ذكرها، حين ذكرنا الأوتاد المتضادة الأفعال فيها، مع أن المد الذي يكون في نهار القمر أكبر وأغزر من المد الذي يكون في ليله، والجزر الذي يكون في نهار القمر أضعف من الجزر الكائن في ليله من جهة القمر.
فصيرت حكم الباري، جل ثناؤه، ولطف سبلها وجلال قوتها المواضع المتقابلة متفقة، لتساوي الأفعال فيها؛ فإن المطالع وسعة المشرق فيها واحدة أبدا، [و] كذلك كل ما يعرض فيها.
فأما التي ليست متقابلة بالوضع، كأوساط السماء والآفاق فمختلفة الأفعال في جلائل أمورها ولطائفها، فإن أقدار مطالع البروج فيها مختلفة، وسعة الميول، لاختلاف الأقطاب [و] الآفاق، [فإن] القسي المحدودة لكل واحدة من الدوائر المتوازية ومعدل النهار من فلك البروج، في دوائر الآفاق ودوائر أنصاف النهار مختلفة، لاختلاف وضع الآفاق.
فكل موضع من الأرض يظهر فيه المد والجزر اليومي، فإنما يظهر حين يبتدئ طلوع القمر [عليه]، ويبتدئ جزره حين يبتدئ زوال القمر عن سمت رءوس أهله، ويتم الجزر حين يصير القمر في مغربه، ثم يبتدئ المد [فيه] حين يزول القمر عن مغربه ذاهبا إلى وتد الأرض، ويتم حين يسامت وتد أرضه، ثم يبتدئ الجزر فيه، حين يزول القمر عن وتد أرضه، ذاهبا إلى مشرقه، ويتم، إذا صار في نقطة مشرقه، كما قدمنا.
وإنما صار المد يظهر في مثل هذه الأنهار الصابة فضول الأمطار وذوب الثلج والعيون والبزوز إلى البحر في أغبابه، كغب فارس وما أشبهه؛ لأن هذه الأغباب تتشعب من بحر الحبشة؛
11
وطوله، على ما ذكر من عني بمساحة الأرض وتصويرها على مواضعها من العروض الفلكية والأطوال الفلكية، 6000 ميل وعرضه 2700 ميل، وهو تحت معدل النهار، آخذا من المشرق إلى جهة المغرب.
فدور الأشخاص العالية السيارة مع ما سامت من موضعه من الثابتة، إذا كانت السيارة في القدر من الميل على ما لا تجاوزه، فإذا خرجت عنه، كانت منه قريبة فاعلة من أوله إلى آخره في كل يوم وليلة، وهو مع ذلك في الموضع القابل للحمي، وقليل ما يعرض فيه من الزيادة، ويكون في هذه الأنهار التي يظهر فيها المد بينا كبيرا.
فأما البحر
12
الفاصل بين لوبية وأرفى، أعني بين مصر وما كان متصلا بها إلى المغرب وبين بلاد الروم وما اتصل بها إلى المغرب، فإنه صغير، إذا أضيف إلى بحر الحبشة؛ فإن الذين عنوا بمساحة الأرض إنما ذكروا أن طوله من صور وصيدا اللتين بالشام إلى أعلام هرقل التي بالأندلس ، وهي آخر عمارة الأرض المتصلة
13
بعمارتنا من جهة مغربنا، 6000 ميل، وأعرض موضع فيه 400 ميل، وهو خارج عن مدار الكواكب، فليس [ما] يعرض له من الحمي، كما يعرض لبحر الحبشة؛ فالذي يعرض له من المد قليل خفي بالإضافة إلى ما يعرض لبحر الحبشة، والذي يظهر منه في الأنهار الصواب فيه أيضا بقدر ما يستحق ذلك القدر، وإن كان فيها أبين منه في لجته.
فهذه، كان الله لك مسددا، العلل الدالة على أنواع المد والجزر، التي حددنا. وهي مأخوذة من أقاويل شتى غير واحد؛ لأن كل صناعة ذات أوائل، وأوائلها الموضحات لها خاصة بصناعة أخرى، وليس إيضاح الأشياء جميعا من جهة واحدة ولا بمعنى واحد من التثبيت.
فهذا فيما سألت كاف، كفاك الله المهم من جميع أمورك وحاطك بالصنع في جميع دهرك.
تمت الرسالة، والحمد لله رب العالمين، والصلاة على رسوله محمد وآله أجمعين.
14
الفصل الثاني
المد والجزر في كتاب المدخل الكبير في علم أحكام النجوم لأبي معشر الفلكي
ناقش أبو معشر البلخي ظاهرة المد والجزر في البحار بشكل علمي موسع ومفصل جدا، وقد أوردها بشكل متتابع في خمسة فصول (المقالة الثالثة: الفصول 4، 5، 6، 7، 8)، وقد وجدنا أن نضع هذه الفصول في هذا الباب استكمالا للفائدة، وكونها مرتبطة بموضوع الكتاب المخصص للنصوص والرسائل العربية التراثية المتعلقة بظاهرة المد والجزر.
بلغ تأثير أبو معشر البلخي أن تم رسمه وتصويره وكأنه جزء من الثقافة الأوربية. هنا صورة تخيلية له وهو ممسك بذات الحلق، بريشة هرمان توم حوالي سنة 1570م. (مصدر الصورة:
https://inventions.t4edu.com/inventions .) (1) المبحث الأول: التعريف بالمؤلف
العالم الفلكي الشهير جعفر بن محمد بن عمر البلخي، أبو معشر (توفي 272ه/886م). أحد أبرز علماء الفلك المسلمين الذين ترعرعوا في أحضان الحضارة العربية الإسلامية أيام العباسيين. صب اهتمامه على علوم الحديث في بداية أمره، ثم تحول إلى الفلك في سن السابعة والأربعين.
وقد قال عنه القفطي: «عالم أهل الإسلام بأحكام النجوم. وكان أعلم الناس بتاريخ الفرس وأخبار سائر الأمم. وعمر طويلا، جاوز المائة.»
1
ويذكر ابن النديم في الفهرست أن أبا معشر كان ينتقد الكندي لتوجهه نحو علوم الفلسفة ويشهر به أمام الناس، فأرسل له الكندي من يشرح له هذه العلوم ويفهمه إياها. ولما عرف حقيقته فتن بها وتوجه إلى علم الفلك قراءة وبحثا ودراسة.
2 (2) المبحث الثاني: أعماله
أعماله في علم الفلك ليست موجودة، ولكن لا يزال من الممكن الحصول على المعلومات من الملخصات الموجودة في أعمال علماء الفلك اللاحقين أو من أعمال التنجيم. نورد فيما يأتي قائمة أعماله كما ذكرها ابن النديم:
3 (1)
كتاب «المدخل الكبير»: وهو عبارة عن مقدمة في علم التنجيم، تلقى العديد من الترجمات إلى اللاتينية واليونانية ابتداء من القرن الحادي عشر. كان لها تأثير كبير على الفلاسفة الغربيين، مثل ألبرت الكبير. وهو الكتاب الذي وجدنا فيه نظريته عن المد والجزر. (2)
كتاب «المواليد الكبير»: لم يتمه والذي خرج منه كتاب هيئة الفلك واختلاف طلوعه خمسة فصول. (3)
كتاب «تحاويل سني العالم» أو «النكت»: ويتعلق النص بطبيعة السنة (أو الشهر أو اليوم)، حسب تحديد الأبراج، وكان يقصد به أن يكون دليلا لتعليم وتدريب المنجمين. ترجم إلى اللغة اللاتينية. (4)
كتاب «الزيج الكبير»: ويتضمن حركات النجوم، أي مجموعة الجداول الفلكية، قيل به: هو كثير الفائدة، جامع لأكثر علم الفلك بالقول المطلق المجرد من البرهان. (5)
كتاب «الألوف في بيوت العبادات»: يتضمن وصفا لما أنشئ في العالم من هياكل ومعابد لمختلف الديانات على تعاقب السنين. (6)
كتاب «الأنواء»: وهو كتاب عن الأحوال الجوية. ترجم إلى اللاتينية، والمنشور في البندقية عام 913ه/1507م وفي باريس عام 947ه/1540م. (7)
كتاب «الاختيارات على منازل القمر»: وخصص هذا الكتاب لدراسة النجوم، ويوجد منه نسخة في مكتبة لندن. (8)
كتاب «زيج القرانات والاحترافات»: وهو يضم سجلا كبيرا لاقترانات كوكبي زحل والمشتري منذ أيام «الطوفان». (9)
كتاب «اقتران النحسين في برج السرطان»: وفيه تناول إحداثيات برج «السرطان» مع كوكبي زحل والمريخ. (10) «مذكرات من علم النجوم»: وهي إجابات عن أسئلة أبي سعيد بن شاذان، توجد نسخه في كمبردج. (11)
كتاب «السهام»: يعني سهام المأكولات والملبوسات والمشمومات والرخص والغلاء والحكم على ذلك. (12)
مجموع كتاب «إثبات علم النجوم»: وهو كتاب جمعه وما أتمه أراد أن يسميه الكامل أو المسائل. (13)
كتاب «الأوقات على اثني عشرية الكواكب»: وتحدث فيه عن الأبراج الاثني عشر. (14)
كتاب «الأمطار والرياح وتغير الأهوية»: وفيه فسر البلخي ظواهر طبيعية. (15)
كتاب «الجمهرة»: وهو كتاب جمع فيه أقاويل الناس في المواليد. (16)
كتاب «الطبائع الكبير»: وهو خمسة أجزاء، كذا جزأها أبو معشر. (17)
كتاب «المواليد الصغير»: وهو مقالتان وثلاثة عشر فصلا. (18)
كتاب «المدخل الصغير»: وهو مختصر «المدخل الكبير». (19)
كتاب «تحاويل سني المواليد»: وهو ثماني مقالات. (20)
كتاب «القرانات»: وقد كتب به إلى بن البازيار. (21)
كتاب «زيج الهزارات»: وهو نيف وستون بابا. (22)
كتاب «السهمين وأعمار الملوك والدول». (23)
كتاب «الزائرجات والانتهاءات والممرات». (24)
كتاب «الأصول»: وقد ادعاه أبو العنبس. (25)
كتاب «الميل في تحويل سني المواليد». (26)
كتاب «الصور والدرج والحكم عليها». (27)
كتاب «تفسير المنامات من النجوم». (28)
كتاب «طبائع البلدان وتولد الرياح». (29)
كتاب «القواطع على الهيلاجات». (30)
كتاب «الصور والحكم عليها». (31)
كتاب «المزاجات». (32)
كتاب «المسائل». (33)
كتاب «الأوقات». (34)
كتاب «الكدخداة». (35)
كتاب «الهيلاج». (3) المبحث الثالث: التعريف بالكتاب
يعد كتاب «المدخل الكبير» أهم أعمال أبو معشر قام بتأليفه سنة 1161 من سني ذي القرنين، وهي توافق سنة (134-235ه/849م).
4
ويعتبر أكثرها ورودا في استشهادات علماء الغرب. فهو يتألف من ثماني مقالات وكل مقالة مكونة من عدة فصول.
يحوي على نظرية عن طبيعة تأثير القمر على المد والجزر ، وقد كان المرجع الرئيس حول هذا الموضوع في القرون الوسطى. كما أنه يعتبر مقدمة في علم التنجيم؛ حيث فسر أبو معشر في هذا الكتاب أغلب القواعد والأسس التي تقوم عليها أحكام النجوم.
ومع أن نظريته في تفسير المد والجزر قريبة ودقيقة علميا من معارفنا الحالية؛ إلا أن الأبحاث والدراسات أثبتت أن هناك الكثير من التفاسير والأسس التي وضعها أبو معشر في هذا الكتاب في ميدان التنجيم تعتبر خطأ.
عرف أبو معشر باللاتينية بعدة أسماء وهي:
Albumasar
و
Albusar
و
Albuxa
وقد أثرت كتيباته العملية لتدريب المنجمين تأثيرا عميقا على التاريخ الفكري الإسلامي، ومن خلال الترجمات، التي تمت في أوروبا الغربية. وقد ترجم كتاب أبو معشر (كتاب «المدخل الكبير») الذي ألفه عام 848م لأول مرة إلى اللاتينية من قبل المترجم يوحنا الإشبيلي في عام 1133م، وانتشر تحت عنوان «مقدمة في علم الفلك»، وترجمه هيرمان الكارينثي
Hermann of Carinthia
مرة أخرى بشكل مختصر وأقل أدبية تحت عنوان (الاتصالات الكبير
De magnis coniunctionibus ) في عام 1140م.
5
وقد طبعت ترجمة هيرمان لأول مرة بواسطة إرهارد راتدولت
Erhard Ratdolt of
وذلك في أوجسبورج
Augsburg
بألمانيا في 1489م، كما تمت طباعتها مرة أخرى في البندقية في عامي 1506 و1515.
وقد جادل الباحث ر. ليماي
R. Lemay
في عام 1962م أن كتابات أبي معشر كانت على الأرجح المصدر الأصلي الأكثر أهمية لإصلاح أرسطو لعلماء أوروبا في العصور الوسطى قبل منتصف القرن الثاني عشر. طبعت ترجمة هيرمان الدالمسياتي لأول مرة بين عامي 1488م و1489م، وطبعت مرة أخرى في مدينة البندقية في عام 1506 وعام 1515.
6
أما عن الطبعات الأجنبية الحديثة لكتاب المدخل:
7
De magnis coniunctionibus, ed. K. Yamamoto, Ch. Burnett, Leiden, 2000, 2 vols. (Arabic & Latin text).
De revolutionibus nativitatum, ed. D. Pingree, Leipzig, 1968 (Greek text).
Liber florum ed. James Herschel Holden in Five Medieval Astrologers (Tempe, Az.: A.F.A., Inc., 2008): 13-66.
Introductorium maius, ed. R. Lemay, Napoli, 1995-1996, 9 vols. (Arabic text & two Latin translations).
Ysagoga minor, ed. Ch. Burnett, K. Yamamoto, M. Yano, Leiden-New York, 1994 (Arabic & Latin text). (4) المبحث الرابع: توثيق النسخة المعتمدة في التحقيق وأوصافها
عنوان المخطوط: «المدخل الكبير في علم أحكام النجوم».
اسم المكتبة: المكتبة الوطنية بباريس.
رقم المخطوط:
Arabe 5902 .
اسم الناسخ: علي المطر.
تاريخ نسخ المخطوط: صفر 325ه/كانون الثاني 936م.
عدد الورقات: 131 ورقة.
المسطرة:19 سطرا.
حالة الورق: جيدة.
ملاحظات: يوجد في المخطوطة تلفيق وخلط بين الصفحات، واعتبارا من ص38ظ نجد أنها مكتوبة بخط مختلف، والمعلومات موجودة في صفحة مختلفة.
الصفحة الأولى من كتاب المدخل الكبير في علم أحكام النجوم من مخطوطة المكتبة الوطنية بباريس. (4-1) الفصل الرابع في خاصة دلالة القمر على المد والجزر
قد ذكرنا فيما تقدم من دلالة الشمس والكواكب على الأشياء التي تحدث في هذا العالم، فإنه لا يكون في هذا العالم تركيب طبيعة من الطبائع إلا بعلة الشمس ومشاركة الكواكب لها بإذن الله.
ونحن نريد الآن أن نذكر خاصة دلالة القمر على المد والجزر وغيرهما من الأشياء، وذلك أن الفيلسوف قال: إن عامة دلالة الشمس على النار والهواء، وعامة دلالة القمر على الماء والأرض، فإنما صار الدلالة للشمس والقمر في هذا العالم أقوى وأظهر من دلالة سائر الكواكب، فإن بعضها وإن كان فيه كبر فإنه بعيد عنا، وبعضها وإن كان قريبا منا فإنه صغير القدر، والقمر أقرب إلينا منه. والعلة الثانية أن الكواكب نيرة مضيئة لا شعاع لها ، والذي يظهر من فعلها إنما هو بقوة حركاتها وضوئها. فأما النيران فإن لهما شعاعا قوي الفعل في هذا العالم، فهما يفعلان فينا بحركاتهما وشعاعهما، وهما يؤديان طبائع الكواكب إلى هذا العالم في الأركان الأربعة. وقد زعم بقراط في كتاب التسابيع أن القمر هو المتوسط بين الأجرام السماوية والأرضية، وهو المؤدي من الأجرام العلوية إلى الأجرام الأرضية، وهو المغير للهواء. فلما تبين العلتان صارت حركة النيرين أظهر في هذا العالم من قوة حركة غيرهما من الكواكب.
الصفحة الأخيرة من كتاب المدخل الكبير في علم أحكام النجوم من مخطوطة المكتبة الوطنية بباريس.
فأما الشمس فقد ذكرنا قوتها في اعتدال الهواء والتركيبات وسائر الأشياء، وأما القمر فإن أقوى دلالته على المياه والبحار والأرضين وحال الحيوانات وتغيير الأبدان والصحة والأمراض، وأيام المرضى التي هي في البحار والفاكهة والرياحين وأشياء سنذكرها.
فأما دلالته على البحار فكما ترى المد والجزر متصلين بالقمر؛ لأن القمر هو علة المد والجزر الذي يكون في البحار، وقد ذكر القوم الذين ذكروا أي الأشياء الطبيعية، إن من البحار ما يزيد من حين يفارق القمر والشمس إلى نصف الشهر الذي هو الامتلاء، ثم ينقص من بعد الامتلاء عند نقصان القمر إلى آخر الشهر الذي هو المحاق، ومنها ما يمد ويجزر في كل يوم وليلة مع طلوع القمر وبلوغه إلى وسط السماء ومغيبه، وذلك موجود في بحر فارس وبحر الهند كما تذهب إلى الصين وبحر الصين وفي كل ما بين هذه المواضع، وفي الذي بين قسطنطينية وإفرنجة وفي جزائره.
8
فأما أوقات المد والجزر في كل يوم وليلة، فإذا بلغ القمر أفقا من آفاق البروج، أعني مشرقا من مشارق البحر وعلاه تحرك بطبعه، ولقربه من ماء البحر فابتدأ الماء معتدلا مع القمر رافدا، فلا يزال كذلك إلى أن يصير القمر إلى وسط سماء ذلك الموضع، فعند ذلك ينتهي المد منتهاه، فإذا انحط القمر من وسط سمائه جزر الماء ورجع إلى البحر، فلا يزال كذلك راجعا إلى أن يبلغ مغربه، فعند ذلك ينتهي الجزر منتهاه ، فإذا زال القمر من مغرب ذلك الموضع ابتدأ المد هنا في المرة الثانية فلا يزال مقبلا زائدا إلى أن يصير القمر إلى وتد الأرض
9
فحينئذ ينتهي المد منتهاه في المرة الثانية من ذلك الموضع، ثم يبتدئ في الجزر والرجوع في المرة الثانية، فلا يزال يجزر ويرجع إلى البحر حتى يبلغ القمر أفق مشرق ذلك الموضع، فيعود المد إلى مثل ما كان عليه أولا، فيكون في كل يوم وليلة ومقدار مسير القمر فيها في كل مواضع البحر مدان وجزران؛ لأن القمر إذا كان في يوم من الأيام في درج من درج الفلك ثم يطلع على موضع البحر، فإذا سارت تلك الدرجة إلى أفق ذلك الموضع بعد ذلك بيوم فإن القمر يكون قد زال عن تلك الدرجة بمقدار مسيره المعدل في اليوم والليلة فتطلع عليهم بعد طلوع تلك الدرجة بمقدار سيره المعدل في اليوم والليلة؛ ولأن الأرض مستديرة والبحر محيط بها على استدارتها والقمر تطلع عليها كلها في مقدار اليوم والليلة، وفي مقدار سيره فيهما فإذن كلما تحرك صار موضع القمر لموضع من مواضع البحر، وصار ذلك الموضع أيضا وسط سماء لموضع آخر ومقربا لموضع آخر، ووتد أرض لموضع آخر ، وفيما بين كل واحد من هذه الأوتاد على حالة أخرى ببعض الكواكب فيكون إذن في وقت واحد في بعض المواضع ابتداء المد وفي غيره من المواضع ابتداء الجزر وفي مواضع أخر حالة أخرى للمد والجزر.
فإذا ابتدأ المد فإنه ليست تكون حاله عند جميع أصحاب البحر والشطوط والجزائر وأرحل البحر
10
حالا واحدة؛ لأن القوم الذين يكونون في لجة البحر
11
يجدون في وقت ابتداء المد للماء حركة من أسفل البحر إلى أعلاه، وبروز له انتفاخ ويهيج فيه رياح عاصفة وأمواج، فيعلمون بذلك أنه ابتدأ المد. فإن كان وقت الجزر نقصت تلك الرياح والأمواج وذهب الانتفاخ من الماء فيعلمون أنه قد جزر الماء، فأما أصحاب الشطوط والسواحل والجزائر وأرحل البحار من يكون بالقرب منها فإنهم يبدون في وقت المد للماء حركة وجرية من أسفله إلى أعلاه، ثم يجري بعد ذلك الماء الذي يكون على وجه هذه المواضع وأعلاها وتشتد جرية الماء من البحر إليهم وينتفخ ويرتفع فيعلو على أرضهم ولا يزال كذلك إلى أن يجزر فيرجع الماء عند ذلك إلى البحر ويخرج من تلك الأرحل والجزائر وينقص. وإنما يتبين يزدد الماء وجريته ومجيئه وذهابه في الشطوط وأرحل البحار، فأما في لجة البحر فإنه لا يوجد ذلك.
12
فأما الرياح التي تكون في الماء وتخرج منه ابتداء المد فإنما يكون ذلك المواضع التي يكون فيها ابتداء المد والمواضع القريبة منها، فأما في الشطوط وأرحل البحار والمواضع البائنة من لجة البحر فإنه قل ما يكون فيه هبوب الرياح وليس الوقت الذي يبتدئ فيه أول المد والجزر لأهل الشطوط والسواحل وأرحل البحار هو وقت ابتداء المد والجزر الذي يكون في البحر، بل يختلف اختلافا كثيرا حتى يظن كثير من الناس لما يرون من كثرة اختلاف ابتدائه في المواضع المختلفة أن القمر ليس بعلة للمد والجزر؛ لأن ابتداء قوة المد في البحار إنما يكون في موضع عميق واسع كثير المياه غليظها، ويكون الغالب على أرضه الصلابة أو كبير الجبال ويكون موضع القمر أفقا لهم وبقرب تلك المواضع من مسامتة القمر وطريقه، فإذا ابتدأ المد في هذه المواضع في وقت من الأوقات فإنه يتصل بسائر مياه البحر، إلا أنه لا يصير إلى الشطوط وأرحل البحار إلا وقد مضى من ابتداء المد في البحر في المواضع التي ذكرنا زمان من الأزمنة على قدر وبعد الشطوط وأرحل البحار من تلك المواضع؛ لأن الشطوط والجزائر وأرحل البحار التي تقرب من المواضع التي يكون فيها ابتدأ قوة المد يبين فيها المد قبل أن يبين في المواضع التي تبتعد عنها.
فأما إذا بعدت شطوط البحر وأرحله ومغايصه من المواضع التي يكون فيها ابتداء المد، وإنما يبلغ إليه المد عند قرب انتهائه في البحر، وكذلك الجزر فيتهيأ أن يكون المد في بعض الجزائر والشطوط البعيدة من المواضع التي يبتدئ فيها المد في وقت ابتداء المد، وإنما يكون ذلك لبعد تلك المواضع من المواضع التي يكون فيها ابتداء قوة المد والجزر.
13 (4-2) الفصل الخامس في علة المد والجزر
قد أكثر المتقدمون في علة المد والجزر واختلفوا في ذلك، فندع الآن ذكر اختلافهم مهما [كان]؛ إذ لا منفعة فيه، وأذكر ما يوافق قول الفلاسفة فيهما. فأقول إن المد والجزر يكونان باجتماع ثلاثة أشياء:
الأول:
حال مكان الماء
والثاني:
حال الماء
والثالث:
تحريك القمر للماء
فأما الأول فهو أن يجتمع الماء في مواضع عميقة كثيرة عريضة طويلة يكون مسيره زمان من الأزمنة ويكون فيها (أ) جبال في مواضع كثيرة مختلفة ويكون الغالب على مواضع كثيرة من أرضه الصلابة والكثافة الأجزاء المجتمع فيها الرياح الكبيرة؛ لأن الأراضين الصلبة المتكاثفة الأجزاء ومواضع الجبال يجتمع فيها الرياح أكثر من الأراضين (ب) الرخوة.
والثاني هو أن تجتمع مياه كثيرة في مثل هذه المواضع وتقف زمانا طويلا ولا يتبين فيها ما ينصب فيه من الأودية والأنهار ولا ما يخرج منها؛ لأن المياه إذا وقفت زمانا كثيرا تصير غليظة مالحة الطعم مرة وغير ذلك من الطعوم، ويتولد فيها البخار الغليظ والرياح لملوحة الماء ولمرارته ولما يصعد إليه من بخار الأراضين. فأما البحار فإنها تزيد في ذلك الماء، وأما الرياح فإنها إذا اجتمعت وكثرت في ذلك الماء ثم علاه القمر حرك بطبعه وحركته وصعوده من أفق ذلك الماء فيحرك الماء كله وقيد وحمي لغلظه وتحلل وأقبل متحركا مقبلا مع القمر، فإذا تحرك الماء بتحريك القمر له وحمي وتحلل وتنفس واحتاج إلى مكان أكبر من المكان الأول، وزاد ذلك التنفس في حركة
14
الماء وبحركة الرياح من أعلى ماء البحر إلى أسفله واتصلت تلك الحركة بالرياح التي في أرض البحر في أرض البحر فترتفع الرياح التي فيها وفي أسفل الماء ليخرج من بعض المواضع فترتفع الريح بحركتها أو ارتفاعها الماء إلى فوق فيتنفس الماء ويعلو ويفيض فيكون منه المد فلا يزال الماء صاعدا محركا متنفسا بتحريك القمر له وبصعوده والريح تحرك الماء أيضا ويرفعه ويخرج تلك الريح أولا فأول ، ويتجلى ويتنفس ما دام القمر صاعدا ذاهبا إلى وسط السماء. فعند ذلك ينتهي منتهى المد منتهاه؛ ولهذه العلة يكون البحر في ابتداء المد رياح عاصفة شديدة، فإذا انحدر القمر من وسط السماء رجع الماء بطبعه إلى موضعه فكان الجزر، فإذا بلغ القمر وتد المغرب ابتدأ المد مقبلا حتى يبلغ القمر إلى وتد الأرض، ثم يجزر الماء إلى أن يبلغ القمر إلى أفق المشرق، فإذا ظهر القمر من الأفق عاد المد إلى مثل ما كان عليه، وأما الذي ذكرنا من حالات أرض البحر والمياه فإنما قلنا ذلك؛ لأن أرض البحر ومياهه مختلفة الحال والمواضع التي تكون غير عميقة ولا صلبة ولا يكون فيها جبال تكون بحارها ورياحها ليست بالكثيرة، والمواضع التي تكون عميقة عريضة طويلة وتكون مياهها غليظة صالحة ومرة فإنها بكبر البحار والرياح في تلك المواضع فلهذه العلة صار ابتداء قوة المد وعلة الماء إنما يكون من كل موضع عميق واسع يكون الغالب على أرضه كثافة الأجزاء أو كثرة الجبال، فإذا ابتدأت قوة المد من جبل هذه المواضع الكثيرة البحار والرماح اللذين فيهما اتصل ذلك بماء البحر
15
فصار فيه كله المد بما فيه من البحار والرياح التي تولدت من ملوحته ومرارته ويبسه، ولما في القمر من الطبع المحرك لذلك الماء بكنهه ولما سال من البحر كله من قوة حركة المياه التي في تلك المواضع التي تكون فيها ابتداء قوة الماء. فإذا كانت أرض البحر قليلة الجبال أو كانت متخلخلة ببعد الماء فيها إلى غيرها من البحار والمواضع، أو كان ذلك الماء يتبين ما ينصب فيه من المياه أو ما يخرج منه أو كان الماء متحركا لطيفا منفعلا كالأودية والأنهار والعيون فإنه لا يكثر اجتماع الرياح فيها، لأنه يتخلل ويتنفس الريح التي في الماء ويخرج جزءا بعد جزء أولا فأول، مع حركة الماء وانتقاله ويتفرق ولا يجتمع في ذلك الماء من الريح ما يرفعه، فإذا علاه القمر وحركه لا يكون فيه المد والجزر ولكن يكون فيه رياح وأمواج؛ فلهذه العلة لا يتبين في كثير من البحار ولا في شيء من الأودية والأنهار والعيون المد والجزر.
وأيضا فإن المياه الجارية لطيفة دقيقة، فإذا حركها القمر واقترب لم يبق فيها تلك الفتورة لرقتها، فإذا تحللت لم يرد ذلك التخلل فيها إلا شيئا قليلا، ولا يكون فيها إلا رياح قليلة جدا.
فأما المياه الغليظة المالحة فإن ملوحتها ومرارتها تكون فيها بيسر ورياح كثيرة فإذا تحركت وفترت وحميت بقيت تلك الفتورة فيها لغلظها وتحللت وزاد ذلك التخلل في ما بينها زيادة كثيرة فكان ذلك سيئا لقوة المد كما ذكرنا.
فأما العلم والابتداء إذا صار القمر إلى المغرب ودوامه إلى أن يبلغ القمر إلى وتد الأرض فذلك ثلاث جهات:
إحداها خط المشرق مواز لخط
16
المغرب، كل درجة يتباعد القمر من المشرق صاعدا إلى وسط السماء موازية لكل درجة يتباعد القمر منها من المغرب إلى وتد الأرض، ويكون بعد تلك الدرجة من المغرب مثل بعد الدرجة الموازية لها من المشرق، وكان الربع الذي من المشرق إلى وسط السماء موازيا مشاكلا لكل الربع الذي من المغرب إلى وتد الأرض فلا يفارق الربع الذي من الطالع إلى وسط السماء والربع الذي من وتد المغرب إلى وتد الأرض يتفق أن يكون في أحدهما من المد وإقبال الماء من المشرق مثل ما في الآخر. (د) والجهة الثانية أنه يكون مطالع البروج في كل بلد في وسط السماء ووتد الأرض مثل مطالعها في الفلك؛ فلذلك صار القمر إذا بلغ درجة المغرب ويبتدئ المد كما كان ابتداء حيز صار إلى درجة المشرق فلا يزال المد دائما ما دام القمر يتباعد من المغرب إلى أن يبلغ وتد الأرض كما كان دائما حيث تباعد من الشرق إلى أن يبلغ وسط السماء ثم ينتهي المد إذا بلغ إلى وتد الأرض كما كان انتهى حيز بلغ إلى درجة وسط السماء لأن هذين الوتدين (ج) هما المعدلان للمطالع في كل بلد.
والجهة الثالثة أن القمر إذا كان في المشرق والمغرب فهو مد على بعد واحد، فإذا أقبل من المشرق وأقبل المد معه فكلما ارتفع القمر من وسط سمائنا وكان القمر مقبلا إلى أن يبلغ وسط السماء فكذلك إذا أقبل إلينا من المغرب يكون ابتداء المد أيضا، فلا يزال كذلك إلى أن يصير إلى موازاة خط وسط السماء وهو وتد الأرض فينتهي المد منتهاه. فأما الجزر فإنه يكون في الربع الثاني والرابع المقابلين لأن أحدهما مواز
17
للآخر، فإذا كان في أحدهما جزر وكان الربع الآخر الموازي له مثله. وقد زعم قوم أن المد والجزر قد يكونان في المياه العذبة مثل مياه مدينة البصرة ومدينة الصين من أرحل البحار ومواضع كثيرة من أرحل البحار والجزائر التي تكون مياهها عذبة وتكون التي حالها كحالها ومياهها عذبة فإنها مغايص الأنهار وأودية عذبة تجري إليها من مواضع ونواح أخر غير البحر، وهي متصلة به بماء البحر المالح موجودة في هذه المياه وما كان مثلها من المياه العذبة المد والجزر لاتصالها بماء البحر، ولو تصل هذه المياه العذبة به بماء البحر لم يوجد فيها المد والجزر.
فأما المد فإن ماءه يكون فاترا والجزر يكون ماؤه باردا، وذلك؛ لأن في وقت المد يخرج الماء من عمق وهو فاتر ويزيده حركته وتحريك القمر له فتورا فلهذه العلة يكون ماء المد فاترا وكل ما كان من المد أغلب وأكثر كان أفتر، وإنما ذلك لكثرة حركته وكثرة خروج المياه التي في قعر البحر، فإذا صار ذلك الماء في المواضع البعيدة من عمق البحر كالشطوط والجزائر والأودية والمغايص والبطائح تبرد فيرجع بذلك البرد إلى البحر؛ فلذلك صار ماء البحر باردا.
والذي يفعله القمر بطبيعته في ماء البحر إما هو المد، وأما هو الجزر فليس من فعل القمر وإنما ذلك فعل طبيعة الماء؛ لأن القمر إذا بلغ إلى موضع من المواضع الدالة على المد كان هنالك ابتداء المد إلى أن يبلغ القمر إلى نهاية دلالته على المد في ذلك الموضع فهنالك ينتهي المد، فإذا انتهت قوة منتهاه في ذلك
18
الوقت رجع الماء بطبيعته إلى مكانه الذي كان خرج منه وهو الجزر. وأعلم أن في الترتيب الطبيعي أن القمر كان فوق الأرض، فإنه يكون المد والجزر كل واحد منهما مرة واحدة ويكون زمان أحدهما مساويا لزمان الآخر.
وإذا كان القمر تحت الأرض فإنه يكون المد والجزر كل واحد منهما مرة أخرى، ويكون زمان أحدهما مساويا لزمان الآخر، فأما لبث القمر فوق الأرض وتحتها فإنهما لا يكادان يستويان. فإذا كان لبثه فوق الأرض أكثر من تحتها، كان زمان المد والجزر والقمر فوق الأرض أطول منه وهو تحتها، وإذا كان لبث القمر تحت الأرض أكثر منه فوقها كان زمان المد والجزر الذي يكون تحت الأرض أطول منه وهو فوقها.
فإذا أردت أن تعرف عدد الساعات للمد والجزر والقمر فوق الأرض فاعرف الدرجة التي شع معها القمر والدرجة التي يغيب معها وصحح ذلك؛ لأن القمر ربما تقدم أو تأخر في الطلوع والغروب، الدرجة التي هو فيها بالطول لعلة عرضه فاعرف تلك الدرجة، وخذ ما بين درجة طلوعه إلى درجة غروبه بدرج المطالع فاحفظه ثم اجعل كل خمسة عشر درجة منه ساعة مستوية، وما لم تتم خمسة عشر درجة فاجعلها أجزاء من ساعة فما بلغ فهو ساعات المد والجزر الطبيعي ما دام القمر فوق الأرض، وإذا أردت أن تعرف ساعات
19
المد وحده أو ساعات الجزر وحده فخذ نصف هذه الساعات، المد والجزر الطبيعي أيهما أردت معرفته فإذا كان أدلة المد قوته زادت ساعات المد على هذا النصف بمقدار ضعف حركة الماء وما بقي إلى تمام الساعات المحفوظة فهو ساعات الجزر.
فإذا أردت أن تعرف مقدار المد والجزر والقمر تحت الأرض فخذ من الدرجة التي يغيب معها القمر إلى الدرجة التي تطلع معها بدرج المطالع فاعمل به كما عملت بالقمر وهو فوق الأرض. واعلم أن مواضع البحر مختلفة العروض لاختلاف عروض البلدان، فإذا أردت معرفة ساعات المد والجزر في موضع من مواضع البحر فاعرف عرض ذلك الموضع ومطالعه ثم اعمل طلوع القمر بمطالع ذلك الموضع، فأما قوة المد والجزر وضعفهما وكثر مائهما وقلته وزيادتهما ونقصانهما وأيهما يكون أطول وأدوم زمانا ففي معرفة ذلك وعلمه وجودة كثرته سنأتي على ذكرها إن شاء الله. (4-3) الفصل السادس في كثرة المد وقلته
قد ذكرنا قبل هذا أن الزمان الذي يكون والقمر فوق الأرض مثل زمان الجزر الذي يكون بعده وزمان المد الذي يكون القمر تحت الأرض مثل زمان الجزر الذي يكون بعده، إلا أنه ربما عرض أن يكون زمان المد والقمر فوق الأرض أطول من زمان الجزر الذي بعده أو يكون زمان المد والقمر تحت
20
الأرض أطول من زمان الجزر الذي بعده. وإذا أردنا زمان المد على القدر الذي كنا حددناه من بلوغ القمر بعض المواضع الدالة على المد فإنه ينقص من زمان الجزر الذي بعده مثلما زاد في زمان المد بالتقريب. وإذا نقص من زمان المد شيء فإنه يزيد مثل ذلك في زمان الجزر الذي بعده حتى يكون جميعهما مثل ما ذكرنا.
فأما الذي ذكرنا أنه يعرض من طول زمان المد وقصره أو طول زمان الجزر وقصره فانظر فإذا كانت أدلة كثيرة ما أشد، وقوته وغلبته كثيرة وأنه يدوم المد إلى أن يزيد القمر عن درجة الوتد المحدودة للمد بنحو من ساعة وأكثر وأقل قليلا. وإنما يكون ذلك بقوة حركة الماء وشدة جريه لا من دلالة القمر فيكون زمان المد طويلا لهذه العلة، وإن كان دلالة المد ضعيفة فإنه يجزر الماء قبل طلوع القمر إلى الموضع المحدود للمد بنحو من ساعة وأكثر وأقل وإنما يكون بضعف حركة الماء وقلة جريه فيقصر زمان المد لهذا السبب لا لعلة دلالة القمر.
في قوة المد وضعفه.
فأما معرفة قوة المد وضعفه وكثرة مائه وقلته فإنه ينظر فيه من ثمانية أشياء:
الأول: بعد القمر من الشمس وزيادته في الضوء ونقصانه منه.
والثاني: زيادة تعديل القمر عن وسطه أو نقصانه منه.
والثالث: موضع القمر من فلك الأوج أو قربه من الأرض.
والرابع: صعوده أو هبوطه الفلك المائل وجهة عرضه.
والخامس: كون القمر في البروج الشمالية والجنوبية.
والسادسة: الأيام التي يسميها البحريون الذين في المغرب وأهل مصر وما يليها أيام زيادة
21
الماء ونقصانه. وهذه الجهات الستة هي من خاصة دلالة القمر.
والجهة السابعة معرفة قوة المد وضعفه من طول النهار والليل وقصرهما من خاصة دلالة الشمس.
والثامنة معرفة الرياح المقوية للمد والجزر.
الجهة الأولى:
فأما الجهة الأولى في معرفة كثرة المد وقلته وأن تنظر في حالات القمر فإن له أربعة مواضع تختلف فيها حالاته ودلالاته على كثرة ماء المد وقلته ويكون ذلك على قدر حاله من الشمس، أوله اجتماع القمر مع الشمس، والثاني إذا كان بين القمر والشمس تسعون درجة ويكون في جرم القمر نصف الضوء وهو زايد في الضوء وهو التربيع الأول، والثالث إذا كان القمر في مقابلة الشمس. والرابع إذا كان بين القمر وبين الشمس تسعون درجة وهو حيث يبقى في جرمه نصف الضوء وهو ناقص وهو التربيع الثاني، فإذا كان القمر مجامعا للشمس فإنه يكون ماء المد كثيرا قويا طويل الزمان، ويكون زمان الجزر أقل منه؛ لأن القمر إذا جامع الشمس زاد اجتماعه معها في قوة القمر دلالة القمر، فيكون تحريكه للماء في ذلك الوقت أكثر منه في غير ذلك الوقت، وكذلك القمر إذا جامع كوكبا من الكواكب الدالة على قوة المد زاد ذلك في قوته فتقوى حركة ذلك المد لقوة القمر ويكون ماء المد زائدا إلا إذا فارق الشمس فإنه يكون في ذلك الوقت أقوى، وطويل فعلا في المد منه إذا فارقه غيرها للعلة التي ذكرنا ولا زالت في القمر من الفعل ما ليس بشيء من الكواكب فيه مثل
22 ... وجزائر يبسط فيها المد عند المد، ويكون الغالب على أرضها الصلابة وفوقها الجبال، فإذا كان وقت المد وتنفس ماؤها وأسفر على شاطئها وبلغ إلى أرضها وجزائرها فمدت وجزرت كما يمد ويجزر بحر فارس وبحر الهند وبحر الصين والبحر الذي بقرب القسطنطينية وإفرنجة وغيرها من البحار التي هي ضعفها، فبهذه الأشياء يكون اختلاف حالات البحار في المد والجزر على ما ذكره القدماء ممن نظر في العلوم الطبيعية. فقد تبين لنا صفة المياه التي لا تمد ولا تجزر والتي يتبين فيها المد والجزر. وتبين لنا أن البحر لا يتغير من ذاته، وأن القمر علة التنفس وهو المحرك لماء البحر بطبعه.
وقد ذكرنا مرارا كثيرة أن حركة الأجسام الأرضية إنما تكون بتحريك الأجرام السماوية لها، وتبين لنا قياس ذلك من أشياء كثيرة طبيعية موجودة يحرك بعضها غيرها من الأجسام على بعد كثير منها من غير ملامسة كما ترى من حجر المغناطيس يحرك الحديد ويجذبه إليه بطبعه، وكما ترى النفط الأبيض يجذب إليه النار من بعد كبير، ومثل الحجر الزيتوني الذي يجذبه الزيت، ومثل حجر الخل الذي يجذبه الخل.
فهذه الأجسام التي ذكرناها نرى هل تفعل بطبعها في غيرها من الأجسام على بعد كثير الجذب، والحركة علوا وسفلا ويمنة ويسرة، فكذلك القمر في طبيعته أن يحرك البحر المالح على بعد منه، ومن طبيعة ذلك الماء أن يقبل الحركة
23
من القمر أكثر من قبول المياه العذبة، ثم يحرك في وقت المد علوا من سفل البحر إلى أعلاه. وقد يوجد أيضا للشمس أفاعيل مختلفة في كلية حالات البحار في شدة أمواجها وكثرتها وهيجانها في بعض أوقات السنة، وفي لين ذلك وسكونه في وقت آخر على قدر قرب مدارها منها أو بعدها عنها وقد ذكر تجده من البحرين العلماء بها؛ لأنها من اختلاف حالات بحر فارس والهند أشياء سنذكرها إن شاء الله.
24 ...
25 ... مثل زيادته في الضوء ونقصانه منه وكثير من حركاته إنما هو على قدر بعده أو قربه منها، فلذلك كل ما كان من الشمس على بعد معلوم فإنه يحدث في ذلك الوقت تغيير في قوته أو ضعفه؛ لأنه إذا كان بعد الاجتماع وتباعد منها فإنه يكون على قدر تباعده تنقص قوة المد عن القدر الذي كان عليه في الاجتماع ونقص زمانه ويزيد في زمان الجزر إلى أن يبلغ القمر إلى تربيع الشمس الأول وهو حيث يكون بينه وبين الشمس تسعون درجة ويكون في جرم القمر نصف الضوء فعند ذلك ينتهي نقصان المد منتهاه من هذه الدلالة، فإذا جاوز القمر تربيع الشمس يكون في جرم القمر من الضوء أكثر من نصفه فهنالك يبدأ المد يزيد في كثرة مائه وقوته وطور زمانه فلا يزال كلما زاد الضوء في جرم القمر يزيد المد قوة حتى ينتهي القمر إلى الامتلاء فعند ذلك يكون ماء المد قويا عاليا كثيرا ويكون لبثه زمانا طويلا وينتهي المد منتهاه.
ويكون زمان الجزر قليلا، فإذا جاز القمر استقبال الشمس ونقص من ضوئه نقصت قوة المد وازداد ضعفا، وقل زمان لبثه فلا يزال ماء المد كذلك ينقص ويضعف إلى أن يبلغ القمر إلى تربيع الشمس الثاني، وهو حيث يكون بينه وبين الشمس تسعون درجة وهو ذاهب إلى الشمس فحينئذ ينتهي نقصان المد منتهاه من هذه الدلالة، إلا أن المد يكون إذا كان القمر في هذا التربيع الثاني أضعف منه حيث كان في التربيع الأول؛ لأن القمر في هذا الوقت ينقص ضوءه فإذا جاز القمر هذا الموضع وقرب من الشمس وكان بينه وبينها أقل من تسعين درجة زاد ماء المد وقوي وكثر وطال زمانه، فلا يزال ماء المد قويا كثيرا ما دام القمر يذهب إلى الشمس إلى أن يفارقها، فعند ذلك ينتهي زيادة المد منتهاه ويقوى ويكون كثيرا، ثم يبتدئ في المرة الثانية في نقصان المد كما ذكرنا أولا فيكون إذن كما وصفنا وقت الاجتماع والاستقبال وقت كثرة الماء وغلبة المد وطول زمانه، إلا أن المد الذي يكون في الاستقبال أقوى وأكثر زمانا من المد الذي يكون في الاجتماع، ويكون نهاية نقصان المد في التربيعين إلا أن التربيع الأول يكون ماء المد فيه أقوى وأطول زمانا من التربيع الثاني، وهذا الترتيب الطبيعي الذي ذكرنا أنه يكون في الشهر الواحد هو شبيه مما تراه من ترتيب المد والجزر الذي يكون في اليوم الأول والليلة الواحدة ومقدار مسير القمر فيهما يكون مدان وجزران.
فأما وقت المد الواحد فإنما تكون حركة الماء زائدة عالية، وأما وقت الجزر فإن حركة الماء ضعيفة ناقصة وكذلك في الشهر الواحد وقتان يكون ماء المد فيهما عاليا قويا طويل الزمان، وهما الاجتماع والاستقبال ووقتان ينتهي ماء المد فيهما في النقصان منتهاه ويكون ضعيفا ناقصا قليل الزمان وهما التربيعان.
والجهة الثانية:
أن يقوم القمر فإن كان ما يخرج من التعديل يزاد على وسطه، فإن المد في تلك الأيام قوي زائد، ولم يزل المد زائدا ما دام يزاد تعديل القمر على وسطه، فإذا نقص تعديل القمر من وسطه فإنه ينقص ماء المد، وإذا لم يخرج من تعديله على وسطه ولا ينقصه منه فإنه يكون ماء المد غير زائد ولا ناقص
26
عن الحد المعلوم من هذه الدلالة، وإن كان التعديل الذي يزيده أو ينقصه من وسط القمر كان زيادة المد أو نقصانه قليلا، فإن كان كثيرا كان ذلك كثيرا، ومثل هذا العمل الذي عملناه من تعديل القمر يعرف أيضا زيادة المياه والمدود أو نقصانه في الأودية والأنهار الجارية؛ لأنه إذا كان تعديل القمر يزداد على وسطه وكان ذلك في أيام مدود الأودية والأنهار فإنها تزيد في تلك الأيام، وإن كان تعديل القمر ينقص عن وسطه تنقص مياهها، وإذا لم يخرج ما يزاد على وسطه أو ينقص منه يكون ماء الأنهار والأودية غير زائد ولا ناقص.
والجهة الثالثة:
موضع القمر من فلك البروج وبعده أو قربه من الأرض، وهو أن ينظر إلى القمر فإن كان قد جاز رأس أوجه بتسعين درجة إلى أن يبلغ مائتين وتسعين درجة فإنه هابط في فلك أوجه وكان ماء المد في هذه الأيام قويا عاليا، وإن كان خلاف ذلك كان القمر صاعدا في فلك أوجه كان ماء المد ضعيفا قليلا من هذه الجهة.
والجهة الرابعة:
أن ينظر إلى صعود القمر وهبوطه في الفلك المائل وجهة عرضه، فإن كان القمر هابطا كان المد كثيرا قويا، وإن كان صاعدا كان المد قليلا ضعيفا.
والجهة الخامسة:
أن ينظر إلى القمر فإن كان في البروج الشمالية وهي من أول الحمل إلى آخر السنبلة فإن كان المد في البحار الشمالية يكون قويا عاليا؛ وذلك لأن القمر يكون مسامتا لها، وإن كان القمر في البروج الجنوبية كان الماء في البحار الشمالية ضعيفا وذلك لبعد القمر عن مسامتتها. وأما البحار الجنوبية فإنها تخالف ما ذكرنا؛ لأن القمر إذا كان في البروج الجنوبية وهي من أول الميزان إلى آخر الحوت فإن البحار الجنوبية تكون كثيرة المد كثيرة الماء، وإن كان القمر في البروج الشمالية كان ضعف المد وقلة الماء في البحار الجنوبية، وهذه حكومة كلية وهي أن تنظر إلى القمر فإن سامت موضعا من البحار في الشمال أو في الجنوب كان المد هناك قويا كثيرا، ولا سيما إن كان القمر زائدا في ضوئه قد جاوز التربيع الأول، وكان هابطا والمد الذي يكون والقمر في أفق موضع من مواضع البحر إلى أن ينتهي إلى وسط سماء ذلك الموضع يكون أقوى من المد الذي يكون والقمر فيما بين المغرب إلى الرابع، وكون القمر في البروج المائية الرطبة أو مع الكواكب المائية أو مع الكواكب الهابطة واتصاله بها قد يزيد في قوة المد وفي ماء الأنهار والعيون ومقارنة القمر للكواكب الصاعدة، قد يقلل ماء المد وماء الأنهار والعيون.
والجهة السادسة:
الأيام التي يسمونها البحريون الذين هم في ناحية المغرب ومصر أيام زيادة الماء ونقصانه، وذلك أنهم ينظرون إلى أيام الشهر العربي وهي تسعة وعشرون يوما وأجزاء من يوم فيقسمونها بأربعة أقسام فيكون كل قسم قريبا من تسعة أيام ونصف، فيسمون كل قسم منها باسم؛ فمن أول يوم السابع والعشرين من أيام الشهر إلى ثلاثة أيام ونصف تخلو من الشهر الذي يتلوه يسمونه أيام نقصان المد، ومن بعد ثلاثة أيام ونصف من أول الشهر إلى تمام أحد عشر يوما من الشهر القمري يسمونها أيام زيادة الماء، ومن أول اثني عشر يوما إلى تمام ثمانية عشر يوما ونصف يسمونها أيام نقصان الماء، ومن بعد ثمانية عشر يوما ونصف إلى تمام ستة وعشرين يوما يسمونها
27
أيام زيادة الماء، فزعم أصحاب البحر من المصريين ومن يليهم ومن أصحاب النجوم أن هذه الأيام التي يسمونها بأيام نقصان الماء يكون المد فيها ضعيفا قليلا ويكون الجزر أقوى، وأن الأيام التي يسمونها أيام زيادة لما يكون فيها مد ماء البحر كثيرا وأن الجزر يكون أضعف. فسألنا عدة من البحريين الذين بناحية المشرق العلماء بحالات البحر عن هذه الأيام فزعموا أنهم لم يجدوا هذه الأيام التي سماها هؤلاء أيام زيادة الماء [التي] يكون فيها الماء كلها زائدا، ولا وجدوا الأيام التي سموها أيام نقصان الماء يكون الماء فيها ناقصا إلا أنهم ذكروا أنه قد يكون في أيام زيادة الماء اليوم واليومان يزيد فيه الماء، وفي أيام نقصان الماء كذلك من النقصان. والذي وجدناه يكون من زيادة الماء ونقصانه في هذه الأيام التي ذكرها المصريون الزيادة في مياه الأودية والأنهار التي تكون مياهها من العيون فإنه إذا كانت هذه الأيام التي يسمونها أيام زيادة لما تنفس الماء وارتفع وزاد فيه في هذه المواضع، وفي الأيام التي يسمونها أيام نقصان الماء يكون الماء في العيون وينقص، وزعم بعض البحريين الذين بناحية المشرق أنه يضعف ويقل ما مد البحر لعشر تخلو من الشهر ولعشر تبقى منه، والعشر الثاني يكون ماء المد فيه أضعف من العشر الأول، وذلك لنقصان ضوء القمر.
والجهة السابعة:
في خاصية دلالة الشمس على كثرة ماء المد وقلته وقوته، وضعفه بمعونتها للقمر، وإن كان مخصوصا بدلالة المد والجزر فإن حالاته من الكواكب الستة وحلوله في البروج الرطبة ومقارنته لبعض الكواكب المائية ربما قوت دلالته عليها. وقد ذكرنا ذلك فيما تقدم، وأما الآن فأقول: إن الموجود في البحر الشرقي وفي غيره من البحار التي يتبين فيها المد والجزر أن في بعض الأوقات يكون مد النهار أقوى من مد الليل، وفي بعض الأوقات يكون مد الليل أقوى من مد النهار، وإنما يكون ذلك من قبل كون الشمس في البروج الشمالية أو الجنوبية؛ لأنه إذا كانت الشمس فيما بين أول الحمل إلى آخر السنبلة كان النهار أطول من الليل، وكان مد النهار أقوى من مد الليل، وإذا كانت الشمس فيما بين أول الميزان إلى آخر الحوت كان الليل أطول من النهار، وكان مد الليل أقوى من مد النهار وأطول ما يكون الليل إذا كانت الشمس في برج القوس، فإذا صارت الشمس في أول الجدي وابتداء النهار بالزيادة فإن ماء مد البحر الذي يكون بالنهار يبتدئ بالقوة والكثرة بطول الزمان، فلا يزال كذلك إلى أن تبلغ الشمس إلى آخر الحوت وهو وقت الاستواء الربيعي، فإذا كان في ذلك الوقت كان المد الذي يكون بالنهار قريب القوة من المد الذي يكون بالليل من هذه الدلالة، ويكون طول زمانهما قريبا من السواء، فإذا كانت فيما بين أول الحمل إلى آخر السنبلة فإن المد الذي يكون بالنهار أقوى من المد الذي يكون بالليل في ذلك الوقت، وأقوى ما يكون مد النهار من هذه الدلالة إذا كانت الشمس في آخر الجوزاء وانتهى النهار منتهاه في الطول، فإذا صارت الشمس في آخر السنبلة وهو وقت الاستواء الخريفي كان مد النهار قريب القوة من مد الليل في كثرة الماء وطول
28
الزمان، وإذا صارت الشمس في الثلاثة البروج الجنوبية، وهي من أول الميزان إلى آخر القوس كان مد الليل أقوى من مد النهار. وأقوى ما يكون مد الليل من هذه الجهة إذا كانت الشمس في آخر القوس حتى ينتهي منتهاه في الطول، فأما الذي ذكرنا أن مد النهار يكون أقوى من الليل إذا كان النهار أطول من الليل، وأن مد الليل يكون أقوى من مد النهار إذا كان الليل أطول من النهار، فإن تلك العلتين إحداهما من معونة الشمس للقمر، وهو طول لبث الشمس فوق الأرض، والثانية طول مكث القمر فوق الأرض.
فأما العلة الأولى التي هي من معونة الشمس للقمر، أن النهار إذا كان أطول من الليل فإنه يكون مكث الشمس فوق الأرض أكثر من مكثها تحت الأرض؛ فلطول مكثها بالنهار فوق الأرض تزيد في تحليل المياه التي تكون في أعلى البحر وفي عمقه، فإذا كان وقت المد والماء متحلل الأجزاء كان لفعل القمر أقبل وكان ماء المد أكثر وحركته أقوى، فلهذه العلة يكون ماء المد في النهار الطويل أقوى وأكثر من ماء المد في تلك الليالي. فأما المد الذي يكون في الوقت الذي نهاره أطول من الليل والقمر فيما بين وتد المغرب إلى وتد الأرض فإنه يكون أضعف من المد الذي يكون في ذلك الوقت والقمر فيما بين المشرق إلى وسط السماء.
والعلة الثانية التي تكون من علة طول مكث القمر فوق الأرض، أن الليل إذا كان أطول من النهار فإن القمر إذا طلع بالليل - وخاصة ما بين أول الليل إلى نصفه - فإنه يكون في البروج الطويلة المطالع، فيكون لبثه فوق الأرض في الربع الشرقي؛ فتدوم لذلك حركة الماء. فلدوام حركته يكثر تحليل أجزائه وارتفاعه من عمق البحر إلى أعلاه فيكون ماء المد بالليل في زيادة الليل على النهار أقوى وأكثر من ماء مد النهار.
وأما إذا كان المد في هذا الوقت بالليل والقمر في الربع الثالث فيما بين المغرب إلى الوتد الرابع فإنه لا تكون قوة ماء المد كقوة المد الذي يكون القمر فيه فوق الأرض، وكلما كان القمر في وقت المد في بروج طويلة المطالع يطول فيها بقاؤه، وكان ماء المد في ذلك الوقت أكثر وأغلب زمانا فصار الآن أقوى ما يكون ماء المد وأغلبه من هاتين العلتين اللتين ذكرناهما إذا كانت الشمس في القوس والجوزاء، إلا أن الشمس إذا كانت في الجوزاء فإنه يكون ماء المد بالنهار أغلب وأقوى من مد الليل، وإذا كانت الشمس في القوس فإنه يكون ماء المد بالليل أغلب وأقوى من ماء مد النهار، وإذا كانت الشمس في أول الحمل وأول الميزان كان ماء المد بالليل والنهار متساويين في القوة، فيتفق من هذه الجهة أن يكون حال قوة المد وضعفه واعتداله في السنة الواحدة التي تقطع فيها الشمس البروج الاثني عشر شبيه بما كنا ذكرنا من حال المد في كل شهر؛ لأن قوة المد الذي يكون بالليل والشمس بالقوس والقمر فوق الأرض هو شبيه بقوة المد الذي يكون عند اجتماع الشمس والقمر وقوة المد الذي يكون بالنهار والشمس في الجوزاء والقمر فوق الأرض شبيه لقوة المد الذي يكون والقمر في الامتلاء عند مقابلة الشمس.
والمد الذي يكون والشمس في أول الحمل وأول الميزان هو شبيه لقوة المد الذي يكون في كل شهر والقمر في تربيعي الشمس، أعني التربيع الأول والثاني وكل شيء تقدم قولنا فيه
29
من ذكر زيادة ما المد من وقت إلى وقت ومن نقصانه فليست تلك الزيادة ولا ذلك النقصان بمستوى القدر والكمية، بل يختلف؛ لأنه ربما زاد في بعض الأيام شيئا من الأشياء ويزيد بعده أو قبله أكثر منه أو أقل وكذلك النقصان فاعلم ذلك.
وهذه الدلالات السبعة الطبيعية المفردة التي ذكرناها فإن لكل واحدة منها دلالة على حدة على كثرة المد وقلته وقوته أو ضعفه واعتداله، فاعرف هذه الدلالة فإنه إذا اجتمعت كل هذه الشهادات التي تدل على كثرة ماء المد في وقت من الأوقات فإنه يكون ماء المد كثيرا قويا غالبا طويل الزمان، وإن اجتمع بعضها كان دون الأقل، وكلما قلت شهادات المد كان المد أضعف فإن اجتمعت شهادات اعتدال المد كلها في وقت كان المد معتدلا، وإن كان بعض الأدلة يدل على زيادة ماء المد وبعضها يدل على النقصان فإنه يكون ماء المد معتدلا أيضا وإن اجتمعت شهادات في قلة ماء المد في وقت فإنه يدل على غاية قلة ماء المد وضعفه.
والجهة الثامنة:
في قوة ماء المد والجزر من الدلالات العرضية، فأما الجهات السبع الطبيعية فقد ذكرناها فيما تقدم وإن شيئا منها من خاصية دلالة القمر، والسابعة من تقوية الشمس له، ونحن نذكر الآن الدلالة التي تعرض لتقوية المد والجزر وكثرة مياهها وقلته من الرياح العارضة في البحر. فاعلم أن للبحر ريحين: إحداهما الريح الخاصة التي في جوف الماء، وهي المقوية للمدود، وقد ذكرنا هذه الريح عند ذكرنا المد والجزر. والثانية الريح التي تكون في الجو وهي الريح العامة التي يشترك فيها أهل البحر وأهل البر في المواضع كلها، وهي تهب من نواح مختلفة كالمشرق والمغرب والشمال والجنوب، وفيما بين هذه المواضع التي ذكرنا فاعرف هذه الرياح ونواحيها التي منها تهب، واعرف الريح التي تهب من الناحية التي منها تكون جهة جرية المد والريح التي تهب من الناحية التي تكون منها جهة جرية الجزر.
واعلم أن القمر إنما يكون طلوعه وحركة الفلك له من المشرق إلى المغرب، وأن جرية الماء إنما تكون على جهة حركة الفلك للقمر، وأن الجزر يكون جهة جريه من المغرب إلى المشرق؛ فالريح التي تهب من الناحية التي يغرب فيها القمر هي مقوية لجرية الجزر، وقد ذكرنا فيما تقدم أن المد والجزر الذين يكونان والقمر في النصف الأعلى من الفلك أن زمان أحدهما مثل زمان الآخر، وكذلك يكون إذا كان القمر في نصف الفلك الأسفل يكون زمان أحدهما مثل زمان الآخر من حصة دلالة القمر الطبيعية، إلا أنه يعرض لهما في بعض الأوقات أعراض فيكون القمر في نصف الفلك الأعلى، أو في نصف الفلك الأسفل وزمان أحدهما أطول أو أقصر من زمان الآخر، والذي يعرض للمد في طول زمانه من جهتين:
فالجهة الأولى:
بسببها يكون زمان المد طويلا أن تكون أدلة كثرة الماء وقوته كثيرة فتدوم حركة ماء المد وشدة جريه، وغلبته، وحسبه أن يجوز الوقت الطبيعي الذي دل عليه القمر، فيطول لذلك زمان المد، وقد ذكرنا هذه الأدلة فيما تقدم.
والجهة الثانية:
أن يكون في وقت المد رياح قوية عاصفة مقوية لجرية المد
30
فيكون لذلك زمن المد طويلا أيضا، وإذا اجتمعت هاتان الدلالتان أفرطتا في طول زمان المد أيضا، فإنما يكون من جهتين: إحداهما أن تكون أدلة قوة المد قليلة فيكون ماء المد قليل الحركة ضعيف الجرية فلضعف حركته تكون نهاية المد عند أول الدلالة الطبيعية الدالة على نهاية المد أو قبله بزمان من الأزمنة. والجهة الثانية أن تكون رياح عاصفة تستقبل جرية ماء المد فترده فينقص زمان المد على الدلالة الطبيعية، فإذا اجتمعت الدلالتان أفرطتا في قصر زمان المد.
أما الجزر فجهتان:
إحداهما:
أن يكون زمان المد الذي قبله طويلا فينقص زمان الجزر عن الحد الطبيعي، وإنما يكون طول زمانه من جهتين:
إحداهما:
أن يكون زمان المد الذي قبله قصيرا فيزيد في زمان الجزر قريبا مما نقص زمان المد الطبيعي فيطول لذلك زمان الجزر.
والجهة الثانية:
أن يكون في وقت الجزر رياح عاصفة مع جهة الجزر فيقوي ذلك جريته فيطول زمان الجزر، فإذا اجتمعت هاتان الدلالتان أفرطتا في طول زمان الجزر.
وأما قصر زمان الجزر فإن ذلك من جهتين:
إحداهما:
أن يكون زمان المد الذي كان قبله طويلا فينقص زمان الجزر عن القدر الطبيعي فيطول لذلك زمان الجزر.
والثانية:
أن يكون وقت الجزر رياح عاصفة تستقبل جريته فيطول لذلك زمان الجزر، وإنما يكون ذلك من جهتين: إحداهما أن يكون زمان المد الذي كان قبله طويلا فينقص زمان الجزر عن الحد الطبيعي، والثاني أن يكون في وقت زمان الجزر كثيرا.
فهذه ثماني جهات في طول زمان المد والجزر وقصرهما، وهذه حكومة كلية، وهي أن أقول: إن المد هو الابتداء وهو الذي يفعله القمر بطبيعته، والجزر بعد المد وهو رجوع الماء إلى البحر بطبعه، فإذا طال زمان المد فإنه يقصر زمان الجزر الذي يكون بعده، وإذا قصر زمان المد طال زمان الجزر الذي بعده ، والرياح التي يوافق هبوبها جرية المد والجزر أيهما وافق ذلك فإن تلك الريح تزيد في قوته وفي طول زمانه، والرياح التي تستقبل جرية أيهما كان فإنها تضعفه.
واعلم أن المد إذا بلغ إلى بعض المغايض أو الجزائر أو أرحل البحار فربما رجع بعد الجزر ماء المد كله إلى البحر، وربما رجع بعضه، وربما رجع عند الجزر أكثر من ماء المد الذي كان [قد] خرج من البحر؛ لأن المد إذا بلغ إلى بعض المغايض أو بعض أرحل البحار ولم يحتبس ماء البحار في المواضع التي يصير إليها رجع ماء المد كما هو إلى البحر، فإن احتبس في بعض المواضع منه شيء رجع إلى البحر بعض ماء المد، وإذا كانت تلك المغايض أو بعض أرحل البحار التي يبلغها ماء مد البحر ينصب إليها مياه من أنهار وأودية مختلفة من غير ماء البحر، فإنه يحدث الجزر معه من تلك المياه التي انصبت في تلك المواضع، فيكون ماء ذلك الجزر في ذلك الوقت أكثر وأقوى وأغلب من ماء المد. (4-4) الفصل السابع في أن القمر هو على المد والجزر والرد على من خالف ذلك
إن قوما أنكروا أن يكون القمر وطلوعه ومغيبه وبلوغه المواضع التي ذكرناها هو علة المد والجزر، وقالوا إن من طبع البحر أن يتنفس من ذاته، فإذا تنفس البحر كان المد، وإذا لم يتنفس كان الجزر، وسواء في ذلك طلوع القمر ومغيبه، وليس القمر علة لهما. وقالوا أيضا لو
31
كان القمر علة المد والجزر كان يجب أن تكون الأودية والأنهار والعيون تمد وتجزر، واحتججنا على من زعم ذلك بأربع حجج:
أحدها:
أن قلنا لو كان المد والجزر إنما يكون بطبع البحر وتنفسه لكان ماء المد أبدا على حالة واحدة معلومة لا تزيد ولا تنقص، ولا يكون في وقت أقوى ولا أغلب من وقت آخر، ولا تختلف أوقات ابتدائهما وانتهائهما؛ لأن فعل الأشياء الطبيعية لا يختلف ولا تتغير عن الحالة التي تكون عليها، ونحن نرى خلاف ذلك كله؛ لأنه ربما قوي ماء المد في وقت أقوى وأغلب منه في وقت آخر على ساعة تمضي من النهار ثم تختلف حالا، لابتداء المد والجزر ونهايتهما على قدر اختلاف طلوع القمر ومغيبه وسائر حالاته، فعلمنا أن القمر هو علة المد والجزر وعلة سائر حالاتهما.
والحجة الثانية:
أن الأشياء التي تتنفس من ذاتها فإنها تحتاج إلى مكان أكبر من مكانها الذي هي فيه، فإن كان ماء البحر يتنفس من ذاته من غير علة القمر فإنه عند تنفسه يحتاج إلى مكان أكبر من مكانه الذي كان فيه، فكيف يمكن أن يرجع ذلك الماء إلى البحر في وقت الجزر، وليس له هنالك مكان؟ أو لم صار ذلك التنفس الذي يكون للبحر ورجوع الماء إليه يكون مع ارتفاعه وانحطاطه ومغيبه وليس ذلك في طبع حركة الماء؟ فإذا كان هذا هكذا فالقمر إذا علة المد والجزر.
والحجة الثالثة:
أن قلنا إن طبيعة الماء أن يذهب سفلا إلى عمق البحر ونحن نراه في وقت المد يتحرك علوا؛ لأنه يرتفع من عمق البحر إلى أعلاه، ثم يصير إلى الشاطئ ثم يرفع بعضه بعضا بحفر شديد حتى يرتفع وليس ذلك في طبع الماء أن يتحرك علوا، وليست تلك الحركة من طبعه، علمنا أن له محركا هو علة حركته، فإن لم يكن القمر علة تلك الحركة فلا بد له من علة أخرى غير القمر، وذلك ما لا يوجد، فليس إذن لحرمة ماء المد علة غير القمر كما ذكرنا فيما تقدم بالحجج المقنعة.
والحجة الرابعة:
في الرد على الذين قالوا إن القمر لو كان علة المد والجزر لكان يجب أن تكون الأودية والأنهار والعيون تمد وتجزر، فنقول إن الخاصية التي في المد والجزر لا توجد في كل الأودية والأنهار والعيون والجزائر والبحار كالكل فتوجد في الأودية والأنهار والعيون التي هي كالجزء من الخاصية؛ لأن مياه البحار غليظة، واقفة مالحة، ومياه الأودية والأنهار والعيون متحركة جارية لطيفة عذبة، فكما أن خاصية الأودية والأنهار خلاف خاصية البحار، فكذلك حال الآخر. وقد ذكرنا فيما تقدم لأية علة لا تكون في المياه الجارية كالأودية والأنهار والعيون والمد والجزر. (4-5) الفصل الثامن في اختلاف حالات
32
البحار وصفة البحار التي يتبين فيها المد والجزر والتي لا يتبين فيها ذلك وفي خاصية فعل الشمس في البحار [كنا] قد وصفنا المد والجزر وحالاتهما، وسنصف الآن البحار بصفة كلية كما وصفها بعض الفلاسفة، فإنهم قالوا إن القمر قد يؤثر في البحار كلها آثارا مختلفة، وإنما يتبين في بعض دون بعض لاختلاف حالاتها ومياهها.
فأما البحار فهي على ثلاثة أنحاء:
أحدها:
لا يكون فيه مد ولا جزر.
والثاني:
لا يتبين فيه المد والجزر.
والثالث:
ما يتبين فيه المد والجزر.
فأما البحار التي لا يكون فيها المد والجزر فهي على ثلاثة أصناف:
فأما الصنف الأول:
فهي المياه التي لا تقف زمانا طويلا، ولا يغلظ ماؤها، ولا يصير مالحا ولا تتكاثف فيها الرياح؛ لأنه ربما صار الماء إلى بعض المواضع ببعض الأسباب، فيصير كالبحيرة وينقص الماء منه في الصيف ويزيد في الشتاء، ويتبين فيه زيادة ما يصب فيه من ماء الأنهار والعيون ونقصان ما يخرج منه، وذلك الماء وما كان مثله من المياه لا يكون فيه مد ولا جزر؛ لأنه بتلك الحركات التي تكون من زيادة الماء ونقصانه لا يجتمع ولا تتكاثف فيه الرياح.
والصنف الثاني:
من البحار التي تبعد عن مدار القمر ومسامتته بعدا كثيرا فإنه لا يكون فيه مد ولا جزر.
والصنف الثالث:
المياه التي يكون الغالب على أرضها التخلخل؛ لأنه إذا كانت أرض متخلخلة ينفذ الماء منها إلى غيرها من البحار، وتتنفس وتتخلخل الرياح التي تكون في أرضها أولا فأول. فلا يكون فيها مد ولا جزر، ويكون الغالب عليها الرياح وأكثر ما يكون هذا في أرحل البحار التي لا يتبين فيها المد والجزر، وهي على ثلاثة أصناف:
فالصنف الأول:
الذي يكون فيه القمر موازيا لأحد شاطئيه ولا يوازي الشاطئ الآخر لبعد مسافة ما بين الشاطئين، ويكون الشاطئ الذي يوازي القمر يلي من الأرض المواضع التي هي غير مسكونة، فلا يوجد فيها المد والجزر، وذلك كأوقيانوس البحر حانة لا يتبين فيه المد والجزر؛ لاتساعه ولبعد أحد الشاطئين من مدار القمر ومن العمران ومن مشاهدة الناس له؛ لأن البحر الذي يلي شاطئيه العمران يجد الناس فيه المد والجزر، وإذا كان شاطئاه لا يليان العمران لا يجدونهما فيه.
والصنف الثاني:
في الماء الذي يكون شاطئاه معلومين ينتهيان إلى العمران ويكون القمر موازيا له أو قريبا من موازاته ولا يكون له أرحل وجزائر وينبسط فيها الماء، فإذا صار القمر إلى الربعين الدالين على المد وحرك ماءه فتحرك وتنفس فلم يتبين مد ذلك البحر ولا جزره، ولكن تكون فيه أمواج ورياح عواصف، وإنما يكون ذلك في البحيرات وفي الجزائر وأرحل البحار المنقطعة من البحر.
والصنف الثالث:
المياه التي تنصب بعضها إلى بعض، فإذا كان وقت المد تنفس الماء العلوي وانصب إلى أسفل ولم تتبين زيادته، وأما البحار التي تكون ويوجد فيها المد والجزر فهي البحار التي تكون قريبة من موازاة القمر ويكون مسيرها زمانا من الأزمنة ويكون شاطئاه يليان العمران، ويكون لها أرحل وجزائر ينبسط فيها الماء.
33
الفصل الثالث
كتاب وري الزند بالجزر والمد (يتيمة العصر في المد والجزر)
يعد هذا الكتاب أضخم عمل عثرنا عليه بين كل النصوص الأخرى والذي تناول ظاهرة المد والجزر، لكن تسيطر عليه الصبغة الدينية كون خلفيته الثقافية دينية. (1) المبحث الأول: التعريف بالمؤلف
عبد القادر بن أحمد بن علي بن ميمي البصري (توفي 1085ه/1674م). وهو فلكي، من فقهاء الحنفية، من أهل الموصل. تعلم بها وبالمدينة المنورة، وتوفي بالبصرة.
1 (2) المبحث الثاني: أعماله
له عدة كتب منها:
رسالة في الذب عن مذهب الإمام أبي حنيفة.
يتيمة العصر في المد والجزر.
حاشية على تلويح السعد.
رسالة في التصريف.
رسالة في العروض.
رسالة في المنطق.
السيف المخذم. (3) المبحث الثالث: التعريف بالكتاب
أكد نسبة الكتاب إلى ميمي معجم المؤلفين الأدباء بأنه عرف باسم «يتيمة العصر في المد والجزر».
2
وقد انفرد الباباني البغدادي في «هدية العارفين أسماء المؤلفين وآثار المصنفين» بذكر أن كتاب «وري الزند في الجزر والمد»
3
يختلف عن كتاب «يتيمة العصر في المد والجزر» الذي يقع ضمن مجموعة كتب عجائب المخلوقات، ويعرض فيها المؤلف للعديد من الموضوعات المتعلقة بالظواهر الطبيعية المختلفة في الأرض وفي السماء يبدأ بالتفرقة بين معنى البحر والبر في اللغة، مستشهدا بآيات قرآنية وأحاديث نبوية، ثم يفصل الحديث عن البحار المعروفة: بحر الهند الذي يقال له بحر الصين، وبحر المغرب، وبحر الشام والروم، وبحر بنطش، وبحر جرجان، ثم يطوف في عالم الأفلاك وتأثيراتها على الأرض وظاهراتها، ويتخلل هذا كله قصص غريبة وأحداث عجيبة. وعندما يتحدث عن أسباب المد والجزر يفند ما قاله أرسطو وغيره من الفلاسفة من أن علة ذلك هي الشمس وتأثير الرياح.
يبدأ المؤلف بديباجة قصيرة يحمد الله فيها ويثني عليه، ويصلي على النبي
صلى الله عليه وسلم . ثم ينتقل إلى مقدمة يعرف فيها القارئ بموضوع الكتاب وهو عن المد والجزر في البحر، ويمهد للموضوع بالجانب اللغوي للفظ «البحر» وتصريفاته ومعانيها كما وردت في المعاجم العربية.
بعدها يسرد لنا بعض الأحكام الشرعية الإسلامية المتعلقة بركوب البحر، من ناحية متى يجوز ركوبه ومتى لا يجوز، ومدى طهر مياه البحار، والأحكام الفقهية للوضوء من ماء البحر والصلاة فيه على السفينة.
ثم أفرد صفحات كثيرة لأدعية الحفظ من شرور البحر والإبحار، ثم يورد ما قاله العلماء والحكماء في البحار والجزائر التي تنتشر فيها وما فيها من عجائب المخلوقات. بعدها يقوم بتعداد البحار الموجودة وتحديد مواقعها الجغرافية وأطوالها.
لم يناقش موضع المد والجزر إلا بعد 33 صفحة. وهو يرتكز كثيرا على الأدلة النقلية من آيات قرآنية وأحاديث وأخبار عن السلف الصالح. ويحاول أن يركز على الصحيح منها ليعتمده كدليل يتطابق مع الظاهرة الطبيعية. إذ يغلب على المؤلف التفكير الديني الصوفي.
أيضا يستطرد كثيرا جدا، فبين القول الأول والقول الثاني 62 صفحة من الابتعاد عن صلب الموضوع، إلى درجة ينسى فيها القارئ أنه يطلع على كتاب عن المد والجزر.
استخدم المؤلف بعض المختصرات مثل كلمة «بط» في نسخة دائرة المعارف العثمانية ويعني بها «بطل». فقمنا بوضعها بلفظها الصحيح «بطل» منعا من التباس المعنى في السياق. كما أننا أعدنا الألف لكلمتي «صلوة وحيوة» لتصبح «صلاة وحياة». (4) المبحث الرابع: توثيق النسخ المعتمدة في التحقيق
لم نعثر سوى على نسختين من هذا الكتاب؛ إحداهما من مقتنيات دائرة المعارف العثمانية، والأخرى موجودة بالمكتبة البريطانية وهي نفسها الموجودة في مركز الملك فيصل ومكتبة المدينة المنورة.
وقد اعتمدنا نسخة دائرة المعارف العثمانية؛ كونها الأكمل والأوضح بين النسختين، ولكونها كما ذكر الناسخ مأخوذة عن تلميذ المؤلف. (1)
نسخة دائرة المعارف العثمانية:
عنوان المخطوط: كتاب وري الزند بالجزر والمد.
عنوان شارح على الورقة الأولى: يتيمة العصر في المد والجزر.
رقم المخطوط: ق ع 11/423.
اسم الناسخ: سيد محمد مرتضى.
تاريخ نسخ المخطوط: النسخة الحديثة 1931م.
التملكات: لا يوجد.
عدد الورقات: 197 ورقة.
المسطرة: 17 سطرا.
حالة الورق: جيدة.
ملاحظات:
يبدو أن دائرة المعارف العثمانية قد نسختها عن نسخة أخرى بخط اليد أيضا عام 1931م، وقد سجل الناسخ الحديث اسمه في آخرها.
الصفحة الأولى من نسخة الهند.
الصفحة الأخيرة من نسخة الهند. (2)
نسخة المكتبة البريطانية:
عنوان المخطوط: كتاب المد والجزر في البحر.
عنوان شارح على الورقة الأولى: لا يوجد.
رقم المخطوط: (
OR 8395 ).
الصفحة الأولى من نسخة بريطانيا.
الصفحة الأخيرة من نسخة بريطانيا.
اسم الناسخ:
تاريخ نسخ المخطوط: جمادى الأولى 1086ه/يوليو (تموز) 1675م.
التملكات: من تفضلات الله على عبده الفقير إليه، الفقيه النبيه الفاضل الأوحد الكاملي بدر الدين محمد بن محمد كاني حفظه الله ذاته، وقرن بالسعود والخير أحواله وأوقاته، ورزقه حفظ العلم والعمل، وبلغه أقصى غايات المرام والأمل بحق محمد وآل محمد
صلى الله عليه وسلم . في ملك العبد الفقير إلى الله تعالى محمد بن محمد علي موسى، في ملك الحقير الفقير إلى الله تعالى محمد الحاج سليمان بن يوسف، ثم صار هذا الكتاب في ملك الفقير إلى الله محمد بن باقر الجبالي غفر الله له ولوالديه آمين.
عدد الورقات: 116 ورقة.
المسطرة: 17 سطرا.
حالة الورق: جيدة، فيه آثار تآكل من الحشرات.
ملاحظات:
هذه النسخة مصورة محفوظة في مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية بالرياض برقم (ب 9452-9454) وفي مكتبة عارف حكمت بالمدينة المنورة (12 فلك). وهي ناقصة في آخرها بعض الصفحات وتقف عند الفائدة العشرين «كلهم من العالين الذين لم يؤمروا بالسجود لآدم».
وقد قمنا بترميز النسخ كما يأتي: (1)
نسخة الهند (د). (2)
نسخة بريطانيا (ط). (4-1) كتاب المد والجزر
4
المسمى بوري الزند عبد القادر بن أحمد بن ميمي نسخة قديمة كتب بخط تلميذ المؤلف
5
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين
الحمد لله الذي خلق الماء وكون منه الأرض والسماء، وأنشأهما واحدة واحدة، رتقا رتقا، وفتقهما سبعا سبعا، فتقا فتقا. رفع السماء بقدرته، وزينها
6
بالكواكب والجمال، ودحى الأرض بحكمته وأرساها بالجبال.
ميز البر من البحر، وجعل المد والجزر، وأنزل الغيث والبذر، فتفجرت عيون وأنهار، وتكونت حدائق وأزهار. فسبحانه من حكيم تاهت في بيداء معرفته العقول، وعجزت عن إدراك حقيقته
7
أجلاء الفحول.
والصلاة والسلام على سيدنا محمد أول من استسلم وانقاد، واعترف بالعجز
8
بعد الاجتهاد، وعلى آله وأصحابه نجوم الاهتداء وبدور الاقتداء، ما طلعت شمس في فلك، وأضاء بدر في حلك.
أما بعد، فيقول الفقير إلى الله الغني، عبد القادر بن أحمد بن علي بن ميمي، كان الله له في جميع حالاته، وعفا عن معاصيه وستر عوراته، هذا ما سبق الوعد به:
أولا:
من بيان سبب المد والجزر وحصل الامتثال به.
ثانيا:
طاعة لولي الأمر مع زيادات اقتضاها المقام، ومناسبات استطردها الكلام فجاء بحمد الله كتابا يرضي الوحر
9
الغضبان، ويقصد زلال منهله الراوي والظمآن، سائلا ممن حسن خيمه، وسلم من داء الحسد أديمه، إذا عثر على ما طغى به القلم وزلت به القدم، أن يدفع بالحسنة السيئة، فإن الحسود دأبه أن يحسب الحسنة وزرا، ويعد المعجزة
10
سحرا، والعبرة بمستبصر لا يصده الحسد عن الحق، ولا يرده عن الاتباع ملاحظة الخلق.
شعر:
11
إذا رضيت عني كرام عشيرتي
فلا زال غضبانا علي لئامها
12
والله أسأله أن يصب عليه سجال القبول ويجعله لمتتبعي الفوائد غاية
13
السؤل. ولما كان البحر متعلق المد والجزر، آل بناء الأمر أن نصدره بمقدمة مفيدة في الكلام فيه من أوجه عديدة؛
فأقول وعلى الله الاتمام، ومنه الامداد والاعتصام. قال الجوهري: البحر خلاف البر، سمي بذلك لعمقة واتساعه. والجمع أبحر وبحار وبحور، وكل نهر عظيم بحر. قال عدي: سره ملكه وكثرة ما يملك. والبحر معرضا، والسرير يعني الفرات، وسمي الفرس الواسع الجري بحرا، ومنه قول النبي عليه السلام في مندوب فرس أبي طلحة وإن وجدناه لبحرا. وماء بحر أي مالح، والجر الماء ملح. قال نصيب:
14
وقد عاد ماء البحر ملحا فزادني إلى مرضي أن أبحر المشرب العذب
ويقال أبحر فلان إذا ركب البحر. عن يعقوب: والبحر عمق الرحم،
15
ومنه قيل للدم الخالص الحمرة باحر وبحراني، والباحر الأحمق، حكاه كما
16
أبو عبيد. وبحرين بلد والنسبة إليه بحراني، وبنات بحر سحائب يجئن في الصيف منتصبات رقاقا بالحاء والخاء جميعا. والبحرة البلدة، يقال: هذه بحرتنا أي أرضنا، ولقيته صحرة بحرة أي بارزا ليس
17
بينك وبينه شيء، وبحرت أذن الناقة بحرا شققتها وخرقتها، ومنه البحيرة، قال الفراء: هي ابنة السائب، وحكمها حكم أمها. وتبحر في العلم وغيره أي تعمق فيه وتوسع.
18
قال الأصمعي: بحر الرجل بالكسر يبحر بحرا، إذا تحير من الفزع مثل بطر، ويقال أيضا: بحرا إذا اشتد عطشه فلم يرو من الماء. والبحر أيضا داء في الإبل، وقد بحرت، والأطباء يسمون التغير الذي يحدث للعليل دفعة في الأمراض الحارة بحرانا، يقولون هذا يوم بحران بالإضافة باحوري على غير قياس، وكأنه منسوب إلى باحور، وباحوراء مثل عاشور وعاشوراء، وهو شدة الحر في تموز وجميع ذلك مولد. انتهى.
زاد في المجمل يقال للحارات والفجوات البحار،
19
والبحار الأرياف، قال بعض أهل التأويل في قوله تعالى:
ظهر الفساد في البر والبحر
20
أراد بالبر البادية وبالبحر الريف. والبحر السلال يصيب الإنسان والباحر الرجل الأحمق انتهى.
إذا تقرر ذلك فاعلم أن قول الجوهري البحر خلاف البر تفسير بالأعم؛ لأنه شامل للعيون والآبار والجداول والسراة وغيرها مما ليس ببحر، وأهل اللغة لا يتحاشون عن التفسير بالأعم فتراهم يقولون سعدانة نبت والأراك شجر وأمثال ذلك. وأما أهل الميزان وسائر أرباب النظر فإنهم يعيبون
21
ذلك نعم إذا كان الشيء ظاهرا معروفا لا يحتاج إلى التفسير؛ لأن تفسيره إن ساواه في الظهور فلا فائدة، وإلا كان تفسيرا بالأخفى وهو عيب؛ لأنه مناف للغرض المقصود من التعريف.
إذا علمت ذلك فاعلم أن البحر معروف مستغن عن التعريف والتفسير، وهو وإن كان لفظا مشتركا كما نقلنا إلا أن المتبادر منه عند الإطلاق هو مقابل البر مما كان ملحا أجاجا أو مرا زعاقا؛ لأنه مجاز في غيره من معانيه التي وضعت له، بل لاشتهاره بذلك وكثرة استعماله، وتبادر المعنى لكثرة الاستعمال والدوران لا يدل على مجازية ما عدا المعنى المتبادر مما وضع له اللفظ، والبحر الذي قلنا إن
22
المد والجزر من خواصه يعنى به ذلك؛ لأن ما عداه من الأنهار وإن حصل فيه المد والجزر كنهر البصرة ونهر سورة البندر الهندي فإنما ذلك بتبعيته
23
مد البحر لا بطريق الاستقلال، فلنقتصر على الكلام فيه إذ هو معروض المسألة.
فنقول وبالله التوفيق: أما وصفه فهو كما قال الله تعالى في كتابه العزيز:
والبحر المسجور
24
أي المملوء، وهو المحيط أو الموقود من قوله تعالى:
وإذا البحار سجرت
25
بالتخفيف كما هو قراءة ابن كثير وأبي عمرو وروح أو التشديد كما هو قراءة الباقين،
26
لأن تضعيفه للمبالغة دون التعدية أي أحميت من سجرت
27
التنور إذا ملأته
28
بالحطب لتحميه. وروي أن الله تعالى يجعل يوم القيامة البحار نارا يسجر بها جهنم أو المختلط من السجير وهو الخليط.
وقال عمر بن الخطاب لعمرو بن العاص رضي الله عنهما: صف لي البحر. فقال: يا أمير المؤمنين مخلوق عظيم يركبه خلق ضعيف، دود على عود. فقال عمر رضي الله عنه: لا جرم، لولا الحج والجهاد لضربت من يركبه بالدرة. ثم منع من ركوبه ثم رجع عن ذلك بعد مدة، وكذلك وقع لعثمان ومعاوية، رضي الله عنهما.
وأما خواصه التي فيه والجارية فيه، فقد
29
قال سيدي زروق قدس سره حين ذكرها: ولا يقدر على القيام بها وحسبك أنه كله رحمة وبركة ونجاة وهلكة؛ فظهره مجار للفلك، وقعره لآل الملك، وماؤه طهور، وميتته
30
حلال. وأخرج الدارقطني أنه طهور
31
الملائكة إذا عرجوا وإذا نزلوا.
وأما حكم ركوبه من حيث هو فلا خلاف اليوم في جوازه وإن اختلف فيه نظر السلف ثم هو ممنوع في أحوال خمسة:
أولها:
إذا
32
أدى لترك الفرائض أو نقضها.
33
الثاني:
إذا كان مخوفا بارتجاجه من الغرق فيه، فإنه لا يجوز ركوبه؛ لأنه من الإلقاء للتهلكة، قالوا وذلك من دخول الشمس في العقرب إلى آخر الشتاء.
الثالث:
إذا خيف فيه الأسر واستيلاء العدو في النفس أو المال بخلاف ما إذا كان معهم أمن والحكم للمسلمين لقوة أيديهم وأخذ رهائنهم وما في معنى ذلك.
الرابع:
إذا أدى ركوبه للدخول تحت أحكامهم والتذلل لهم ومشاهدة منكرهم مع الأمن على النفس والمال بالاستيثاق منهم.
الخامس:
إذا خاف بركوبه عورة، كركوب المرأة في مركب صغير لا يقع
34
لها به سترة، بخلاف ما إذا اختصت بموضع في مركب كبير.
كذا ذكرها سيدي زروق في شرح
35
الحزب. وقواعدنا لا تأتي ذلك، إلا أن التحديد لوقت المنع من الركوب بسبب الارتجاج والخوف من الغرق بدخول الشمس إلى العقرب إلى آخر الشتاء ينبغي أن يخصص ببعض البحور التي شأنها ذلك في هذا الوقت المحدود دون البعض الآخر الذي لا يستوعب فيه ذلك جميع المدة المضروبة كبحر فارس.
وأما بيان حكم مائه فالطهور به؛
36
لقوله
صلى الله عليه وسلم
فيه: هو الطهور ماؤه، الحل ميتته.
37
وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: ماء البحر لا يجزئ عن وضوء ولا عن جنابة، إن تحت البحر نارا ثم ماء ثم نار آخر.
38
خبر
39
السيوطي عن ابن أبي شيبة في مصنفه وعن أبي جعفر الرازي عن الربيع عن أنس عن أبي العالية قال: ركبت مع أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم
ففني ماؤهم فكرهوا الوضوء من ماء البحر وتوضئوا بالنبيذ.
40
أخرجه شمس الأئمة الديري في المسائل الشريفة.
وأما حكم الصلاة فيه
41
فجوازها جالسا في الفرض بلا عذر عند أبي حنيفة رحمه الله مع الإساءة، وعندهما وعند أكثر أهل العلم لا يجزيه لأبي حنيفة رضي الله عنه حديث ابن سيرين قال: صلى بنا أنس في السفينة ونحن قعود. ذكره ابن حزم في المحلى وذكره صاحب المبسوط والمحيط وفيه ولو شئنا لخرجنا إلى الحدة.
42
وقال مجاهد: صلينا مع جنادة بن أبي أمية في السفينة قعودا ولو شئنا لقمنا. ذكره في المحيط؛ فثبت
43
هذان الأثران عن الصحابيين عند أبي حنيفة فعمل بما ثبت عنده وللأكثرين حديث ابن عباس رضي الله عنه قال: بل بعث رسول الله
صلى الله عليه وسلم
جعفرا إلى الحبشة قال: يا رسول الله كيف
44
أصلي في السفينة؟ قال: صل
45
قائما، إلا أن تخاف الغرق. وفي سنده حسين بن علوان، قال أبو حاتم الرازي والدارقطني: متروك. وقال ابن معين: كذاب. وقال ابن عدي: يضع الحديث. وعن ميمون بن مهران عن بن عمر رضي الله عنهما قال: سئل رسول الله
صلى الله عليه وسلم
كيف أصلي في السفينة؟ قال صل
46
قائما إلا أن تخاف الغرق.
47
فقد رواه الدارقطني والحاكم في المستدرك على الصحيحين قال أبو الفرج بن الجوزي في التحقيق فيه بشر بن عرابي
48
وهو لا يعرف، كذا في المسائل الشريفة.
قال في البحر بعد أن حكى الخلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه، وعلل وجه قول أبي حنيفة بكون الغالب فيها دوران الرأس وهو كالمتحقق، إلا أن القيام أفضل؛ لأنه أبعد عن شبهة الخلاف، والخروج أفضل إن أمكنه؛ لأنه أسكن لقلبه ما نصه، والخلاف مبني في غير المربوطة في الشط
49
والمربوطة بالشط كالشط هو الصحيح كذا في الهداية، وهو مقيد بالمربوطة بالشط.
أما إذا كانت مربوطة في لجة البحر؛ فالأصح إن كانت الريح تحركها شديدا فهي كالسائرة، وإلا فكالواقفة ثم ظاهر الهداية والنهاية
50
والاختيار جواز الصلاة وفي المربوطة في الشط مطلقا، وفي الإيضاح فإن كانت موقوفة في الشط وهي على
51
قرار الأرض فصل قائما جاز؛ لأنها إذا استقرت على الأرض فحكمها حكم الأرض، فإن كانت مربوطة ويمكنه الخروج لم تجز الصلاة فيها؛ لأنها إذا لم تستقر فهي كالدابة بخلاف ما إذا استقرت فإنها حينئذ كالسرير واختاره
52
في المحيط والبدائع وفي الخلاصة.
وأجمعوا أنها لو كانت بحال يدور رأسه لو قام تجوز الصلاة فيها قاعدا وأراد بالصلاة قاعدا أن تكون بركوع وسجود.
53
لأنها لو كانت الإيماء لا تجوز اتفاقا لأنه لا عذر، وأطلقها فشمل ما إذا كان منفردا أو بجماعة، فلو اقتدى رجل في سفينة أخرى فإن كانت السفينتان مقرونتين جاز؛ لأنهما بالاقتران صارتا كشيء واحد وإن كانتا منفصلتين لم تجزه؛ لأنه تخلل ما بينهما بمنزلة النهر، وذلك يمنع صحة الاقتداء. وإن كان الإمام في سفينة والمقتدون على الحذ والسفينة واقفة فإن كان بينهم طريق أو مقدار نهر عظيم لم يصح الاقتداء به؛ لأن الطريق ومثل هذا النهر يمنعان صحة الاقتداء، ومن وقف على أطلال السفينة يقتدي بالإمام في السفينة صح الاقتداء به
54
إلا أن يكون أمام الإمام؛ لأن السفينة كالبيت واقتداء الواقف على السطح بمن هو في البيت صحيح إذا لم يكن أمام الإمام، ولا يخفى عليه حاله، كذا هنا كذا في البدائع، وقد يترك القيام؛ لأن ترك الاستقبال بوجهه إلى القبلة وهو قادر عليه لا يجزيه في قولهم، فعليهم أن يستقبلوا لوجوههم القبلة كلما دارت السفينة يحول وجهة كذا في الاسبيجابي انتهى.
وأما يقال فيه؛ فقد ذكر أبو الحسن الربعي في فضائل الشام قال: روي عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال: من عد في البحر أربعين موجة وهو يكبر غفر له ذنوبه ما تقدم منها وما تأخر وإن الأمواج والتكبير لتحت الذنوب حتا. وعن النبي
صلى الله عليه وسلم : أمان لأمتي من الغرق إذا ركبوا في السفينة بسم الله الملك الحق، وما قدروا الله حق قدره، والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون، بسم الله مجريها ومرساها، إن ربي لغفور رحيم. رواه ابن أبي حاتم. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: من قال هذه الكلمات عند ركوب البحر أو الدابة
55
فإن غرق أو عطب فعلي ضمانه يوم القيامة: بسم الله الملك الرحمن، وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون، وقال اركبوا فيها بسم الله مجريها ومرساها إن ربي لغفور رحيم، وفي رواية: بسم الله، الملك لله، يا من له السموات السبع خائفة، والأرضون السبع طائعة والجبال الشامخة والبحار الزاخرات خاضعة، احفظني أنت خير حافظا وأنت أرحم الراحمين، وقال اركبوا فيها بسم الله مجريها ومرساها إن ربي لغفور رحيم، ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات ليذيقكم من رحمته ولتجري الفلك بأمره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون، الله رب السموات السبع وما أظللن، ورب الأراضين السبع وما أقللن، ورب الجبال وما أرسين، ورب الرياح وما أرسلن، ورب البحار وما جرين ورب الرياح وما سخرن؛ أن تسخر لنا هذا البحر كما سخرت البحر لموسى عليه السلام إنك على كل شيء قدير وصلى الله على خير خلقه محمد وآله أجمعين.
فإذ استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين، رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين، سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون، إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا، ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا، إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم، أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم ... إلى آخر السورة. وعن بعض علماء الديار الشامية بدمشق المحروسة قال إذا ركبت البحر
56
فقل السلام عليك يا أبا خالد ويا أبا جابر ويا أبا مالك، وقال اركبوا فيها بسم الله مجريها ومرساها إن ربي لغفور رحيم، اللهم اجعلني في حفظك وفي كنفك ولا تسلبنا نعمتك ولا تغير ما بنا من عافيتك، اللهم صل على سيدنا محمد الشفيع اللهم أجر لطفك في أمري يا لطيف يا لطيف يا لطيف يا لطيف يا لطيف الطف بخلق السموات والأرض، أسألك أن تلطف بي في عظيم قدرتك كما لطفت بالأجنة في بطون أمهاتها، واكتب في ورقة جميع ذلك وارمه في البحر عندما تركب واجعل الدعاء وردا لك كل يوم وليلة ترى عجبا من سهولة البحر وتيسير الطريق بإذن الله تعالى.
قيل ويستحب أن يقول في السفينة ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب، ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره، قد جعل الله لكل شيء قدرا، حسبي الله ونعم الوكيل، لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، يا غياث المستغيثين أغثني.
قيل من قال: يا نافع في السفينة ألف مرة لم يصبه شيء. وعن الكمال بن الهمام: سورة الرحمن لركوب البحر. وحكي أن جماعة سافروا في البحر وفيهم إبراهيم بن أدهم - رضي الله عنه - فهبت
57
الرياح وهاجت الأمواج فبكى الناس وقالوا لإبراهيم: ما ترى ما نحن فيه؟ فرفع رأسه وحرك شفتيه وقال: يا حي حين لا حي ويا حي قبل كل حي ويا حي بعد كل حي يا حي يحيي الموتى، يا حي يا قيوم يا محسن يا مجمل قد أريتنا قدرتك فأرنا رحمتك فهدأت السفينة.
وأما بيان ما جاء فيه من الأحاديث وأقوال العلماء والحكماء وذكر شيء من جزائره، فقد أخرج السيوطي عن أبي الشيخ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن هذا الخلق أحاط بهم بحر، قيل وما بعد
58
البحر؟ قال: هواء، قيل: وما بعد الهواء؟ قال: بحر أحاط بهذا الهواء والبحر
59
الداخل إلى سبعة أبحر.
وأخرج عنه عن وهب قال: إنها سبعة أبحر وسبع أراضين، والأرض على ظهر الحوت واسم الحوت بهموت.
وأخرج عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: تحت بحركم هذا بحر من نار، وتحت ذلك البحر بحر من ماء، وتحت ذلك البحر بحر من نار، حتى عد سبعة أبحر من نار وسبعة أبحر من ماء.
وأخرج ابن أبي حاتم أن بحرنا هذا خليج من نيطش ونيطش وراءه وهو المحيط بالأرض وما فيها من البحار. عند نيطش كعين على سيف البحر، وخلف نيطش قنبس
60
محيط بالأرض فنيطش وما دونه عنده كعين على سيف البحر، وخلف قنبس الأصم محيط بالأرض؛ فقنبس وما
61
دونه عنده كعين على سيف البحر.
وأخرج السيوطي عن حسان بن عطية قال: بلغني أن مسيرة الأرض خمسمائة سنة بحورها منها مسيرة ثلاثمائة سنة، والخراب منها مسير
62
مائة سنة والعمران مسير
63
مائة سنة.
وأخرج علي بن حاتم عن كعب الأحبار قال: إنما يفضل البحر الأرض بحر بمربط ثور. وأخرج عنه عن سفيان قال: بلغني أن البحر يخرج من زق. وأخرج عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: بلغني أن البحر زق بيد ملك لو يفضل منه الملك لطمى على الأرض.
قال في خريدة العجائب:
64
أعظم بحر على وجه الأرض المحيط المطوق بها من سائر جهاتها، وليس له قرار ولا ساحل إلا من جهة الأرض، وساحله من جهة الخلو البحر المظلم، وهو محيط بالمحيط كإحاطة المحيط بالأرض، وظلمته من بعده عن مطلع الشمس ومغربها انتهى.
وهذا المحيط يسمى عندهم بحر المغرب، ويسميه اليونانيون إذفيانس.
65
وحكي عن أرسطاطاليس أن بحر إذفيانس
66
محيط
67
بالأرض بمنزلة الإكليل لها؛ لأنه محيط بها من جميع جهاتها. وفي الجعفرية أن هذا البحر يسمى بحر الظلمة؛ لأنه بحر واحد لا تهب فيه الرياح ولا أمواج له ولا ترى فيه شمس. وقال الفلاسفة: لا قعر له ولا تجري فيه السفن، وإنما
68
يسلك بالقرب من ساحله، والبحار التي على وجه الأرض خلجان منه، وفي هذا البحر عرش إبليس أعاذنا الله وإياكم منه، يتشبه بالباري سبحانه وتعالى، ويحملونه نفر من الأبالسة، ويحيط به سائر أصناف الجن؛ فمنهم من لا يفارقه من حجابه وخدمته، ومنهم من يتصرف بأمره في فتنة الناس وكيدهم وتذليلهم.
69
له جزيرة اتخذها سجنا لمن خالف من الجن أمره. في تلك الجزيرة هيكل سليمان عليه السلام وفيه جسده وهو قصر عجيب البناء واسع الفناء.
وفي هذا البحر جزيرة لا تزال عامرة لزمان، تقذف نارا تعلو مائة ذراع فأكثر، وفيه حصون وقصور، وتظهر على وجه الماء وفيه الأصنام التي عملها أبرهة ذو المنار الحميري قائمة على الماء، أحدها أصفر يومئ بيده كأنه يخاطب من ركب هذا البحر يأمره بالرجوع. والثاني أخضر رافع يديه باسطا كأنه يقول إلى أين تذهب. والثالث أبيض أسود الشعر يومئ بإصبعه إلى البحر كأنه يقول من جاوز هذا المكان غرق، مكتوب على صدره هذا ما صنع أبرهة ذو المنار الحميري لسيدته
70
الشمس يتقرب إليها.
وفي هذا البحر ينبت
71
شجر المرجان. قال في الخريدة:
72
وفي هذا البحر مدائن تطفو على وجه الماء، وفيها ربع
73
أهلها من الجن في
74
مقابلة الربع الخراب
75
من الأرض، وتظهر فيه الصور
76
العجيبة والأشكال الغريبة، ثم تغيب في الماء. وفي البحر المحيط من الجزائر المسكونة والخالية ما لا يعلمه إلا الله.
77
وفي الإنسان الكامل للشيخ عبد الكريم الجيلي قدس سره: اعلم أن البحر المحيط المذكور ما كان منه منفصلا عن جبل قاف مما يلي الدنيا فهو مالح، وما كان منه متصلا بالجبل وهو وراء المالح فهو البحر الأحمر الطيب الرائحة، وما كان
78
منه وراء جبل قاف متصلا بالجبل فإنه البحر الأخضر، وهو من الطعم كالسم القاتل، ومن شرب منه قطرة هلك وفني لوقته. وما كان وراء الجبل بخلاء الانفصال والحيطة والشمول وجميع الموجودات فهو البحر الأسود الذي لا يعلم له طعم ولا ريح ولا يبلغه أحد بل وقع به الإخبار فعلم وانقطع عنه الآثار فكتم.
وذكر قدس سره أن في البحر المالح الذي أشار إليه في مجمع البحرين منه
79
عين الحياة، وأن الإسكندر سافر ليشرب من هذا الماء، واعتمادا على كلام أفلاطون، من شرب ماء الحياة لا يموت؛ لأن أفلاطون كان قد بلغ هذا المحل وشرب من هذا البحر. قال وهو باق إلى يومنا هذا في جبل يسمى داوند، وكان أرسطو تلميذ أفلاطون وهو أستاذ الإسكندر قد صحب الإسكندر
80
في سيره إلى مجمع البحرين، فلما وصلوا إلى أرض الظلمات سار وتبعه نفر من عسكره وأقام الباقون بمدينة تسمى ثبت برفع المثلثة والموحدة وإسكان المثناة من فوق، وهو حد ما تطلع عليه الشمس، وكان من جملة من صحب الإسكندر الخضر عليه السلام وساروا مدة لا يعلمون عددها ولا يدركون أمدها، وهم على ساحل البحر وكلما نزلوا منزلا شربوا من الماء، فلما ملوا من طول السفر أخذوا في الرجوع إلى حيث أقام العسكر وقد كانوا مروا بمجمع البحرين على طريقهم من غير أن يشعروا به فلا أقاموا عنده ولا نزلوا به لعدم العلامة، وكان الخضر عليه السلام قد ألهم
81
أن يأخذ طيرا فيذبحه ويربطه على ساقه، فكان يمشي ورجله في الماء، فلما بلغ هذا المحل انتعش الطير واضطرب عليه فأقام عنده وشرب من ذلك الماء واغتسل منه وسبح فيه، فكتمه عن الإسكندر وكتم أمره إلى أن خرج فلما نظر أرسطو إلى الخضر عليه السلام علم أنه قد فاز بذلك من دونهم، فلزم خدمته إلى أن مات، واستفاد هو والإسكندر من الخضر
82
علوما جمة. قال قدس سره: اجتمعت به - أي الخضر - وسألته ومنه أروي جميع ما في البحر المحيط انتهى.
قال في بهجة الناظرين وفي مسالك البكري عن بطلميوس
83
إن فيه سبعة وعشرون ألف جزيرة عامرة وعابرة، منها جزيرة تظهر ستة أشهر بكل من فيها، ومنها جزيرة ترى على بعد فإذا قرب منها القاصد لها غابت عنه، وإذا رجع إلى الموضع الذي رآها منه نظر إليها. ويقول البحريون إن في ذلك البحر سمكة صغيرة يقال لها الشاكل إذا حملها الإنسان معه أبصر الجزيرة، وقيل إن بها شجرة تطلع بطلوع الشمس فلا تزال طالعة إلى نصف النهار ثم تعود إلى الانحطاط حتى تغيب بمغيب الشمس.
ومنها الجزيرة السيارة
84
فيها جبال وشجر وعمارة، فإذا هبت ريح من المغرب سارت إلى المشرق، وإذا هبت ريح من المشرق سارت إلى المغرب هذا دأبها وهي ثابتة بإجماع البحريين. ويذكرون أن حجارتها هفافة زنة الحجر الذي يقدر بالقناطير عشرة أرطال ويحمل الإنسان القطعة الكبيرة من جبالها.
ومنها جزيرة بيضاء واسعة كثيرة الأشجار والأنهار بها قوم وجوههم في صدورهم للواحد منهم فرجان فرج امرأة وفرج رجل، يتكلمون بمثل كلام الطير وطعامهم نبات يشبه القطن والكمأة.
ومنها جزيرة النمل وهم خلق كثير ذوو أجنحة وشعور وخراطيم يمشون على رجلين كمشي الناس، وعلى أربع كمشي البهائم ويطيرون في الهواء مع الطيور.
ومنها جزيرة فيها أقوام رءوسهم كرءوس الكلاب العظام بادية الأنياب يخرج من أفواهها مثل لهب النار.
ومنها
85
جزيرة فيها أمة طوال الوجوه ومعهم قضبان الذهب يعتمدون عليها ويحاربون بها على رءوسهم الذهب وثيابهم منسوجة بالذهب وطعامهم الموز. إلى غير ذلك من الجزائر ومن ذكر شيء من بحار الأرض المتشفية من بحر المحيط.
حكى الإمام فخر الدين عن الكسائي وغيره من العلماء أن البحور المعروفة خمسة: الأول بحر الهند وهو الذي يقال له بحر الصين، الثاني بحر المغرب، الثالث بحر الشام وهو اليوم بحر الروم، الرابع بحر نيطش ، الخامس بحر جرجان.
فبحر الهند متصل بالمحيط من المشرق وليس على وجه الأرض بحر أكبر منه إلا المحيط، وهو كثير الموج عظيم الاضطراب فيخرج من المحيط ثم يمر أولا بالصين ثم بالهند ثم بالسند ثم يمر على جنوب اليمن وهناك ينتهي إلى باب المندب فتكون مسافته من المحيط في المشرق إلى باب المندب في المغرب أربعة آلاف فرسخ وخمسمائة فرسخ.
وقال الفخر [الرازي] عن الكسائي في غيره، طوله ثمانية آلاف ميل وعرضه ألفا ميل وسبعمائة ميل، ويمتد
86
هذا البحر من أرض الحبشة من المغرب إلى أقصى أرض الهند والصين
87
من المشرق ويجاوز خط الاستواء بألف ميل وسبعمائة ميل، ويخرج منه أربعة أخاليج:
الأول:
عند أرض الحبشة، قال الفخر ويمتد
88
إلى ناحية البربر ويسمى الخليج البربري وطوله مقدار خمسمائة ميل وعرضه مائة ميل.
الثاني:
خليج بحر آيلة وهو بحر القلزم، ومبدؤه من باب المندب فيمر في جهة الشمال مغربا قليلا فيتصل بغربي اليمن ويمر بتمامه والحجاز، وينتهي إلى مدينة القلزم وإليها ينسب، وهذا البحر الذي أغرق الله فيه فرعون، وهو بحر مظلم وحش لا خير فيه، ثم ينعطف راجعا في جهة الجنوب فيمر بشرقي بلاد الصين إلى عيذاب إلى الجزيرة سواكن إلى زيلع من
89
بلاد البجة التي بلاد الحبشة ويتصل بالبحر الهندي، وطوله ألف وأربعمائة ميل وعرضه سبعمائة ميل، قال الفخر وعلى شرقيه أرض اليمن وعدن وعلى غربيه أرض الحبشة.
الثالث:
بحر فارس ويسمى الخليج الفارسي والخليج الأخضر فيخرج من بحر الصين إلى أن ينتهي إلى عبادان ثم ينعطف راجعا إلى جهة الجنوب فيمر ببلاد البحرين واليمامة ويتصل بعمان وأرض اليمن، وهناك اتصاله بالبحر الهندي وهو بحر مبارك كثير الخير، دائم السلامة، وطيء الظهر، قليل الهيجان، قال الإمام الفخر وهو بحر البصرة وفارس، وطوله ألف وأربعمائة ميل وعرضه خمسمائة. قال وبين هذين الخليجين - أعني خليج آيلة وخليج فارس - أرض الحجاز واليمن وسائر بلاد العرب فيما بين مسافة ألف وخمسمائة ميل.
الرابع:
خليج يخرج إلى أرض الهند يسمى خليج الأرض طوله ألف وخمسمائة ميل. قال الفخر وفي بحر الهند من الجزائر العامرة ألف وثلاثمائة وسبعون جزيرة، وفي الخريدة أن في هذا البحر جزائر كثيرة قيل إنها تزيد على عشرين ألف جزيرة وفيها من الأمم ما لا يعلمها إلا الله تعالى، فأما ما يصل إليه الناس فأقل قليل، فمنها أيضا في بحر الصين اثنتا عشرة ألف جزيرة عامرة مسكونة وفي بعض جزائره ينبت الذهب.
البحر الثاني بحر المغرب وهو المسمى عندهم بالمحيط وقد مر ذكره، ويتصل به بحر الهند ولا يعرف
90
طرفه إلا في ناحية المغرب والشمال عند محاذاة أرض الروم والصقالية فيأخذ من أقصى المنتهى في الجنوب محاذيا لأرض السودان مارا على حدود السوس الأقصى وطنجة وقاهرة إلى المشرق. قال الفخر: فيه ست جزائر تقابل أرض الحبشة تسمى جزائر الخالدات. ويخرج من هذا البحر خليج عظيم في شمال الصقالية يمتد إلى أرض المسلمين طوله من المشرق إلى
91
المغرب ثلاثمائة ميل وعرضه ميل.
البحر الثالث بحر الروم وإفريقية ومصر والشام، طوله مقدار خمسة آلاف ميل وعرضه ستمائة ميل، ويخرج من خليج إلى أرض البربر طوله ميل. قال في الخريدة: مخرجه من المحيط ثم يأخذ مشرقا فيمر من شمالي الأندلس ثم ببلاد الفرنج إلى قسطنطينية، ويمتد
92
ببلاد الجنوب إلى سبتة
93
إلى طرابلس الغربي إلى الإسكندرية ثم إلى سواحل الشام إلى أنطاكية وهناك مجمع البحرين.
وذكر في كتاب أخبار مصر أنه بعد هلاك الفراعنة كانت ملوك بني دلوكي في شق البحر
94
المحيط من المغرب فانقلب الماء على بلاد كثيرة وممالك عظيمة فخربها وامتد الماء إلى الشام وبلاد الروم وصار حاجزا بين بلاد مصر وبلاد الروم على إحدى ساحليه النصارى وعلى الأخرى
95
المسلمون. قال الفخر وفي هذا البحر مائتان واثنتان وستون جزيرة عامرة منها خمسون جزيرة عظيمة، وذكر أبو حامد أنه لما غاض بحر الروم انكشف عن مدن
96
وعمارات لا توصف.
البحر الرابع بحر نيطش
97
ومبدؤه من البحر الشامي. قال الفخر: وهو يمتد
98
من الأزرقية إلى خلف قسطنطينية وأرض الروم والصقالية، طوله ألف وثلاثمائة ميل وعرضه ثلاثمائة ميل. وفي الخريدة عن هذا البحر فيتصل بالقسطنطينية فيكون عرضه من هناك ستة أميال، ويمر من جهة المشرق فيتصل في جهة الجنوب من أرض هراقلة إلى سواحل أطراف برندة إلى أرض الشكاله إلى أرض
99
لاينه وينتهي طرف هذا الخليج هناك، ثم ينعطف راجعا إلى مكان يتصل ببلاد الروسية وبلاد يرجان، ولا يزال حتى ينتهي إلى مضيق فم خليج قسطنطينية ويمر بشرقي
100
مقدونية إلى أن يتصل بالموضع الذي منه ابتدأ، وبين ساحله وبين أرض الترك أرضون وجبال مجهولة.
101
البحر
102
الخامس بحر بجرجان والديلم وهو بحر واسع ولا اتصال له بشيء من البحار غير أنه مخلوق في مكانه من غير مادة، لكن يصب في المحيط بواسطة خليج القسطنطينية وهو بحر هائل وتقع فيه أنهار كثيرة وعيون دائمة الجريان. وذكر الحوقلي أن هذا البحر مظلم القعر، وأنه يتصل ببحر نيطش
103
من تحت الأرض ويتصل بهذا البحر من جهة الغرب بلاد أذربيجان ومن جهة الجنوب بلاد طبرستان ومن جهة المشرق أرض الغربة ومن جهة الشمال أرض الخزور، فطوله ألف ميل وعرضه على ما قال الفخر ستمائة ميل، وفيه جزيرتان كانتا عامرتين ويعرف
104
هذا البحر ببحر المسكون.
قال الفخر فهذه البحور الخمسة هي البحور العظام، وأما غيرها فبحيرات وبطائح
105
كبحيرة خوارزم وبحيرة طبرية وبحيرة فلسطين بالغور.
في ذكر
106
شيء من جزائر بحر الهند. قد مر أن فيه من الجزائر ما يزيد على عشرين ألف جزيرة منها جزيرة كولم. قال صاحب الجعفرية: هي جزيرة عظيمة دورها في البحر خمسمائة فرسخ، وفيها خمس مدائن، وهي أخصب جزائر السند وأطيبها رائحة، ومنها يجلب المسك من حيوان عندهم على شبه الماعز، لها أعناق طوال ولا قرون لها، في أعناقها صرر على قدر البيض فإذا امتلأت سقطت فتؤخذ فتجفف حتى تيبس ثم تفتح فتخرج منها المسك العجيب، ثم ينبت في أعناقها غيرها، تعمل ذلك في كل ثلاثة أشهر. وفيها من الفلفل والقرفة واللبان والجوز الهندي شيء كثير، ويستخرج من الجوز أطيار على شبه الزرازير يطبخونها ولا يأكلون لحما غيرها .
ومنها جزيرة كبيرة قدرها خمسون فرسخا في مثلها، فيها
107
العود القماري وهو أعجب العيدان نكهة وأفرحها لاسيما إن جعل في خمر عتيق. وسائر أجناس العود عشرة كل جنس
108
لا يشبه الآخر وفيها كثير من الفاقلا والزنجبيل.
ومنها جزيرة أرين، حكى صاحب الجعفرية أنها نقطة الأرض كلها قفرها ومعمورها، وإذا توسطت الشمس الحمل لم يكن في هذه الجزيرة ظل لشيء قائم، وهي
109
أعدل الأرض هواء، واعتدال ليلها ونهارها طول الدهر لا يزيد ولا ينقص، ولا يسقط من شجرها ورقة، وكاد
110
لا يموت فيها إنسان إلا على مائة عام، وفيها من الأعاجيب المنارة التي وصفها المسعودي، وارتفاعها كارتفاع منارة الإسكندرية، في وسطها طلسم ظهره مما يلي الجنوب ووجهه مما يلي الشمال ويده اليسرى مما يلي وسط المغرب وذراعه اليمنى مبسوطة مما يلي وسط الشرق، وقد قبض أنامل كفه ومد السبابة على وسط مطلع الشمس، فإذا طلعت كان إصبعه في قاع أفق المشرق، فكلما طلعت رفع إصبعه معها حتى تكون على سمت رأسه وتكون إصبعه قائمة معها، فإذا مالت الشمس إلى المغرب أمال إصبعه إلى تحت الأرض كأنه يشير إلى الشمس، حتى إذا كان نصف الليل كان إصبعه في نصف الأرض، ثم لا يزال كذلك في الليل حتى تطلع الشمس وإصبعه على الشمس وهكذا طول الدهر وهذا أعجب ما في بلاد الهند.
ومنها جزيرة النهروان هي آخر جزائر الهند إلى العراق، ومن أعاجيب هذه الجزيرة شجر الشيرج وهي شجر كبار لها أوراق كأوراق الليم
111
تثمر كل عام بجوز عظيم الخلقة تشبع من الواحدة الربع وأكثر، فإذا بلغ أوانه أثقب في أسفل كل جوزة ثقب، وعلق فيه آنية فتوجد تلك الآنية مملوءة لبنا أشد بياضا من لبن الغنم فيأكلونه ويشربونه ويطبخونه ويصرفونه في طعامهم، فما بقي من ذلك اللبن إلى اليوم الثالث صار خلا فيتأدمون به
112
فما بقي لا يتبدل ولا يتغير إلى آخر الدهر. وما لم يثقب منه ذلك الجوز يسقط على الأرض، فإذا فتحت وجد فيها مثل السميد فيصبون عليه الماء السخن فيعود زيتا يأكلونه ويسرجون منه المصابيح فسبحان الفعال لما يريد.
ومنها جزيرة الروح، هي ثلاثة جزائر متجاورات وهي أقرب جزائر الهند إلى جزائر اليمن، وفيها كثير من الفلفل واللبان والزنجبيل، وفيها جبال الياقوت الأبيض، وفيها جبال الحيات كل حية قدر النخلة.
ومنها الجزائر الثلاثة، قال صاحب تحفة الغرائب: في إحداهن برق الليل كله، وفي الأخرى تهب رياح شديدة الليل كله، وفي الأخرى تمطر السماء الليل كله صيفا وشتاء على ممر الأيام والليالي.
ومنها جزيرة أرض سرنديب قد أحاط بها البحر من كل جانب، يسير بها الراكب نحو الشهر والشهرين، وفيها الجبل الذي نزل عليه آدم عليه السلام عليه نور شعاعي كلون قوس قزح لا يخلو منه ليلا ولا نهارا، له رائحة تفوق رائحة المسك، وعليه الصخرة التي نزل عليها آدم عليه السلام، وفيه أثر قدمه. وذكر ابن الجوزي في كتاب أعاجيب الأرض أن في هذا الجبل شجرة لها أوراق للورقة وجه أحمر وباطن أخضر مكتوب في الحمرة بالبياض لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وفي الخضرة مكتوب بالحمرة سبحان الله العظيم. وفي هذه الشجرة أطيار على قدر اليمامة تسبح الله بألسنة عربية وسريانية، فإذا أخذ منها طائر لم ينطق، ولم يتكلم، ولم يمكث أكثر من يومين ويموت، ولهذه الأطيار أصوات حسنة يبكي السامع لها تشوقا وخيفة عند سماعها.
ومنها
113
جزيرة القصر؛ وهو قصر عظيم مرتفع من بلور شفاف يبان أبيض لمن في المراكب، فإذا شاهدوه تباشروا بالسلامة، وهو قصر أبيض شاهق في الهواء لا يدرى ما داخله ولا يمكن الوصول إليه، ومر به ذو القرنين وأراد التوجه إليه فمنعه بهرام الفيلسوف الهندي وقال: لا تفعل يا ملك الزمان فإن من وصل إلى هذا القصر غلب عليه الخدر فقلة الحركة ولا يقدر على الخروج ويهلك، وإذا كان الليل ظهر لذلك القصر شرافات تسرج بالمصابيح الليل كله.
وفي بحر الصين جزائر كثيرة يذكر أنها تزيد على اثني عشر ألفا؛ ومنها جزيرة الطرب دورها في البحر مائة فرسخ وارتفعت في البحر من كل ناحية كالعمود لا يستطاع الصعود إليها؛ لارتفاعها في الهواء، قد تدلت ثمارها وأشجارها على حافتها، واشتبك بعضها ببعض فيسمع كل من مر عليها في البحر أنواعا من الملاهي كالمزامير والعيدان وغير ذلك من أنواع مختلفة. ولا يقدر أحد يسمع ذلك مخافة أن يقع هناك من شدة الفرح والطرب، ويزعمون أن الدجال هنالك ويسمعون أحيانا فيها صوتا عظيما كالرعد القاصف تكاد تذهل منه القلوب، فإذا سمع ذلك أهل الصين علموا
114
بموت ملكهم أو عظيم من عظمائهم، وحولها جواري البحر الموصوفة، وهي حيتان في البحر لها آذان وأجنحة كأجنحة الطير ولها رءوس الجواري يظهر عليها شعور على وجه الماء يسبحن الله تعالى في جميع الألسنة من عربية وغيرها، فيجتمع السامع لذلك حتى يبكي خوفا من الله تعالى.
ومنها جزيرة النساء وفيها أمة على شبه النساء الحسان، سبط الشعور نواهد
115
الصدور، ويقال لهن بنات الماء لهن قهقهة وضحك وكلام لا يفهم، وليس
116
فيهن ذكر أصلا. قيل إنهن يلقحن ويحملن من الريح ويلدن نساء مثلهن، وقيل إن بتلك الجزيرة نوعا
117
من الشجر يأكلن منه ويحملن. وتراب هذه الجزيرة كله ذهب وقد استولد بعض البحريين منهن غلاما فكان يعرف بابن البحرية.
ومنها جزيرة السحاب. قال في الخريدة: سميت بذلك؛ لأنه يطلع عليها سحاب أبيض ويعلو على المراكب في البحر، ويخرج منه لسان طويل رقيق مع ريح عاصف حتى يلتصق ذلك اللسان بالبحر فيغلي كالقدر حين يغور ويضطرب كالزوبعة الهائلة، فإن أدركت المراكب ابتلعتها. وبهذه الجزيرة تلول إذا أضرمت فيها النار سالت منها الفضة الخالصة.
ومنها جزيرة زامي.
118
قال في الخريدة: وهي جزيرة طويلة عريضة طيبة التربة معتدلة الهواء بها مدن وقرى، وطولها سبعمائة فرسخ. قال الفقيه: بهذه الجزيرة عجائب كثيرة ومنها أناس حفاة عراة على أبدانهم شعور تغطي سوأتهم يأكلون من الثمار، ويفرون من الناس وطول أحدهم أربعة أشبار ولا يلحقون بسرعة جريهم.
ومنها جزيرة الرخ. قال في الخريدة: وهذا الرخ طير عظيم غريب مهول الخلقة حتى قيل إن طول جناحه الواحد عشرة آلاف باع، ذكر ذلك الحافظ ابن الجوزي وكان قد وصل إلى الجزيرة رجل من أهل الغرب ممن سافر الصين وأحضر معه
119
قصبة
120
ريشة من جناح فرخ الرخ وهو في البيضة فكانت تلك القصبة
121
تسع قربة ماء. وذكر أنهم رأوا بيضة في الجزيرة فاعتقدوها قبة بيضاء عظيمة لماعة أعلى من مائة ذراع، فقصدوها وجعلوا يضربونها بالقوس حتى انشقت
122
عن فرخ الرخ كأنه جبل راسخ فتعلقوا بريشه فقتلوه وحملوا ما أمكنهم من لحمه وقطعوا من ريشه ورحلوا. قال فلما طلعت الشمس والمركب سائر إذ أقبل الرخ كأنه سحاب وفي رجله قطعة جبل كالبيت العظيم فلما حاذى السفينة ألقى الحجر وكانت السفينة مسرعة في الجري فسبقت الحجر فوقع في البحر وكتب الله السلامة.
ومنها جزيرة الواق الواق المشهورة. يوجد عندها سمكة تزيد على خمسمائة ذراع، وإذا رفعت جناحها كان كالجبل العظيم، يخاف على السفن منها فإذا رأوها صاحوا وضربوا الطبول حتى تهرب عنهم. وذكروا أن بجزائر الهند شجر إذا عمل منه دهن ودهن به أحد لم يقطع فيه الحديد. وفيها شجرة إذا أخذ دهنها وشرب على حالة مخصوصة استغني به عن الغذاء ولا يناله سقم ولا مرض ولا يموت لذلك وطول حيوته أبدا. فهذا وأنواعه من الأسرار والخواص التي أودعها الله في العالم. انتهى ما أردنا نقله من بهجة الناظرين.
وفي خريدة العجائب خص الله بحر فارس بالخيرات الكثيرة والبركات الغزيرة والفوائد والعجائب والظرف والغرائب منها: مغاص اللؤلؤ الذي يخرج منه الحب الكبير البالغ، وربما وقعت فيه الدرة اليتيمة التي لا قيمة لها. وفي جزائر منه أنواع معادن اليواقيت والأحجار الملونة النفيسة ومعادن الذهب
123
والفضة والحديد والرصاص والنحاس والسنباذج والعقيق وأنواع الطيب.
وذكر أن من جزائره جزيرة الطورشان قال: وهي جزيرة خصبة ذات أشجار وأثمار وأعين وأنهار وبها قوم أبدانهم أبدان الآدميين ورءوسهم رءوس الكلاب والسباع، وبها نهر شديد البياض وعلى شطه شجرة عظيمة تظل خمسمائة رجل، فيها من كل ثمرة طيبة مشرقة بأنواع الألوان، وكل ثمرها أحلى من الشهد والعسل، وطعم كل ثمرة لا تشبه الأخرى، وتلك الثمار ألين من الزبد وأزكى من رائحة المسك، وورقها كحلل الحرير والديباج، وهذه الشجرة تسير بسير الشمس وترتفع من الغداة إلى الزوال وتنحط من الزوال إلى الغروب حتى تغيب بغيبوبة الشفق.
وذكر منها جزيرة العباد. قال: وهي جزيرة عظيمة دخلها ذو القرنين فوجد بها قوما قد أنحلتهم العبادة حتى صاروا كالحمم السود، فسلم عليهم فردوا عليه السلام، فقال: ما عيشكم يا قوم؟ فقالوا: ما رزقنا من الأموال وأنواع النبات ونشرب من هذه المياه. فقال: ألا أنقلكم إلى عيشة أطيب مما أنتم فيه وأخصب؟ فقالوا: ما نصنع به إن عندنا في جزيرتنا ما نغتني به عن جميع العالم، ويكفيهم لو وصلوا إليه؛ فانطلقوا به إلى واد لا نهاية لطوله وعرضه وهو يتوقد من ألوان الدر واليواقيت والزبرجد والبلخش والأحجار التي لم تر في الدنيا مثلها، والجواهر التي لا تقوم. ثم انطلقوا من شفير
124
ذلك الوادي فأتوا به إلى مستو واسع من الأرض لا تنتهيه الأبصار به أصناف الأشجار وأنواع النخل والأزهار وجناس الأطيار وأفياء وظلال
125
ونسيم ذو نزه ورياض وجنات وغياض، فلما رأى ذو القرنين ذلك استصغر أمر الوادي وما به من الجواهر، عند ذلك المنظر البهي، ثم قالوا له: هل في ملك ملك في الدنيا بعض بعض ذلك؟ فقال: لا، قالوا: فهذا كله بين أيدينا ولا نكلف أنفسنا إلى شيء من ذلك، ونقنع بما نقوى به على عبادة الخالق، فسر عنا ودعنا بحالنا أرشدنا الله وإياك. فودعوه وفارقوه وقالوا له: دونك والوادي، فأبى أن يحمل منه شئيا.
وذكر منها جزيرة الحكماء. قال: وهي جزيرة عامرة وصل إليها الإسكندر فرأى بها قوما لباسهم ورق الشجر وبيوتهم كهوف في الصخور، فسألهم مسائل في الحكمة فأجابوا؛ فقال: سلوا حوائجكم فقالوا نسألك الخلد في الدنيا، فقال وأنى به لنفسي، قالوا: فصحة الأبدان؟ قال: وهذا لا أقدر عليه، قالوا: فمعرفة ما بقي من أعمارنا، فقال لا أعرف ذلك لروحي، فقالوا دعنا نطلب ذلك ممن يقدر على ذلك، وجعلوا ينظرون إلى كثرة جيوشه وبينهم شيخ صعلوك لا يرفع رأسه، فقال له الإسكندر: ما لك لا تنظر إلى ما ينظرون إليه؟ قال: ما أعجبني الملك الذي رأيته قبلك حتى أنظر إليك وإلى ملكك، قال: وما ذاك؟ قال: كان عندنا ملك وصعلوك ماتا في يوم واحد، فغبت عنهم مدة ثم جئت فما عرفت الملك من الصعلوك. فتركهم الإسكندر وانصرف.
وذكر أن في هذا البحر سمكة تسمى الدلفين لها رأس مربع لا تفتحه، يقولون إذا أكل الأجذم من لحمها مطبوخا برئ، وذكر أن فيه سمكة وجهها كوجه الإنسان وبدنها كبدن السمك تظهر على وجهه
126
شهرا وتغيب شهرا.
قال: وفيه سمكة تطفو على وجه الماء فإذا رأت سمكة أو حيوانا من دواب البحر قد فتح فاه دخلت فيه وصارت غذاء له. قال: وفيه حيوان يخرج من البحر إلى البر ويرتع والنار تخرج من فيه ومنخريه فتحرق ما حولها من النبات. قال: وفيه سمكة طيارة تطير ليلا من البحر إلى البر فتأكل الحشيش إلى طلوع الشمس ثم تعود طائرة إلى البحر. قال: وفي هذا البحر العطب الذي يسمى بالدردور إذا وقع فيه المركب يدور ولا يخرج منه طول الأزمان والدهور. قال: والدردور في ثلاثة أبحر؛ في هذا البحر، وفي بحر الصين، وبحر الهند.
وذكر أن في بحر عمان جزيرة بها شجرة تحمل ثمرا كاللوز في صفته وقدره ويؤكل بقشره وهو أحلى من العسل، فيقوم مقام كل دواء ومن أكله من الرجال والنساء يزداد نضرة وشبابا ولا يهرم ولا يشيب أبدا، وإن أكله طاعن في السن ذهبت قوته وأبيض شعره، عاد في الحال إلى قوته ونضارته وأسود شعره.
وذكر أن في بحر القلزم سمكة طولها نحو عشرين ذراعا تلد كالآدمية وترضع، وفيه سمكة تصاد وتخيف فيبقى لحمها مثل القطن ويتخذ منه غزل وينسج ثيابا فاخرة.
وذكر أن في بحر الزنج جزيرة تسمى جزيرة الضوضاء بها جزيرة من حجر أبيض لا ساكن بها غير أنهم يسمعون بها غلبة وضوضاء وجلبة، وبها ماء عذب فيه رائحة الكافور وبقربها جبال عظيمة تتوقد نارا في الليل وحواليها حية تظهر في كل سنة مرة فيتحيل عليها ملوك الزنج ويصيدونها ويتخذون من جلدها فرشا
127
يجلس عليها صاحب السل فيبرأ.
وذكر
128
أيضا أن فيها
129
جزيرة العور وهي جزيرة واسعة، دخلها رجل من أهل رومية فوصل إلى مدينة قامات أهلها على طول ذراع وأكثرهم عور، فساقوه إلى ملكهم فحبسه في قفص فكسره فأمنوا عليه، وتركوا الاحتجار عليه فلما كان بعض الأيام إذا هم قد استعدوا للقتال، فسألهم فقالوا لنا عدو يأتينا في كل سنة ويحاربنا وهذا أوانه. فلم يلبث إلا قليلا حتى أقبلت عليهم عصابة من الطيور الغرانيق وكان ما بهم من العور من نقر الغرانيق، فحملت الطيور عليهم وصاحوا بهم، فلما رأى ذلك الرجل شد وسطه وأخذ عصا وصاح فيها صيحة منكرة فرمى منهم جماعة فصاحوا وطاروا، فلما رأى أهل الجزيرة ذلك أكرموه وأفادوه مالا وسألوه الإقامة عندهم فلم يفعل فحملوه في مركب وجهزوه.
وذكر أن مجمع البحرين هو مجمع بحر الروم والغرب، وعرضه ثلاثة فراسخ وطوله خمسة وعشرين فرسخا، والمد والجزر هناك في كل يوم وليلة أربع مرات. وذلك أن البحر الأسود وهو بحر الغرب
130
عند طلوع الشمس يعلو فيصب في مجمع البحرين حتى يدخل في بحر الروم، وهو البحر
131
الأخضر إلى وقت الزوال، فإذا زالت الشمس غاض البحر الأسود وانصب
132
فيه الماء من البحر الأخضر إلى مغيب الشمس، ويعلو البحر الأسود إلى نصف الليل ثم يفيض ويعلو البحر الأخضر على الدوام.
قلت ما ذكره من البيان والتعليل إنما يقتضي مده وجزره في كل يوم وليلة مرتين، وهذا لا اختصاص له به فإن غيره كذلك؛ وذلك لأن الجزر كما في الصحاح
133
رجوع الماء إلى خلف، أي إلى خلف جهة المد،
134
فإذا
135
اعتبر انصباب بحر المغرب فيه مدا كان انصباب بحر الروم ورجوع مائه إلى بحر المغرب جزرا، وإن اعتبر انصباب بحر الروم مدا كان انصباب بحر المغرب فيه ورجوعه إلى بحر الروم جزرا، اللهم إلا أن يقال يحصل لمائه رجوع إلى كل منهما إذا انصب فيه قبل انصباب الآخر فيه ودخوله إلى صاحبه فيكون انصباب كل منهما فيه حتى يدخل على صاحبه مد ورجوع مائه إليه. قيل انصباب الآخر فيه جزر ويقال إن ماءهما لا يمتزجان فيه بل بينهما حاجز من قدرة الله تعالى، فيمد إحدى حافتيه بمد ماء البحر الملاقي لها وتجزر بجزره وتمتد الحافة الأخرى بمد الآخر، وتجزر
136
بجزره. ولكل منهما في كل يوم وليلة مدان وجزران فيكون في مجمعهما كل يوم وليلة مد وجزر أربع مرات وهذه صورة التقدير الذي ذكرناه:
ولكم وجدنا في نهر واحد ماء مشرقا وماء مغربا وهما متلاصقان عرضا، وكم من عين عذبة في بحر لا يمازجها ماؤه لبرزخ من القدرة جعله الله بينهما.
وقد حكى لي من أثق به أنه كان في بحر فارس فوجد قطعة من الماء العذب جاء بها الجزر من نهر البصرة فاستقوا منها فسبحان القادر الحكيم المدبر لملكه.
وذكر الواحدي في تفسيره الوجيز في قوله تعالى:
مرج البحرين يلتقيان
137
خلط البحر العذب والبحر
138
المالح يلتقيان يجتمعان. وذلك أن البحر المالح فيه عيون ماء عذبة، بينهما برزخ حاجز من قدرة الله، لا يبغيان لا يختلطان ولا يجاوزان ما قدر الله لهما، فلا الملح يخلتط بالعذب ولا العذب بالملح انتهى.
وذكر الواحدي وناصر الدين القاضي البيضاوي في تفسيريهما: مجمع
139
البحرين ملتقى بحري فارس والروم، [و]زاد البيضاوي مما يلي المشرق. قال البيضاوي وعد لقاء الخضر فيه، وقيل البحران موسى والخضر عليهما السلام، فإن موسى كان بحر عالم
140
الظاهر وخضر كان بحر عالم
141
الباطن، إلى أن قال: روي أن موسى خطب بالناس - بعد هلاك القبط ودخوله مصر - خطبة بليغة فأعجب بها، فقيل له هل تعلم أحدا أعلم منك؟ فقال: لا. فأوحى الله إليه بلى عبدنا الخضر وهو بمجمع البحرين. وكان الخضر في أيام أفريدون
142
وكان على مقدمة ذي القرنين الأكبر وبقي إلى أيام موسى عليه السلام. وقيل إن موسى سأل ربه: أي عبادك أحب إليك؟ قال: الذي يذكرني ولا ينساني. قال: فأي عبادك أقضى ؟ قال: الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى. قال: فأي عبادك أعلم؟ قال: الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عسى أن يصيب كلمة تدل على هدى أو ترده عن ردى. فقال: إن كان في عبادك أعلم مني فدلني عليه. قال: أعلم منك الخضر. قال: أين أطلبه؟ قال: على الساحل عند الصخرة. قال: كيف لي به؟ قال: تأخذ حوتا في مكتل فحيث فقدته فهو هناك. فقال: لفتاه إذا فقدت الحوت فأخبرني، فذهبا يمشيان فلما بلغ مجمع بينهما (مجمع البحرين) وبينهما ظرف أضيف عليه على الاتساع أو بمعنى الوصل، نسيا حوتهما؛ نسي موسى أن يطلبه ويتعرف حاله ويوشع أن يذكر له ما رأى
143
من حياته ووقوعه في البحر. روي أن موسى عليه السلام رقد فاضطرب الحوت المستوي ووثب في البحر معجزة لموسى أو الخضر، وقيل توضأ يوشع من عين الحياة فانتضح الماء عليه فعاش فوثب في الماء، وقيل نسيا تفقد أمره وما يكون منه أمارة
144
على الظفر بالمطلوب، واتخذ سبيله في البحر سربا، فاتخذ الحوت طريقه في البحر مسلكا
145
من قوله تعالى
وسارب بالنهار ،
146
وقيل أمسك الله جرية الماء على الحوت فصار كالطاق عليه ونصبه على المفعول الثاني وفي البحر حال منه أو من السبيل ويجوز تعلقه باتخذ انتهى.
فقد صرح هذان الإمامان بأن مجمع البحرين هو مجمع بحري فارس والروم لا بحري المغرب والروم كما في الخريدة، وإنما سقت من كلام البيضاوي ما سقت؛ لأن فيه دلالة
147
ما يدل أن عين الحياة هي بمجمع بحري فارس والروم أو بالقرب منه، وما تقدم مما نقلناه عن الإنسان الكامل يدل على أنها في البحر المحيط وفي الخريدة ما يؤيده فإنه ذكر فيها أن عين الحياة التي شرب منها الخضر في الظلمات، وهي في القطعة التي بين الغرب والجنوب انتهى.
فلعلها عينان أو يراد بجمعهما مجمعهما في المحيط فإنهما ينشعبان منه كما ذكره البيضاوي في تفسير سورة الرحمن لا مجمعهما بأنطاكية كما يدل عليه ما نقلناه من البهجة انتهى.
فإن قلت: هل كان البحر قبل الطوفان أو حصل بعده؟ قلت: الظاهر أنه كان قبل آدم عليه السلام؛ لأنه الخليفة في
148
الأرض، والخليفة إنما يسكن الدار بعد تمام العمارة، كيف لا وهو صفي الله وحبيبه، وكيف يسكن الحبيب دارا بنيت له وهيئت لخلافته إلا بعد تمام عمارتها، فلم يهبط إلى الأرض إلا بعد تمام عمارتها من بر وبحر وسهل وجبل ونبات وحيوان، وأيضا قد علم الله تعالى آدم
149
الأسماء ثم عرض مسمياتها على الملائكة وعرض
150
الشيء فرع وجوده، وقوله تعالى
بأسماء هؤلاء
151
يدل على ذلك؛ فإن أصله الإشارة أن تكون لمحسوس موجود فدل على أن المسميات التي أعلم آدم بأسمائها كانت موجودة.
ومن جملة ما علم الله آدم البحر، كما أخرج ابن كثير في تفسيره عن الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى:
وعلم آدم الأسماء
152
قال هي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس: إنسان ودابة وأرض وسهل وبحر، فالبحر كان موجودا وقت التعليم والعرض. وأيضا قد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: خلق الله تعالى وراء هذه الأرض بحرا محيطا بها، ثم خلق من وراء ذلك جبلا يقال له قاف، السماء مترفرفة عليه إلى آخره ، يدل على أن البحر خلق قبل قاف.
ولا شك أن آدم أهبط إلى الأرض بعد خلق قاف. وعن ابن عباس قال: أول من سكن الأرض الجن، فأفسدوا فيها وسفكوا الدماء وقتل بعضهم بعضا، قال: فبعث الله إليهم إبليس فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال، ثم خلق آدم وأسكنه إياها فلذلك قال
إني جاعل في الأرض خليفة
153
فهذا صريح في أنها كانت قبله.
فإن قلت قد أخرج السيوطي في الهيئة عن إسحاق بن بشر وابن عساكر من طريق جويبر ومقاتل عن الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى:
وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي
154
فابتلعت الأرض ماءها وارتفع ماء السماء حتى بلغ عنان السماء رجاء أن يعود إلى مكانه، فأوحى الله إليه أن
155
ارجع فإنك رجس وغضب، فرجع الماء فملح وخم وتردد فأصاب الناس منه الأذى فأرسل الله الريح فجمعه
156
في مواضع البحار فصار زعاقا مالحا لا ينتفع به. الحديث. فقوله فجمعه في مواضع البحار إلى آخره يدل أن البحار إنما تكون منه.
قلت: قد أخرج ابن كثير في تفسيره عن ابن جرير حدثنا أبو كريب حدثنا عثمان بن سعيد حدثنا بشر بن عمارة عن أبي روق عن الضحاك عن ابن عباس قال: كان إبليس من حي من أحياء الملائكة يقال لهم الجن خلقوا من نار السموم من بين الملائكة، وكان اسمه الحارث، وكان خازنا من خزان الجنة، قال: وخلقت الملائكة كلهم من نور غير هذا الحي، قال: وخلقت الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار، وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا لهبت، قال: وخلق الإنسان من طين فأول من سكن الأرض الجن، فأفسدوا فيها وسفكوا الدماء وقتل بعضهم بعضا، قال: فبعث الله إليهم إبليس في جند من الملائكة وهم هذا الحي الذين يقال لهم الجن فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال ... الحديث.
فهذا يدل على أن البحور كانت قبل آدم فضلا
157
عن الطوفان ، على أنا لا نسلم أن الحديث الأول يدل على أن البحار لم تكن قبل بل إنما يدل على أن الماء جمع في مواضعها، فلعلها بلعتها الأرض لما أمرت ببلع مائها.
فإن قلت في سياق الحديث الثاني غرابة كما ذكر ابن كثير في آخره، قلت: وفي متن الأول إشكال فإن قوله «فإنك رجس وغضب.» ينافي قوله
صلى الله عليه وسلم
في البحر هو الطهور ماؤه والحل ميتته. (4-2) فوائد
الأولى:
أخرج السيوطي في الهيئة عن أبي الشيخ عن ابن عباس قال: قال رسول
158
الله
صلى الله عليه وسلم : ما أنزل الله كفا من الماء إلا بمكيال، إلا يوم نوح فإن الماء طغى على الخزان. قال الله تعالى:
إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية .
159
الثانية:
أخرج السيوطي عن ابن أبي زمنين في أصول السنة بسنده عن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: تحت هذه السماء بحر ماء يطفح فيه الدواب مثل بحركم هذا، ومن ذلك البحر أغرق الله قوم نوح، وهو ماء أسكنه الله للعذاب وسينزله قبل يوم القيامة فيغرق به ما يشاء ويعذب من يشاء.
الثالثة:
الحكمة في كون البحر ملحا أجاجا لا يذاق ولا يشاع؛ لئلا ينتن من تقادم الدهور والأزمان وعلى ممر الأحقاب والأحيان فيهلك من نتنه العالم الآدمي، ولو كان حلوا لكان كذلك حكمة منه تعالى. ألا ترى أن العين لما كانت شحمة، والشحم لا يصان إلا بالملح جعل الله الدمع مالحا وكانت مغمورة به حكمة منه وفضلا.
قلت ولعل هذا حكمة المد والجزر، فإن الماء الدائم يتسارع إليه النتن بخلاف الجاري المتحرك فإنه لا ينتن أبدا.
فرع اختلف أصحابنا في وجوب الحج إذا كان الطريق بحرا، ففي الطيبي - بفتح الطاء ونسبة إلى طيبة لمحمد بن الحسين خليفة - أنه لا يجب، وفي الشمني ولو كان الطريق بحرا لا يجب الحج، ولو كان نهرا كسيحون والفرات يجب، وقال الكرماني: إن كان الغالب فيه السلامة يجب.
ولنشرع الآن فيما نحن بصدده فنقول وبالله التوفيق.
بسم الله الرحمن الرحيم.
160
اختلف الناس في سبب المد والجزر على أقوال: أحدها ما قاله أرسطاطاليس إن علة ذلك من الشمس إذا حركت الريح، فإذا زالت الرياح كان منها الجزر وهو باطل من وجوه: [الوجه] الأول:
أن حركة الريح إنما هو بتحريك الله الفاعل المختار، قال تعالى:
الله الذي أرسل الرياح
161
لا لذات الريح أو شيء من لوازم ذاته، ولا للشمس لأنه إن كان الأول أو الثاني لزم دوام الريح بدوام ذاته وهو منتف، وإن كان الثالث فإما أن يكون الموجب لذلك طبيعة هذا الكوكب لا بشرط شيء أو بشرط حصوله في البرج المعين والدرجة المعينة، والأول باطل وإلا لدامت الريح بدوام تلك الطبيعة. والثاني كذلك وإلا لوجب حركتها مدة دوامه في ذلك البرج والدرجة، ومتى حصلت فيها ولوجب أن يتحرك كل هواء عند ذلك وليس فليس، فثبت أن حركتها إنما هو بفعل الفاعل المختار خالق الليل والنهار.
فإن قلت: قد زعمت الفلاسفة أنه
162
يرفع من الأرض من أجزاء متسخنة تسخنا قويا، فإذا وصلت إلى القرب من الفلك امتنعت من الصعود فتتفرق في الجوانب وبسبب ذلك التفرق تحصل الرياح فيجوز أن يكون المسخن لذلك هو الشمس فصح نسبة المتحرك إليها.
قلت: رد عليهم الفخر بأن صعود الأجزاء الأرضية إنما تكون لأجل شدة تسخينها
163
فإذا صعدت إلى الطبقة الباردة من الهواء امتنع بقاء الحرارة فيها، فإذا بردت امتنع بلوغها في الصعود إلى الطبقة الهوائية المتحركة بحركة الفلك، وأيضا لو كان كذلك لكان نزولها على الاستقامة، والرياح إنما تتحرك يمنة ويسرة أيضا فحركة الأجزاء الأرضية لا تكون حركة قاهرة، وهذه الرياح تقلع الأشجار وتهدم الجبال وتموج البحار فبطل ما قاله الفلاسفة.
الوجه الثاني:
مقتضاه أن مقر الريح في قعر البحر ليحصل من تحريك الشمس تحريك الماء فيحصل المد. لأنا نرى البحر إذا مد مد سطحه
164
الأعلى والأسفل وما بينهما من السطوح، وذلك لا يتأتي إلا عن تحريك الكل فلا بد وأن تكون الريح هائجة من القعر إلى السطح الأعلى، إذ لو لم تكن كذلك لم تؤثر ذلك، وأيضا لو كان مقرها غير القعر كالسطح الأعلى مثلا لم يوجب تحريكها جري الماء على عكس ما هو عليه من الجريان حالة الجزر، فإنا نشاهد الأنهار الجارية كدجلة
165
والفرات عند تحريك الريح على عكس مجراها جارية إلى الجهة التي كانت تجري إليها؛ قيل التحريك غير مؤثر تحريك الريح في عكس جريها، بل لم يوجب الماء جريا قويا مثل جري المد إذا كان ساكنا كما نشاهد في الغدران والبطيحات الساكنة، وإن أوجب تحريكا ما فلا بد وأن يكون مقرها القعر وهذا باطل لوجهين:
166
الأول:
أنه لا شيء منها مقره ذلك، ولم يقم دليل من نقل أو عقل عن ذلك.
والثاني:
أن
167
ما مقره ذلك أنى للشمس التأثير فيه؟ وها نحن نجد من غاص
168
في شدة حر الشمس في ماء عمقه عشرة أبواع
169
أو أقل ووصل إلى قعره يخرج ينتفض من شدة البرد، بل احتاج إلى التدثير،
170
بل من غاص في ثلاثة أبواع ووصل إلى القعر لا يجد للشمس أثر وإن كان في الرابع والعشرين من تموز، فكيف بماء قعره مائتا باع بل ألوف أبواع؛ فإن قلت فأين مقر الرياح؟ قلت: هي مختلفة حسبما
171
وردت به السنة النبوية والآثار، ففي الهيئة السنية للحافظ السيوطي أخرج ابن أبي حاتم عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم
الريح مسجونة في الأرض الثانية، فلما أراد الله أن يهلك عادا أمر الله خازن الريح أن يرسل عليهم ريحا يهلك عادا. قال: يا رب أرسل
172
من الريح قدر منخر الثور؟ قال له الجبار: لا، إذن تكفي الأرض ومن عليها، ولكن أرسل عليهم بقدر الخاتم.
وأخرج أبو الشيخ عن كعب، قال: ساكنة الأرض الثانية الريح العقيم، لما أراد الله أن يهلك قوم عاد أوحى إلى خزنتها
173
أن يفتحوا منها بابا قالوا: يا ربنا منخر الثور؟ قال: إذن تكفي الأرض بمن عليها، افتحوا منها مثل
174
حلقة الخاتم. وأخرج ابن جرير وابن مرذويب في تفسيرهما وابن أبي الدنيا في كتاب السخا وأبو الشيخ في العظمة عن أبي هريرة - رضي الله عنه - سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول: ريح الجنوب من الجنة وهي من اللواقح وفيها منافع للناس، والشمال من النار تخرج وتمر بالجنة فتصيبها لفحة من الجنة فبردها من ذلك.
وأخرج ابن راهوية وابن أبي شيبة في سنديهما والبخاري من تاريخه
175
والبزار وأبو الشيخ عن أبي ذر عن النبي
صلى الله عليه وسلم
قال: إن الله خلق في الجنة ريحا بعد الريح سبع سنين من دونها باب متعلق وإنما يأتيكم روح الريح من خلال ذلك الباب، ولو فتح ذلك الباب لأذرت ما بين السماء والأرض، وهي عند الله الأزيب وعندكم الجنوب.
وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: الجنوب سيد الأرواح واسمها عند الله الأزيب وعندكم الجنوب،
176
ومن دونها سبعة أبواب وإنما يأتيكم منها ما يأتيكم من خلالها، ولو فتح منها باب واحد لأذرت ما بين السماء والأرض.
وأخرج أبو الشيخ عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم
الجنوب من ريح الجنة. وأخرج أبو الشيخ عن عثمان الأعرج قال: إن مساكن الرياح تحت أجنحة الكروبيين حملة العرش فتهيج فتقع بعجلة الشمس فتعين الملائكة على جرها، ثم تهيج من عجلة الشمس فتقع في البحر، ثم تهيج من البحر فتقع برءوس الجبال، ثم تهيج من رءوس الجبال فتقع في البر. فأما الشمال فإنها تمر بجنة عدن فتأخذ من عرف طيبها، ثم يأتي الشمال حدها من كرسي بنات نعش إلى مغرب الشمس، وتأتي الدبور حدها من مغرب الشمس إلى مطلع سهيل، وتأتي الجنوب حدها من مطلع سهيل إلى مطلع الشمس، ويأتي الصبا حدها من مطلع الشمس إلى كرسي بنات نعش، فلا تدخل هذه في حد هذه ولا هذه في هذه. قال الفخر الرازي وما بين كل واحد من هذه الأمهات، أي من هذه الرياح الأربع فهي نكباء انتهى.
فقد علمت ما سمعت أن محالها مختلفة ولا شيء منها محله
177
قعر البحر. فإن قلت: فما تدفع المعارضة الثانية بين حديث ابن
178
عمرو السابق، وبين حديث أبي هريرة وما أخرجه أبو االشيخ عن عثمان الأعرج، فإن حديث ابن عمرو بإطلاقه يقتضي أن مقر الكل في مقر الأرض الثانية، والآخران يخالفانه، وحديث أبي هريرة يقتضي أن الشمال مقرها النار والجنوب مقرها الجنة والآخر يخالفه.
قلت: أما حديث ابن عمرو
179
فمحمول على الريح العقيم كما صرح به حديث كعب، وأما حديث عثمان فمحمول على أن الأجنحة المذكورة مسكنها بعد خروجها من مقرهما، وأما بقية الرياح فلا مانع من حمل مسكنها تحت الأجنحة على مقرها ابتداء خلقها؛ إذ لا معارض فاندفعت المعارضة بين هذه الأخبار.
فإن قلت: فما جوابك عما أخرجه السيوطي في الهيئة عن أبي عبيد وابن أبي حاتم وابن المنذر وابن أبي الدنيا وأبي الشيخ عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: الرياح ثمان أربع منها رحمة وأربع عذاب؛ فأما الرحمة فالناشرات والمبشرات والمرسلات والذاريات، وأما العذاب فالعقيم والصرصر وهما في البر والعاصف والقاصف وهما في البحر، فإنه معارض لما ذكرته فإنه صريح في أن أرواح العذاب مقر اثنين منها البر واثنين منها البحر، وإذا ثبت أن البحر مقر اثنين منها جاز أن يكون الشمس تحركهما فيحصل المد.
قلت: لما ذكر العقيم منها ومقرها في الأرض الثانية كما جاء في الحديثين االسابقين، تبين
180
أن المراد بكونهن فيها
181
أنهما مهبهن؛ فالبحر مهب العاصف والقاصف والبر مهب
182
الصرصر والعقيم. وأيضا القاصف والعاصف ريحا عذاب والمد ليس من آثار العذاب، وأيضا لو كان المد إنما يحصل منهما لهلك وعذب في كل مد خلق ممن يركب البحر؛ لأن شأنهما العذاب، قال تعالى
أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم ،
183
وقال تعالى
حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان .
184
وليس فليس.
فوائد
الأولى:
أخرج أبو داؤد في سننه عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول: الريح من روح الله ؛ فإذا رأيتموها فلا تسبوها، واسألوا الله خيرها، واستعيذوا من شرها. وأخرج البخاري ومسلم والترمذي عن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
كان إذا عصفت الريح قال: اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به. ولفظ الترمذي كان إذا رأى السحاب.
الثانية:
تسن الصلاة فرادى للريح الشديدة كالخسوف والظلمة والفزع والزلازل والصواعق وانتشار الكواكب والضوء الهائل بالليل والثلج والأمطار الدائمة وعموم الأمراض والخوف الغالب من العدو ونحو ذلك من الأفزاع والأهوال؛ لأن ذلك كله من الآيات المخوفة، والله تعالى يخوف عباده ليتركوا المعاصي ويرجعوا إلى طاعته التي فيها فوزهم وخلاصهم فأقرب أحوال العبد في الرجوع إلى ربه
185 ،
186
الصلاة كذا في البحر.
الثالثة:
ذكر بعضهم لكل من الرياح الأربع خاصة؛ فالجنوب حارة رطبة، والشمال باردة يابسة، والصبا حارة يابسة، والدبور باردة ورطبة.
الوجه الثالث:
إنا كثيرا ما نجد المد مع سكون الريح، وكثيرا ما نرى ازدياده مع نقصها ونقصه مع زيادتها، وكثيرا ما نراه مع الريح المخالف مهبها لمجراه كالشمال مثلا، ولو كان سببه تحريك الشمس الريح لما وجد مد بدونه، ولو وجب ازدياده بازدياده ونقصه بنقصه، وألا يكون إلا مع الريح الموافق مهبه لمجراه كالتي تهب من المطلع وكل غير لازم كما ذكرنا.
الوجه الرابع:
لو كان علة المد الشمس لما وجد ليل قط واللازم باطل؛ لأنه موجود بل الغالب أن يكون ليلا أبلغ وأكبر منه نهارا. فإن قلت: إن الشمس لا تفارق فلكها لأنها ثابتة فيه مركوزة كالشامة في الجسد أو البرص فيه أو الفص في الخاتم، فإذا غربت من وجه الأرض بدورانه كانت تسير بدوره تحتها؛ لأن السماوات محيطة بالأرض إحاطة البياض والقشر من البيضة بالمح، إلا أنها أكمل استدارة لأن السماوات والأرض كروية الشكل وكل سماء يحك سطحها مقعر الأخرى، فكما أنها إذا كانت فوق الأرض تؤثر في تحريك الريح مع أنها في الفلك الرابع ولا يحجبها ثخن أجرام السماوات عن ذلك فلتؤثر فيه إذا كانت تحت الأرض، وأي مانع من ذلك؟
قلت: هذا قياس مع الفارق فإن السماوات أنها لا تحجب للطافتها بخلاف الأرض
187
فإنها كثيفة والكثيف يحجب، على أن كلا مما ذكرت من كونها لا تفارق فلكها، وكونها ثابتة فيه، وكون سطح كل يحده
188
مقعر فوقها وكون كل من السماوات والأرض كروي الشكل، لا يقوم عليه دليل قاطع ولا برهان ساطع بل هو مخالف للنقل الصريح والكشف الصحيح فهو باطل.
أما بطلان الأول:
189
فما أخرج البخاري عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يوما حين غربت الشمس أتدري أين تذهب؟ قلت الله وسوله أعلم. قال: فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها، ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها، وتستأذن فلا يؤذن لها، فيقال لها: ارجعي من حيث شئت، فتطلع من مغربها. وأخرج أيضا عنه رضي الله عنه قال: سألت النبي
صلى الله عليه وسلم
عن قوله تعالى
والشمس تجري لمستقر لها
190
قال مستقرها تحت العرش.
وأخرج السيوطي في الهيئة عن أبي الشيخ وابن مردويه في التفسير من حديث ابن عباس أنها إذا غربت رفع بها إلى السماء السابعة في سرعة طيران الملائكة وتحبس تحت العرش، فتستأذن من أين تؤمر بالطلوع، ثم ينطلق بها ما بين السماء السابعة، وهي أسفل درجات الجنان في سرعة طيران الملائكة فتنحدر جبال المشرق من سماء إلى سماء ... الحديث.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: إنها كلما غربت أتت تحت العرش فسجدت واستأذنت في الرجوع فيؤذن لها فيه، حتى إذا بدا لله أن تطلع من مغربها وفعلت كما كانت تفعل لم يرد عليها مرة بعد
191
أخرى ثلاثا، حتى إذا ذهب من الليل ما شاء الله أن يذهب وعرفت وإن أذن لها في الرجوع لم تدرك المشرق قالت: رب ما أبعد المشرق! من لي بالناس؟ حتى إذا صار الأفق كأنه طوق استأذنت في الرجوع فيقال لها من مكانك فاطلعي، فتطلع على الناس من مغربها.
وأخرج السيوطي في الهيئة عن أبي حاتم وأبي الشيخ كليهما عن عكرمة قال: إن الشمس إذا غربت دخلت بحرا تحت العرش فتسبح الله حتى إذا هي أصبحت استعفت ربها من الخروج. قال: ولم قالت إني إذا خرجت عبدت من دونك، قال لها: اخرجي فليس عليك من ذلك شيء حسبهم جهنم.
فهذه الأحاديث والأخبار دالة على أن الشمس إذا غربت فارقت فلكها وذهبت نحو العرش إما بواسطة الملائكة كما هو ظاهر حديث ابن عباس، وإما بنفسها كما هو ظاهر بقية الأحاديث.
وإذا ثبت أنها كذلك بطل الأول وبطل الثاني أيضا؛ لأن مفارقتها له يدل على أنها غير ثابتة فيه على أن كونها في الفلك الرابع أمر غير مقطوع به. فقد ذكر مرعي الحنبلي في كتابه بهجة الناظرين وآيات المستدلين ما نصه: وأما الفلك الذي هي فيه فاختلفوا فيه فقال الفلكيون:
192
إنه الفلك الرابع ويصل شعاعها إلى العالم السفلي؛ لأن أجرام السموات رقيقة فلا تحجب
193
أصول النور بخلاف ما إذا قابلها حجاب كثيف كالغيم ونحوه. وذكر بعضهم أن وجهها نحو السماء وظهرها إلى الأرض ولولا ذلك لأحرقت الأرض.
وقال بعضهم: إنها تجري والكواكب في البحر الذي دون السماء بقدر
194
ثلاثة
195
فراسخ وهو مموج مكفوف
196
قائم في الهواء بإذن الله تعالى لا يقطر منه قطرة، والبحار كلها ساكنة وهذا البحر يجري بسرعة السهم كأنه حبل ممدود بين المشرق والغرب فتجري الشمس والقمر والخنس
197
في ذلك البحر فذلك قوله تعالى
كل في فلك يسبحون .
198
وفي الحديث، والذي نفس محمد بيده لو بدت الشمس من ذلك البحر لأحرقت الأرض، ولو بدا القمر منه لافتتن به أهل الأرض حتى يعبدوه من دون الله إلا من شاء الله انتهى.
ومما يبطل الثاني أيضا ما أخرجه السيوطي في الهيئة عن ابن أبي شيبه وابن المنذر وأبي الشيخ عن سعيد بن المسيب قال: لا تطلع الشمس حتى ينخسها ثلاثمائة وستون ملكا كراهية أن تعبد من دون الله.
وأخرج عن الطبراني وأبي الشيخ وابن مردويه عن أبي إمامة الباهلي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وكل بالشمس سبعة أملاك يرمونها بالثلج كل يوم، ولولا ذلك ما أصابت شيئا إلا أحرقته.
وأخرج عن ابن المنذر عن عكرمة قال: ما طلعت شمس حتى يناديها سبعون ألف ملك اطلعي فتقول: كيف أطلع وأنا أعبد من دون الله فيدفعها ملكان حتى تستقل، ولولا برد ماء السماء لاحترق
199
أهل الأرض من حر الشمس، ولولا أصوات الروم أو رومية لسمع الناس وجوب الشمس حين تجب. فهذه الأحاديث الثلاثة تدل على أنها غير ثابتة بفلكها ملتصقة به دائرة بدورانه، فإن نخس الملائكة لها وأمرهم لها
200
بالطلوع وتوقفها عن ذلك بعد ذلك لكونها تعبد من دون الله ورفعهم
201
لها بعد ذلك يدل على أنها ليست سائرة بدورانه لكونها ثابتة فيه وإلا لم يكن لذلك معنى؛ لأنها حينئذ تكون تابعة الحركة فلا فائدة في ذلك. وكذا رميهم لها بالثلج يدل على انفصالها عنه اللهم إلا أن يحمل الرمي على الرش عبر عنه به تنبيها على كثرته وتكاثفه. (4-3) فوائد
اختلف العلماء في ما خلقت منه الشمس فقيل من نور العرش، وقيل من نار، وقيل إنها ملك أجوف
202
مملوء نارا يخرج من هذا الوهج والشعاع، وقيل إنها سحابة ممتلئة نارا، وقيل هي أجزاء كثيرة من نار محترقة، وقيل هو جوهر خامس زائد على العناصر الأربعة.
قال الفلاسفة: هي اجتماع أجزاء نارية يدفعها البخار والصحيح الأول. وقد أخرج الثعلبي عن ابن عباس عن النبي
صلى الله عليه وسلم
أن الله تعالى لما أبرم خلقه فلم يبق من خلقه غير آدم شمسين من نور عرشه؛ فأما ما كان في سابق علمه أنه لا يطمسها فخلقها مثل الدنيا ما بين مشارقها ومغاربها، وأما ما كان في سابق علمه أن يطمسها ويحولها قمرا، فخلقها دون الشمس في العظم ولكن يرى صغرها من شدة ارتفاع السماء. الحديث.
الثانية اختلفوا في شكلها فقيل إنه بمنزلة صحفة عريضة وقيل كالصحفة المكفوفة، وقيل إنها كالكرة المدحرجة.
الثالثة اختلفوا في مقدارها فقيل إنها مقدار قدم إنسان، وقيل إنها أضعاف الأرض مائة وعشرين مرة، وقيل مائة وخمسين، وقيل مائة وستين، وقيل مائة وستة
203
وستين مرة وربع مرة وثمن مرة، وقيل مائة وسبع وستين مرة وثلث مرة، وقيل مائتين مرة، وقيل ثلاثمائة وست وعشرين مرة، وقيل هي مثل الأرض وهو الموافق لحديث الثعلبي.
وأخرج السيوطي عن أبي الشيخ عن أبي صالح من طريق الكلبي عن ابن عباس إن رجلا قال: كم طول الشمس؟ وكم عرضها؟ قال تسعمائة فرسخ في تسعمائة فرسخ، وطول الكواكب اثني عشر فرسخا.
وأخرج عنه عن عكرمة قال: الشمس على قدر الدنيا وزيادة ثلث، والقمر على قدر الدنيا. وأخرج عن قتادة قال الشمس طولها ثمانون فرسخا في عرض ثمانين فرسخا.
الرابعة معنى غروب الشمس في العين الحمئة ليس غيبوبتها في نفس العين حقيقة، وإنما ذلك في رأي العين كراكب البحر يعتقد أن الشمس قد غربت في الماء، وإلا فأي عين في الأرض تسع ما هو أكبر منها بأضعاف مضاعفة.
وأما بطلان الثالث فلقوله تعالى
الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن
204
فإن اثبات البينة لهن يدل على ثبوت البعد وعدم المماسة، وقد دلت الأحاديث النبوية على ذلك والأخبار، فمنها ما أخرج السيوطي في الهيئة عن ابن
205
راهويه في مسنده وعن أبي الشيخ عن البزار بسند صحيح عن أبي ذر - رضي الله عنه قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام، وغلظ كل سماء مسيرة خمسمائة عام، وما بين السماء التي تليها مسيرة خمسمائة عام، كذلك إلى السماء السابعة، والأرضون مثل ذلك، وما بين السماء السابعة إلى العرش مثل جميع ذلك.
وأخرج
206
عن الإمام أحمد في مسنده وأبي داؤد والترمذي وابن ماجة والحاكم وصححه وابن أبي عاصم في السنة وأبي الشيخ وأبي يعلى وابن خزيمة والطبراني عن العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه - قال: كنا عند رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فقال: أتدرون كم بين السماء والأرض؟ قلنا الله ورسول أعلم . قال: بينهما مسيرة خمسمائة سنة،
207
وبين كل سماء إلى سماء مسير خمسمائة سنة وكثف كل سماء خمسمائة سنة، وفوق السماء السابعة بحر بين أعلاه وأسفله كما بين السماء والأرض، ثم فوق ذلك ثمانية أوعال بين ركبهم وأظلافهن كما بين السماء والأرض، ثم فوق ذلك العرش بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض ثم الله فوق ذلك.
وأخرج عن الترمذي وابن مردويه وأبي الشيخ عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كنا جلوسا مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فمرت سحابة فقال أتدرون ما هذه؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: هذه الغيابة هذه ذوية
208
الأرض يسوقها الله إلى أهل بلد لا يعبدونه ولا يشكرونه. هل تدرون ما فوق ذلك؟ قالوا: الله ورسول أعلم. قال: فإن فوق ذلك موج مكفوف وسقف محفوظ. هل تدرون ما فوق ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: فإن فوق ذلك سماء أخرى. هل تدرون ما بينهما؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: فإن بينهما مسيرة خمسمائة عام حتى عد سبع سموات بين كل سماء مسيرة
209
خمسمائة عام. ثم قال: هل تدرون ما فوق ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: فإن فوق ذلك العرش. فهل تدرون كم بينهما؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: فإن بين
210
ذلك كما بين السماءين أو
211
كما قال. ثم قال: هل تدرون ما هذه؟ هذه أرض. هل تدرون ما تحتها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: أرض أخرى، وبينهما مسيرة خمسمائة عام حتى عد سبع أرضين بين كل أرضين مسيرة خمسمائة عام.
وأخرج عن أبي حاتم وأبي الشيخ عن كعب قال: إن الله خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن وجعل ما بين كل سماءين كما بين السماء والأرض، وجعل كثفها مثل ذلك، وجعل ما بين كل أرضين كما بين السماء والأرض، وكثف كل أرض مثل ذلك، وكان العرش على الماء فرفع الماء حتى جعل عليه العرش، ثم ذهب بالماء حتى جعله تحت الأرض السابعة.
وأخرج عن أبي المنذر في تفسيره وعمر بن سعيد الدارمي في كتاب الرد على الجهمية، وأبي الشيخ عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام، وما بين كل سماءين خمسمائة عام، وبصر كل سماء وأرض - يعني غلظ ذلك - مسيرة خمسمائة، وما بين السماء السابعة إلى الكرسي مسيرة خمسمائة عام، وما بين الكرسي والماء مسيرة خمسمائة عام، والعرش على الماء والله فوق العرش وهو يعلم ما أنتم عليه.
وأخرج عن أبي جرير وابن المنذر عن ابن مسعود - رضي الله عنه - وناس من الصحابة رضي الله عنهم قال: إن الله كان عرشه على الماء لم يخلق شيئا مما خلق قبل الماء، فلما أراد أن يخلق الخلق أخرج من الماء دخانا فارتفع فوق الماء فسما عليه فسماه سماء، ثم أيبس الماء فجعله أرضا واحدة، ثم فتقها فجعلها سبع أرضين في يومين؛ الأحد
212
والاثنين فخلق الأرض على حوت وهو الذي ذكره في قوله
ن * والقلم
213
والحوت في الماء والماء على ظهر الصفاة والصفاة على ظهر ملك والملك على صخرة في الريح، وهي الصخرة التي ذكرها لقمان ليست في السماء ولا في الأرض فتحرك الحوت فاضطرب فتزلزلت الأرض فأرسى عليها الجبال فقرت. وخلق الجبال فيها وأقوات أهلها وشجرها وما ينبغي لها في يومين: الثلاثاء والأربعاء، ثم استوى إلى السماء وهي دخان وذلك الدخان من تنفس الماء حين تنفس فجعلها سماء واحدة، ثم فتقها فجعلها سبع سموات في يومين: الخميس والجمعة، وإنما سمي يوم الجمعة؛ لأنه جمع فيه خلق السموات والأرض، وأوحى في كل سماء أمرها.
قال خلق في كل سماء خلقها من الملائكة، والخلق الذي فيها من البحار وجبال البرد وما لا يعلم، ثم زين السماء الدنيا بالكواكب فجعلها زينة وحفظا من الشياطين انتهى.
فهذه الأحاديث كما ترى دالة على ثبوت الفضاء بين كل سماء وأختها كما هو بين السماء والأرض، وأن مقداره مسيرة خمسمائة عام، فبطل القول بمماسة كل لما فوقها، وإذا تقرر ذلك فاعلم أنه قد ذكر في بهجة الناظرين وآيات المستدلين للشيخ مرعي بن يوسف المقدسي الحنبلي ما نصه وفي حديث العباس بن عبد المطلب عن النبي
صلى الله عليه وسلم
قال: أتدرون ما بين السماء والأرض؟ قالوا: لا والله لا ندري. قال: فإن بعد ما بينهما إما واحدة وإما اثنتان وإما ثلاث وسبعون سنة. أخرجه الترمذي. وفي سنن ابن ماجة أن ما بين السماء والأرض مسيرة ثلاث وسبعين سنة أو نحوها وكذا بين كل سماء وسماء.
214
قال بعضهم إنه حديث صحيح وهو موافق لما دل عليه علم الهيئة بأن ما بين السماء والأرض ثمانون سنة مسافة كل يوم ثلاثون ميلا إذا صعدت على استواء. قال: فما يذكر أن بينهما خمسمائة عام لا صحة ولا دليل عليه انتهى.
وأقول كان تضعيف هذا البعض الذي نقله مرعي لذلك لكونه غير موافق لكلام أهل الهيئة وأنت خبير بأن ذلك لا يوجب تضعيفا، كما أن موافقتهم لا توجب تصحيحا وإلا فقد علمت ما نقلناه عن الهيئة السنية وسمعت تصحيح البزار والحاكم له على أن حديث العباس بن عبد المطلب قد أخرجه الإمام أحمد وأبو داؤد والترمذي وابن ماجه وغيرهم بأن ما بين كل سماء وسماء خمسمائة عام كما سبق، فينبغي أن يقال في الجواب في رفع المعارضة أنه
215
لا مفهوم للعدد، وأن التنصيص على عدد لا يدل على نفي الزائد عليه، كما فعل الفخر الرازي لما ذهب إلى أن الأفلاك تسعة: فلك القمر وفلك عطارد وفلك الزهرة وفلك الشمس وفلك المريخ وفلك المشتري وفلك زحل وفلك الكواكب الثمانية وعشرين
216
والفلك الأطلس عملا على الرصد مع نص القرآن بأن السموات سبع. قال التنصيص على عدد السموات لا يدل على نفي الزائد. (4-4) تنبيه
الفوقية الثانية الله في حديث ابن مسعود وحديث العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنهما - ليست فوقية مكان واستقرار بل فوقية قهر واستيلاء واقتدار، وكذا يجب تأويل كل ما
217
ورد في القرآن والسنة مما يوهم ظاهره الجسمية أو يؤمن به على الوجه الذي أراد الشارع منه من غير تأويل، لا كما يفهم منه لغة وهذا هو مذهب السلف وهو أسلم،
218
والأول مذهب الخلف وهو أحكم. (4-5) فوائد
الأولى أخرج السيوطي في الهيئة عن ابن راهويه في مسنده والطبراني في الأوسط وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن المنذر عن الربيع بن أنس قال: السماء الدنيا موج مكفوف، والثانية مرمرة بيضاء والثالثة حديد والرابعة نحاس والخامسة فضة والسادسة ذهب والسابعة ياقوتة حمراء، زاد ابن أبي حاتم وما فوق ذلك صحاري من نور، ولا يعلم ما فوق ذلك إلا الله وملك موكل بالحجب يقال له ميطاطروس.
وذكر بعض أهل الكشف أن سماء الدنيا أشد بياضا من اللبن فعلى هذا ما نراه من زرقتها
219
قيل هو من خضرة جبل قاف؛ لأنه من زمردة خضراء، قاله الضحاك.
220
قال: وما أصاب الناس من زمرد فهو أمما يتساقط
221
منه.
وقيل إن الذي نراه هو البخار الطالع بحكم الطبيعة من يبوسة الأرض ورطوبة الماء صعد بها حرارة الشمس إلى الهواء فملأت الجو الخالي بين الأرض وبين السماء، ولهذا تراها تارة زرقاء، وتارة شمطاء، وتارة غبراء، كل ذلك على حكم البخار الصاعد من الأرض، وعلى قدر سقوط الضياء بين ذلك البخار. فهي باتصالها بسماء الدنيا تسمى سماء، وأما سماء الدنيا نفسها فلا يقع عليها النظر لشدة البعد واللطافة، ولولا أن الكواكب يسقط شعاعها إلى الأرض لما شوهدت ولا رؤيت. وكم في السماء من نجم مضيء لا يسقط شعاعه في الأرض فلا تراه لبعده ولطافته.
وقيل: إنها مخلوقة من زمردة فما نراه هو لونها، وفي الهيئة السنية أخرج أبو الشيخ بسند واه جدا عن سلمان الفارسي قال: السماء الدنيا من زمردة خضراء واسمها رفيعا.
222
والثانية من فضة بيضاء واسمها أرقلون.
والثالثة من ياقوتة حمراء واسمها قيدوم.
والرابعة من درة بيضاء واسمها ماعونا.
والخامسة من ذهبة حمراء واسمها ديقا.
223
والسادسة من ياقوتة صفراء واسمها دفنا.
والسابعة من نور واسمها أربيا. [الفائدة] الثانية ورد في حديث المعراج أنه - عليه السلام - رأى آدم في السماء الدنيا، وعيسى ويحيى في الثانية، ويوسف في الثالثة، وإدريس في الرابعة، وهارون في الخامسة، وإبراهيم في السادسة مسندا ظهره إلى البيت المعمور، كذا في مسلم وفي البخاري، وموسى في السابعة بتفضيل كلام الله تعالى - صلواته وسلامه عليهم أجمعين. والظاهر أن وجود كل واحد في الفلك الذي هو فيه إنما هو لمناسبة ما بينه وبين ذلك الفلك.
الثالثة من فضل السماء أن الله تعالى زينها بسبعة أشياء بالنجوم والشمس والقمر والعرش والكرسي واللوح والقلم وجعلها قبلة
224
للدعاء وجعل الأيدي ترفع إليها، وقدم ذكرها على الأرض في أكثر الآيات وجعل لونها أخضر وهو أنفع الألوان للبصر وتقوية له قاله الأطباء، ولذلك يأمرون من به وجع العين أن ينظر إلى الورقة الخضراء، فجعل الله أديمها أزرق نفعا للأبصار وتقوية لها. وجعل شكلها مستديرا وهو
225
أفضل الأشكال.
وعن ابن عباس في قوله تعالى
والسماء ذات الحبك
226
قال أبو صالح:
227
ذات السماء والجمال، وقال الحسن: ذات الخلق الحسن بحبكة بالنجوم، وقال أبو صالح: ذات الخلق السديد وجعلها منزل الأبرار ومحل الصفاء والطهارة والعصمة والعباد المكرمين.
وأما الثالث وهو كون كل من في السماوات والأرض كروي الشكل فيشتمل على ثلاث مسائل: كون الأرض كرة وكونها واحدة؛ لأن القائلين بهذا، وهم أهل الهيئة، لم يثبتوا غير هذه الأرض التي نحن عليها، وكون السماوات أكر محيطة بالأرض والكل باطل.
أما بطلان الأولى فلقوله تعالى
والأرض مددناها ،
228
وقوله تعالى
والأرض بعد ذلك دحاها
229
أي بسطها قاله ابن عباس وغيره، وعن ابن عمرو وابن عباس خلق الله الكعبة ووضعها على الماء على أربعة أركان قبل أن يخلق الدنيا بألفي عام، ثم دحيت الأرض من تحت البيت. فإن قيل لا نسلم أن الأرض بسيطة وآية مددناها لا تدل على بساطتها؛ لأن الأرض جسم عظيم والكرة إذا كانت في غاية الكبر كانت كل قطعة منها تشاهد كالسطح والتفاوت بينهما لا يحصل إلا في علم الله.
قلت: أي ضرورة تدعو إلى القول بكونها كرة حتى تركبت
230
هذا التأويل؟ مع أن الحس شاهد ببساطتها، على أن ابن عباس وغيره من السلف - رضوان الله عليهم أجمعين - أعلم بالبيان من غيرهم، وقد حكموا بالبساطة كما نقلنا. وأما بطلان الثانية فلقوله تعالى
الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن
231
ولما مر من الأحاديث الدالة على كونهن سبعا، وفي صحيح مسلم عن سعيد بن زيد أنه - عليه السلام - قال: من اقتطع شبرا من الأرض
232
ظلما طوقه الله إياه من سبع أراضين. وفي صحيح البخاري خسف به يوم القيامة إلى سبع أراضين، وفي الهيئة السنية أخرج عمر بن سعيد الدارمي في كتاب الرد على الجهمية عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: لما أراد الله أن يخلق الأشياء إذ
233
كان عرشه على الماء، وإذ لا أرض ولا سماء خلق الريح فسلطها على الماء حتى اضطربت أمواجه وأثار زكامه فأخرج من الماء دخانا وطينا وزبدا، فأمر الدخان فعلا وسما ونما، فخلق منه السموات وخلق من الطين الأراضين، وخلق من الزبد الجبال انتهى. فذكر الأرض بلفظ الجمع يدل على تعددها وفيها
234
أيضا.
وأخرج أبو الشيخ عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : كثف الأرض مسيرة خمسمائة عام، وكثف الثانية مثل ذلك، وما بين كل أرضين مثل ذلك.
وأخرج أبو الشيخ عن مجاهد في قوله تعالى
كانتا رتقا ففتقناهما
235
قال من الأرضين ست فتلك سبع، ومن السماء ست فتلك سبع.
وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إن الأراضين بين كل أرضين إلى التي تليها مسيرة خمسمائة عام الحديث.
وأخرج أبو الشيخ عن الديناري قال: الريح العقيم في الأرض الثانية والثالثة فيها حجارة النار، والرابعة فيها عقارب النار، والخامسة فيها حيات النار، والسادسة فيها كبريت النار، والسابعة فيها إبليس.
وأخرج أبو الشيخ عن ابن عمر قال: إن على الأرض الرابعة وتحت الأرض الثالثة من
236
الجن ما لو أنهم ظهروا لكم لم تروا معهم نور الشمس، على كل زاوية منها خاتم من خواتم الله، على كل خاتم ملك من الملائكة يبعث الله إليه كل يوم ملكان من عنده أن احتفظ بما عندك.
وفي بعض التواريخ أنه قيل لعيسى عليه السلام يا روح ما تحت هذه الأرض؟ قال: بحر من ماء، قيل فما تحت البحر؟ قال: أرض. قيل فما تحت الأرض؟ قال: بحر ماء حتى بلغ سبع أراضين وسبعة أبحر. قيل: فما تحت الأرض السابعة؟ قال: صخرة مجوفة. قيل: فما تحت الصخرة؟ قال: هي على منكب ملك قائم. قيل: فما تحت الملك؟ قال: هو على ظهر ثور. قيل: فما تحت الثور؟ قال: هو قائم على ظهر حوت، وقد التقى طرفاه تحت العرش. قيل: فما تحت الحوت؟ قال: الماء. قيل: فما تحت الماء؟ قال: الريح. قيل: فما تحت الريح؟ قال: هواء وظلمة. قيل: فما تحت ذلك؟ قال: إلى هنا انتهى علمي وعلم العلماء.
وذكر شيخنا قدس سره ولا زال في عافية شاملة في كتابه قصد السبيل نقلا عن بعض أهل الكشف أن سكان الطبقة الثانية من الأرض مؤمنو الجن. وسكان الثالثة مشركو الجن ليس فيها مؤمن. وسكان الرابعة الشياطين على أنواع كثيرة. وسكان الخامسة عفاريت الجن والشياطين وهم رجل إبليس. وسكان السادسة المردة الذين لا يتحكمون لأحد من عباد الله وهم خيل إبليس. وسكان السابعة الحيات والعقارب كأمثال الجبال وأعناق البخت وبعض زبانية جهنم، وهي محتد
237
إبليس انتهى.
فهذه الأحاديث والأخبار كلها دالة على تعدد الأرض وأنها ليست بواحدة، بل هي سبع بعضها فوق بعض بين كل [واحدة] وما فوقها مسافة خمسمائة عام، كما صرح به حديث عبد الله بن عمر وحديث أبي هريرة السابق، فبطل القول بحمل الأراضين السبع على الإقليم السبع كما ذهب إليه بعض أهل النظر من المسلمين، أو بكونها سبعا على الانخفاض
238
والارتفاع كدرج المراقي كما ذهب إليه البعض في أنه مخالفة الظاهر من غير ضرورة تدعو إليه.
قال الشيخ الأكبر قدس سره في الفتوحات المكية: واعلم أن الله تعالى قد جعل هذه الأرض بعدما كانت رتقا كالجسم الواحد كما كانت السماء، ففتق رتقها وجعلها سبع طباق كما فعل بالسموات، وجعل لكل أرض استعداد انفعال لأثر حركة فلك من أفلاك السموات، وشعاع كوكبها في الأرض الأولى وهي التي نحن عليها للفلك
239
الأول، إلى أن قال فلذلك قال
صلى الله عليه وسلم
من غصب شبرا من الأرض طوقه الله به من سبعة أراضين؛ لأنه إذا غصب شيئا من الأرض كان ما تحت ذلك المغصوب مغصوبا إلى منتهى الأرض، ولو لم تكن طباقا بعضها فوق بعض لبطل معقول هذا الخبر، وكذلك الخبر الوارد في سجود العبد على الأرض طهر الله بسجدته إلى سبع أراضين قال تعالى
أن السماوات والأرض كانتا رتقا
240
أي كل واحدة منهما مرتوقة ثم قال
ففتقناهما
241
يعني فصل بعضها عن
242
بعض حتى تميزت كل واحدة عن صاحبتها كما قال
خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن
243
الظاهر أنه يريد طباقا، ثم قال
يتنزل الأمر بينهن
244
أي بين السموات والأرض ولو كانت واحدة لقال بينهما انتهى.
فان قلت : إذا كانت الأرض سبعا فلم لم يأت بلفظ الجمع كما جاءت السماء؟ قلت: أجيب عنه بأن السماوات لما كانت أجناسا مختلفة أتى فيها بلفظ الجمع تنبيها على ذلك، والأراضين لما كانت من جنس واحد أتى فيها بصيغة الإفراد تنبيها
245
على ذلك، وقيل لأن الأرض إذا جمعت ثقل التلفظ بها لكونها لا بد لها من تحرك الوسط بخلاف السماء. (4-6) فوائد [الأولى]:
اختلف القدماء من الفلاسفة وأهل الهيئة في الموجب لسكون الأرض حتى تكون فراشا لنا، ويمكننا التصرف عليها بالبناء وغيره على أقوال: فقيل لأن الأرض لا نهاية لها من جهة السفل فلا مهبط لها إذن، قال الفخر وهذا باطل لتناهي الأجسام، وقيل الموجب لسكونها جذب الفلك لها من كل جانب فليس بعض الجوانب بأولى بجذبها من بعض، فوجب وقوفها. وقيل رفع الفلك لها من كل الجوانب، وقيل لأن الأرض بطبعها تطلب وسط الفلك، والحق أن سكونها فعل الواحد القهار والعقل لا يقع على جميع حكم الله في المخلوقات لحصول العجز.
الثانية:
في المسالك للبكري أن الأرض كلها مسيرة خمسمائة عام: ثلث عمران وثلث بحار وثلث براري غير مسكونة. وعن مكحول مسيرة ما بين أقصى الدنيا إلى أدناها مسيرة خمسمائة عام؛ مائتان في البحر، ومائتان ليس ساكنها أحد، وثمانون فيها يأجوج ومأجوج، وعشرون فيها سائر الخلق. وفي عيون الأخبار لابن قتيبة: الدنيا كلها - أي المعمور منها - أربعة وعشرون ألف فرسخ: اثنا عشر ألفا للسودان، وثمانية آلاف للروم، وثلاثة آلاف لفارس، وألف للعرب. وقال قتادة: الأرض المعمورة هي أربعة وعشرون ألف فرسخ: اثنا عشر ألف فرسخ للسند والهند، وثمانية آلاف ليأجوج ومأجوج، وثلاثة آلاف للروم، وألف للعرب، كذا في بهجة النفس. وقال بعض المؤرخين: اتفق الفلاسفة وكل
246
من عنى
247
بمساحة الأرض أن تكسير الأرض اثنان وعشرون ألف فرسخ. وحكى البكري عن أبي عبيد أنه
248
حكى اتفاقهم على أن طول عمران الأرض ثلاثة عشر ألف ميل وخمسمائة ميل وذلك من أقصى
249
الجزائر الست بالبحر المسمى أوقيانس وهو البحر المحيط الذي لا يعلم ما وراءه غربا إلى أقصى
250
عمران الصين شرقا.
وذكر بعضهم أن استدارة الأرض ستة وثلاثون درجة، والدرجة خمسة وعشرون فرسخا والفرسخ اثنا عشر ألف ذراع، والذراع اثنان وأربعون إصبعا، والإصبع ست حبات وتسعان مصفوفة بعضها إلى بعض. قال الإمام الفخر: اتفقوا على أن جعلوا ابتداء العمارة من المغرب، إلا أنهم اختلفوا في التعيين؛ فبعضهم يأخذه من ساحل البحر المحيط وهو بحر أوقيانس، وبعضهم يأخذه من جزائر أغلة وهي التي تسمى الخالدات.
251
زعم الأوائل أنها كانت عامرة في قديم الدهر، قال الفخر: إن بعد هذه الجزائر عشر جزائر، قال: فيلزم
252
على هذا وقوع الاختلاف في الانتهاء أيضا، ولم يوجد أرض العمارة إلا بعد ستة وستين درجة من خط الاستواء. إلا أن بطلميوس زعم أن من وراء خط الاستواء عمارة إلى بعد ست عشرة درجة، فيكون عرض العمارة قريبا من الاثنين وثمانين درجة. وأما مقدار سعة الأرض بالمراحل ففي الخريدة أن من مصر إلى أقصى المغرب نحو مائة وثمانين مرحلة، وإذا قطعت من القلزم شرقي مصر إلى حد الصين على خط مستقيم كان مقدار تلك المسافة نحو مائين مرحلة، فجملة ما بين أقصى المغرب إلى أقصى المشرق نحو أربعمائة مرحلة هذا طول الأرض، وأما عرضها من أقصاها في حد الشمال إلى أقصاها في حد الجنوب فمن ناحية يأجوج ومأجوج
253
إلى أرض بلغار وأرض السقالبة نحو أربعين مرحلة، ومن أرض السقالبة إلى بلد الروم إلى الشام نحو ستين مرحلة، ومن أرض الشام إلى مصر نحو ثلاثين مرحلة، ومنها إلى أقصى النوبة نحو ثمانين مرحلة حتى تنتهي إلى البرية، فذلك
254
مائتان وعشر مراحل كلها عمارة.
وأما ما بين يأجوج ومأجوج إلى البحر المحيط فغير معلوم، وذلك لأن
255
سلوكها غير ممكن لفرط البرد، وما بين براري السودان إلى البحر المحيط قفر
256
خراب ليس فيه نبات ولا طير ولا وحش ولا شيء من المخلوقات ولا يعلم أحد مسافة هاتين البريتين كم هي إلى المحيط، وذلك؛ لأن سلوكهما غير ممكن لفرط البرد المانع من العمارة والحياة في الشمال، وفرط الحر
257
المانع من ذلك في الجنوب.
وأما جميع ما بين الصين والمغرب فمعمور كله والبحر المحيط مختلف به كالطرق، وأما عدد الأقاليم
258 [في] الأرض فمذهب الفلكيين أن الأقاليم سبعة، وذكر بعضهم أن طول كل إقليم من الأقاليم تسعمائة فرسخ في ميلها؛ فالأول منه
259
أرض بابل وخراسان وفارس والأهواز وموصل وأرض الجبل وله من البروج الحمل ومن النجوم المشتري.
والثاني السند والهند والسودان وله من البروج الجدي وزحل. والثالث مكة والمدينة والحجاز واليمن وله العقرب والزهرة. والرابع مصر وإفريقية والبربر والأندلس وله الجوزاء وعطارد. والخامس الشام والروم والجزيرة وله الدلو والقمر. والسادس الترك والخزر والديلم والصقالبة
260
وله السرطان والمريخ. والسابع
261
الذبيل وصفين وله الميزان والشمس.
ولأهل الهيئة وغيرهم اختلاف واضطراب في تعيين هذه الأقاليم السبعة. وذكر أن الأقاليم؛ الأول أطول أياما وأعدل ساعات من الثاني، والثاني أعدل من الثالث ثم كذلك إلى آخرها. وإن ما وراء السابع لا يسكن ولا يعيش فيه حيوان ولا يدخل إذا كانت الشمس في آخر الأبراج الشمالية في رأس السرطان. وزعم الفلاسفة أن الشموس شموس كثيرة، والأقمار أقمار كثيرة، ففي كل إقليم شمس وقمر ونجوم كذا في بهجة الناظرين.
الثالثة:
اختلف المفسرون هل السماء مخلوقة قبل الأرض أو بعدها؟ فذهب ابن عباس إلى أن الأرض خلقت قبل، وبه قال الزمحشري وجماعة. وذهب آخرون أن السماء خلقت قبل والعادة تشهد للأول؛ لأن من بنى بيتا بنى أسافله قبل أعاليه.
الرابعة:
قال صاحب كشف الأسرار: اختلفوا في تفضيل الأرض على السماء وعكسه، والأكثرون على تفضيل الأرض على السماء لأن الأنبياء خلقوا منها وعبدوا الله فيها ودفنوا فيها.
الخامسة:
هذه الأرض العليا أفضل مما تحتها لاستقرار ذرية آدم فيها ولانتفاعنا بها ودفن الأنبياء بها، وهي مهبط الوحي وغيره من الملائكة قاله في كشف الأسرار أيضا. ومما يدل عليه ما خرجه الدارمي عن ابن عباس قال: سيد السماوات السماء التي فيها العرش، وسيد الأراضين التي نحن عليها.
وأما بطلان الثالثة فلما أخرج السيوطي عن ابن أبي حاتم عن جبير بن مطعم أن
262
النبي
صلى الله عليه وسلم
قال: إن الله على عرشه، وعرشه على سماواته، وسماواته على أرضه هكذا قال بإصبعه مثل القبة.
وأخرج عن ابن أبي حاتم عن السدي في قوله تعالى
والسماء بناء
263
قال: السماء على الأرض كهيئة القبة وهي سقف على الأرض.
وأخرج عن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة في قوله تعالى
والسماء بناء
264
قال: السماء على الأرض كهيئة القبة وهي سقف على الأرض.
265
وأخرج عن ابن أبي حاتم عن القاسم بن أبي بزة قال: ليست السماء مربعة ولكنها مقببة يراها الناس خضراء.
وأخرج عن أبي الشيخ عن إياس بن معاوية قال: السماء مقببة على الأرض مثل القبة.
وأخرج عن عبد بن حميد وأبي الشيخ عن وهب بن منبه قال: شيء من أطراف السماء محدق بالأرضين والبحار كأطناب الفسطاط.
266
وأخرج عن ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: خلق الله تعالى وراء هذه الأرض بحرا محيطا بها، ثم خلق من وراء ذلك جبلا يقال له قاف، السماء الدنيا مترفرفة عليه، ثم خلق ما
267
وراء ذلك الجبل أرضا مثل تلك الأرض سبع مرات، ثم خلق من وراء ذلك بحرا محيطا بها، ثم خلق وراء ذلك جبلا يقال له قاف
268
السماء الثانية مترفرفة عليه حتى عد سبع أراضين وسبعة أبحر وسبعة أجبل وسبع سماوات، قال وذلك قوله تعالى
والبحر يمده من بعده سبعة أبحر .
269
تتمة تتعلق بما نحن بصدده، نقل شيخنا قدس سره في قصد السبيل
270
عن الشيخ الأكبر قدس سره أنه قال في الباب 348 من الفتوحات المكية
271
بعد ما أثبت الفضاء بين كل فلك فلك ما نصه ولا يعلم ذلك إلا بالمشاهدة، والذين لا علم لهم يقولون إن الأفلاك يحك مقعر كل فلك منها سطح الذي تحته ولا علم له بأن بينهم فضاء ... إلخ.
272
وقال في الباب 371 خلق السماوات وجعلها كالقباب على الأرض قبة فوق قبة كما سنوقفك في هذا الباب على شكل وضع هذه الأجرام وجعل هذه السماوات ساكنة، وخلق فيها نجوما جعل لها في سيرها وسباحتها
273
في هذه السموات حركات مقدرة لا تزيد ولا تنقص، وجعلها عاقلة سامعة مطيعة وأوحى في كل سماء أمرها إلى أن قال: وهي سريعة السير في جرم السماء، فتخترق الهواء المماس لها فتحدث بسيرها أصوات ونغمات مطربات
274
لكون سيرها على وزن معلوم، قد علم بالرصد مقادير تلك الحركات، إلى أن قال: فجعل أصحاب الهيئة للأفلاك ترتيبا جائزا ممكنا في حكم العقل أعطاهم ذلك علم رصد الكواكب وسيرها وتقدمها وتأخرها وبطئها وسرعتها، وأضافوا ذلك إلى الأفلاك
275
الدائرة بها، وجعلوا الكواكب في الأفلاك كالشامات على سطح
276
الجسم، وكل ما قالوه يعطي ذلك ميزان حركاتها، وأن الله لو فعل ذلك كما ذكروه لكان السير السير بعينه؛ ولذلك يصيبون في علم الكسوفات فإنهم مصيبون في الأوزان، مخطئون في أن الأمر كما رتبوه وأن السموات كالأكر وأن الأرض في جوف هذه الأكر، إلى أن قال: وليس الأمر إلا كما ذكرنا شهودا وكشفا انتهى.
وقال المحقق مؤيد الدين الجندي قدس سره: إن الأصول المذكورة في علم الهيئة من الأوضاع الفلكية وأكرة العناصر وفي كروية السماوات وكونها أفلاكا محيطات متحركات حركات
277
دولابية على رأي المتأخرين من حكماء الرسوم لا توافق مقتضى الكشف والشرع والبراهين التي أسسوا علمهم عليها في زعمهم إنما هي فروض وتقادير ليس شيء منها واقعا بل هي واهية، وجميع براهينهم على كروية السماوات وإحاطتها بمركز الأرض بضعة عشر وجها كما ذكرها الشيخ أبو ريحان في قانونه المسعودي أكثرها يتعلق بإحاطة فلك الثوابت ونحن قائلون: بأن فلك الثوابت والأطلس فلكان محيطان فلا يرد علينا وارد واحد منها، وثلاثة وجوه باقية تتعلق بغروب الشمس والكواكب السيارة. وهي أيضا مدفوعة بفرض حركة منطقة البروج والكواكب السيارة فيها حمالية
278
لا دولابية. انتهى ما ذكره سلمه الله تعالى في قصده.
قلت: فلك الثوابت والفلك الأطلس فلكان محيطان بالسماوات للسبع والأراضين السبع، والثور والصخرة والهواء والظلمة كما سنقف عليه في تمثيل الشيخ الأكبر قدس سره وهما المعبر عنهما بلسان أهل الشرع بالعرش والكرسي على ما في شرح المواقف ففلك الثوابت هو الكرسي والفلك الأطلس هو العرش وسمي أطلسا؛ لأنه غير مكوكب.
قال المحقق الشمس الفناري رحمه الله في المصباح، عن المحقق الفرغاني قدس سره كما نقله شيخنا قدس سره عنه في قصده أن كلا من العرش والكرسي اعتبر صورتهما المثالية تارة بحكم المرتبة التي ظهرت الهيئة فيها. فسميا العرش والكرسي واعتبر صورتهما الجسمانية المركبة من الطول والعرض والعمق فيسمى العرش باعتبارها فلك الأفلاك والفلك الأطلس والمحدد ويسمى الكرسي باعتبارها فلك الكواكب والمنازل. (4-7) تنبيه
279
قال الإمام فخر الدين: الفلك في كلام العرب كل شيء دائر، وجمعه أفلاك، وفيه قولان: فقيل أجسام تدور عليه النجوم قاله أكثر المفسرين، وقيل إنه ليس بجسم وإنما هو مدار النجوم، فإذا قلنا بالقول الأول ففي كيفية اختلاف فقيل: إن الفلك موج مكفوف تجري فيه الكواكب. وقال جمهور الفلاسفة وأهل الهيئة هي أجرام صلبة لا ثقيلة ولا خفيفة غير قابلة للخرق والالتئام.
وإنما أشبعنا القول في هذا المقام وخرجنا عن المقصد الذي نحن بصدد بيانه؛ لأن كثيرا من الناس، بل كثيرا من فضلاء زماننا، يعتقدون مذهب أهل الهيئة غاية الاعتقاد، ويعتمدون عليه غاية الاعتماد ويرتكبون التويل البعيد إذا سمعوا ما يخالف مشربهم من نصوص الكتاب والسنة، ويخبطون خبط من به جنة، ولعمري أن لا سبيل إلى معرفة السماوات والأرض إلا بالخبر؛ لأنها غيب لا يدرك إلا بالوحي والمشاهدة والعيان لا بالقياس والتخمين والحسبان، والعجب العجيب العجاب أنهم يسلمون لائمة الدين والسلف ما نقلوه من الأحاديث وبيان الأحكام وتفاسير القرآن التي لا تخالف مشربهم مما له تعلق بالدين ويدينون الله بالتعبد بأقوالهم وأفعالهم، وإذا رأوا منهم ما يخالف مذهب الحكماء والفلاسفة رفضوه وراء ظهورهم، فما مثلهم إلا مثل من يؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض، أعاذنا من مذاهب الحكماء والفلاسفة.
وهذه صورة ما سبق الوعد به في كلام الشيخ الأكبر - قدس سره - كما نقله عنه شيخنا - سلمه الله - ولا زال في عافية شاملة، قال في الفتوحات صورة الفلك المكوكب وقباب السموات وما
280
تستقر عليه وهي الأرض والأركان الثلاثة والعمد التي يمسك الله بها القبة والمعدن والنبات والحيوان والإنسان.
281
فإن قلت قد فدت وأجدت في الإفادة ولو بينت
282
كيفية صورة هذه المنازل ووقت طلوع الطالع منها والغارب والشامي منها واليماني وانقسامها على الفصول، وتبينت البعد بين كل منزلة وأختها وتكلمت على الألوان كان أكمل للفائدة.
قلت: أما بيان كيفية صورتها؛ فالشرطان كوكبان نيران متعارضان من الشمال إلى الجنوب بينهما قاب قوسين ويقرب من الجنوبي منها من شرقيه كوكب صغير بينهما قدر نصف ذراع مأخوذ من تثنيه شرط وهو العلامة؛ لأنها أول الربيع
283
واعتدل الزمان.
والبطين ثلاثة كواكب خفية على هيئة مثلث متساوي الأضلاع وبينهم وبين الشرطين قدر رمح في رؤية العين.
والثريا ستة كواكب وقيل سبعة صغار مجتمعة كعنقود عنب.
والدبران كوكب أحمر يتربع أربعة كواكب أصغر منه وهو معها كصورة الدال، وسمي دبران لاستدباره
284
الثريا، [و]يسمى المخدع وعادي النجم.
والهقعة ثلاثة كواكب خفية مجتمعة كنقطة الثاء كأنها لطخة سحاب.
والهنعة كوكبان أحدهما صغير والآخر أنور منه ويتصل بها أنجم فترى الجميع كصورة الصولجان وقيل كباء منكوسة الرأس.
والذراع كوكبان نيران معترضان بين الشمال والجنوب وهو ذراع الأسد، وللأسد ذراعان مقبوضة وهي الشامية وسميت مقبوضة؛ لأنها تخفى عند طلوع الأسد فكأنه قبضها، ويقارنها نجوم صغار تسمى الأطفار وهي أربع وأحد كوكبي الذراع الشعرى
285
الغميضاء والآخر الأحمر يسمى مرزم الذراع. والشعرى شعريان: أحدهما الشعرى العبور وهي يمانية نيرة تقطع السماء،
286
يقابلها الشعرى الغميضاء التي هي ذراع الأسد المبسوطة، ويقابل العبور وهي في المجرة
287
من شماليها. ومن أكاذيب
288
العرب يقولون إن سهيلا والشعرى كانا مجتمعين في يماني المجرة فخطب سهيل الشعرى العبور فلم تتزوج فمال عن المجرة فصار يمانيا فندمت على رده فعبرت إليه المجرة في طلبه
289
فلذلك سميت الشعرى العبور وبقيت الشعرى الغميضاء في الجانب الشمالي فبكت لفراق أختها فغمضت عيناها فصارت أقل نورا من العبور. ويقال
290
الغميصاء والغميضاء بالمعجمة والمهملة.
والنثرة وهي كواكب صغار مجتمعة سحابية كأنها لطخة غيم.
والطرف كوكبان معترضان من الجنوب إلى الشمال سميت
291
بذلك ؛ لأنهما عيني الأسد وقدامهما كواكب صغار تسمى الأشغار.
والجبهة أربعة كواكب على أثر الطرف كالنعش إلا أن فيها اعوجاجا، وهي معترضة بين الشمال والجنوب، والجنوبيان منهما أحمران.
والزبرة كوكبان نيران معترضان بين الشمال والجنوب.
والصرفة كوكب أبيض نير عنده كواكب صغار وتسمى الصرفة لانصراف الحر عند طلوعه بالعشاء.
والعواء هي خمسة كواكب متقاربة الأقدار متباينة الأبعاد ثلاثة منها مصطفة واثنان في المغرب إلى المشرق
292
كهيئة لام قد كتبت باليد اليسرى.
والسماك [الأعزل] كوكب نير في الجنوب من أربعة كواكب كمربع فيه انحراف ويسمى عرش السماك ويسمى أيضا الخباء، ويسمى سماكا؛ لأنه مرتفع سامك
293
وهو الأعزل، ويسمى أعزل لخلوه مما
294
خطر لسميه من هيئة السلاح، فإن الأعزل الرجل الذي لا سلاح معه.
والسماك الرامح كوكب نير في الشمال بين يديه كوكب صغير يقال له رمح السماك، ولله
295
در القائل:
لا تطلبن بغير حظ رتبة
قلم البليغ بغير حظ مغزل
سكن السماكان السماء كلاهما
هذا له رمح وهذا أعزل
296
وهو الحد بين النجوم الشمالية والجنوبية لقربه من مطلع الاستواء فما
297
كان مطلعه فوق السماك الأعزل فهو شمالي وما كان تحته فهو جنوبي.
والغفر ثلاثة كواكب معترضة من الجنوب إلى الشمال على خط فيه تقوس بسبب بروز الأوسط منها عن استواء الخط إلى جهة الغرب وهي خفية وأنورها الأوسط.
والزبانا كوكبان صغيران في الشمال والجنوب بينهما قدر رمح.
والإكليل ثلاثة كواكب خفية على سطر مقوسة.
والقلب كوكب نير محمر لماع بين كوكبين؛ شرقي وغربي.
والشولة كوكبان صغيران متقاربان بينهما قدر فتر في رأي العين.
والنعائم ثمانية كواكب؛ أربعة منها في المجرة وتسمى النعائم الصادرة وكأنها هذه قد صدرت من الماء، ووردت تلك لتروى من المجرة؛ لأن المجرة عند العرب مشبهة بالنهر.
والبلدة رقعة في السماء ليس فيها كواكب وسميت أيضا المفازة وهي خلف القلادة.
والقلادة ستة كواكب؛ ثلاثة شمالية وثلاثة جنوبية، صورة دائرة غير تامة الاستدارة تشبه بالقوس وحيالهن كوكب يقال له سهم الرامي وهو عصا الراعي.
وسعد الذابح كوكبان معترضان من الشمال إلى الجنوب بينهما قدر باع وليسا
298
بالنيرين بل الشمالي منهما كوكب صغير.
وسعد بلع ثلاثة كواكب معترضة بين الشمال والجنوب على خط فيه تقويس جذبته إلى المغرب وأوسطها أخفاها.
وسعد السعود ثلاثة كواكب على خط فيه تقويس بين الشمال والجنوب جذبته إلى الغرب والشمالي أنور من أخويه، وسمي بذلك؛ لأنه يتمنى به إقبال الربيع وانكسار حر البرد وتليين الزمان.
وسعد الأخبية أربعة كواكب ثلاثة منها على شكل مثلث والرابع في وسطه.
والفرغ المقدم بالغين المعجمة كوكبان نيران معترضان بين الشمال والجنوب بينهما قدر رمح، والمؤخر مثله والأربعة على صورة مربع متساوي الأضلاع.
والرشا وهو بطن
299
الحوت، كوكب أحمر من جملة كواكب السمكة ويسمى قلب الحوت، عليه كواكب خفية أحاطت بصورة سمكة.
وأما بيان طلوعها فاعلم أن المنازل لما كانت ثمانية وعشرين كانت ثلاثة عشر منها ظاهرة في الأفق الأعلى، وثلاثة عشر في الأفق الأسفل، والطالع في حكم الطلوع والغارب في حكم الغروب. فإذا عرفت الطالع كان رقيبه الخامس عشر، وإنما سمي الغارب رقيبا تشبيها له برقيب يرصده ليسقط من المغرب إذا ظهر ذلك من المشرق. والطالع والغارب كما يعدان لأهل الأفق الأعلى كذلك يعدان
300
لأهل الأفق الأسفل، وبقية الثلاثة عشر الظاهرة؛ واحد متوسط في خط وسط السماء وستة منها إلى جهة المشرق وستة
301
إلى المغرب وكذلك الثلاثة عشر السفلية فإذا غربت منزلة طلعت من المشرق أخرى فيتوسط ما بعد المتوسط في العدد، ومهما كان الطالع فالغارب الخامس عشر منه والثامن منه متوسط فإذا عرفت هذا فاعلم أن الشرطين يطلع مع الفجر في رابع
302
عشر نيسان ويتوسط سعد الذابح ويغرب الغفر وتكون الزبرة قبلة وقت المغرب.
والبطين يطلع مع الفجر في سابع أيار ويتوسط سعد بلع، وتغرب الزبانا وتكون الصرفة قبلة وقت صلاة المغرب.
الثريا تطلع مع الفجر في عاشر أيار ويتوسط سعد السعود ويغرب الإكليل وتكون العواء قبله وقت صلاة المغرب.
والدبران يطلع مع الفجر في ثاني حزيران ويتوسط سعد الأخبية ويغرب القلب ويكون السماك قبلة وقت المغرب.
والهقعة تطلع مع الفجر في خامس حزيران ويتوسط الفرغ المقدم وتغرب الشولة ويكون الغفر قبلة وقت المغرب.
والهنعة تطلع مع الفجر في ثامن عشر حزيران ويتوسط الفرغ المؤخر وتغرب النعائم وتكون الزبانا قبلة وقت المغرب.
والذراع يطلع مع الفجر في حادي عشر تموز ويتوسط الرشا وتغرب البلدة ويكون الإكليل قبلة وقت المغرب.
والنثرة
303
تطلع مع الفجر رابع عشر من تموز ويتوسط الشرطان ويغرب سعد الذابح ويكون القلب قبلة وقت المغرب.
والطرف يطلع مع الفجر في سادس آب ويتوسط البطين
304
ويغرب سعد بلع وتكون الشولة قبلة وقت المغرب.
والجبهة تطلع مع الفجر في تاسع عشر من آب ويتوسط الثريا ويغرب سعد السعود وتكون النعائم قبلة وقت المغرب.
والزبرة تطلع مع الفجر من
305
ثاني أيلول ويتوسط الدبران ويغرب سعد الأخبية وتكون البلدة قبلة وقت المغرب.
والصرفة تطلع مع الفجر خامس عشر أيلول ويتوسط الهقعة ويغرب الفرغ المقدم وتكون سعد الذابح قبلة وقت المغرب.
والعواء تطلع مع الفجر في ثامن عشر أيلول وتتوسط الهقعة ويغرب الفرغ المؤخر ويكون سعد بلع قبلة وقت المغرب.
والسماك يطلع مع الفجر في حادي تشرين الأول ويتوسط الذراع ويغرب بطن الحوت ويكون سعد السعود قبلة وقت المغرب.
والغفر يطلع مع الفجر في رابع عشر تشرين الأول ويتوسط النثرة ويغرب الشرطان ويكون سعد الأخبية قبلة وقت المغرب.
والزبانة تطلع مع الفجر في سادس تشرين الثاني ويتوسط الطرف ويغرب البطين ويكون
306
فرغ الدلو المقدم قبلة وقت المغرب.
والإكليل يطلع مع الفجر في تاسع عشر تشرين الثاني ويتوسط فرغ الدلو ويغرب الثريا والجبهة يكون المؤخر
307
قبلة وقت المغرب.
والقلب يطلع مع الفجر في خامس عشر كانون الأول ويتوسط الزبرة ويغرب الدبران وحينئذ يكون الرشا
308
وقت المغرب.
والشولة تطلع مع الفجر في خامس عشر كانون الأول ويتوسط الصرفة ويغرب الهقعة ويكون الشرطان قبلة وقت المغرب.
والنعائم تطلع مع الفجر في ثاني عشر كانون الأول ويتوسط العواء ويغرب الهنعة ويكون البطين قبلة وقت المغرب.
والبلدة تطلع مع الفجر في عاشر كانون الثاني وتتوسط السماك ويغرب الذراع وتكون الثريا قبلة وقت المغرب.
وسعد الذابح يطلع مع الفجر في ثالث عشرين
309
كانون الثاني ويتوسط الغفر وتغرب النثرة ويكون الدبران قبلة وقت المغرب.
وسعد بلع يطلع مع الفجر في خامس شباط وتتوسط الزبانا ويغرب
310
الطرف وتكون الهقعة قبلة وقت المغرب.
وسعد السعود يطلع مع الفجر في ثامن عشر شباط ويتوسط الإكليل وتغرب الجبهة وتكون الهنعة قبلة وقت المغرب.
وسعد الأخبية يطلع مع الفجر في ثالث أذار ويتوسط القلب وتغرب الزبرة ويكون
311
الذراع قبلة وقت المغرب.
والفرغ المقدم يطلع مع الفجر في سادس عشر أذار وتتوسط
312
الشولة وتغرب الصرفة وتكون النثرة قبلة وقت المغرب.
والفرغ المؤخر يطلع مع الفجر في الثلاثين من آذار وتتوسط النعائم وتغرب العواء ويكون الطرف قبلة وقت المغرب.
والرشا يطلع مع الفجر في حادي عشر نيسان ويتوسط البلدة ويغرب السماك وتكون الجبهة قبلة وقت المغرب.
واعلم أن هذه المنازل تنقسم على البروج الاثني عشر فيحصل لكل برج منها منزلتان وثلث، والقمر ينزل كل منزل منها ليلة ويسير سيرا من غير تفاوت ويستتر ليلتين من الشهر إن كان تاما وليلة إن كان ناقصا. فإذا قطعها
313
دق وتقوس، فذلك معنى قوله تعالى
والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم .
314
وأما بيان الشامي واليماني
فاعلم أن هذه المنازل تنقسم إلى شامي ويماني وإن شئت قلت شامي وجنوبي فالشامية من الشرطين إلى السماك واليمانية من الغفر إلى بطن الحوت.
وأما انقسامها على الفصول فاعلم أن لكل فصل من فصول السنة سبع منازل؛ فللربيع من الشرطين إلى الذراع، وللصيف من النثرة إلى السماك، وللخريف من الغفر إلى البلدة، وللشتاء من الذابح إلى الرشا.
وأما بيان البعد بين هذه المنازل فاعلم أن البعد من الشرطين إلى البطين اثنتا
315
عشرة درجة، ومن البطين إلى الثريا ثلاث عشرة درجة، ومن الثريا إلى الدبران خمس عشرة درجة، ومن الدبران إلى الهقعة أربع عشرة درجة، ومن الهقعة إلى الهنعة ست عشرة درجة، ومن الهنعة
316
إلى الذراع ومن الذراع إلى النثرة ثلاث عشرة درجة، ومن الطرف إلى الجبهة عشر درجات، ومن الجبهة إلى الزبرة أربع عشرة درجة، ومن الزبرة إلى الصرفة ثلاث عشرة درجة، ومن الصرفة إلى العواء ست عشرة درجة، ومن العواء إلى السماك اثنتا عشرة درجة، ومن السماك إلى الغفر مثل ذلك، ومن الغفر إلى الزبانا مثل ذلك، وتسمى هذه متساوية الأبعاد، ومن الزبانا إلى الإكليل أربع عشرة درجة ومن الإكليل إلى القلب خمس عشرة
317
درجة، ومن القلب إلى الشولة ست عشرة درجة.
ومن الشولة إلى النعائم عشرون درجة، ومن النعائم إلى البلدة تسع درجات وهن أوسط الأبعاد، ومن البلدة إلى سعد الذابح إحدى عشرة درجة، ومن الذابح إلى سعد بلع عشر درجات، ومن سعد بلع إلى سعد السعود مثل ذلك، ومنه إلى سعد الأخبية كذلك، ومنه إلى الفرغ المقدم كذلك، وهذه الأربعة متساوية الأبعاد، ومنه إلى الفرغ المؤخر تسع عشرة درجة، ومنه إلى بطن الحوت عشر درجات، ومن بطن الحوت إلى الشرطين ست عشرة درجة.
وأما
318
بيان الأنواء فاعلم أن العرب قسمت المنازل على سبعة أقسام بالنسبة إلى أنوائها، والنوء عبارة عن سقوط النجم في الغرب مع وقت الفجر؛
فالأول من الأنواء البدري وهو تسعة وثلاثون يوما من سبعة أيام خلون من أيلول إلى ثمانية عشر خلون من تشرين الأول ونوءه سقوط الفرغ المقدم والفرغ المؤخر والحوت.
والثاني الوهي وهو اثنان وخمسون يوما، ومبدؤه من ثلاثة عشر يوما بقين من تشرين الأول إلى تسعة أيام تمضي من كانون الأول، ونوءه سقوط الشرطين والبطين والثريا والدبران.
الثالث الؤلآ وهو مائة وثلاثون يوما ومبدؤه من تسعة أيام تمضي من كانون الأول إلى ثمانية عشر تمضي من نيسان، ونوءه سقوط الهقعة والهنعة والذراع والنثرة والطرف والجبهة والزبرة والصرفة والعواء والسماك.
والرابع العمر والمند
319
وهما متداخلان وهما اثنان وخمسون يوما من ثمانية عشر من نيسان إلى تسعة أيام تمضي من حزيران ونوءه سقوط الغفر والزبانا والإكليل والقلب.
الخامس النهري وهو ستة وعشرون يوما ومبدؤه من تسعة أيام تمضي من حزيران إلى خمسة أيام تمضي من تموز، وتسميه العامة النفاخ؛ لأنه يكبر فيه البلح فيصير بسرا، وكذلك الفواكه والسمك ونوءه سقوط الشولة والنعائم.
السادس بارج القيظ
320
وهو السموم الشديدة، وتسميه العامة الطباخ؛ لأنه يطبخ البسر
321
الذي ينفخه النهري فيصير رطبا، وكذا الفاكهة كالتين والأجاص والعنب وما
322
أشبهه وهو تسعة وثلاثون يوما، ومبدؤه من خمسة أيام مضين
323
من تموز إلى ثلاثة وعشرين يوما تخلو من آب، ونوءه سقوط البلدة وسعد الذابح وسعد بلع.
السابع أحراف الهوى وهو تسعة وعشرون يوما من ثلاثة عشر يوما من آب إلى ثلاثة أيام من أيلول ونوءه سقوط سعد السعود وسعد الأخبية. (4-8) تنبيه
ذكر في تدبير الأزمنة أن مزاج الربيع حار رطب وطبيعته الدم يصلح فيه الأسواغ بالقيء والفصد والحجامة والجماع والإسهال والختان، والاعتماد على الأغذية المعتدلة كالفراريج والبيض النيم برشت
324
ولبن الماعز والضأن.
والصيف حار يابس وطبيعته المرة الصفراء يتوقى فيه كل حار يابس، ويؤكل فيه كل بارد رطب ويقلل فيه اللبث في الحمام والحركة والجماع، وأجود ما كان القيء من أيام السنة فيه.
والخريف بارد يابس وطبيعته المرة السوداء، ويتوقى فيه البارد اليابس، ويؤكل فيه كل حار رطب كطبيخ الحنطة، ويستعمل الأدهان المرطبة ويجتنب إخراج الدم إلا في الضرورة والقيء فإنه يثير الحمى.
والشتاء بارد رطب وطبيعته البلغم يستعمل فيه الأغذية الحارة كالعصافير والجزر واللحوم الوحشية والحركة والاستجماع والاستحمام ويجتنب فيه الإسهال. (4-9) إلحاق
325
وإذ قد تعرضنا لبيان هذه المنازل فلا بأس بالكلام على البروج الاثني عشر تتميما للفائدة. فنقول وبالله التوفيق البروج هي مقادير معينة في الفلك الأطلس، كما أن المنازل مقادير
326
معينة في الفلك المكوكب، كذا ذكره الشيخ الأكبر في الفتوحات وهي اثنا عشر برجا: الحمل، الثور، الجوزاء، السرطان، الأسد، السنبلة، الميزان، العقرب، القوس، الجدي، الدلو، الحوت.
قال البغوي في تفسير قوله تعالى
ولقد جعلنا في السماء بروجا
327
من سورة الفرقان قال الحسن ومجاهد وقتادة: البروج هي النجوم الكبار سميت بروجا لظهورها، وقال عطية العوفي: أي قصورا فيها الحرس كما قال تعالى
ولو كنتم في بروج مشيدة ،
328
وقال عطاء عن ابن عباس: هي البروج الاثني عشر التي هي منازل الكواكب السبعة السيارة وهي الحمل ... إلخ.
329
فالحمل والعقرب بيتا المريخ، والثور والميزان بيتا الزهرة والجوزاء والسنبلة بيتا عطارد، والسرطان بيت القمر، والأسد بيت الشمس، والقوس والحوت بيتا المشتري، والجدي والدلو بيتا زحل، قال البيضاوي في تفسير قوله تعالى
والسماء ذات البروج :
330
أعني البروج الاثني عشر شبهت بالقصور؛ لأنها ينزلها السيارات ويكون فيها الثوابت، ومنازل القمر وعظام الكواكب سميت بروجا لظهورها انتهى.
ومعنى نزول القمر والشمس وغيرها ودخولها فيها مسامتتها لنقطتها؛ فمعنى دخول الشمس بروج الحمل مسامتتها لنقطة الحمل، لا أنها تحلها. لما علمت أنها مقادير في الفلك الأطلس، فأما الشمس فإنها تقطعها في ثلاثمائة وخمس وستين يوما وربع يوم إلا جزءا من ثلاثمائة جزء من يوم؛ فتقطع الحمل بواحد وثلاثين يوما، وتقطع الثور بواحد وثلاثين يوما، وتقطع الجوزاء باثنين وثلاثين يوما، وتقطع السرطان بواحد وثلاثين يوما، وتقطع الأسد بواحد وثلاثين يوما، وتقطع السنبلة بواحد وثلاثين يوما،
331
وتقطع الميزان بثلاثين يوما، وتقطع العقرب بثلاثين يوما، وتقطع القوس بتسعة وعشرين يوما، وتقطع الجدي بتسعة وعشرين يوما، وتقطع الدلو بثلاثين يوما، وتقطع الحوت بثلاثين يوما.
فخمسة منها تقطع كل واحد منها بواحد وثلاثين يوما وهي: الحمل والثور والسرطان والأسد والسنبلة. وأربعة تقطعها بثلاثين ثلاثين وهي: الميزان والعقرب والدلو والحوت. واثنان منها تقطع كل واحد بتسعة وعشرين وهما: الجدي والقوس. وواحد وهو الجوزاء فإنها تقطعه باثنين وثلاثين. والحاصل
332
أنها تقطع النصف الأول بواحد وثلاثين إلا
333
الجوزاء فإنها تقطعها باثنين وثلاثين وتقطع النصف الثاني بثلاثين ثلاثين إلا القوس والجدي فإنها تقطعها بتسعة
334
وعشرين وتسعة وعشرين.
وأما القمر فإنه يقطعها في كل شهر؛ وذلك لأن فلكه لما
335
كان أصغر وأضيق من فلك الشمس كانت مسامتته لنقطة
336
كل أسرع من مسامتة الشمس لها؛ فالشمس تحل أول البروج وهو الحمل يوم الحادي عشر من آذار فتبقى واحدا وثلاثين يوما، وبعد مضي ذلك من دخولها وهو الحادي عشر من نيسان تتحول إلى بروج الثور، وهكذا في كل برج تبقى المقدار الذي قلنا إنها تقطعه فيه، ثم تتحول منه إلى غيره، فإذا عرفت مبدأ دخولها في برج الحمل وضبطت ذلك لم يشكل عليك في أي برج هي.
وأما القمر فإن لمعرفة كونه في أي برج هو طرق أيسرها حساب الراعي، وبيانه أنك تنظر كم مضى من الشهر العربي من يوم فتضيف إليه مثله ثم تضيف إلى المجموع خمسة وتنظر
337
إلى الشمس في أي برج هي من البروج الاثني عشر، وتطرح منه لكل برج خمسة فحيث انتهى العدد كان القمر في ذلك البرج. فإن كان الماضي من الشهر ستة تضيف
338
إليها مثلها فتصير اثني عشر ثم تضيف إليه خمسة فتكون سبعة عشر، فإذا كانت الشمس في الحمل مثلا كان القمر في السرطان وعلى هذا فقس.
لكن ينبغي التقريب لحسن النظر، مثلا إذا كان الماضي من الشهر خمسة فإن المجتمع
339
من الحساب يكون خمسة عشر، فإذا كانت الشمس في آخر البرج التي هي فيه نعلم قطعا أن القمر ليس في الثالث بل في الرابع، وإذا كانت الشمس في أول برجها كان القمر في آخر برجه، فلو كان الماضي من الشهر ستة وكانت الشمس في أول برجها كان القمر
340
في أول رابعه.
واعلم أن هذه البروج تنقسم إلى منقلب وثابت ومجد فهي تدور على هذه الأدوار؛ فالأول منقلب والثاني ثابت والثالث مجد، والرابع منقلب والخامس ثابت والسادس مجد، وهكذا فهي منقلب ثابت مجد منقلب ثابت مجد إلى الآخر؛ فالمنقلب الحمل والسرطان والميزان والجدي، والثابت الثور والأسد والعقرب والدلو، والمجد الجوزاء والسنبلة والقوس والحوت.
فالمنقلب يحسبونه للذي لا يرجى دوامه كالسفر ولبس الثياب الجدد،
341
والثابت لما يرجى دوامه كالتقلب إلى المساكن التي يريدون الإقامة بها والبناء ووضع الأساسات،
342
والمجد على الأوسط من ذلك كالتزويج والشركة.
وتنقسم باعتبار آخر إلى ناري وترابي وهوائي ومائي؛ فالأول ناري والثاني ترابي والثالث هوائي والرابع مائي والخامس ناري والسادس ترابي
343
والسابع رياحي وهكذا؛ فالناري منها: الحمل والأسد والقوس. والترابي: الثور والسنبلة والجدي. والهوائي منها: الجوزاء والميزان والدلو. والمائي منها: السرطان والعقرب والحوت.
فالناري يصلح فيه إخراج الدم كالحجامة والفصادة، والترابي يصلح فيه مثل الزرع والبناء، والهوائي يصلح فيه ما يصلح في الترابي، والمائي
344
يصلح فيه مثل سفر البحر والإسهال ويتوقى فيه الفصادة حذرا من تعفن الجرح وبطو الدمالة.
345
قال بطلميوس: لا ينبغي الفصد في عضو والقمر دليل ذلك العضو؛ فالحمل دليل الرأس والثور دليل العنق والجوزاء دليل البدن والسرطان دليل الصدر والأسد دليل القلب والمعدة والسنبلة دليل السرة وما حولها. وقيل إن الميزان دليله
346
الكلأ وما حولها والعقرب دليل الأنثيين والمذاكير، والقوس دليل الفخذين، والجدي دليل الركبتين، والدلو دليل الساقين، والحوت دليل القدمين، فلا يجوز الفصد ولا الحجامة في عضو من هذه الأعضاء إذا كان القمر موضعها؛ لأنه بارد رطب فيتأثر ذلك العضو بالرطوبة فيخشى عليه من التعفن. (4-10) إرشاد
قد ورد النهي عن تعليم النجوم حذرا من اعتقاد تأثيرها فإياك وأن تعتقد أن لها تأثيرا في موجود، فإن ذلك كفر. وكذا يحرم الاعتماد على ما تقوله العرب في الأنواء فإنهم يقولون أمطرنا بنوء كذا، ويريدون أن النوء له تأثير في إيجاد المطر، وذلك لا يجوز فإن لا تأثير في شيء ما إلا لله تعالى، وقد جاء عنه
صلى الله عليه وسلم
347
قال ربكم: من عبادي مؤمن بي وكافر بالكواكب، ومن عبادي كافر بي ومؤمن بالكواكب؛ فأما من قال: أمطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي وكافر بالكواكب، وأما من قال أمطرنا بنوء كذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب. وقال
صلى الله عليه وسلم : ما أنزل الله من السماء من بركة إلا أصبح فريق من الناس بها كافرون ينزل الله الغيث فيقولون أمطرنا بنوء كذا.
فإن قلت ما تشرين ونيسان وكانون وآذار؟
قلت: هي شهور رومية، وإنما جعلوا مدار العمل عليها لأنها أقل اضطرابا من غيرها. قال في براعة الاستهلال فيما يتعلق بالشهر والهلال للعلامة المرشدي
348 - رحمه الله: أما أشهر الرومية فهي أشهر سني التاريخ الرومي المسمى بالسرياني أيضا، وهو تاريخ الإسكندر الثاني المعروف بالإسكندر المقدوني اليوناني، ومبدؤه يوم الاثنين أول السنة السابعة من ملكه حين خرج من مقدونة وسار في الأرض وبلغ من معمورها ما بلغ، وذلك بعد موت الإسكندر بن فيلفوس الرومي الذي هو الإسكندر الأول باثنتي عشرة سنة شمسية، وهو أقدم من العربي بأيام عدتها 340700 وهو عبارة عن ثلاثمائة ألف يوم وأربعين ألف يوم وسبعمائة يوم.
ونظم ذلك بعضهم فقال:
إني أقول لسريان إذا سبقوا
تاريخنا العربي مهلا فسبقكمو
صفر وصفر وزاي ثم صفركم
والدال والجيم في الأعداد ترتسم
وأقدم من القبطي بأيام عدتها 217291 وهي عبارة عن مائتي ألف يوم وسبعة عشر ألف يوم ومائتي يوم وواحد
349
وتسعين، ونظم ذلك بعضهم فقال:
للروم تاريخ حوى سبقا
على قبط بأيام أتت لك تحسب
ألف وطاء ثم باء بعدها
زاي كذا ألف وباء تكتب
فعلى هذا يكون مبدأ التاريخ القبطي موافقا لتاسع عشر آب الرومي، وقال فيها قبل هذا بيسير.
وأما الروم فإنهم جعلوا شهورهم على مدار الشمس وحركاتها مختلفة في أرباع السنة، فبعضها أكثر أياما من البعض على ما تعلقت به الأرصاد القديمة والحديثة؛ ولهذا جعلوا بعض الشهور ثلاثين وبعضها واحدا وثلاثين، وبعضها ثمانية وعشرين، فأعطوا كل شهر ما يستحقه حتى صار مجموع أيام سنتهم ثلاثمائة وخمس وستين يوما وربع يوم، الأجزاء من ثلاثمائة جزء من يوم؛ لأن في هذه المدة تقطع الشمس دائرة الفلك. وهذا في البسيطة من سنيهم، وأما الكبيسة منها فهي ثلاثمائة وستة وستين يوما وذلك؛ لأن شباط عندهم كما سيأتي ثمانية وعشرون يوما وربع يوم، غير أنهم يجعلون ثلاث سنين كل سنة ثمانية وعشرين يوما وفي السنة الرابعة تسعة وعشرين يوما وهم يتيمنون بالعام الذي تكبس فيه السنة حتى يتفاءلوا بمن يولد أو يقدم فيه انتهى.
فمهما مضت ثلاث سنين فالرابعة كبيسة وهي:
تشرين الأول: بفتح المثناة الفوقية وسكون المعجمة وكسر المهملة وسكون التحتية وبالنون في آخره على وزن نسرين، هكذا اشترط ضبطه على الألسنة. وفي هذا الشهر تكون الرياح مختلفة وتتحرك نسائم السحر،
350
وتزيد الحرارة العزيزية في البدن، والأغذية فيه كل حار رطب معتدل، والحلاوة الرمان الحلو والحامض
351
والجماع يفيد البدن. وإياك من الجوع ومن الفواكه المختلفة وإفراط الجلوس في الحمام فإنه مضر.
وهو أحد وثلاثون يوما: في اليوم الأول منه تهيج ريح الصبا وإكليل السنة السريانية. وفي الثاني منه آخر مد النيل. وفي الثالث منه دير الثعالب. وفي الرابع منه شرف زحل وذهاب الحر. وفي الخامس عيد كنيسة القمامة ببيت المقدس، يزعمون أن نارا تنزل من السماء وتشعل الشمع هناك، وقيل إن عيد القمامة في اليوم الثامن. وفي السابع منه عيد التبارك
352
وتوسط سهيل مع الفجر. وفي الثامن منه عيد القمامة بالقدس الشريف. وفي التاسع توسط اليمامة مع الفجر. وفي العاشر نزول كبش إسماعيل. وفي الثالث عشر تغور
353
المياه ويقوم السوق بأذرعات ويضطرب البحر، وقيل إن اضطراب البحر وغور الماء في الرابع عشر. وفي الرابع عشر تحويل الشمس إلى برج العقرب. وفي الخامس عشر يبرد الزمان ويكثر الرياح ويصرم النخل، وإذا قطع منها خشب لم ينخر ولم يتسوس، وقيل إن قطع الشجر في اليوم السادس عشر. وفي السابع عشر يكره الفصد. وفي الثامن عشر منه ينقص نيل مصر ويترك السهل وقيل إن نقص النيل في التاسع عشر. وفي الحادي والعشرين منه يزرع على نيل مصر، وفي الثالث والعشرين يبتدئ الهواء بالبرد وينقطع أوان شرب الدواء. وفي الرابع والعشرين منه يدخل النموس بيوتهم. وفي الخامس والعشرين غاية قوة فصل الخريف. وفي السادس والعشرين منه بدء الزرع بالشام، وذكر أن رأس يحيى بن زكريا عليه السلام وضع في القبر.
354
وفي السابع والعشرين يوم
355
قاسم كوني. وفي التاسع والعشرين طلوع الغفر ونوء الشرطين. وفي الثلاثين منه تذهب الحدأة والرخم والخطاطيف للغور ويسكن النمل بطن الأرض.
وتشرين الثاني: وفيه يشتد البرد يوما فيوما والحرارة الغزيزية تتمكن في باطن البدن والأغذية فيه هريسة ولحم الشوي وكراع الغنم وكل طعام طبعه حار، والحذر من الماء البارد وكل ما طبعه بارد، والفصد والحجامة فيه مضران.
وهو ثلاثون يوما: في اليوم الأول منه تهب الجنوب وتهيج البحر. وفي الثاني ينقطع سفر البحر . وفي الثالث منه أول المطر الوسمي. وفي الرابع يستقر الحشرات
356
تحت الأرض. وفي الخامس منه تختفي الهوام. وفي السادس قيل تهب رياح
357
الجنوب.
وفي السابع منه
358
لقط الزيتون بالشام ويكثر الغيوم ويضطرب البحر وتكثر أمواجه ولا تجري فيه جارية، وقيل إن لقط الزيتون بالثامن. وفي الثامن منه غليان البحر وقيل إن غليانه في السابع. وفي التاسع منه أول المدود وفي العاشر نزول المياه في أسافل الشجر. وفي الحادي عشر تختفي الهوام. وفي الثالث عشر منه ابتداء اضطراب بحر فارس فإن قطع في هذا اليوم خشب لا تقع فيه الأرضة ولا السوس، وتتحول الشمس فيه إلى برج القوس. وفي الرابع عشر صوم الميلاد. وفي السابع عشر منه قيل ابتداء صوم الميلاد وهو أربعون يوما وابتداء البرد. وفي الثامن عشر يمنع البحر على المسافر. وفي العشرين منه تموت كل دابة لا عظم لها
359
وعيد دخول السيدة للهيكل. وفي الحادي والعشرين يكره شرب الماء بعد
360
النوم. وفي الثاني والعشرين منه اشتداد أمواج البحر وتغييب الثريا. وفي الثالث والعشرين هبوب العواصف. وفي الرابع والعشرين تهب الرياح الشمالية ويسقط الورق وفي السابع والعشرين امتزاج الفصلين.
وكانون الأول : وهذا الشهر طبعه كالشهر الماضي. وفي اليوم السادس عشر منه أكل الحلويات، ولا يؤكل فيه ما يكون فيه حموضة، ولا من لحم البقر، ويكره فيه حلق شعر الرأس والبدن. وهو واحد وثلاثون يوما: في اليوم الأول منه يقوم سوق توما بدمشق ويغرس قضب
361
البان. وفي الثاني منه يدخل النمل إلى جحره. وفي الرابع منه عيد بربارة. وفي الخامس طلوع القلب ونوء الدبران. وفي التاسع تعمى الحيات. وفي الحادي عشر منه قيام سوق الأردن وآخر فصل الخريف. وفي الثاني عشر منه بدء زيادة النهار، وأول الأربعينية وتتحول الشمس إلى برج الجدي. وفي الثالث عشر يسخن بطن الأرض. وفي الرابع عشر منه قيل أول الأربعينيات. وفي الخامس عشر تغرس الأشجار. وفي السابع عشر منه ينهى عن تناول لحم البقر والأترنج وشرب الماء عند النوم والحجامة وطلي النورة ويسمون هذا اليوم الميلاد الأكبر يعنون به الانقلاب الشتوي، ويقولون إن فيه يخرج النور
362
من حد النقصان إلى حد الزيادة، وتأخذ الإنس في النشوء والنماء والجن في الذبول والفناء. وفي الثامن عشر طلوع الشولة ونوء الهقعة. وفي التاسع عشر منه قيل يكون غاية طول الليل وقصر النهار. وفي العشرين يكسر قصب السكر. وفي الحادي والعشرين قطع
363
الخشب المبلغ. وفي الثاني والعشرين منه يمطر الثلج. وفي الثالث والعشرين منه تنتهي زيادة النيل ويكثر الأنداء وترجع حرارة الأرض إلى باطنها وتسقط ورق الأشجار. وفي الرابع والعشرين فار التنور بالكوفة. وفي الخامس والعشرين عيد ميلاد المسيح - عليه السلام. وفي السادس والعشرين آخر الميلاد وميلاد يعقوب وداود - عليهما السلام. وفي الثامن والعشرين ينهى عن شرب الماء عند النوم، ويزعمون أن الجن تتقيأ في الماء حينئذ فمن شرب منه يغلب عليه البله ويورث الصرع والجنون فيجب ألا يترك الماء مكشوفا وقيل إن ذلك في التاسع والعشرين. وفي التاسع والعشرين طلوع النعايم ونوء الهنعة.
وكانون الثاني: وهو ثاني شهر من فصول الشتاء وفيه يزيد البلغم في البدن، ويجب أن يوكل فيه شيء قليل دون الشبع، ويتجرع فيه من الماء السخن والجماع يزيد في الباءة، والحذر فيه من اللبن والسمك. وهو واحد وثلاثون يوما: في اليوم الأول منه يجري المطر، وفيه القلنداس
364
لأهل الشام يوقدون في هذه الليلة نيرانا عظيمة وكذلك في سائر بلاد النصارى سيما أنطاكية فإنها أول مدينة بدت منها الملة النصرانية. وفي الثاني منه أوان قطع الخشب زعموا أن الخشب إذا قطع فيه لم يجف. وفي الخامس صوم الذبح وليلة الغمطان. وفي السادس عيد الذبح زعموا أن فيه ساعة يعذب فيها الماء المالح. وفي السابع طلوع النسر الطائر مع الفجر. وفي الثامن شرف المريخ. وفي التاسع يغيب العيوق. وفي العاشر
365
منه صوم العذارى وتتحول فيه الشمس إلى برج الدلو. وفي الحادي عشر سعد. وفي الثاني عشر تغيب الشعرى الشامية. وفي الرابع عشر وفاة أبي بكر وخلافة عمر. وفي السادس عشر آخر شدة البرد. وفي السابع عشر منه يذهب البرد ببلاد فارس. وفي الثامن عشر يصفو ماء النيل. وفي العشرين آخر الأربعينية وأول الخمسينية. وفي الحادي والعشرين تقل الأوجاع. وفي الثاني والعشرين منه قيل ينتهي الأربعينيات. وفي الرابع والعشرين منه بدو العشب في الأرض وتزاوج الطيور. وفي الخامس والعشرين منه زرع القطن والبطيخ وتغرس الأشجار بالأردن بالروم وتكسح الكروم بأرض مصر وتغتلم
366
فحولة الإبل وفيه يطلع سعد الذابح ونوء النثرة. وفي السابع والعشرين تختلف الرياح. وفي التاسع والعشرين مولد الحسين كرم الله وجهه.
شباط: بضم السين المهملة كما ضبطة الجوهري والمشهور بين الناس شباط بالمعجمة ولا يبعد أن يكون عرب بالمهملة، وذكره في القاموس في فصل الشين المعجمة وضبطه بضمها، وهو ثالث شهر من
367
فصل الشتاء.
وأيامه ثمانية وعشرون يوما إن كانت السنة بسيطة وتسعة وعشرون إن كانت كبيسة: في اليوم الأول منه عيد الشمع. وفي الرابع غرس الأشجار وعيد الهيكل. والخامس نحس ويتوسط العيوق فيه وقت العشاء. وفي السادس طلوع سعد بلع ونوء الطرف. وفي السابع منه تسقط الجمرة الأولى في الهواء. والتاسع سعد وتتحول
368
الشمس فيه إلى برج الحوت. وفي الحادي عشر يزرع النرجس. وفي الثالث عشر منه يجري الماء في العود من أسافله إلى أعاليه، وتنق الضفادع، ويرجع الكركي والغرنوق. وفي الرابع عشر منه صوم النصارى، وتسقط الجمرة الثانية في الماء. وفي الخامس عشر منه تزرع بقول الصيف، والقثاء، والبطيخ، ويرد الوحش، ويصوت الطير، وتطير الخطاطيف، وتلد المعز، وتغرس شجر الورد، ويزرع النرجس والياسمين والسوسن، ويورق الكرم، ويكثر العشب، وينكسر البرد. وفي السادس عشر تحويل القبلة إلى الكعبة، وتختلف الأرياح والأمطار بالقبط وخروج الكمأة بالشام. وفي التاسع عشر ينعقد اللوز وفيه وفاة جعفر الصادق. وفي العشرين منه يخرج الدبيب وتتحرك البراغيث. وفي الحادي والعشرين منه سقوط الجمرة الثالثة في التراب. وفي الثالث والعشرين يزرع قصب السكر. وفي الرابع والعشرين هبوب اللواقح. وفي الخامس والعشرين يظهر الدفا ويسخن بطن الأرض وتهب الرياح اللواقح وتكسح الكروم، قيل وفيه أول برد العجوز وقطع الأظفار فيه جيد. وفي السادس والعشرين منه يكون أول أيام العجوز الآتي بيانها ويتوسط
369
سهيل العشاء. وفي الثلاثين امتزاج الفصلين. (4-11) تنبيهان
الأول:
معنى سقوط الجمرات الثلاث أن الناس كانوا يتخذون في قديم الزمان أخبية ثلاثة في الشتاء بعضها محيط بالبعض، وكانت دوابهم الكبار كالإبل والبقر والخيل في البيت الأول، ودوابهم الصغار كالغنم في البيت الثاني
370
وهم في البيت الثالث وكانوا يشعلون النار في كل بيت ويتخذون الجمر للاصطلاء فإذا كان السابع من شباط أخرجوا دوابهم الكبار إلى الصحراء وجعلوا الصغار مكانها في البيت الأول، وهم يسكنون مكان الدواب الصغار في البيت الثاني فحينئذ سقطت من الجمرات الثلاث واحدة، فإذا مضى أسبوع آخر أخرجوا الغنم أيضا إلى الصحراء وهم سكنوا مكانها فسقطت جمرة أخرى، فإذا مضى أسبوع آخر خرجوا إلى الصحراء بأنفسهم وتركوا إشعال النار؛ لقلة البرد وطيب الهواء فسقطت الجمرات الثلاث. وفي بعض رسائل إخوان الصفا أن الجمرة هذه ليست بلفظة عربية بل رومية وإن كانت عربية فمعناها الحرارة إطلاقا للسبب على المسبب أو المحل على الحال؛ لأن الجمرة سبب ومحل للحرارة المأخوذة من كرة النار إلى كرة الهواء السفلى المتصلة
371
بكرة الأرض انتهى.
الثاني:
أيام الحسوم الثمانية المذكورة في القرآن العزيز في قوله تعالى
سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما
372
هي ثلاثة أيام من شباط وأربعة من آذار وأربعة من شباط وثلاثة من آذار، كذا نقله الصلاح الصفدي وفيه أن مجموع ما ذكر سبعة لا ثمانية، سميت بذلك من الحسم وهو القطع لأنها حسمتهم.
قال البيضاوي: وكانت من صبيحة يوم الأربعاء إلى غروب الأربعاء الأخرى انتهى.
373
وهي المسماة بأيام العجوز. ووجهه أن عجوزا من عاد توارت في سرب فانتزعتها الريح في اليوم الثامن وأهلكتها، وقيل لأنهم بقي منهم عجوز كانت تنوح عليهم وتندبهم في تلك الأيام فسميت بها، وقيل لوقوعها في عجز الشتاء.
وحكي أن الكسائي سأله الرشيد عن سببها فقال: كانت امرأة من العرب قد اهتزت، وكان لها سبعة أولاد فقالت لهم زوجوني وهم يضربون عنها ولا يكترثون لها، فأنشأت تقول:
أيا بني إنني لناكحة
فإن أبيتم إنني لجامحة
هان عليكم ما لقيت البارحة
من الهياج وحكاك الوامحة
ويروى الفاضحة قيل أراد بالوامحة الواحمة أي المشتهية من قولهم وحمت المرأة توحم وحما فهى وحمى. فقالوا لها تبيتين لنا سبع ليال على ثنية هذا الجبل، لكل ابن ليلة لنزوجك، بعد ذلك فجاءوها بعد السابعة فوجدوها قد هلكت.
وقال أبو سعيد الضرير: سميت أيام العجوز لأن العرب تجز الأصواف والأوبار فيها مؤذنة بالصيف، وقالت عجوز منهم: لا أجز حتى تنقضي هذه الأيام فإني لا آمنها فاشتد البرد وأضر بمن قدم جزه وسلمت العجوز بمالها.
وقال ثعلب: الصحيح أن العجوز عجلت بجز صوفها لحاجتها إليه وثقتها بالجز في البرد فموتت غنمها. وكانت سبعة فماتت كل يوم واحدة فمن جعلها سبعة فلهذه العلة، وإلا فبرد العجوز ربما بقي عشرة أيام فأكثر، وهذه الأيام لا تخلو عن برد أو رياح أو كدورة.
وذهب بعضهم إلى أنها من الأمور الطبيعية، فإن البرد يشتد في آخره كما أن الحر يشتد في آخر الصيف، وذلك جار مجرى السراج الذي فنيت رطوبته فإنه عند انطفائه يشتد ضوءه ثم
374
ينطفئ، وكذلك كل شيء ينتهي فإنه يشتد عند انتهائه.
ولكل يوم منها عند العرب اسم يخصه؛ فالأول أمر لأنه يأمر الناس بالحذر منه، وثانيها مؤتمر لأنه يأتمر بالناس أي يرى لهم السر ويؤذنهم، وثالثها صنا
375
لشدة البرد فيه، والصن البرد، ورابعها صنبر
376
لأنه يترك الأشياء كالصبرة من البرد في الجمود. وخامسها وبر لأنه وبر آثار الأشياء أي عفى والشو بين المحور والإخفاء. وسادسها مطفئ الجمر لأن شدة البرد يطفئ الجمر. وسابعها معللا لأنه يعلل الناس بشيء من تخفيف البرد.
ومن الناس من يقول في أيام العجوز هي المسترقة في أول الشتاء ومنهم من يجعلها في آخر الشتاء ويسميها بأيام الشهلة، ومنهم من يعدها سبعة ومنهم من يعدها خمسة؛ فمن عدها سبعة قال هي: صن وصنبر وبر وآمر ومؤتمر ومعلل ومطفئ الجمر، ومن عدها خمسة قال هي: صن وصنبر وآخرهما وبر ومطفئ الجمر ومكفئ
377
الظعن، وقد نظمها الشيخ جمال الدين محمد بن مالك في قوله شعر:
سأذكر أيام العجوز مرتبا
لها عددا نظما لدى الكل مستمر
378
فصن وصنبرو وبر معلل
ومطفئ جمر آمر ثم مؤتمر
وآذار: بالذال المعجمة بعد الهمزة المفتوحة وبعدها ألف قيل الراء في آخره بلا مد، وفيه تعمر الأرض ويكثر البلغم ويحمد الفصد والحجامة فيه وتنقية الدماغ والقيء والغرغرة وشرب المسهل. والغذاء فيه اللحوم اللطيفة والشرابات المعتدلة والحلويات والبيض البرشت، ويحترز من أكل البصل والسماق والحوامض واللحوم
379
الغليظة كالبقر وغيره.
وهو أول شهر من فصل الربيع، وهو واحد وثلاثون يوما: في اليوم الأول منه يخرج الجراد والدبيب، قيل وتفتح الحيات أعينها. وفي الرابع منه آخر أيام العجوز. وفي الخامس تخرج كل أخبية. وفي السابع منه اختلاف الرياح العواصف وشرف الزهراء ويربى دود القز. وفي الثامن منه سعد أكبر ومباشرة الأمور. وفي التاسع قيل تظهر الخطاطيف. والعاشر منه آخر الخمسينية وبدو نتاج الخيل. وفي الحادي عشر أول النوروز السلطاني، قيل ويتساوى الليل والنهار وتتحول الشمس إلى برج الحمل. وفي الثاني عشر منه يؤمر بالحجامة. وفي الثالث عشر منه تخرج الخطاطيف والحدأة وتتوالد الحيات. وفي الرابع عشر إن صار مطرا يكون الزرع جيدا. وفي الخامس عشر تكثر الرياح ويتحرك الدم. وفي السادس عشر منه تفتح الحيات أعينها فإنها تجتمع في أيام البرد وتحت الأرض فيظلم بصرها وتتحرك حشرات الأرض. وفي السابع عشر يحمد الجماع وتجري السفن في البحر. وفي الثامن عشر منه قيل يعتدل الليل والنهار وهو أول ربيع العجم وخريف الصين ويغلظ فيه ماء البحر؛ لأن الشمس تجر لطيف أجزائه. زعموا أن العقيم من الرجال إذا نظر في ليلة هذا اليوم السهى ثم جامع أهله فإنها تحمل منه، وتهب في هذا اليوم الرياح اللواقح وتسنبل الحنطة ويدرك النبق والباقلاء واللوز والمشمش ويورق الشجر ويغرس الكرم، ويخاف من التمساح بمصر، وفيه طلوع الفرغ المتقدم
380 ،
381
ونوء الصرفة. وفي التاسع عشر يزرع القطن في بلاد
382
الشام. وفي العشرين عيد الشعانين.
383
وفي الحادي والعشرين يموت العندليب ويظهر دود القز. وفي الثاني والعشرين نحس. وفي الثالث والعشرين يطيب ركوب البحر. وفي الرابع والعشرين أول شرب المسهل. وفي الخامس والعشرين منه غليان البحر وفيه عيد السادس وهو بشارة مريم بحمل عيسى عليه السلام. وفي السادس والعشرين أول شرب الدواء وتفريق السحاب. وفي الثامن والعشرين يخرج الهوام وينتفع بالفصد. وفي التاسع والعشرين شرف الشمس. وفي الواحد والثلاثين يكتب فيه الأوفاق والمحبة.
ونيسان: بفتح النون وكسرها وقيل لا يجوز فيه غير الكسر. وفيه يكون لابن آدم الفرح ويزيد في المياه، ويقوي فصل الربيع الغذاء فيه البريان والقلايا ولحم الخرفان ولحم الصيد والأدهان الطيبة والطعام الذي يعمل بالخل والروائح الطيبة، وعند الصباح يشرب الماء البارد ويحترز من لحم البقر ومن الحلويات ومن الأطعمة الحارة اليابسة ومن الفجل والرشاد.
وهو ثاني شهر من فصل الربيع وهو ثلاثون يوما: واليوم الأول منه عيد الفطر، ويرجى فيه المطر. وفي الثاني غياب سهل. وفي الثالث نوء العواء.
384
وفي الرابع منه الشقانين. وفي السادس هبوط آدم إلى الدنيا. وفي السابع قيل لا بد من مطر. وفي الثامن آخر
385
عيد الفطر. وفي التاسع نزول الزبور عند البعض. وفي العاشر تنفجر العيون والمياه. وفي الحادي
386
عشر وفاة آدم ونزول الزبور
387
وسعد أكبر وتحول
388
الشمس إلى برج الثور وفيه فطر النصارى. وفي الثاني عشر سعد أكبر. وفي الثالث عشر شرف القمر. وفي الرابع عشر يلقح النخل وتبيض الطاووس. وفي الخامس عشر سعد أكبر. وفي السادس عشر يهب الهواء الشرقي وأيام المطر. وفي السابع عشر مولد النبي
صلى الله عليه وسلم
وفي الثامن عشر دخول نوح في السفينة. وفي التاسع عشر عيد دير الثعالب. وفي العشرين منه تهيج الرياح الشرقية ويفرخ الطير وهو يوم نحس. وفي الحادي والعشرين قيام سوق فلسطين. وفي الثاني والعشرين منه هبوب الجنوب وامتداد الأودية وتهيج النعام. وفي الثالث والعشرين منه يقوم دير أيوب بالشام ويوم الخذر - عليه السلام - وعيد النصارى. وفي الرابع والعشرين نزول الإنجيل. وفي الخامس والعشرين طلوع الضفدع الأول. وفي السادس والعشرين توسط النسر مع الفجر. وفي السابع والعشرين منه
389
مد الفرات. وفي الثامن والعشرين منه تهيج الدم وتنعقد الثمار ويدرك اللوز وطلوع الشرطين ونوء الغفر. وفي التاسع والعشرين من آخر أيام المطر. وفي الثلاثين عيد الجندي.
وأيار: ضبطه في القاموس بفتح الهمزة وتشديد المثناة التحتية، وقال الجاذيري هو أجيار بفتح أوله وسكون الجيم وبالمثناة التحتية، وبعضهم يسقط الجيم انتهى. ومقتضى ذلك تخفيف يائه. وهو الشهر الثالث من فصل الربيع، وفيه يكون الهواء معتدلا وتصفو فيه المياه، وتبدو فيه زيادة النيل بمصر وتكون الصفراء غالبة، والغذاء فيه الأطعمة السريعة الهضم الملائمة، ولا يكثر فيه من إدخال طعام على طعام ويحذر فيه من
390
لحم البقر ومن المالح ومن اللبن الحامض، وفيه قلة الطعام خير من كثرته، وفي النصف الأخير منه ترتفع الطواعين بإذن الله تعالى، ويخصب الزرع ويركب البحر وتبدو السمائم وتهب الشمال ويسود العنب ويهب الدبور أيضا.
وهو واحد وثلاثون يوما: في اليوم الأول من ولد النبي إرميا عليه السلام، وهو آخر أيام المطر، قيل وهو يوم نحس. وفي الثاني قيل عيد دير الثعالب وينعقد الزيتون. وفي الثالث منه حركة البحر وبدو الورد. والسادس منه نحس ووفاة أيوب. والسابع يؤكل الحلو ويكثر الخيار، وفيه عيد الصليب. وفي الثامن تزرع الذرة ويجمع الخشخاش. وفي التاسع حركة البحر. وفي الحادي عشر خروج عيسى وبناء إسلام بول، وأول البوارح. وفي الثاني عشر طلوع البطين ونوء الزبانا وتتحول الشمس فيه إلى برج الجوزاء. وفي الثالث عشر نزول المن والسلوى. وفي الخامس عشر منه عيد الورد المستحدث، ورجوع المشتري. وفي السادس عشر منه يهيج الصبا وتقطع الكمأة ويطيب ركوب البحر. وفي السابع عشر وفاة النبي
صلى الله عليه وسلم . وفي الثامن عشر ابتداء عيد اليهود، قيل وأول البوارح. والتاسع عشر نحس. وفي العشرين مولد إلياس عليه السلام. وفي الحادي والعشرين نهى أبقراط عن العلاج. وفي الثاني والعشرين آخر العنصرة، ويبقى ريح الشمال. وفي الثالث والعشرين يحمد السفر في البحر. وفي الرابع والعشرين امتزاج الفصلين. وفي الخامس والعشرين نزول التوراة
391
وطلوع الثريا ونوء الإكليل. وفي الثامن والعشرين آخر العيدات. وفي الثلاثين توبة
392
آدم - عليه السلام - وبدو بئر زمزم. وفي الحادي والثلاثين يطيب ركوب البحر.
وحزيران: بضم الحاء المهملة وفتح الزاي وسكون المثناة التحتية وبالراء على المشهور على الألسنة. وضبطه الجاذيري بفتح الحاء وكسر الزاي، وهو أول شهر من فصل الصيف وتكون فيه الصفراء غالبة، ويوجد في البدن حمى، وينفع فيه شرب الماء البارد على بكرة قبل الفطور. الغذاء فيه لحوم الجدايا والأطعمة الباردة والفواكه السريعة الهضم ويحترز من الرياضة من الطعام الحار اليابس ويحترز فيه من كثرة الأكل ومن كثرة الجماع، ومن كثرة شم المسك والزعفران.
وهو ثلاثون يوما: في اليوم الأول منه ولد حزقيل عليه السلام. وفي الثاني تهب رياح السمائم. وفي الرابع منه جمعة الذهب وهو نحس. وفي الخامس طلوع الدبران ونوء قلب العقرب. وفي السادس وفاة أيوب عليه السلام. وفي السابع نحس ويتحرك فيه شهوة الجماع. وفي التاسع بدو حصاد الشعير. وفي العاشر سعد ويعمل فيه للترياق. وفي الحادي عشر منه نوروز الخلفاء ببغداد وفيه اللعب ورش الماء وغيره مما هو المشهور. وفي الثاني عشر سعد وفيه موت يحيى عليه السلام. والثالث عشر تتحول فيه الشمس إلى برج السرطان. وفي الرابع عشر قيل بدو نقص النهار وأول رياح السموم. وفي الخامس عشر عيد الكنيسة وينهى عن شرب المسهل. وفي السادس عشر منه تنفيس نيل مصر وتغور المياه. وفي السابع عشر بدو حصاد الحنطة. وفي الثامن عشر منه قيل غاية طول الليل وقصر النهار وهو الامتلاء الأكبر تعظمه العرب والعجم وهو الانقلاب الصيفي وفيه عيد
393
أيوب. وفي التاسع عشر طلوع الهقعة ونوء الشولة. وفي العشرين مولد إلياس عليه السلام. وفي الثاني والعشرين منه يوضع المنجل في الزرع وتدرك الفاكهة والتين والعنب والبطيخ ويشتد فيه الحر. وفي الثالث والعشرين يكره شرب الدواء. وفي الرابع والعشرين عيد العنصرة. وفي الخامس والعشرين منه مولد يحيى بن زكريا - عليهما
394
السلام - وابتداء السمائم بالهبوب واحد وخمسين يوما، ويمتد
395
جيحون وفيه ظهور رأس زكريا وحركة البحر، وقيل إن ميلاد يحيى بن زكريا في السادس والعشرين. وفي السابع والعشرين آخر رياح البوارح وشرف المشتري. وفي الثامن والعشرين منه ينظر أرباب التجارب بمصر فإن
396
كثر فيها النداء قالوا يمتد النيل وإن لم يكن قالوا لم يمتد. والثلاثون سفره محمود وإن لبس فيه جديدا كان مباركا.
وتموز: بفتح المثناة الفوقية وتشديد الميم المضمومة وبالمعجمة في آخره على ما اشتهر على الألسنة، وهو ثاني شهر من فصل الصيف وفيه يحصل للبدن ضعف وتحلل، وفيه قيام البراغيث وهلاك البرد والأغذية فيه لحم وطعام سريع الهضم
397
وفي كل صباح يشرب فيه البارد قبل الطعام والأشربة الباردة الطبع، وإياك من أكل الأجزاء الحارة اليابسة.
وهو واحد وثلاثون يوما؛ في اليوم الأول: نوء النعائم. في اليوم الثاني من دخول أصحاب الفيل قرب مكة. في الثالث منه ذهاب البراغيث. وفي الرابع يرتفع الطاعون إن كان له وجود. وفي اليوم الخامس منه تطلع
398
الشعرى وبطلوعها يعرفون صلاح الزرع وفساده، وذلك أن أصحاب الفلاحة من العجم يأخذون لوحا قبل طلوع الشعرى بأسبوع، ويزرعون عليه أصناف الحبوب فإذا كانت الليلة التي تطلع فيه الشعرى وضعوا ذلك اللوح في موضع عال لا يحول بينه وبين السماء شيء فما أصبح مخضرا فهو يصلح في تلك السنة وما أصبح مصفرا فهو الذي يفسد فيها، كذلك الفرس كانت تفعل، وهو يوم سعد وفيه تهيج الحشرات. وفي السادس هاجرة الصيف. وفي السابع منه يموت الجراد. وفي الثامن منه انفلاق البحر لموسى. وفي التاسع أول ريح السموم وفي العاشر منه يقوم سوق بصرى وفيه
399
هبوط المريخ. وفي الحادي عشر منه طلب الحوائج. وفي الثاني عشر سعد. وفي الثالث عشر سعد ويبرد بطن الأرض. والرابع عشر سعد يكثر فيه رمد العين وتتحول الشمس فيه إلى برج الأسد. وفي السادس عشر قيل آخر رياح البوارح. والثامن عشر أول أيام الباحور فإنها ستة أيام متوالية يستدلون بكل يوم منها على شهر من أشهر الخريف والشتاء من تغيرات وتلون وزعموا أنها للسنة كأيام البحران للمريض ، وإن حال كل شهر من تلك الشهور كحال يوم من تلك الأيام أولها كأولها وآخرها كآخرها في التغيرات، وفيه قوة البطيخ الأصفر وقيل إن ابتداء أيام الباحور في التاسع عشر. والعشرين أول أيام الباحور عند البعض أيضا. وفي الحادي عشر والعشرين طلوع الشعرى اليمانية. وفي الثاني والعشرين عيد مريم المجيد. وفي الثالث والعشرين يدرك نخل الحجاز. وفي الرابع
400
والعشرين يشتد صولة الحر ويرفع الطاعون ويكثر الرمد ويزرع البطيخ الشتوي والذرة والجزر وسائر الخضراوات. وفي الخامس والعشرين ينهى عن الجماع، وأول صوم مريم عند اليعاقبة. وفي السادس والعشرين عيد شمعون. وفي السابع والعشرين منه يحمر البسر ويقطف العنب والقصب القبطي وتغور المياه وتنضج الفواكه كلها، وتختلف الرياح في البحر. وفي الثامن والعشرين يهيج دم الصفراوي. وفي التاسع والعشرين قوة الباذنجان وفي الثلاثين عيد كنيسة مريم عليها السلام.
وآب: ككتاب، ثالث شهر من فصل الصيف، وفيه يحصل للدماغ قوة وفيه تكثر الأخلاط ويكثر تحلل البدن والزكام وتتحرك الرياح الشمالية، والأغذية فيه شرب الرمان ولحم السخل وقلية اليقطين، ويشم فيه ماء الورد وسائر الرياحين لأنها نافعة، وإياك من الحمام وشرب المسهلات ومن الجوع فيه ولا تكثر الحركة.
وهو واحد وثلاثون يوما: في اليوم الأول منه وفاة مريم - عليها السلام - وهو يوم صومها ويوم سعد وقيل إن وفاتها في اليوم الثاني. وفي الثالث عيد إلياس وهو سعد أكبر. وفي الرابع آخر نهي بقراط عن العلاج. وفي الخامس طلوع الشعرى الشامية. وفي السادس أول عيد التجلي، قيل هو تجلي المسيح للحواريين ونزول التوراة. وفي الثامن تجلى ربك للجبل فجعله دكاء. وفي التاسع تختلف الرياح عيد العدوية
401
مريم وشهادة يعقوب وهو يوم سعد. وفي العاشر منه يقوم سوق عمان وعيد إبراهيم ويعقوب وهو يوم سعد.
402
وفي الحادي
403
عشر قيل تختلف الرياح. وفي الثاني عشر منه تبتدئ ملوك العراق في الطيب. وفي الرابع عشر نزول الزبور وتحويل الشمس إلى برج السنبلة. وفي الخامس عشر عيد مارب مريم
404
عليها السلام. وفي السادس عشر يترك المسهل وفي السابع عشر من آخر عيد التجلي ويكسر النيل بمصر في الغالب. وفي التاسع عشر منه يهيج رياح البوارح ويكثر الرمان ويصفر الأترج، قيل
405
وفيه نجاة نوح عليه السلام. وفي العشرين منه فتور الحر ويهيج الزكام وفي الحادي والعشرين نوء سعد السعود. وفي الثاني والعشرين قيل انكسار حدة الحر. وفي الثالث والعشرين تتولد الأسماك. وفي الرابع والعشرين امتزاج الفصلين. وفي الخامس والعشرين طلوع سهيل
406
بمصر. وفي السادس والعشرين يهيج الرمد. وفي السابع والعشرين ولادة إليسع ويحيى - عليهما
407
السلام - قيل ويكثر الزكام. وفي الثامن والعشرين يطيب الليل والماء ويهيج الزكام ويثور البلغم ويصلح شرب الدواء ويكثر الرطب ويسقط الطل والمن بالشام، وفيه شرف عطارد. وفي التاسع والعشرين ينهى عن الجماع. وفي الثلاثين آخر النهي عن الفصادة.
وأيلول: بفتح الهمزة وسكون التحتية وضم اللام الأولى. وهو أول شهر من فصل الخريف وفيه يعتدل الرياح وتكثر السودة في الدماغ ويقع في بعض الخلق أوجاع، والأغذية فيه لحم الشاة الذي كمل سنتين والحلويات والجلوس على الماء فيه مفيد، والحذر من لحم البقر والمعز ومن كثرة الدخول للحمام.
وهو ثلاثون يوما: في اليوم الأول منه
408
عيد رأس السنة الرومية وتمامها ، وقيام سوق منيح. والثاني
409
منه نحس وعيد شمعون. والثالث طلوع سهيل بالعراق وفيه ولد يوشع بن نون - عليه السلام - ويبدأ بإيقاد النار في البلاد الباردة. والرابع سعد وسقوط النداء وعبور النبي للغار. الخامس ينكسر الحر، وعيد موسى وزكريا. السادس سعد وعيد الخنافس. والسابع منه ولادة مريم. وفي الثامن طلوع سهيل بالشام. وفي التاسع وفاة والدة مريم. وفي العاشر يغرس المنثور. وفي الحادي عشر يبرد الليل. وفي الثاني عشر منه يفصد ويشرب الدواء. وفي الثالث عشر منه تنتهي زيادة نيل مصر وعيد كنيسة
410
القمامة ويقطف الرمان، وقيل فيه عيد يونان. وفي الرابع عشر منه قيل عيد الصليب وأول فصل الخريف ويتساوى فيه الليل والنهار، وتتحول الشمس فيه إلى برج الميزان. وفي السادس عشر تدرك الثمار وفيه تفطم
411
الأطفال. وفي السابع عشر يتوسط العيوق مع الفجر. وفي الثامن عشر قيل فيه اعتدال الليل والنهار، وهو أول الخريف عند العجم والربيع عند الصين، زعموا أن السحاب الذي يرتفع فيه يضيء الروح ويبرئ الجسد، وفيه نوء الفرغ المقدم. وفي العشرين يرجع الماء من أعالي الشجر إلى عروقه ويعمل فيه الأشربة. وفي الثاني والعشرين يكره شرب الماء عند النوم. وفي الرابع والعشرين منه زعم أصحاب التجارب أنها تهب فيه ريح وتأتي الغربان البقع في أكثر البلاد. وفي الخامس والعشرين عيد مضلة اليهود. وفي السادس والعشرين أمطرت الحجارة على أصحاب الفيل. وفي السابع والعشرين يذهب الحر وفي الثامن والعشرين طلوع
412
العواء ونوء الفرغ المؤخر. وفي الثلاثين قيل يذهب الحر، وهو خير الأوقات وقد جمعها الشيخ صلاح الدين العلائي
413
في قوله شعر:
شهور الروم إن حاولت عدا
بترتيب لها فاضبط بتذكار
فكانون وثانيه شباط
وآذار ونيسان وأيار
حزيران وتموز وآب
وأيلول وتشرين بتكرار
فالشهور الثلاثينية منها أربعة: تشرين الثاني ونيسان وحزيران وأيلول، والباقية واحد وثلاثون ما عدا شباط؛ فإنه ثمانية وعشرون كما تقدم وضبط بعضهم ذلك بقوله: فإن ضيف هنا نزل فما كان في مقابلة حرف معجم منقوط من فوق من هذا التركيب فهو واحد وثلاثون يوما ، وما كان في مقابلة حرف مهمل فهو ثلاثون، وما كان في مقابلة الياء المنقوطة من تحت فهي ثمانية وعشرون فنفس كل حرف عبارة عن ثلاثين والنقطة زيادة يوم إن كانت فوقية ونقص يوم إن كانت تحتية؛ فالفاء تشرين الأول والألف تشرين الثاني وهكذا إلى آخر. وقد نظم ذلك بعضهم بقوله:
شهور الروم ألوان
زيادات ونقصان
فتشرينهم الثاني
وأيلول ونيسان
ثلاثون ثلاثون
سواء وحزيران
شباط خص بالنقص
وحد النقص يومان
وباقيها ثلاثون
ويوما واحدا كان (4-12) القول الثاني
414
قاله بعض المنجمين زعموا بأن المد بامتلاء القمر والجزر بنقصانه وهذا ظاهر البطلان؛ لأن كلا من المد والجزر يكون مع امتلائه ونقصانه؛ فإنه في كل يوم من أيام الشهر مد وجزر، ولو كان كما زعموا لكان النصف الأول من الشهر القمري كله مدان، أو أرادوا بامتلائه أخذه بالزيادة كما يدل عليه ظاهر مقابله، أو في أيام منه إن أرادوا كبره وانتفاخه، أو استكماله بدرا، والنصف الثاني كله جزرا إن أرادوا بنقصانه أخذه بالنقصان، أو أياما منه كلها إن أرادوا ظهور النقص ظهورا تاما، أو يوما كله إن أرادوا بلوغه فيه حدا معينا، واللازم باطل لما علمت أنه لا بد في كل يوم من مد وجزر. (4-13) القول الثالث
سببه طلوع القمر وغروبه، وهذا القول لا يعلم قائله، ولكن يؤيده دوران المد معهما
415
وجودا وعدما، ولا مانع من أن يكون قد جعل الله في القمر خاصية جذب الماء وارتفاعه كما جعل في المغناطيس خاصية جذب الحديد. والفاعل عند ذلك هو الله تعالى والتأثير له سبحانه فإنه لا يؤثر في الأشياء إلا هو، والأسباب إنما هي علامة على أفعاله كالنعيم فإنه علامة على إيجاد الله المطر، لا أنه مؤثر في إيجاده فإن الله يفعل عند الأسباب بمشيئته واختياره لا أن الأسباب فعالة؛ إذ لا أثر في مؤثر ما إلا لله،
416
ولا أنه تعالى يفعل بالتعليل أو الطبع؛ إذ ليست ذاته العلية علة لشيء من الممكنات أو مؤثرة فيه بالطبع وإلا لزم قدم ذلك الممكن لوجوب اقتران العلية بمعلولها والطبيعة بمطبوعها.
فإذا
417
كانتا قديمتين وجب قدم المعلول
418
والمطبوع، ولهذا لما اعتقد الفلاسفة - أهلكهم الله تعالى
419 - أن إسناد العالم إليه تعالى إنما هو على طريق إسناد المعلول
420
إلى العلة قالوا بقدم العالم فضلوا وأضلوا، ولا أنه يفعل بالأسباب؛ لأنه تعالى يفعل عند الأشياء لا بالأشياء، فالكل مخلوق لله بلا واسطة، فسبحان من انفرد بالخلق والتصوير كما انفرد في التقدير والتدبير. وإذا كان كذلك جاز أن يخلق المد ويجذب الماء ويرفعه عند قرب القمر من الماء حالة الطلوع والغروب فإذا ارتفع القمر أو غرب خلق الجزر فرجع الماء على أثره. (4-14) فائدة
ذكر بعض المحققين من أهل الكشف ممن يرى كروية الأفلاك أن دور فلك القمر، وهو سماء الدنيا، أحد عشر ألف سنة وهو أصغر أفلاك السموات دورا، فيقطع القمر دور هذا الفلك في أربعة وعشرين ساعة معتدلة يقطع في كل ساعة مسيرة أربعمائة وثمانية وخمسين سنة ومائة وعشرين يوما. وإن قطر هذا الفلك أربعة آلاف عام وخمسمائة عام، وإن للقمر فلكا في نفس الفلك، وكذلك كل كوكب فإن له فلكا صغيرا يدور بنفسه في الفلك الكبير؛ فالفلك الكبير بطيء الدورة وذلك الفلك الصغير سريع الدورة، وما تراه من خنس الكواكب - وهو رجوعها - فإنه لاختلاف دورها في دوران الفلك فيسبقه الدور يحسبها الشخص راجعة ولم ترجع. (4-15) تنبيهات
الأول القمر في أول ليلة من الشهر يسمى هلالا، وقيل إلى ليلتين وقيل
421
إلى سبع ولليلتين من آخر الشهر؛ ست وعشرين وسبع وعشرين، وقيل الهلال الشهر بعينه، ومنهم من خصه بأول يوم فإن خفي ففي الثاني وفيما عدا ذلك فهو قمر، فلو غطاه سحاب ونحوه
422
فلم يظهر إلا بعد ثلاثين فهو قمر ولا يدعى هلالا، وقيل يسمى قمرا إذا استدار، وقيل إذا بهر
423
ضوءه وسمي بهذه الحالة قمرا لأنه يبهر ضوءه الكواكب أي يغطيها. ويجمع على أهلة وأهاليل واستهل الشهر واستهللناه يتعدى ولا يتعدى.
قال بعضهم: ويقال أهل الهلال بالبناء للمفعول والفاعل، واستهل بالبناء للمفعول فقط، ومنهم من يجيز بناءه للفاعل وهل الهلال يهل من الباب الثاني لغة أيضا، وأهللنا الهلال واستهللناه رفعنا الصوت برؤيته. قال في الصحاح: يقال أهللنا عن ليلة
424
كذا ولا يقال أهللناه، فهل كما يقال أدخلناه فدخل وهي قياسية. وقال أبو حنيفة الدينوري: حكي عن الثقة أنه يقال هل الهلال نفسه أي يطلع أو هللناه نحو رأيناه، ويقال أتيته عند إهلاله وعند استهلاله وهلته وهله وهلوله، وأتيته لنيفان الهلال ولؤفانه ومنافه. ويسمى الهلال الإزميم وابن مزنة وابن ملاط الثاني. ظاهر الأحاديث والقرآن أن نور القمر لذاته كما قال الله تعالى
وجعل القمر فيهن نورا ،
425
وعن أنس - رضي الله عنه - قال: حدثني رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أن الشمس والقمر والنجوم خلقن من نور العرش.
وأخرج
426
السيوطي في الهيئة عن ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن كعب قال: خلق الله القمر من نور ألا ترى أنه قال
وجعل القمر فيهن نورا ،
427
وأخرج عن أبي الشيخ عن ابن عمر قال: إن الشمس والقمر وجوههما إلى السماء وقفاهما إلى الأرض، يضيئان من في السماء كما يضيئان من في الأرض. وروى الثعلبي عن ابن عباس عن النبي
صلى الله عليه وسلم : قال إن الله تعالى لما أبرم خلقه فلم يبق من خلقه غير آدم خلق شمسين من نور عرشه، فأما ما كان في سابق علمه أن لا يطمسها خلقها مثل الدنيا ما بين مشارقها ومغاربها، وما كان في سابق علمه أنه يطمسها ويحولها قمرا فخلقها دون الشمس في العظم ولكن يرى صغرها من شدة ارتفاع السماء وبعده من الأرض، ولو ترك الشمس والقمر كما خلقهما لم يعرف الليل من النهار، ولا كان يدرى الأجير إلى متى يعمل، ولا الصائم إلى متى يصوم، ولا المصلي متى يصلي، ولا المرأة كم تعتد، ولا أوقات الصلاة، ولا وقت الحج ومتى تحل الديون، ومتى يبذرون ويزرعون، ومتى تكون الراحة لأبدانهم، فكان الله أنظر بعباده وأرحم؛ فأرسل جبريل - عليه السلام - فأمر جناحه على وجه القمر وهو يومئذ شمس ثلاث مرات فطمس عنه الضوء وبقي فيه النور فذلك قوله تعالى
وجعلنا الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة ،
428
وقيل إنه نور شفاف قابل لنور الشمس يستمد منها، فإذا قرب منها ضعف نور استمداده، وإذا بعد عنها قوي نوره؛ فكلما بعد قوي
429
نوره حتى إذا قابلها وهو أبعد ما يكون بينهما فيكون القمر أكثر نورا ثم يقرب من الشمس، فكلما قرب نقص نوره. وقيل إنه جرم كروي لا ضياء له في نفسه من حيث إنه إذا قابل الشمس يكون مظلما؛ فلهذا لا ترى نور القمر من جهة الشمس أبدا بخلاف بقية الكواكب السيارة فإن كل كوكب منها يقابل نور الشمس في جميعها، فمثلها مثل البلورة الشفافة إذا وقع فيها النور سرى في باطنها وظاهرها بخلاف القمر فإنه كالكرة المعدنية، ولهذا ينقص نوره في الأرض ويزيد بخلاف بقية الكواكب.
الثالث اختلف في فلك القمر الذي هو فيه؛ فقيل: البحر دون السماء وقيل إنه سماء الدنيا.
الرابع اختلف في خسوف القمر وكسوف الشمس؛ فقيل: إن سبب الخسوف توسط الأرض بينه وبين نور الشمس؛ لأن نوره مستفاد من نورها، فإذا كان القمر على مسامتة أحد نقطتي الرأس أو الذنب، أو قريبا منهما توسط الأرض بينه وبين ضياء الشمس فيقع في ظل الأرض ويبقى على ظلامه الأصلي فيرى منكسفا، وظل الأرض أبدا يكون في الجهة التي تقابل جرم الشمس، وخسوفه لا يختلف باختلاف البلاد؛ لأن الكاسف عارض في جرمه، وهو وقوعه في ظل الأرض، ولكن تختلف أوقات
430
الخسوف باختلافه بأن تكون في بعض البلاد على مضي ساعة، وفي بعضها على مضي نصف أو أقل أو أكثر، وقد يطلع في بعضها منخسفا ولا يرى في بعضها لكونه تحت الأرض؛ لأن طلوعه في البلاد الشرقية قبل طلوعه في البلاد الغربية، وبدو خسوف القمر من طرفه الشرقي إذ هو الذاهب
431
إلى الاستقبال ثم ينحرف نحو الشمال أو الجنوب. وانجلاؤه أيضا من الطرف الشرقي وأطول ما يكون زمانه بالتقريب أربع ساعات.
والسبب في كسوف الشمس توسط القمر بينها وبين أبصارنا؛ لأن جرم القمر كدر مظلم فيحتجب ما وراءه عن الأبصار؛ لأن فلكه دون فلك الشمس فإذا اجتمع معها في درجة واحدة وكان على مسامتة أحد نقطتي الرأس أو الذنب أو قريبا فإنه يكون تحت الشمس فيحول بينهما وبين أبصارنا، ولا يتصور لكسوف الشمس مكث أكثر من ساعتين مستويتين؛ لأن حركة القمر متصلة سريعة لضيق
432
فلكه، فإذا كان الكاسف ليس عارضا في نفس الشمس بل هو بسبب التوسط بينها وبين الأبصار فيجوز أن يختلف وضع المتوسط، وهذا هو سبب الاختلاف في الزمان والقدر في بعض البلاد وانجلاؤها من طرفها الغربي، إذ القمر متصل بها ناحية الغرب.
وقيل سببه تجلي الحق عليهما بالعظمة؛ فعن أنس - رضي الله عنه - عن النبي
صلى الله عليه وسلم
قال: إن الشمس والقمر إذا رأى أحدهما شيئا من عظمة الله حاد عن مجراه فانكسف. وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: خلق الله بحرا دون السماء بمقدار ثلاثة فراسخ فهو موج مكفوف قائم في الهواء بأمر الله لا يقطر منه قطرة، جار
433
في سرعة السهم، تجري فيه الشمس والقمر والنجوم وذلك قوله تعالى
كل في فلك يسبحون ،
434
والفلك دوران العجلة في لجة غمر ذلك البحر، فإذا أحب الله أن يحدث الخسوف خرت الشمس على العجلة فتقع في غمر ذلك البحر، فإذا أراد الله
435
أن يعظم الآية وقعت كلها فلا
436
يبقى على العجلة منها شيء، وإذا أراد دون ذلك وقع النصف منها أو الثلث أو الثلثان في الماء، ويبقى سائر ذلك على
437
العجلة، وصارت الملائكة الموكلون بها فرقتين: فرقة يقبلون على الشمس فيجرونها نحو العجلة، وفرقة يقبلون على العجلة فيجرونها إلى الشمس. فإذا غربت رفع بها إلى السماء السابعة في سرعة طيران الملائكة وتحبس تحت العرش. الحديث.
قلت: إن صح هذا عن ابن عباس فقياس خسوف القمر ككسوف الشمس والعجلة كما في الصحاح المنجنون
438
يستسقى الماء عليها.
الخامس السواد الذي يرى في القمر هو أثر المحو كما دل عليه حديث ابن عباس السابق. وسئل علي بن أبي طالب عن السواد الذي في القمر فقال ذلك آية الليل محيت فذلك أثر المحو.
السادس على القول بأن القمر في ابتداء خلقه كان شمسا فمحي ضوءه وبقي نوره كما تقدم مقتضى القياس أن ينقص من حره بمقدار ما نقص من نوره؛ لأن الشمس حارة وهو لا حر له أصلا. والجواب أنه خلق ابتداء بلا حر وإن حره ذهب مع الطمس، والأول أرجح كذا ذكره بعضهم.
السابع مقتضى حديث ابن عباس السابق أن يكون القمر دون الأرض في المقدار، وقيل إنه بمقدار الأرض ثمانين مرة. (4-16) فائدتان
الأولى:
معنى قوله تعالى
والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم
439
قدرنا منازله وهي ثمانية وعشرون منزلا، وهي مواقع النجوم التي تنسب العرب إليها الأنواء
440
وهي: الشرطان وبقية المنازل التي مر ذكرها، فإن القمر ينزل كل ليلة منزلا منها ويسير سيرا من غير تفاوت، ويستتر ليلتين إن كان تاما وليلة إن كان ناقصا، وإذا نزل تلك المنازل دق وتقوس في رأي العين حتى عاد كالعرجون القديم وهو العذق الذي فيه الشماريخ
441
إذا عتق ويبس وتقوس واصفر شبه به القمر في دقته وصفرته.
الثانية:
معنى قوله تعالى
لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر
442
لا يصلح لها ولا يمكن أن تدركه؛ لأن فلكها غير فلكه، ولأنها تقطع فلكها في كل سنة مرة وهو يقطع فلكه في كل شهر مرة فلا سبيل أن تدركه. وقال عكرمة: لكل واحد منهما سلطان؛ فسلطان القمر الليل وسلطان الشمس النهار والمعنى على هذا لا يدخل الليل على النهار قبل انقضائه ولا النهار على الليل قبل انقضائه وهذا معنى قوله
ولا الليل سابق النهار
443
وكذا نقله من الكواسي. (4-17) لطيفتان
الأولى:
من العرب من يفضل القمر على الشمس ويقول هو: مذكر والشمس مؤنثة والمذكر أفضل من المؤنث، ومنهم من يفضل الشمس ويقول إن الله قدمها في الذكر فقال
الشمس والقمر بحسبان ،
444
و
والشمس والقمر والنجوم مسخرات
445
والشمس وضحاها * والقمر إذا تلاها .
446
ومنهم من لا يفضل أحدهما على الآخر، ورجح بعضهم الأول بأن التذكير أصل والتأنيث فرع، وأجاب عن دليل الثاني بأن التمسك في الفضل بمجرد التقديم في الذكر ضعيف، فقد يتقدم
447
المفضول ويتأخر الفاضل قال تعالى
هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن
448
وقال تعالى
لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة * أصحاب الجنة هم الفائزون
449
والصحيح إن
450
أراد التفضيل بحسب ما عند الله فذلك غير معقول لنا
451
لأنه يحتاج إلى التوقيف، وإن كان بحسب الضياء والنور ومزيد الإشراق فلا شك أن الشمس أفضل بهذا الاعتبار، ولأنها باقية على نورها التي خلقت عليه والقمر نقص من نوره كما تقدم.
الثانية:
قيل: قال القمر لربه اللهم إنك فضلت الشمس علي ونقصتني وأشنتني فلا تطلعها على ما نقصت مني. فلا يرى القمر أبدا إلا والتمام مما يلي الشمس. (4-18) إسعاف استطرادي
ذكر الشيخ مرعي في بهجته نقلا عن مسالك البكري أن جرم عطارد جزء من اثنين وعشرين جزءا من جرم الأرض ، وجرم الزهرة جزء من أربعة وعشرين جزءا من جرم الأرض، وجرم المشتري مثل جرم الأرض واحدا وثمانين مرة ونصف مرة بالتقريب، وجرم زحل مثل جرم الأرض تسعا وسبعين مرة ونصف مرة بالتقريب. وقال الغزالي في باب التفكر من الإحياء: [إن] الكواكب التي تراها أصغرها مثل الأرض ثلاث مرات وأكبرها ينتهي إلى مائة وعشرين مرة مثل الأرض.
وذكروا أن زحل
452
يدور فلكه في كل ثلاثين سنة دورة واحدة بالتقريب، والمشتري يدور فلكه في كل اثنتي عشرة سنة بالتقريب دورة وحدة، والمريخ يدور فلكه في كل سنتين إلا شهرا تقريبا دورة واحدة، والشمس يدور
453
فلكها في كل سنة مرة، والزهرة مثل الشمس ولكن مرة تسرع السير فتكون أمامها ومرة ترجع فتكون وراءها، وعطارد
454
قيل إنه مثل الزهرة وقيل إنه يقطع فلكه في كل مائة سنة وستة وعشرين يوما مرة. وعطارد والزهرة والشمس تتساوى
455
مدد أدوارها في فلك البروج، والقمر يقطع فلكه في السنة اثنتي عشرة مرة فمن ثم حكم الطبائعيون بأن فلك القمر أقرب الأفلاك إلينا وفوقه عطارد وفوقه الزهرة وفوقه الشمس وفوقه المريخ وفوقه المشتري وفوقه زحل؛ لأن الأقل حركة فلكه أوسع. وأما الرياضيون فاعتمدوا على ذلك بكسوف الكواكب بعضها بعضا؛ لأن الأدنى يكسف الأعلى ضرورة، فلما وجدوا القمر يكسف الكواكب كلها ولا يكسفه إلا ظل الأرض حكموا بأن فلكه أقرب الأفلاك إلينا، ولما وجدوا عطارد يكسف الزهرة حكموا بأن فلكه دونها، ولما وجدوا الزهرة تكسف المريخ حكموا بأن فلكها دونه، ولما وجدوا المريخ يكسف المشتري حكموا بأن فلكه دونه، والمشتري يكسف زحل فكان تحته، وزحل يكسف ما يسامته من الثوابت وكان فلكها فوقه، وبقي الشك في الشمس بالنسبة إلى الكواكب الخمسة دون القمر لكونه تحتها قطعا لكسفها لها
456
بخلاف البقية فإنها لا تكسفها أو
457
لا تنكسف بها؛ لاستتارها بشعاعها، فمن ثم كانوا في شك هل فلكه فوق الزهرة أم تحته؟ حتى أتى الرئيس علي بن سينا ورصدها حتى كسفت الشمس ورأى الزهرة في الشمس كالخال في الوجه، فعلم أن فلكها تحت الشمس. وقد زعم بعض المهندسين أن فلك الزهرة دون فلك عطارد فوق فلك الشمس، وكذبه ابن سينا لرؤيته تلك.
وذكروا أن كل كوكب من الكواكب السيارة في فلكه الذي يخصه مرصع فيه كالفص في الخاتم والأفلاك السبعة دائرة من المغرب إلى المشرق بدليل أن الهلال في الليلة الأولى
458
من الشهر في مكان، وفي الثانية ينتقل إلى مكان آخر آخذا إلى جهة الشرق، وهكذا في ثالثه ورابعه إلى آخر الشهر حتى تكتمل لفلكه الدورة، وهو أن يعود إلى النقطة التي كان عليها أولا، وهذه الحركة للفلك لا للكوكب، وهي الحركة الذاتية المختصة بكل فلك، وهذه الأفلاك السبعة وفلك البروج - وهو فلك الثوابت - يحيط بها فلك التاسع يسمى الأطلس؛ لأنه لم يظهر للعين فيه شيء من الكواكب، ولعله فيه كواكب لم تر للبعد المفرط، وهذا الأطلس يدور بها في باطنه من الأفلاك الثمانية في كل يوم وليلة من المشرق إلى المغرب دورة كاملة، فحينئذ لكل فلك من الثمانية دورتان ذاتية وهي التي من المغرب إلى المشرق وقسرية وهي التي من المشرق إلى المغرب وشبهوا ذلك بنملة على رحى؛ فالرحى تسعى إلى جهة اليمين مثلا والنملة إلى جهة اليسار؛ فللنملة حركتان؛ ذاتية وقسرية، وإنما سميت هذه الحركة العظمى القسرية؛ لأنها تقسر الأفلاك وتدور بها إلى غير جهة حركتها الذاتية عكسا، ولهذه الحركة ترى الشمس كل يوم في شروق وغروب وإلا ففلكها ما يدور الدورة الكاملة إلا
459
بعد مضي سنة شمسية ولله در الأرجاني
460
حيث يقول:
سعيي إليكم في الحقيقة والذي
تجدون عندكم فسعي الدهر بي
أنحوكم ويرد وجهي القهقرى
دهري فسيري مثل سير الكوكب
فالقصد نحو المشرق الأقصى له
والسير رأي العين نحو المغرب
ولقد
461
أخذ هذا المعنى الشيخ تقي الدين دقيق العيد
462
ونظمه وأجاد وأتى به في بيت واحد فقال:
الحمد لله كم أسمو بعزمي في
نيل العلا وقضاء
463
الله ينكسه
كأنني البدر يبغي السير والفلك
الأعلى يعارض مسراه فيعكسه
وروي أن النبي
صلى الله عليه وسلم
سأل جبريل عليه السلام : هل زالت الشمس؟ فقال جبرائيل عليه السلام: لا، نعم. فقال النبي -
صلى الله عليه وسلم : لم قلت لا ثم قلت نعم؟ فقال: بين ما قلت لك لا جرت الشمس خمسمائة عام. قيل إن هذه الحركة التي ذكرها جبريل عليه السلام هي حركة الشمس القسرية لا الذاتية وهي حركة الفلك الأعظم. وقال الإمام فخر الدين: إنه بقدر ما يرفع الفرس سنبكه من الأرض ويضعه وهو في أقوى جريه يتحرك الفلك الأطلس كذا كذا ألف ميل، أو كما قال. فسبحان الله العظيم ذو القدرة والجلال والعظمة
لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون .
464
وفي المواقف وشرحه وزعموا أن للثوابت مع كونها متحركة بالحركة اليومية تبعا لفلك الأفلاك حركة خاصة بها بطيئة جدا، وإنها تتم الدورة في ثلاثين ألف سنة، وقيل في ست وثلاثين ألف سنة وقيل في ثلاثة وعشرين ألفا وسبعمائة وستين سنة، وقيل في خمسة وعشرين ألف سنة، وهذا هو الموافق للرصد الجديد الذي بمراغة.
وإنما حكموا بإتمام الدورة فيما ذكر من المدد إذ قد أحسوا منها بحركة بطيئة بالرصد على وجوه
465
مختلفة، واعتقادهم أنها تتم الدورة لدوامها على زعمهم فقدروا بالحساب تمام الدور في هذه المدد المختلف فيها كما لخصناه.
وإنما سميت بالثوابت إما لبطء حركتها فلا تحس إلا بتدقيق النظر في أحوالها المعلومة بأرصاد بينها مدد طويلة، ولذلك اختفت على الأوائل حتى زعموا أن الأفلاك ثمانية، وأن الحركة اليومية لكرة الثوابت. وإما لثبات أوضاعها بعضا من بعض في القرب والبعد والمحاذاة. انتهى.
وهذا الذي ذكروه أمر ممكن في نفسه لولا مصادمة ما نقلناه أولا فإنه صريح في أن السير للشمس والقمر والكواكب أنفسها، وحديث جبريل المذكور آنفا صريح في ذلك. وتأويل جري الشمس بجري فلكها من حركة الفلك الأطلس له القسرية خلاف الظاهر والمعروف من الأدلة الشرعية أن الشمس والقمر كل يوم يقطعان فلكهما بكماله، وكل يوم تطلع الشمس من مشرق لا تطلع منه في اليوم الثاني، وتغرب في مغرب لا تغرب منه في اليوم الثاني إلى كمال السنة، وإليه الإشارة بقوله تعالى
فلا أقسم برب المشارق والمغارب ،
466
وأما قوله تعالى
رب المشرقين ورب المغربين
467
فالمراد بها مشرقا الشتاء والصيف ومغرباهما.
أخرج السيوطي عن أبي الشيخ عند سعيد
468
بن عبد الرحمن بن أثري في قوله تعالى
رب المشارق والمغارب
469
قال للشمس ثلاثمائة وستون برجا في المشرق وثلاثمائة وستون برجا في المغرب، لا تطلع يومين من برج واحد ولا تغيب يومين في برج واحد.
وأخرج
470
عنه عن يحيى بن آدم قال الشمس تمكث في كل برج شهرا والبرج ثلاثون مطلعا بين كل مطلعين شعيرة حتى تستكمل ثلاثين يوما ثم تتحول إلى البرج الآخر.
وأخرج عنه عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: إن الشمس إذا غربت هتف معها ملكان موكلان بها يجريان معها ما جرت حتى إذا وقعت في قطبها حذاء بطنان العرش خرت ساجدة حتى يقال لها: امضي فتمضي بقدرة الله، فإذا طلعت أضاء وجهها سبع سماوات وقفاها لأهل الأرض. وفي السماء ستون وثلاثمائة برج؛ كل برج منها أعظم من جزيرة العرب، للشمس في كل برج منها منزلة منزلة حتى إذا وقعت في قطبها قام ملك بالمشرق فقال: اللهم أعط منفقا خلفا وقام ملك بالمغرب وقال: اللهم أعط ممسكا تلفا.
وأخرج عنه وعن ابن عساكر عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: للشمس ثلاثمائة وستون كوة تطلع كل يوم في كوة فلا ترجع إلى تلك الكوة إلى ذلك اليوم من العام المقبل، ولا تطلع إلا وهي كارهة تقول لا تطلعني على عبادك فإنهم يعصونك. وذكر بعض أهل الكشف أن لكل من القمر والشمس والكواكب فلكا صغيرا يدور بنفسه في فلكه الكبير والفلك الكبير بطيء الدورة، وذلك الفلك الصغير سريع الدورة. قال: وما نراه
471
من خنس الكواكب - وهو رجوعها - فإنه لاختلاف دورها في دوران الفلك فيسبقه بالدور يحسبها الشخص راجعة ولم ترجع إذ لو رجعت لخرب العالم كله.
وذكر أيضا أن دور فلك سماء الدنيا مسيرة أحد عشر ألف سنة والقمر
472
يقطعه في أربعة وعشرين ساعة.
ودور فلك السماء الثانية مسيرة ثلاثة عشر ألف سنة وثمانمائة سنة وثلاثة وثلاثين سنة ومائة وعشرين يوما، وعطارد يقطع جميع ذلك في مضي أربع وعشرين ساعة معتدلة.
ودور فلك السماء الثالثة مسيرة
473
خمسة عشر ألف سنة وستة وثلاثين سنة ومائة وعشرين يوما، وكوكبها الزهرة يقطعه في أربع وعشرين ساعة.
ودور فلك السماء الرابعة مسيرة سبعة عشر ألف سنة وتسع وعشرين سنة وستين يوما، والشمس تقطعه في أربع وعشرين ساعة معتدلة.
ودور فلك السماء الخامسة مسيرة تسعة عشر ألف سنة وثمانمائة وثلاثين سنة ومائة وعشرين يوما، والمريخ يقطعها في أربع وعشرين ساعة.
ودور فلك السماء السادسة مسيرة اثنين وعشرين ألف سنة وستة وستين سنة وثمانية أشهر، والمشتري يقطعه في أربع وعشرين ساعة.
ودور فلك السماء السابعة مسيرة أربعة وعشرين ألف سنة وخمسمائة عام، وزحل يقطعها في أربع وعشرين ساعة.
قال وجميع الكواكب الثابتة لكل منهم سير خفي ضعيف لا يكاد أن يتبين، منهم من يقطع كل برج في الفلك في ثلاثين ألف سنة، ومنهم من يقطع بأكثر وأقل ولأجل دقتهم وكثرتهم لا يعرفون وليس لهم اسم عند أهل الحساب ولكن أهل الكشف يعرفون اسم كل نجم ويخاطبونه باسمه ويسألونه عن مسيره فيجيبهم ويخبرهم بما يقتضيه في فلكه.
غريبة
ذكر الشيخ الأكبر قدس سره أنه رأى في بعض أهرام مصر مكتوبا بخط لا يعرفه
474
كل أحد عمرت هذه الأهرام والنسر في برج الحمل، قال قدس سره: النسر في هذا اليوم في برج الدلو فيكون قد تحول أحد عشر برجا فيكون من مدة ابتداء عمارة الأهرام إلى يوم قرأه الشيخ لذلك ثلاثمائة ألف سنة وكذا كذا سنة؛ لأن الشيخ قدس سره لم يبين أنه في أوله أو في آخره فسبحان من ليس لأوليته بداية وليس لآخريته نهاية.
فإن قلت: فعلى ما ذكر الشيخ يلزم أن تكون بناء هذه الأهرام قبل آدم؛ لأن من آدم إلى زمان الشيخ لم يتم سبعة آلاف سنة؟
قلت: نعم ولا مانع من ذلك، فإن الله تعالى قد خلق قبل آدم خلقا وأسكنهم الأرض، واستدل له بعض الأكابر بقوله تعالى حكاية عن الملائكة
أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء
475
قائلا إن الملائكة لم يقولوا ذلك إلا عن معاينة، فلو لم يشاهدوا الفساد والسفك في الأرض قبل آدم لما قالوه.
وروي أنه كان قبل آدم في الأرض خلق فأرسل الله إليهم نبيا اسمه يوسف فقتلوه؛ فآدم لم يكن أول مخلوق أسكن الأرض. وفي الخبر أن آدم لما أسكن الأرض قالت الأرض: يا آدم قد جئتني بعد ما ذهبت جدتي ونضرتي وقد خلقت أي بليت. وروي عن محمد الباقر - رضي الله عنه - أنه قال: قد انقضى من قبل آدم الذي هو أبونا ألف آدم أو أكثر.
وروي عن جعفر الصادق - رضي الله عنه - مائة ألف آدم. وذكر السيوطي في محاضراته
476
إنه وجد بقلم على بعض أهرام مصر أنه بني منذ ستة وثلاثين ألف سنة، وقيل اثنين وسبعين ألف سنة. وذكر الشيخ الأكبر قدس سره في الفتوحات أنه شاهد قوما بالطواف لا يعرفهم فأنشدوا بيتين حفظ أحدهما ونسي الآخر وهو:
لقد طفتم كما طفنا سنينا
بهذا البيت طرا أجمعونا
فقال : لواحد منهم من أنتم؟ فقال: نحن من أجدادك الأول. فقال: كم لك
477
من الزمان منذ مت؟ قال: بضع وأربعون ألف سنة. فقال: ليس لآدم قريب من تلك السنين. فقال: عن أي آدم تقول عن هذا الأقرب إليك أم عن غيره؟ قال: ففكرت في ذلك ودهشت، فتذكرت حديثا روي عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أن الله خلق قبل آدم الذي هو أبوكم مائة ألف آدم. قال قدس سره اجتمعت مرة في عالم الأرواح مع إدريس وسألته عن صحة ذلك الكشف والخبر في ذلك لأن كل كشف لا يعضده خبر صحيح لا يعول عليه عند المحققين. فقال: إدريس - عليه السلام - صدق الخبر وصدق شهودك ومكاشفتك في ذلك ونحن معاشر الأنبياء آمنا بحدوث العالم وانقطع علمنا عن مبدأ الأعيان والأكوان. قال قدس سره: فالتاريخ لبداية العالم مجهول كذا نقله عنه صاحب محاضرات الأوائل ومسامرة
478
الأواخر. وقد نقل القصيري هذه المكاشفة عن الشيخ من الفتوحات وذكر أنه سأله عن مدة وفاته وأخبره بذلك قال الشيخ: إن من آدم إلى يومنا لم يكمل السبعة آلاف سنة بعد، فقال عن أي آدم تقول عن هذا الذي كان قريبا منكم الذي ظهر في الأول هذه السبعة آلاف؟
479
قلت: مقتضى هذه العبارة أنه كان على دور كل سبعة آلاف سنة آدم، لكن آدم الذي هو أبونا آخرهم لأنه لا آدم بعده. إذن القيامة تقوم على بنيه كما جاء مصرحا به في الأحاديث، فلا تغتر بما فرع القيصري على هذه الواقعة مما يوهم خلاف ذلك. (4-19) تذييل
قيل أول ما يكون الجنين في الرحم يتولى في الشهر الأول تدبيره زحل، وفي الثاني المشتري وهكذا حتى يتولى في السابع تدبيره القمر، فإن ولد فيه عاش؛ لأن خلقته قد تمت واستوفى طبائع الكواكب وقواها. وأما الشهر الثامن فيستولي عليه البرد والجمود والضعف فإن ولد فيه مات، وأما التاسع فيتولاه المشتري فيكتسب المولود قوة وحرارة وصلاحا فإذا ولد فيه عاش. كذا نقل من شرح لامية العجم. (4-20) القول الرابع
قال كيماووس:
480
زعم أن المد بانصباب الأنهار في البحر والجزر بسكونها. وهذا القول باطل من وجوه: [الوجه] الأول:
أنا شاهدنا الأنهار لا يحصل لها الانصباب إلا في حالة الجزر، وأما في حالة المد فإنها تسكن لرد ماء المد لها وإيقافه إياها حتى إنه ليغلبها فيردها راجعة على أثرها فيحصل المد للأنهار مقدار عشرين فرسخا وأكثر وأقل ويغلب على الطرف الملاقي للبحر ملوحة ماء البحر بمقدار فرسخ فأكثر أو أقل.
الوجه الثاني:
أنا لا نسلم أن انصبابها يوجب المد ومتى يتأثر هذا البحر العظيم من انصبابها.
481
حتى يحصل له ذلك فإنا لو سلمنا أن جميعها ينصب في البحر لم يحصل له التأثر الموجب للمد فكيف وذلك غير محقق فإن مجموعها كما ذكره بطلميوس مائتا نهر، وذلك لا يوجب تأثيرا تاما يحصل منه اندفاع ماء البحر حتى يحصل المد وعلى الخصوص في حالة نقص الأنهار لأن انصبابها حينئذ ضعيف جدا.
الوجه الثالث:
أن وهب بن منبه رضي الله عنه ذكر أن الثور والحوت يبتلعان ما ينصب من مياه الأرض في البحر، قال فذلك لا تؤثر في البحر زيادة فإذا امتلأت أجوافها من المياه قامت القيامة انتهى. وإذا كان الأمر كذلك بطل القول بإن موجب المد هو انصباب الأنهار؛ لأنه حينئذ لا يحصل إلا عن تأثير زيادة مياهه وقد علمت أنه لا يوثر زيادة.
الوجه الرابع:
أن بطلميوس زعم أن مياه الأنهار المنصبة في البحار إذا أشرقت الشمس عليها صعدت تلك المياه إلى الجو بخارا وانعقدت غيوما أبدية كالدولاب الدائر فلا يزال الأمر كذلك حتى يبلغ الكتاب أجله انتهى. فإن صح ذلك بطل القول بأن موجبه الانصباب؛ لأنه في حالة ارتفاعها وبعده بقليل يقتضي أن لا يحصل مد لأنه لم يبق شيء من ماء الأنهار حينئذ ولم يحصل انصباب يوجب تأثيرا في المد واللازم بطلانه.
482
واعلم أن ما ذكره بطلميوس أمر ممكن في نفسه لا يرده العقل إذ من الجائز أن يصعد الله تلك المياه عند إشراق الشمس بخارا ويعقدها غيوما، ولا مانع من أن يتقيد فعله تعالى بوقت دون وقت، إذ هو الفاعل المختار فله أن يقيد
483
فعله بوقت دون وقت وله أن يطلقه، وإنما المحذور في اعتقاد أن الشمس تفعل ذلك بطبعها أو بقوة أودعت فيها
484
فلا وجه لرد بعض المتأخرين هذا القول والتشنيع عليه؛ فإنه ليس في كلامه ما يدل على أن الشمس هي الفاعلة لذلك والمؤثره فيه وما علينا من اعتقاده. (4-21) فوائد
الأولى:
ذكر البكري أن مجموع ما في الأرض من الأنهار الكبار مائتان وتسعون نهرا، ومن العيون الكبار مائتان وثلاثون عينا. قال: وهي في الأرض كالعروق في البدن، ووجه الجمع بين ما ذكره وما ذكره بطلميوس أن بطلميوس أراد الأنهار الواقعة في الربع المعمور كما حكاه ابن الوردي عنه مقيدا له بذلك. والبكري أراد مجموع الأنهار الكائنة في الأرض كما حكاه عن مرعي مطلقا غير مقيد بالمعمور.
الثانية:
قيل حق الماء أن يكون على سطح الأرض، لكن لما كان منها المرتفع والمنخفض انحاز الماء إلى أعماق الأرض فانضغطت وطلت النفس فانفتقت عيونا. قال بعض المتأخرين بعد نقله لهذا القول: والصحيح أن انفتاق العيون وتفجير الأنهار بقدرة الفاعل المختار لا كما يقوله الفلاسفة والطبائعيون.
وأقول: إن عنوا بذلك الماء قد أثر في الانفتاق وأنه حصل لها من الضغط وأن المؤثر فيه ذلك، فكلامهم باطل، وإلا فلا مانع من أن يخلق الله ذلك عند ذلك لا بذلك؛ لأنه تعالى يفعل عند الأشياء لا بها.
الثالثة:
كل ماء عذب من بئر
485
أو نهر أو عين فمن الماء المنزل من السماء لقوله
486
تعالى
أفرأيتم الماء الذي تشربون * أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون ،
487
وقوله تعالى
وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض
488
فإذا قربت الساعة بعث الله ملكا معه ملك لا يعلم عظمه إلا الله تعالى فجمع تلك المياه فردها
489
إلى الجنة، كذا في خريدة العجائب.
الرابعة:
قال بطلميوس: إن من الأنهار ما يجري من المشرق إلى المغرب ومنها ما يجري بالعكس، منها ما يجري من الشمال إلى الجنوب ومنها ما يجري بالعكس ، وكل هذه بدوها من الجبال وتنصب في البحار بعد انتفاع العالم بها وفي ضمن ممرها تتصور بطائح وبحيرات، وإن منها ما طوله خمسين فرسخا ومنها ما هو أكثر من ذلك إلى ألف فرسخ انتهى.
الخامسة:
جاء في الحديث أن النيل يخرج من الجنة ولو التمستم فيه حين يخرج لوجدتم من ورقها. وأخرج السيوطي في الهيئة عن مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : سيحان وجيحان والفرات والنيل كل من أنهار الجنة. وأخرج عن البيهقي عن كعب قال: نهر النيل نهر العسل في الجنة، ونهر دجلة نهر اللبن في الجنة، ونهر الفرات نهر الخمر في الجنة، ونهر سيحان نهر الماء في الجنة. وأخرج عن أحمد والحاكم وصححه الحاكم عن أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قال : رفعت لي سدرة المنتهى في السماء السابعة يخرج من ساقها نهران ظاهران ونهران باطنان. قلت:
490
يا جبريل ما هذان؟ قال: أما الباطنان ففي الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات.
قلت: قد حصل من مجموع هذه الأحاديث أن من أنهار الجنة خمسة في الأرض؛ سيحان وجيحان والفرات والنيل ودجلة، فلا وجه لقول ابن الوردي في الخريدة. وزعم أهل الكتاب أن أربعة أنهار تخرج من الجنة الفرات وسيحان وجيحان ودجلة، وذلك أنهم يزعمون أن الجنة في مشارق الأرض الدال على خطأ هذا القول وافترائه؛ لأن زعم مطيته
491
الكذب، فإن قلت إنما قال ذلك لخطئهم في قولهم إن الجنة في الأرض.
قلت: هذا علة لقولهم والخطأ في العلة لا يستلزم خطأ المعلوم. فإن قلت: ما وجه الجمع بين حديث مسلم الذي أخرجه عن أبي هريرة وحديث أنس الذي صححه الحاكم فإن مقتضى الثاني أن النيل والفرات ليسا من أنهار الجنة وصريح الأول أنهما منها.
قلت: تندفع المعارضة بينهما بأن يقال إنها بعد خروجها من سدرة المنتهى يدخلان الجنة ثم يخرجان منها وبهذا الاعتبار يصح نسبتهما إلى الجنة، ويقال إنهما من أنهار الجنة، فإن قلت هذا التوجيه ينافي قول جبرائيل - عليه السلام - «أما الباطنان ففي الجنة.» فإنهما لو كانا يمران بها فينسبان إليها لما صح التخصيص. قلت: لا منافاة لأن تخصيص الباطنين في الجنة في حديث جبرائيل عليه السلام إنما هو لأنهما لا يخرجان
492
منها، وحيث كانت هذه الخمسة من أنهار الجنة فلا بأس بالتعرض لذكرها تتميما للفائدة.
فنقول وبالله التوفيق: أما النيل فهو سيدها، أخرج السيوطي عن بن أبي حاتم عن عبد الله بن عمرو قال: نيل مصر سيد الأنهار سخر الله له كل نهر من المشرق إلى المغرب، فإذا أراد الله أن يجري نيل مصر أمر كل نهر أن يمده فأمدته الأنهار بمائها، وفجر الله له الأرض عيونا، فإذا انتهى جريه إلى ما أراد الله أوحى الله إلى كل ماء فرجع إلى عنصره.
وقيل إن النيل من عجائب الأنهار الدنيا؛ لأنه ليس له فيها نهر يزيد في شدة الحر حتى تنقص له الأنهار كلها ويزيد بترتيب وينقص بترتيب غير النيل. وذكر ابن الوردي في خريدة العجائب أنه ليس في الدنيا نهر أطول من نهر النيل مسيرة شهرين في [بلاد] الإسلام، وشهرين في [بلاد] الكفر بالبرية، وأربعة أشهر في الخراب، ومخرجه من بلاد جبل القمر خلف خط الاستواء، فيخرج منه هابطا بين جبال الذهب على بلاد الحبشة إلى كوكو إلى أهواز إلى قوص إلى أخيم إلى مصر إلى البحر المالح وينصب في بحر الروم. وطوله من جبل القمر إلى البحر ألف فرسخ وأربعون فرسخا.
قيل وسمي هذا الجبل بجبل القمر لتلونه بزيادة القمر في كل ليلة، ففي أول ليلة يعلوه نور أبيض، وفي الثانية يعلوه نور أصفر كشعاع الشمس، وفي الثالثة تتبين منه قاعدة، وفي الرابعة يكسوه نور أحمر مثل النار، وفي الخامسة يعلوه نور أخضر شعاعي فيتلوه كذلك كل ليلة إلى ليلة البدر فيكون كذنب الطاووس لا يخفى عليه من قرب من من النوبة والحبشة
493
لشدة نوره.
ويخرج منه أنهار كثيرة تجتمع في بحيرات في وسط هذه الصحراء. وفي الخريدة يسمى جبل القمر لأن القمر لا يطلع عليه أصلا؛ لخروجه عن خط الاستواء وميله عن نوره وضوءه. يقال إن هرمس الحكيم قد حملته الشياطين إلى هذا الجبل ورأى النيل كيف يخرج من البحر الأسود ويدخل تحت جبل القمر فبنى في سفح ذلك الجبل قصرا فيه خمسة وثمانون تمثالا من نحاس جعلها جامعة لما يخرج من ماء هذا الجبل بمعاقد
494
ومصاب وأحكام مدبرة يجري الماء منها
495
إلى تلك الصور والتماثيل، فيخرج من حلوقها على قياس معلوم وأذرعة معدودة، فتصب إلى أنهار كثيرة فتتصل بالبطيحة وعلى هذه البطيحة بلاد السودان، وبها جبل معترض فيخرج النيل منه نهرا واحدا ويفترق في أرض النوبة، ففرقة تمر إلى أقصى المغرب وعليها غالب بلاد السودان فتمر على بلاد النوبة إلى جبال الأركان إلى بلاد الزنج إلى البحر الأعظم المحيط في ناحية المغرب. والفرقة الأخرى تنصب إلى مصر إلى البحر .
وأخرج السيوطي في الهيئة السنية عن الشيخ في العظمة عن الليث بن سعد قال: بلغني أنه كان رجلا من بني العيص يقال له حايد بن أبي شالوم بن العيص بن اسحق بن إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - خرج هاربا من ملك من ملوكهم حتى دخل أرض مصر، فأقام بها فلما رأى عجيب بنائها جعل الله عليه أن لا يفارق ساحلها حتى يبلغ منتهاه من حيث يخرج أو يموت فسار عليه، قيل ثلاثين سنة في الناس وثلاثين سنة في غير الناس، وقيل خمسة عشر كذا وخمسة كذا حتى انتهى إلى بحر أخضر
496
فنظر إلى النيل ينشق مقبلا وإذا رجل قائم يصلي تحت شجرة تفاح، فلما رآه استأنس به وسلم عليه فقال: له من أنت؟ فقال: أنا حايد بن أبي شالوم بن العيص، فمن أنت؟ فقال: أنا عمران ابن فلان بن العيص، فما الذي جاء بك يا حايد؟ قال: جئت من أجل هذا النيل. قال: وأنا جاء بي الذي جاء بك حتى انتهيت إلى الموضع، فأوحى الله إلي أن أقف هنا حتى يأتيني أمره. قال له: يا حايد أخبرني ما انتهى إليك من أمر هذا النيل، وهل بلغك في الكتب أن أحدا من بني آدم يبلغه؟ قال: نعم بلغني أن رجلا من بني العيص يبلغه، ولا أظنه غيرك. قال: كيف الطريق إليه؟ قال: سر كما أنت على هذا البحر فإنك ستأتي دابة ترى أولها ولا ترى آخرها، فلا يهولنك أمرها وهي معادية
497
للشمس إذا طلعت أهوت عليها لتلقمها، وإذا غربت أهوت إليها كذلك، فاركبها تذهب بك إلى جانب البحر فسر عليه فإنك ستبلغ أرضا من حديد، فإن جزتها وقعت في أرض من نحاس، فإن جزتها وقعت في أرض من فضة، فإن جزتها وقعت في أرض من ذهب، فيها ينتهي إليك علم النيل.
498
فسار حتى انتهى إلى أرض الذهب، فسار فيها حتى انتهى إلى سور من ذهب [و]شرفة من ذهب
499
وقبة من ذهب لها أربعة أبواب فنظر إلى ماء ينحدر من فوق ذلك السور حتى يستقر في القبة ثم ينصرف في الأبواب الأربعة، فأما ثلاثة فتفيض في الأرض وأما واحد فيسير على وجه الأرض وهو النيل فشرب منه واستراح وأهوى إلى السور ليصعد فأتاه ملك فقال له: يا حايد قف مكانك فقد انتهى إليك علم هذا النيل، وهذه الجنة وإنما ينزل
500
من الجنة. انتهى.
وذكر ابن الوردي هذا الخبر في خريدة العجائب وزاد فيه أن الثلاثة التي تغيض في الأرض سيحون وجيحون والفرات، وأنه أتاه ملك بعنقود من العنب فيه ثلاثة ألوان كاللؤلؤ، ولون كالزبرجد الأخضر ولون كالياقوت الأحمر وقال له: يا حايد هذا من حصرم الجنة؛ فأخذه حايد ورجع فرأى شيخا تحت شجرة من تفاح فآنسه وحدثه فقال له: يا حايد ألا تأكل من هذا التفاح؟ فقال: إن معي طعاما من الجنة، وإني أستغني عن تفاحك. فقال له: صدقت يا حايد إني لأعلم أنه
501
من الجنة، ولم يزل به ذلك الشيخ حتى أكل من التفاح وحين عض على التفاحة ورأى ذلك الملك هو
502
يعض على إصبعه ويقول أتعرف الشيخ؟ قال: لا. قال: والله هو الذي أخرج أباك من الجنة، ولو قنعت بالعنقود الذي معك لأكل منه أهل الدنيا ما بقيت الدنيا ولم ينفد، وهو الآن مجهودك. قال: فبكى حايد وندم، ثم سار حتى دخل مصر وجعل يحدث الناس بما رأى في سيره من العجائب انتهى.
قلت: إن صح هذا الخبر فهذه الجنة غير الجنة التي أعدها الله لعباده المتقين؛ لأن تلك في السماء كما هو مذهب الجمهور، والجنة لغة تطلق على الحديقة ذات الأشجار، فإن قلت خروج النيل منها يدل على أنها هي؛ لأن الأحاديث التي دلت أن النيل من أنهار الجنة تدل على أن الجنة التي يخرج منها النيل هي جنة الخلد إذ هي المراد عند الإطلاق.
قلت:
503
الجنة إذا أطلقت يراد بها جنة الخلد، إلا أن تلك لما كانت في السماء وهذه في الأرض لم يجز حمل هذه على تلك ووجب التأويل بأن الماء ينزل من جنة الخلد إلى هذه الجنة ثم يخرج منها. ولعل في قوله هذه الجنة، وإنما ينزل من الجنة إشارة إلى ذلك حيث أعاد ذكرها بلفظها ولم يعدها بالضمير؛ لأن الإتيان بالمظهر موضع المضمر خلاف مقتضى الظاهر، فلا بد له من نكتة، ويحتمل أن يكون
504
النكتة هذه، فإن قلت ينافي ما ذكرت قولهم إن المعرفة أو النكرة إذا أعيدت معرفة كانت عين الأولى، كما أن النكرة إذا أعيدت نكرة كانت غيرها بدليل قوله تعالى
أرسلنا إلى فرعون رسولا * فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا
505
فإن الرسول الذي عصاه هو الذي أرسل إليه، وقوله تعالى
فإن مع العسر يسرا * إن مع العسر يسرا
506
فإن العسر الثاني هو عين العسر الأول بخلاف اليسر بدليل قوله
صلى الله عليه وسلم
لن يغلب العسر يسرين.
قلت: هذا حكم أغلبي لا كلي، والمثال الجزئي لا يثبت القاعدة الكلية. وأما الفرات فهو نهر عظيم عذب طيب وخرجه من ثغور أرمينية ثم يمتد إلى فاليقا وإلى ملطية وإلى الرقة
507
إلى عانة ويمر بصفين؛ موضع حرب علي ومعاوية، ثم ينصب بعضه في دجلة وبعضه يمر إلى بحر فارس فينصب فيه. وروي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: يا أهل الكوفة إن نهركم هذا ينصب إليه ميزابان من الجنة. وروي عن جعفر الصادق - رضي الله عنه - أنه شرب من ماء الفرات ثم استزاد وحمد الله تعالى وقال: ما أعظم بركته! لو يعلم الناس ما فيه من البركة لضربوا
508
على حافته القباب؛ ما انغمس فيه ذو عاهة إلا شفي. وعن السدي أن الفرات مد في زمن عمر - رضي الله عنه - فألقى رمانة عظيمة فيها كثير من الحب فأمر المسلمين أن يقتسموها بينهم.
وأما نهر دجلة فهو نهر بغداد فمخرجه من أصل جبل بقرب آمد بديار بكر، ويمتد إلى حصن كيفا وإلى جزيرة ابن عمر وإلى موصل وتمتد إلى بغداد وإلى واسط وإلى البصرة وينصب إلى بحر فارس.
وعن ابن عباس قال: أوحى الله عز وجل إلى دانيال - عليه السلام - أن أجر لي لمصالح عبادي نهرا ، واجعل مصبه في البحر فقد أمرت الأرض أن تطيعك. قال: فأخذ خشبة فجرها
509
في الأرض والماء يتبعه وكلما مر بأرض يتيم أو امرأة أو شيخ ناشده الله فيحيد عنهم، وهو الدجلة.
510
وهو نهر مبارك، في الغالب ينجو غريقه. وحكي أنهم وجدوا غريقا فأخذوه فإذا فيه رمق فلما رجعت روحه إليه سألوه عن مكانه الذي وقع فأخبرهم، فكان من موضع وقوعه إلى موضع نجاته خمسة أيام.
وأما جيحون فهو نهر عظيم يخرج من حدود بدخشان، ثم ينضم إليه أنهار كثيرة
511
من حدود الجبل ودخش؛ فيصير نهرا عظيما ويمر على مدن كثيرة حتى يصل إلى خوارزم، وينصب في بحيرتها. وهذا النهر يجمد في الشتاء عند قوة البرد فيجمد قطعا قطعا، ثم تصير تلك القطع على وجه الماء حتى يلصق بعضها ببعض إلى أن تصير سطحا واحدا على وجه الماء في سمك ذراعين أو ثلاثة أذرع، ويستحكم حتى تمر عليه الدواب والقوافل، ويبقى كذلك نحو الشهر والشهرين
512
فإذا انكسر
513
البرد عاد إلى حالته، وهو نهر قتال قل أن ينجو منه غريق.
ونهر سيحون نهر عظيم ومخرجه من نحو ثلاثة أميال من مدينة ملطية ويجري في بلاد الروم وينصب في بحر الروم.
وحيث تعرضنا لذكر هذه الأنهار وانساق الكلام إلى ذلك، فلا بأس بالتعرض لذكر بعض العيون وذكر عجائبها تتميما للفائدة.
ومنها عين بقرية من قرى قزوين إذا شرب الإنسان منها انسهل انسهالا شديدا، ويمكن الإنسان أن يشرب منها عشرة أرطال لخفته.
ومنها عين بارخاني قال صاحب تحفة الغرائب: إذا أراد أهل هذه القرية هبوب الريح أخذوا خرقة الحيض ووضعوها في الماء فتحرك الرياح. ومن شرب من مائها ولو جرعة انتفخ بطنه كالطبل ومن حمل من ذلك إلى مكان آخر انعقد حجرا.
ومنها عين جاج قال صاحب تحفة الغرائب: إذا كانت السماء مصحية لا يرى فيها قطرة ماء وإذا كانت مغيمة امتلأت ماء.
ومنها عين باميان قال في كتاب تحفة الغرائب: بأرض باميان عين ينبع منها كثير بصوت عظيم وجلبة يشم منها رائحة الكبريت من اغتسل بمائها زال عنه الحكة والجرب والدماميل. وإذا جعل من مائها في إناء وسد الإناء سدا محكما وترك يوما صار كالطين فإن قرب من النار اشتعل والتهب. وبناحية ناميان جبال فيها عيون لا تقبل شيئا من النجاسات وإذا ألقى فيها أحد شيئا من النجاسة هاج الماء وغلى وفار، فإن لحق الذي ألقاه غرقه.
ومنها
514
عين غزنة إذا ألقي فيها شيء من النجاسات والقاذورات يتغير الهواء في الحال، ويظهر البرد والريح والمطر والثلج ويبقى ذلك إلى أن يزول منها ذلك القاذورات. وحكي أن السلطان محمود - تغمده الله
515
برحمته - لما أراد فتح غزنة جعل أهلها كل ما قصد إليها يلقون في تلك العين شيئا من القاذورات فتقوم القيامة من شدة البرد والريح والمطر فيرجع بعسكره كالمكسور، وصلى ليلة من الليالي ودعا وقال: إلهي إن كان قصدي في هذه البلاد حظوظ الدنيا فجرد عزمي عن ذلك، وإن كان قصدي التوبة والآخرة وتقوية دولة الإسلام فاجعل لي إلى فتحها سبيلا، وأرح عبادك المسلمين المجاهدين في سبيلك، ثم سجد سجدة ونام ووجهه على التراب فأتاه آت وخاطبه بكلام بين قائلا: يا ابن سبكتكتين إن أردت الخلاص من هذه المحنة فأرسل جنودا لحفظ العين، وقد افتتحت غزنة فسعيك مشكور وفعلك مبرور، فانتبه وأرسل مقدما إلى حراسة العين ثم زحف على غزنة وافتتحها كطرفة عين.
ومنها عين سياه سك. قال في تحفة الغرائب: بجرجان موضع يسمى سياه سك عين على تل يأخذ الناس منها الماء للشرب وهو عذب طيب. وفي الطريق إلى العين دودة معروفة بين أهلها، فمن أخذ من ذلك الماء وأصابت رجله تلك الدودة وهو ذاهب بالماء صار الماء مرا علقما فيريقه ويمضي إلى ماء ثانيا.
عين الأوقات وهي في المغرب لا تجري إلا في أوقات الصلاة الخمس في أولها ثم
516
تنقطع ولبثه قدر ما يتوضأ الناس.
عين غرناطة قال الأندلسي بقرب غرناطة كنيسة عندها
517
عين ماء وشجرة زيتون يقصدها الناس في يوم معلوم من السنة، فإذا طلعت الشمس في ذلك اليوم فاضت تلك العين، ثم ظهر على تلك الشجرة زهر زيتون ثم ينعقد زيتونا في الحال والوقت ويكبر ويسود في يومه ذلك، وتأخذه الناس ويأخذون من ماء ذلك العين كل أحد بمقدرته ويدخرون ذلك الزيتون والماء للتداوي ولذلك فيما بينهم منافع عظيمة.
ومنها عين شبرم وهي بين أصفهان وشيراز، فإذا وقع الجراد بأرض حمل إليها من تلك العين ماء في ظرف أو غيره فيتبع ذلك الماء طيور سود تسمى السمرمر بحيث إن حامل الماء لا يضعه على الأرض ولا يلتفت وراءه فتبقى تلك الطيور على رأس حامل الماء في الجو كالسحابة السوداء إلى أن يصل إلى الأرض التي بها الجراد فتصيح
518
الطيور عليها وتقتلها فلا ترى من الجراد متحركا وتموت من أصواتها وهذا من عجائب الدنيا.
الفائدة السادسة:
قد ذكرنا فيما سبق كلام بطلميوس في السحاب، فلنذكر كلام علماء الملة فيه وفي المطر؛ أما المطر فقد أخرج السيوطي في الهيئة عن أبي الشيخ عن عطا قال: السحاب يخرج من الأرض ثم قرأ
الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا .
519
وأخرج عنه أيضا عن خالد بن معدان قال في الجنة ثمرة تثمر السحاب فاالسوداء
520
منها الثمرة التي قد نضجت التي تحمل المطر، والبيضاء التي لم تنضج لا تحمل المطر. وأخرج أيضا عنه وعن أحمد وابن أبي الدنيا عن الغفاري سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول: ينشئ الله السحاب فينطق أحسن النطق ويضحك أحسن الضحك. قال إبراهيم بن سعد: المنطق الرعد والضحك البرق.
وعن السدي يرسل الله الريح فتأتي بالسحاب من بين الخافقين طرف السماء والأرض حيث يلتقيان فيخرجه، من ثم ينشئه فيبسطه في السماء كيف يشاء، ثم يفتح أبواب السماء فيسيل الماء على السحاب ثم يمطر السحاب بعد ذلك.
وعن عبيد بن عمير قال: يبعث الله ريحا فتقوم الأرض، ثم يبعث الثانية فتسير
521
سحابا فيجعله كسفا، ثم يبعث الثالثة فتؤلف بينه فتجعله ركاما، ثم الرابعة فيمطر. وأما
522
المطر؛ فعن ابن عباس أن الله تعالى يبعث الريح تحمل الماء من السماء ترمي به السحاب تدر كما تدر اللقحة. وسئل الحسن عن المطر أمن السماء أم من السحاب؟ قال: من السماء إنما السحاب علما ينزل عليه الماء من السماء.
وعن عكرمة ينزل الماء من السماء السابعة فيقع القطرة من على السحابة مثل البعيرة. وعن
523
خالد بن معدان المطر: يخرج من تحت العرش فينزل من سماء إلى سماء حتى يجتمع في السماء الدنيا فيجتمع في موضع يقال له الأبزم، فتجيء السحاب السود فتدخله فتشربه مثل شرب الإسفنجة فيسوقها الله حيث يشاء.
وعن ابن عباس المطر مزاجه من الجنة فإذا كثر المزاج عظمت البركة وإن قل المطر، وإذا قل المزاج قلت
524
البركة وإن عظم المطر. وعن الخالد بن يزيد قال: المطر منه من السماء ومنه ماء يسقيه الغيم من البحر فيعذبه الرعد والبرق، فأما ما كان من البحر فلا يكون له نبات وأما النبات فمما كان من السماء. وعن أبي مالك الغفاري قال: سألت ابن عباس فقلت: تنزل الأرض القفير فتمطر من الليل فتصبح من الغد في الأرض ضفادع خضر؛ فقال ابن عباس: إن هذه السماء الدنيا التي تليها وما بينهما ماء مطبق يجري فيه من الدواب مثل ما في مائكم هذا.
وعن وهب لا أدري المطر أنزل قطرة من السماء في السحاب أم في خلق
525
السحاب فأمطر؟! وذكر
526
اللقاني في شرح منظومته؛ عمدة المريد أن مذهب أهل السنة والأشاعرة كما دلت عليه الأحاديث أن السحاب من شجرة مثمرة في الجنة والمطر من تحت العرش خلافا للحكماء والمعتزلة في أن منشأه البحر، أو أنه أجسام ذوات خراطيم تأخذ الماء من البحر المالح وتقصره الريح فيعذب انتهى.
أقول كأن وجه جزمه بذلك الرد
527
نفي قول الزاعم أن الأمطار إنما تتكون من البخارات المتصاعدة من قعر
528
الأرض إلى الجبال ومن الجبال إلى السماء حتى صارت عذبة صافية بواسطة التصعيد والسحاب يتألف ويتكون معه.
وبعضهم يقول إن السحاب له خراطيم يغترف الماء من البحر ثم إن الماء المالح يحلو بسبب التقطير كما أشار إليه، وإلا فقد علمت ما فيه من الخلاف.
ومن ثم ذهب بعضهم إلى الوقف، ومال البعض إلى أن الله تعالى يخلقهما ابتداء بين السماء والأرض متى شاء ثم
529
ينزل المطر متى شاء؛ فينشئ سبحانه من العدم ما أراد في لحظة واحدة؛ وهذا العبرة فيه أتم والقدرة فيه أظهر.
قيل والحكمة والسحاب ما أخرجه أبو الشيخ عن كعب قال: السحاب غربال
530
المطر، ولولا السحاب حين ينزل الماء من السماء لفسد ما يقع عليه من الأرض. وأخرج عن ابن أبي المثنى أن الأرض قالت: رب أروني من الماء ولا تنزله علي منهمرا كما أنزلته على قوم الطوفان. قال: سأجعل لك غربالا. (4-22) تتمة
قال
صلى الله عليه وسلم : ما من ساعة من ليل ولا نهار إلا والسماء تمطر فيها يصرفه
531
الله حيث يشاء. أخرجه الشافعي في الأم عن ابن عباس يخلق الله اللؤلؤ في الأصداف
532
من المطر يفتح الأصداف أفواهها عند المطر؛ فاللؤلؤة العظيمة من القطرة العظيمة واللؤلؤة الصغيرة من القطرة
533
الصغيرة. (4-23) القول الخامس
نقله لي بعض أصحابي ممن أثق بديانته وذكر لي أن قائله استدل له بحديث غرب عن باله، وهو أن الله تعالى خلق دابة تشرب من ماء البحر حتى ينقص ويحصل الجزر وتتقيؤه فيزيد ويحصل المد. ولعمري إن هذا أمر ممكن في نفسه لا يأباه عقل ذو نور ساطع ولا يرده نقل ذو نص قاطع، وأن في قدرة الله تعالى ما هو أعظم من ذلك، فقد ورد في الحديث أن في السماء أبحر وتحت الأرض بحر وفيما بين السماء والأرض بحر، وإن بحرنا هذا بزق حوت وأنه في نقرة إبهام ملك حكاه ابن الطلاع في غريب
534
الحديث ونقله عنه زروق
535
قدس سره في شرح خرب البحر فإذا كان هذا البحر كله بزق حوت أي جلده وكان في نقرة إبهام ملك جاز أن يخلق الله حوتا عظيما يشرب من البحر يؤثر فيه النقص ويحصل الجزر، ويتقيؤه فيزيد ويحصل المد إلى أن يرجع إلى حاله ثم يشرب فينقص ويتقيأ فيزيد وهكذا إلى الأجل المعلوم عند الله.
وثبت أيضا في الخبر عن وهب بن منبه أن لله دابة رزقها كل يوم مثل رزق العالم بأسره. وفي حياة الحيوان قال القشيري: إن سليمان - عليه السلام - سأل من الله أن يأذن له أن يضيف يوما جميع الحيوانات فأذن له، فأخذ سليمان في جمع
536
الطعام مدة طويلة،
537
فأرسل حوتا واحدا من البحر فأكل كل ما جمعه سليمان في تلك المدة ثم استزاده، فقال سليمان عليه السلام: لم يبق لي شيء، وقال له: أنت كل يوم تأكل مثل هذا؟ فقال: رزقي كل يوم ثلاثة أضعاف هذا، ولكن الله لم يطعمني اليوم إلا ما أطعمتني فليتك لم تضفني؛ فإني بقيت اليوم جائعا حين كنت ضيفك، وقد مر لك أن الحوت الحامل للثور الحامل للملك الحامل للأرض قد التقى طرفاه تحت العرش.
وعن كعب الأحبار قال: لما خلق الله العرش قال لن يخلق الله أعظم مني، فاهتز فطوقه الله بحية وللحية سبعون ألف جناح وفي الجناح سبعون ألف ريشة في كل ريشة سبعون ألف وجه، في كل وجه سبعون ألف لسان يخرج من أفواهها في كل يوم من التسبيح عدد قطر الماء وعدد
538
ورق الشجر وعدد الحصى والثرى وعدد أيام الدنيا وعدد الملائكة
539
أجمعين؛ فالتوت الحية بالعرش فالعرش إلى نصف الحية وهي ملتوية عليه مع عظمة خلقه التي تدهش العقول، فقد روي أن الأشياء كلها في العرش كحلقة في فلاة، وأن لله ملكا يقال له خرقائيل ثمانية عشر ألف جناح ما بين الجناح إلى الجناح خمسمائة عام، أوحى الله إليه أيها الملك طر فطار عشرين ألف سنة، ثم لم ينل رأسه قائمة من قوائم العرش، ثم زاد الله له في الجناح والقوة وأمره أن يطير فطار ثلاثين ألف سنة فلم ينلها، فأوحى الله إليه أيها الملك لو طرت إلى نفخ الصور مع أجنحتك وقوتك لم تبلغ ساق العرش هذا مع ما علمت من سرعة طيران الملائكة.
وقال الثعلبي: بلغنا أن بعض الأنبياء قال: يا رب لو أن السموات والأراضين حين قلت لهما ائتيا طوعا أو كرها عصاك ما كنت تفعل بهما؟ قال: كنت أمر عليهما دابة من دوابي فتبلعهما، قال: يا رب وأين تلك الدابة؟ قال: في برج من بروجي. قال: يا رب وأين هذا البرج؟ قال في علم من علومي. (4-24) لطيفة
ذكر سعيد بن جبير لما أهبط الله آدم إلى الأرض لم يكن فيها غير النسر في البر والحوت في البحر فكان النسر يأوي إلى الحوت فيبيت عنده فلما رأى النسر آدم قال: يا حوت لقد أهبط الله اليوم إلى الأرض شيء يمشي على رجليه ويبطش بيديه. فقال الحوت: لئن كنت صادقا فمالي منه منجى في البحر ولا لك خلاص منه في البر. (4-25) فوائد
الأولى:
الأولى ذكر الدميري في حياة الحيوان قال: سئل إمام الحرمين هل الباري تعالى
540
في جهة؟ فقال هو متعال عن ذلك، فقيل له ما الدليل على ذلك؟ قال: قوله
صلى الله عليه وسلم
لا تفضلوني على يونس بن متى، فقيل له: ما وجه ذلك؟ قال: لا أقوله حتى يأخذ ضيفي هذا ألف دينار يقضي بها دينه، فقال بها رجلان فقال: إن يونس بن متى رمى نفسه في البحر فالتقمه الحوت وصار في قعر البحر في ظلمات ثلاث، ونادى لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، ولم يكن النبي
صلى الله عليه وسلم
حين جلس على الرفرف الأخضر وانتهى إلى أن سمع صرير الأقلام وناجاه ربه بما ناجاه وأوحى إليه ما أوحى بأقرب إلى الله من يونس بن متى في بطن الحوت في ظلمة البحر انتهى.
قلت: ولا يخفى أن القرب المنفي إنما هو القرب المكاني، وأما القرب المعنوي فهو ثابت له -
صلى الله عليه وسلم - وغيره من الأنبياء والأولياء والصديقين والشهداء، ولا شك أنه
صلى الله عليه وسلم
أقرب إلى الله من الكل بهذا المعنى. وإذا علمت ذلك علمت أن النفي المتسلط على أفعل التفضيل في عبارته هو
541
للقيد والمقيد جميعا لا للقيد وحده جريا على القاعدة أن النفي إذا دخل على مقيد نفى القيد وبقي أصل الفعل.
542
واعلم أن في هذا الحديث إشكالا من حديث المعنى وهو أنه
صلى الله عليه وسلم
قد أخبر بأنه أفضل الأنبياء كما يشير
543
إليه قوله
صلى الله عليه وسلم : أنا سيد ولد آدم ولا فخر، فانعقد
544
الإجماع على ذلك، بل لم يتوقف من قال بأفضلية رسل الملائكة على رسل البشر في أنه
545
صلى الله عليه وسلم
أفضل
546
من الملائكة. وإذا كان كذلك فلا معنى لنهيه
صلى الله عليه وسلم
عن ذلك والجواب عن ذلك بأوجه منها: ما ذكره إمام الحرمين وحاصله
547
أن التفضيل المنهي عنه ليس هو التفضيل المشار إليه في الحديث والمجمع عليه وهو التفضيل بكثرة الثواب وكثرة المزايا. ومنها أنه
صلى الله عليه وسلم
قال ذلك قبل إعلام الله له بأنه الأفضل، ومنها أن المنهي عنه هو التفضيل المؤدي إلى نقص في المفضل عليه، ومنها أنه لما قال ذلك
صلى الله عليه وسلم
تواضعا وأدبا مع ربه.
الثانية:
روى الحاكم في مستدركه عن الأصم عن الربيع عن الشافعي - رحمه الله - عن يحيى بن سليم عن بن جريج عن عكرمة قال: دخلت على ابن عباس - رضي الله عنهما - وهو يقرأ في المصحف قبل أن يذهب بصره وهو يبكي، فقلت: ما يبكيك جعلني الله فداك؟ قال: تعرف أيله؟ قلت: وما أيله؟ قال قرية كان فيها ناس من اليهود فحرم الله عليهم صيد الحيتان يوم السبت فكانت الحيتان تأتيهم في سبتهم شرعا بيضاء سمانا كأمثال المخاض
548
فإذا كانت غير يوم السبت لا يجدونها ولا يدركونها إلا بمشقة ومؤنة، ثم إن رجلا منهم أخذ حوتا يوم السبت فربطه إلى وتد في الساحل وتركه في الماء حتى إذا كان الغداء أخذه فأكله فعل ذلك أهل بيت منهم فأخذوا وشووا، فوجدوا جيرانهم ريح الشواء ففعلوا كفعلهم وكثر ذلك فيهم، فافترقوا؛ فرقة أكلت، وفرقة نهت، وفرقة قالت لم تعظون قوما ... الآية، فقالت الفرقة التي نهت: إنا نحذركم غضب الله وعقابه أن يصيبكم بخسف أو قذف أو بعض ما عنده من العذاب، والله ما نساكنكم في مكان أنتم فيه، وخرجوا من السور ثم غدوا عليه من الغد فضربوا باب السور فلم يجبهم
549
أحد فتسور منهم إنسان السور فقال: قردة والله لها أذناب تتعاوى، ثم نزل وفتح الباب ودخل الناس عليهم فعرفت القردة أنسابها ولم تعرف الإنس أنسابها من القردة، قال فيأتي القرد إلى نسيبه وقريبه فيحتك به ويلتصق فيقول الإنسي أنت فلان فيشير برأسه أن نعم ويبكي. وتأتي القردة إلى نسيبها وقريبها الإنسي فيقول أنت فلانة فتشير برأسها أن نعم وتبكي. قال ابن عباس: فاسمع الله يقول
فأنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون
550
فلا أدري ما فعلت الفرقة الثالثة فكم رأينا منكرا فلم ننه عنه. قال عكرمة فقلت: فما ترى - جعلني الله فداك - أنهم قد أنكروا وكرهوا حين قالوا لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا؟ فأعجبه قولي ذلك وأمر لي ببردين غليظين فكسانيهما، ثم قال هذا صحيح الإسناد.
قال في حياة الحيوان في سبب إتيانهم يوم السبت وعدم إتيانهم في غيره، وهذا أمر يمكن أن يقع من الحوت بإرسال من الله كما يرسل السحاب أو الوحي وإلهام كالوحي إلى النحل أو بإشعار في ذلك اليوم نحو ما يشعر الله الدواب يوم الجمعة بأمر الساعة بحسب ما يقتضيه قول رسول الله -
صلى الله عليه وسلم : ما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة فرقا من قيام الساعة. ويحتمل أن يكون ذلك من الحوت شعورا بالسلامة في ذلك اليوم، على نحو شعور حمام الحرم بالسلامة. قال أصحاب القصص: كان الحوت يقرب ويكثر حتى يمكن أخذه باليد فإذا كان ليلة الأحد غاب بجملته وقيل يغيب أكثره ولم يبق منه إلا القليل.
الثالثة:
عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول: من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضى لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء ، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم؛ فمن أخذه أخذ بحظ وافر.
551
قال أبو أمامة الباهلي: ذكر لرسول الله
صلى الله عليه وسلم
رجلان أحدهما عابد والآخر عالم فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم. ثم قال رسول الله -
صلى الله عليه وسلم
552 - إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلم
553
الناس الخير.
قال الطيبي: وضع الأجنحة يمكن أن يكون حقيقة وإن لم يشاهد، أي تكف أجنحتها عن الطيران وتنزل لسماع الذكر، كما ورد ونزلت عليهم السكينة وحفت بهم الملائكة. وأن يكون مجازا عن التواضع كقوله تعالى
واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين
554
وقيل معناه المعونة وتيسير السعي له في طلب العلم، وقوله وإن العالم أثبت لهم العلم وجعلهم معلمين بعد أن كانوا طالبين متعلمين ترقيا، ووصفهم بما هو أعلى مما وصفهم أولا، حيث جعل الموجودات من الملائكة والثقلين وغيرهم حتى الحيتان في البحر مستغفرين لهم طالبين لتحليتهم مما لا ينبغي ولا يليق بهم من الأدناس والأوضار؛
555
لأن بركة علمهم
556
وعملهم وإرشادهم وبقائهم سبب لرحمة العالمين، وذكر الحيتان بعد ذكر الملائكة والثقلين تتميما لاستيعاب جميع أنواع الحيوان.
وأما تخصيص الحيتان بالذكر فللدلالة على إنزال المطر وحصول الخير والخصب ببركتهم كما قال بهم يمطرون وبهم يرزقون، حتى الحيتان التي لا تفتقر إلى الماء افتقار غيرها لكونها في جوف الماء تعيش أيضا ببركتهم.
وقوله
صلى الله عليه وسلم
في الحديث الثاني كفضلي على أدناكم، هذا التفضيل موافق للحديث السابق من حيث المبالغة وما به التفضيل، فإن المخاطبين بقوله أدناكم هم الصحابة رضي الله عنهم، وقد شبهوا بالنجوم لقوله
صلى الله عليه وسلم
أصحابي كالنجوم الحديث، وشبه صلوات الله وسلامه عليه بالقمر ليلة البدر.
والمبالغة التي يعطيها أدناكم في الحديث الثاني يقرب منها قوله - صلوات الله عليه - على سائر الكواكب ؛ لأن فضل القمر على الكواكب أجمع يستلزم ذلك التفاوت العظيم بين البدر وبين كوكب هو أدنى الكواكب في الضوء كالسها،
557
وهذا التشبيه ينبهك على أن لا بد للعالم من العبادة والعابد من العلم؛ لأن تشبيههما برسول الله
صلى الله عليه وسلم
والصحابة يستدعي المشاركة فيما فضلوا به من العلم والعمل وعلة التفاوت بالفضل بين العالم والعابد أن نفع العابد مقصور على نفسه، ونفع العالم متجاوز إلى الخلائق حتى النملة، وذكر النملة وتخصيصها مشعر بأن صلاتها بحصول البركة النازلة من السماء فإن دأب النملة القنية وادخار القوت في جحرها ثم التدرج منها إلى الحيتان فإعادة
558
كلمة الغاية للترقي
559
كما مر في الحديث السابق انتهى مختصرا.
الرابعة:
من أنواع الحوت حوت الحيض
560
قال في حياة الحيوان نقلا عن ابن زهر عمن رآه أنه دابة عظيمة في البحر يمنع المراكب الكبار من السير فإذا أشرف
561
أهل السفينة على العطب رموا بخرق الحيض معدة لذلك؛ فيهرب ولا يقربهم. ومن عجيب أمر هذا الحيوان أنه لا يقرب مركبا فيه امرأة حائض. قال الدميري وحكمه كعموم السمك، أي الحل، وإذا سعط
562
المصروع بوزن حبة من مرارته أبرأه من الصرع، وكبده إذا جففت وسحقت وذر منها على الدم السائل قطعه، أو على الجرح أكمه
563
وأبرأه. ووسط لحم ظهره إذا أخذت من قطعة ولاكها إنسان هيجت الباه وأنعظ. ومن أنواعه حوت موسى ويوشع عليهما السلام. قال الدميري نقلا عن أبي حامد الأندلسي: رأيت سمكة بقرب مدينة سبتة من نسل الحوت الذي أكل منه موسى وفتاه فأحيا الله نصفه فاتخذ سبيله في البحر سربا، ونسلها في البحر إلى الآن في ذلك الموضع وهي سمكة طولها أكثر من ذراع وعرضها شبر وفي أحد جنبيها شوك وعظام وجلد رقيق على أحشائها وعينها، رأسها نصف رأس، من رآها من هذا الجانب استقذرها ويحسب مأكولة ميتة، ونصفها الآخر صحيح والناس يتبركون بها ويهدونها إلى الأماكن البعيدة.
الخامسة:
كان بالإسكندرية صنم يقال له شراحيل على خسفة من خسف مستقبلا بإصبع من أصابع يديه القسطنطينية تصاد عنده الحيتان وكانت تدور حوله وحول
564
الإسكندرية فكسروه وعملوه فلوسا فانطلقت الحيتان ولم ترجع إلى ذلك المكان.
السادسة:
نقل صاحب محاضرات الأوائل عن الشيخ الأكبر قدس سره في الفتوحات أن جبل قاف قد أحاطت به حية عظيمة اجتمع رأسها بذنبها وكانت ترسل سلامها إلى أبي مدين وغيره من أهل طريق الله.
السابعة:
قال الدميري: تطلق الحية على الذكر والأنثى، وإدخال الهاء عليها لأنها واحد من جنس كبطة ودجاجة، على أنه قد روي عن بعض العرب رأيت حيا على حية أي ذكرا على أنثى، وذكر ابن خالويه لها
565
مائة اسم. ونقل السهيلي عن المسعودي أن الله تعالى لما أهبط الحية إلى الأرض أنزلها بسجستان فهي أكثر
566
الأرض حيات، ولولا العربد
567
يأكل ويفني كثيرا منها لخلت من أهلها لكثرة الحيات. وقال كعب الأحبار أهبط الله الحية بأصبهان، وإبليس بجدة وحواء بعرفة وآدم بجبل سرنديب وهو بأعلى الصين في بحر الهند. قال الجمهور في قوله تعالى
اهبطوا بعضكم لبعض عدو
568
الخطاب لآدم وحواء والحية وإبليس. روى قتادة عن النبي
صلى الله عليه وسلم
قال: ما سالمناهن منذ عاديناهن. قال ابن عمر: ومن تركهن فليس منا. وقالت عائشة من ترك حية خشية من ثأرها فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. وفي مسند الإمام عن بن مسعود أن النبي
صلى الله عليه وسلم
قال: من قتل حية فكأنما قتل رجلا مشركا، ومن ترك حية مخافة عاقبتها فليس منا انتهى مختصرا.
الثامنة:
قتل الحية والعقرب في الصلاة مباح غير مكروه قال في طرفة الهندي إلى تحفة المبتدي لشيخنا العلامة خاتمة الفقهاء في الديار الشرقية الشيخ إبراهيم بن حسن الإحسائي - تغمده الله برحمته - لأنه أمر بقتلهما فيما روي من قوله
صلى الله عليه وسلم
اقتلوا الأسودين في الصلاة: الحية والعقرب. فإطلاق الحديث يدل على إباحة قتل الحيات كلها الجنية وهي البيضاء التي تمشي مستوية، وغير الجنية وهي السوداء التي تمشي طولا، وقيل لا تقتل الحية الجنية لقوله - عليه الصلاة والسلام: اقتلوا ذا الطفيتين والأبتر وإياكم والحية البيضاء فإنها من الجن. وفي القاموس الطفية بالضم خوصة المقل وحية خبيثة على ظهرها خيطان كالطفيتين أي الخوصتين.
569
وقال الطحاوي: لا بأس بقتل الكل؛ لأنه
صلى الله عليه وسلم
عاهد الجن أن لا يدخلوا بيوت أمته ولا يظهروا أنفسهم، فإذا خالفوا فقد نقضوا عهدهم فلا حرمة لهم. قال ابن الهمام: وقد حصل في عهده - عليه الصلاة والسلام - وفيمن بعده الضرر بقتل بعض الحيات من الجن، والحق أن الكل ثابت، ومع ذلك فالأولى الإمساك عن ما فيه علامة للجان لا للحرمة بل لدفع الضرر المتوهم من جهتهم. وقيل تذرها فيقول خلي طريق المسلمين أو ارجعي بإذن الله تعالى، فإن أبت اقتلها وهذا في غير الصلاة انتهى.
يعني وأما في الصلاة فإنه يباح القتل ولا يكره إذا مشتا أو أحدهما بين يدي المصلي وخاف
570
أذاهما فيقتلهما ولو كان قتلهما بضربات؛ لأنه رخص للمصلي في ذلك كالمشي بعد الحدث والاستقاء من البئر والتوضؤ وهذا اختيار النسفي وشمس الأئمة السرخسي. وفي المبسوط إلا ظهر أنه لا تفصيل فيه. وفي الخلاصة إذا
571
أخذ المقتدي النعل بيده ومشى إليها ليقتلها لم تفسد صلاته، وإن صار قدام الإمام، وقيل إنما يباح إذا تمكن من قتلهما بفعل يسير كالضربة، وأما إذا احتاج إلى المعالجة والمشي تفسد وإن علم المصلي الأذى منهما فقتلهما بالصلاة مكروه، ذكره في الخلاصة الكافي انتهى.
قال في حياة الحيوان اختلف العلماء في الإنذار هل هو ثلاثة أيام أو ثلاث مرات، والأول عليه الجمهور وكيفية ذلك أن يقول أنشدكن بالعهد الذي أخذه عليكن نوح وسليمان عليهما السلام أن لا تبدوا لنا ولا تؤذوننا. وفي أسد الغابة عن عبد الرحمن بن أبي ليلة أنه قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إذا ظهرت الحية في المسكن فقولوا لها إنا نسألك بعهد نوح -
صلى الله عليه وسلم - وبعهد سليمان بن داود - عليهما السلام - لا تؤذينا فإن عادت فاقتلوها انتهى.
التاسعة:
من الحيات الأزعر
572
وهو غالب فيها، ومنها ما هو أرب ذو شعر، ومنها ذات القرون. وأرسطو ينكر ذلك، ومنها ذو الطفيتين والأبتر. وفي الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر وعائشة أن النبي
صلى الله عليه وسلم
قال: اقتلوا الحيات ذوي
573
الطفيتين والأبتر فإنهما يسقطان الحبل ويلتمسان البصر. قال النووي: قال العلماء: الطفيتان الخطان الأبيضان على ظهر الحية، والأبتر قصير الذنب، وقال النضر
574
بن شميل هو صنف من الحيات أزرق مقطوع الذنب لا تنظر إليه حامل إلا ألقت ما
575
في بطنها غالبا. وذكر مسلم في روايته
576
عن الزهري
577
أنه يقال يرى ذلك من سمها. وأما يلتمسان البصر ففيه تأويلان أصحهما أنهما يخطفانه ويطمسانه بمجرد نظرهما إليه لخاصية جعلها الله في بصرهما
578
إذا وقع على بصر الإنسان، ويؤيد
579
هذا أن في رواية مسلم يخطفان البصر والثاني أنهما يقصدان البصر باللسع والنهش.
ومنها العربد وهو حية عظيمة تأكل الحيات ذكره الدميري. ومنها الشجاع وهو حية عظيمة تواثب الفارس والرجل وتقوم على ذنبها وربما تلسع رأس الفارس وتكون في الصحاري. ومنها نوع يسمى الناظر متى وقع نظره على إنسان مات من ساعته. ونوع آخر إذا سمع الإنسان صوته مات. ومنها الأصلة وهو عظيم جدا له وجه كوجه الإنسان، ويقال إنه يصير كذلك إذا مرت عليه ألوف من السنين ومن خاصيته هذا أن يقتل بالنظر أيضا.
ومنها الصل وتسمى الملكة وهي شديدة الفساد تحرق كل ما مرت عليه ولا ينبت حول جحرها شيء من الزرع أصلا، وإذا حاذى مسكنها طائر سقط ولا يمر حيوان بقربها إلا هلك، وتقتل بصفيرها على غلوة سهم،
580
ومن وقع عليه بصرها ولو من بعد مات، ومن نهشته مات في الحال وضربها فارس برمحه فمات هو وفرسه وهي كثيره ببلاد الترك.
العاشرة:
قال في حياة الحيوان من عجيب أمر الحية أنها إذا ابتلعت شيئا له عظم أتت شجرة أو نحوها فتلتوي عليه التواء شديدا حتى ينكسر ذلك في جوفها، ومن عادتها أنها إذا نهشت انقلبت فيتوهم بعض الناس أنها فعلت ذلك لتفرغ سمها وليس كذلك. ومن غريب أمرها أنها إذا لم تجد طعاما تعيش
581
بالنسيم وتقتات به الزمن الطويل وتبلغ الجهد من الجوع ولا تأكل إلا لحم الشيء الحي، وإذا كبرت صغر جرمها واقتنعت بالنسيم ولم تشته الطعام. وبين عجيب أمرها أنها لا ترد الماء ولا تريده، إلا أنها لا تملك نفسها عن الشراب إذا شمته لما
582
في طبعها من الشوق إليه، فهي إذا وجدته شربت منه حتى تسكر، وربما كان سكرها سبب هلاكها. والذكر لا يقيم بموضع واحد وإنما تقيم الأنثى على بيضها حتى تخرج أفراخها وتقوى على الكسب، ثم تخرج هي سائرة فإذا وجدت حجرا انسابت فيه. وعينها لا تدور في رأسها بل كأنها مسمار مضروب في رأسها، وكذلك عين الجراد، وإذا قلعت عادت، وكذلك نابها إذا قلع عاد بعد ثلاثة أيام، وكذلك ذنبها إذا قطع نبت.
ومن عجيب أمرها أنها تهرب من الرجل العريان وتفرح بالنار وتطلعها وتتعجب من أمرها وتحب اللبن حبا شديدا، وإذا ضربت بسوط مسه عرق الخيل ماتت وتذبح فتبقى أياما لا تموت،
583
وتقدم
584
أنها إذا عميت أو خرجت من تحت لا تبصر طلبت الرازيانج الأخضر
585
فتحك به بصرها فتبرأ.
وليس شيء في الأرض مثل الحية إلا وجسم الحية أقوى منه؛ ولذلك إذا أدخلت صدرها في جحر أو صدع لم يستطع أقوى الناس إخراجها منه، وربما تقطعت ولا تخرج وليس لها قوائم ولا أظفار تنشب بها وإنما قوى ظهرها هذه القوة بسبب كثرة أضلاعها فإن لها ثلاثين ضلعا، وإذا مشت على بطنها فيتدافع أجزاؤها وتسعى بذلك الدفع الشديد، وتعيش في البحر بعد أن كانت برية وفي البر بعد إن كانت بحرية انتهى.
الحادية عشرة:
الدابة ما دب من الحيوان كله وأخرج بعض منها الطير لقوله تعالى
وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه
586
ورد بقوله تعالى
وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها
587
كذا في حياة
588
الحيوان.
589
أقول وجه الاستدلال بالآية الأولى هو أن الله تعالى عطف الطير على الدابة، والعطف يقتضي المغايرة والرد بالآية
590
الثانية لا يستقيم إذ لا يلزم من كون جميع دواب
591
الأرض رزقها على الله أن تكون الطير دابة؛ فالرد أن يقال إن الاشتقاق يقتضي بعمومه دخول الطير فلا يخرج إلا بدليل والعطف لا يصلح أن يكون دليلا لجواز أن يكون من عطف الخاص على العام ومتى لم يسلم الدليل من الاحتمال لا يصلح للاستدلال.
الثانية عشرة:
أخرج أبو داود والترمذي والنسائي بأسانيد صحيحة عن أبي هريرة أن النبي
صلى الله عليه وسلم
قال: ما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة خشية
592
أن تقوم الساعة. ويروى
593
مسيخة بالسين ومعناهما منصتة مستمعة.
الثالثة عشرة:
خلقت الدواب يوم الخميس لما في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: أخذ النبي
صلى الله عليه وسلم
بيدي وقال: خلق الله التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة في آخر ساعة من ساعات فيما بين العصر إلى المغرب.
قلت: وما استدل به السبكي على خلق ذكور الخيل قبل إناثها من شرف الذكر على الأنثى
594
وحرارته، وإن عادت القدرة الإلهية إذا كان اثنان من جنس واحد، من مزاج واحد، وأحدهما أكثر حرارة من الآخر أن تكون أقواهما حرارة.
595
قيل يقتضي تقدم الذكر على الأنثى من جميع الدواب.
الرابعة عشرة:
روى ابن السني عن عبد الله بن مسعود عن النبي
صلى الله عليه وسلم
قال: إذا انفلتت دابة أحدكم بأرض فلاة فليناد يا عباد الله احبسوا فإن الله عز وجل حاضرا سيحبسه.
الخامسة عشرة:
قال بعض التابعين: ليس رجل يكون على دابة صعبة فيقول في أذنها
أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون
596
إلا وقفت. وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - من ساء خلقه من الرقيق والدواب والصبيان فأقرءوا في أذنه
أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون .
597
السادسة عشرة:
عن أبي الدرداء أن النبي
صلى الله عليه وسلم
قال: من قال إذا ركب دابة: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء، سبحانه ليس له سمي، سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون، والحمد لله رب العالمين
598
وصلى الله على سيدنا محمد عليه السلام. قالت الدابة: بارك الله عليك من مؤمن خففت على ظهري، وأطعت ربك، وأحسنت إلى نفسك، بارك الله لك في سفرك وأنجح حاجتك.
السابعة عشرة:
لا يجوز لعن الدابة كغيرها، وعن عمرو
599
بن قيس الملامي أنه قال: إذا ركب الرجل قالت: اللهم اجعله بي رفيقا رحيما، فإذا لعنها قالت: على أعصانا لله لعنة الله.
600
الثامنة عشرة:
روى ابن عمر - رضي الله عنهما
601 - قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم
اضربوا الدواب على النفار ولا تضربوها على العثار.
التاسعة عشرة:
يجوز الإرداف على الدابة إذا كانت تطيقه، ولا يجوز إذا لم تطقه،
602
وإذا وقع الإرداف فصاحب الدابة أولى بصدرها ويكون الرديف وراءه إلا أن يرضى صاحبها بتقديمه بجلاله وقدره أو غير
603
ذلك. وقد صح أنه
صلى الله عليه وسلم
أردف جماعة منهم معاذ على الرحل وأردفه على حمار يسمى عفير. وفي حياة الحيوان عن الحافظ بن منده أن الذين أردفهم النبي -
صلى الله عليه وسلم
ثلاثة وثلاثون نفسا. وروى الطبراني عن جابر أن النبي نهى أن يركب ثلاثة على دابة.
العشرون:
دابة الأرض التي ذكرها الله تعالى في سورة سبأ [هي] الأرضة وقيل سوسة الخشب، قال تعالى
فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته ،
604
والسبب في ذلك أن سليمان عليه السلام كان قد أمر الجن ببناء صرح فبنوه له ودخله مخبتئا ليصفو له يوم واحد من الدهر عن الكدر فدخل عليه شاب فقال: كيف دخلت من غير استئذان؟ فقال له: إنما دخلت بإذن، قال: ومن أذن لك؟ قال: رب هذا الصرح، فعلم سليمان أنه ملك الموت أتى ليقبض روحه، فقال: سبحان الله هذا اليوم الذي طلبت فيه الصفاء. قال : طلبت ما لم يخلق فاستوثق من الاتكاء
605
على العصا؛ لأنه كان بقي من تمام
606
بناء المسجد عمل سنة، فسأل الله تمامها على يد الإنس والجن؛ فمات وهو متكئ عليها. وكانت الشياطين تجتمع حول محرابه فلا ينظر إليه أحد
607
إلا احتراق، ولما مات كان عمره ثلاثة وخمسين سنة.
والمنسأة
608
العصا وكانت
609
من الخروب.
610
عن ابن عباس أن النبي
صلى الله عليه وسلم
قال: كان نبي الله سليمان إذا قام في مصلاه رأى شجرة نابتة بين يديه فيقول: اسمك؟ فتقول: كذا، فيقول: لأي شيء أنت؟ فتقول: لكذا وكذا، فإن كانت لدواء كتبت وإن كانت لغرس غرست، فبينما هو يصلي يوما إذ رأى شجرة فقال: ما اسمك؟ قالت: الخروب
611
فقال: لأي شيء أنت؟ قالت: لخراب هذا البيت. قال سليمان: اللهم عم عن الجن موتي؛ حتى تعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب. قال: فنحتها عصا وتوكأ عليها، فأكلتها الأرضة فسقط فوجدوه حولا، فتبينت الإنس أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا حولا في العذاب المهين. وكان ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - يقرأها فشكرت الجن الأرضة، فكانت تأتيها بالماء حيث كانت. كذا في حياة الحيوان.
الحادية والعشرون:
قال ابن عمر - رضي الله عنه - في قوله تعالى
وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم
612
قال: إذا لم يأمروا بالمعروف ولم ينهوا عن المنكر. قيل إنها دابة طولها ستون ذراعا ذات قوائم ووبر، وقيل هي مختلفة الخلقة تشبه عدة من الحيوانات يتصدع جبل الصفا فتخرج من ليلة جمعة والناس سائرون إلى منى، وقيل من الحجر، وقيل من أرض الطائف ومعها عصا وخاتم سليمان - عليه السلام، لا يدركها
613
طالب ولا يعجزها هارب، تضرب المؤمن بالعصا وتكتب في وجهه مؤمن، وتطبع الكافر بالخاتم وتكتب في وجهه كافر. (4-26) غريبة
في تاريخ ابن خلكان في ترجمة عماد الدولة أبي الحسن على بن بويه وكان أبوه صيادا ليست له معيشة إلا صيد السمك، وكان له ثلاثة أولاد عماد الدولة أكبرهم ثم ركن الدولة الحسن، ثم مغر الدولة. والجميع ملكوا وكان عماد الدولة سبب سعادتهم وانتشار صيتهم، ملكوا العراقين والأهواز وفارس، وساسوا أمر الرعية أحسن سياسة، ومن عجيب ما اتفق لعماد الدولة أنه لما ملك شيراز في أول ملكه اجتمع أصحابه وطالبوه بالأموال، ولم يكن عنده ما يرضيهم به وأشرف أمره على الانحلال فاغتم لذلك، فبينما هو مفكر قد استلقى على ظهره في مجلس قد خلا فيه للفكر والتدبير رأى حية خرجت من موضع من سقف ذلك المجلس ودخلت موضعا آخر منه، فخاف أن تسقط عليه فدعا الفراشين وأمرهم بنصب سلم وأن يخرجوا الحية، فلما صعدوا ونبشوا عنها وجدوا ذلك السقف يفضي إلى غرفة بين سقفين فعرفوه بذلك، فأمرهم بفتحها ففتحت فإذا فيها صناديق فيها خمسمائة ألف دينار فحمد ذلك الذي بين يديه فقسمه على رجاله، وثبت أمره بعد أن كان قد أشفى على الانخرام،
614
ثم إنه جهز ثيابا وسأل عن خياط حاذق فوصف له خياط كان لصاحب البلد قبله، فأمر بإحضاره وكان أطروشا
615
فوقع في نفسه أنه سعى به إليه في وديعة كانت لصاحبه وأنه طلبه لهذا السبب فلما خاطبة حلف
616
أنه لم يكن عنده سوى اثني عشر صندوقا لا يدري ما فيها، فتعجب عماد الدولة من جوابه ووجه معه من حملها فوجد فيها
617
أموالا وثيابا بجملة عظيمة، وكانت هذه الأسباب من أقوى دلائل سعادته. (4-27) أعجوبة
أخبرني بعض من أثق به أن طائفة من الناس في الدورق يقال لهم كولكيان إذا عضت الحية أحدهم ماتت من وقتها حتى إن بعضهم حصلت له ريبة من حمل زوجته لتهمة اتهمها بعض الأعداء مع رجل من غير قبيلة فانتظرها حتى وضعت حملها واصطاد حية ووضعها مع الطفل فلما نهشته ماتت فتحقق براءتها لذلك من ذلك. (4-28) تكملة
ذكر في كتاب عجائب المخلوقات أن الريحان الفارسي لم يكن قبل كسرى أنوشروان وإنما وجد في زمانه، وسببه أنه كان ذات يوم جالسا للمظالم إذ أقبلت حية عظيمة تنساب تحت سريره فهموا لقتلها فقال كسرى: كفوا عنها؛ فإني أظنها مظلومة، فمرت تنساب حتى استدارت على فوهة بئر فنزلت فيها، ثم أقبلت تتطلع فإذا في قعر البئر حية مقتولة وعلى متنها عقرب أسود فأدلى بعض الأساورة رمحه إلى العقرب ونخسه به، وأتى الملك يخبره بحال الحية، فلما كان في العام القابل أتت الحية في اليوم الذي كان كسرى جالسا فيه للمظالم وجعلت تنساب حتى وقفت ونفضت من فيها بزرا أسود فأمر الملك أن يزرع فنبت منه الريحان، وكان الملك كثير الزكام وأوجاع الدماغ
618
فاستعمل منه فنفعه جدا.
ايفاض
619
قال الدميري روى أحمد والبيهقي في الشعب عن ابن سيرين قال: خرجت دابة تقتل الناس، فمن دنا منها قتلته فجاء رجل أعور فقال: دعوني وإياها فدنا منها فوضعت رأسها له حتى قتلها. فقالوا: حدثنا من أمرك؟ قال: ما أصبت ذنبا قط إلا ذنبا واحدا بعيني هذه فأخذت سهما
620
ففقأتها به. فقال الإمام أحمد: لعل هذا في بني إسرائيل أو في شريعة من كان قبلنا، فأما في شريعتنا فلا يجوز فقء العين التي ينظر بها إلى ما لا يحل، لكن يستغفر الله تعالى من ذلك ولا يعود إليه.
قلت تركه للذنب وفقؤه لعينه عند ارتكابه يدل على شدة خوفه من الله وعدم مبالاته بالناس فهذا يخاف الله وحده، ومن خاف الله وحده، خافه كل شيء فلا جرم أن سلط هيبته على هذه الدابة فوضعت رأسها له حتى قتلها. روي عن عبد الله بن عمر أنه خرج في بعض أسفاره، فبينما هو يسير إذا هو بقوم وقوف، فقال: ما لهؤلاء؟ قالوا: أسد على الطريق وقد أخافهم؛ فنزل عن دابته ثم مشى إليه حتى إذا أخذ بأذنه ونحاه عن الطريق. قال: ما كذب عليك رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - إنما سلطت على ابن آدم من مخافة غير الله ولو أن ابن آدم لم يخف الله لم تسلط عليه ولو لم يرج إلا الله لما وكله إلى غيره. ثم كلام الإمام أحمد - رضي الله عنه - لمجرد
621
بيان هذا الحكم أو تصحيحا لقوله ما أصبت ذنبا قط إلا ذنبا واحدا بعيني لا استبعادا أن يكرمه من الله تعالى بمثل هذه
622
الكرامة مع الجهل المؤدي إلى فقء العين المحرم بارتكابه الذنب للخوف من الله تعالى؛ إذ لا بعد فيه وكرم الله أوسع من ذلك، ولاحتمال أن يكون فعله في حالة دهش وغلبة خوف وشدة جزع ذهب بتفطنه وتعقله
623
لما يفعله، فإن هذه الحالة ملحقة بحالة الغفلة والنسيان فلا يؤاخذ بما يفعله فيها، كما لم يؤاخذ الرجل الذي أسرف على نفسه، فلما حضره الموت أوصى بنيه إذا مات فحرقوه
624
ثم أذروا نصفه في البر ونصفه في البحر فوالله لئن قدر الله ليعذبه عذابا لا يعذبه أحدا من العالمين. فلما مات فعلوا ما أمرهم فأمر الله البحر فجمع ما فيه وأمر البر فجمع ما فيه، ثم قال: لم فعلت هذا؟ قال: من خشيتك يا رب وأنت أعلم، فغفر له، كما جاء في الحديث.
لأنه إنما أوصى بذلك بنيه، وقال لئن قدر الله علي، الذي هو شك في قدرة الله على إعادته بعد صنيعهم به ذلك كما هو المتبادر من اللفظ وفحوى الخطاب. ويدل عليه رواية فلعلي أضل الله أي أغيب عنه في حالة غلب عليه الدهش فيها والخوف وشديد الجزع بحيث ذهب بتفطنه وتدبره لما يقوله ويأمر به فكان في معنى الغافل والناسي فلم يؤاخذ بذلك.
ومثل هذا الرجل الذي انفلتت راحلته في فلاة فأيس منها فلما وجدها قال من شدة: الفرح اللهم أنت عبدي وأنا ربك، كما جاء في حديث مسلم، ولفظه: لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها فأتى
625
شجرة فاضطجع في ظلها قد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك. أخطأ من شدة الفرح فإنه لم يكفر ولم يؤاخذ بذلك للدهشة والغلبة من شدة الفرح الذي ذهب بتدبره وتفطنه لما يقوله. (4-29) القول السادس
قيل إن سمكة في البحر تتنفس وتجذب نفسها
626
إلى جوفها في اليوم والليلة مرتين، فإذا أخرجته إلى خارج حصل المد وإذا أدخلته حصل الجزر، وهذا القول أيضا لم أقف عليه وإنما أخبرني به بعض طلبة العلم ممن له تولع بالأخبار العجيبة والحكايات الغريبة، وهو كالذي قبله لا يرده العقل ولا يأباه قاطع النقل، وقدرته تعالى صالحة للتعليق بكل ممكن، ومن الجائز أن يخلق الله سمكة عظيمة إذا تنفست فار البحر وفاض وإذا جذبت النفس نقص وغاص، بل من الجائز أن يجعل هذه القوة في أصغر الحيوان وإذا نظر في نفسه الإنسان لم يستغرب ما يكون وما كان.
حكي أن اللعين إبليس جاء متدلسا إلى نبي الله إدريس فقال: هل يقدر ربك أن يجعل الدنيا في قشر هذه البيضة، وكان، إذ جاءه اللعين
627
الطريد عن الرحمة الخاصة وساحة الكرام، بيده إبرة يخيط بها عليه السلام، فقال: إن الله قادر على أن يجعل الدنيا في سم هذه الإبرة وفقأ عينه بالإبرة. ومعناه كما قاله علماء الكلام إن الله قادر على أن يصغر الدنيا ويجعلها في قشر البيضة، أو أن يكبر قشر البيضة
628
ويمده حتى يجعله يسع الدنيا وهي على هذه الحالة ، لا أنه تعالى يجعل الدنيا في البيضة، وكل على حاله؛ لأن إدخال الكبير في الصغير باقيين على حالهما محال، وقدرته تعالى لا يعلقها
629
بمحال حفظا للأحكام العقلية؛ إذ لو علق قدرته بغير الممكن لم يبق الواجب واجبا ولا المستحيل مستحيلا؛ ولأن في تعليقها بهما لزوم النقص وهو جواز إعدام ذاته تعالى وصفاته وإثبات الشريك له إلى غير ذلك من النقائص، لا يقال إن تكبير قشر البيضة وتوسعته بمقدار الدنيا محال، فإذا جوزتم ذلك فقد ذهبتم إلى ما عنه هربتم؛ لأنا نقول لا نسلم
630
أن ذلك محال
631
فإن المحال ما لم يجز في العقل وجوده والعقل إذا خلي ونفسه لم يمنع من جواز ذلك.
ذكر الشيخ الأكبر قدس سره في الباب الثامن من الفتوحات: أن الله تعالى لما خلق آدم فضلت من خميرة
632
طينته فضلة خلق منها النخلة فهي أخت لآدم عليه السلام، وهي لنا عمة وسماها الشارع عمة، وفضل من الطينة بعد خلق النخلة قدر السمسمة في الخفا فمد الله من تلك الفضلة أرضا واسعة الفضاء؛ إذا جعل العرش وما حواه والكرسي والسموات والأرضون وما تحت الثرى والجنات كلها والنار في هذه الأرض لكان الجميع فيها كحلقة ملقاة في فلاة من الأرض، وفيها من العجائب والغرائب ما لا يقدر قدره ويبهر العقول أمره، وفي كل نفس خلق الله فيها عوالم يسبحون الليل والنهار ولا يفترون، وفي هذه الأرض ظهرت عظمة الله وعظمت عند المشاهد لها قدرته وكثير من المحالات العقلية التي قام
633
الدليل الصحيح العقلي على إحالتها هي موجودة في هذه الأرض وهي مسرح عيون العارفين العلماء بالله وفيها يحولون، وخلق الله من جملة عوالمها عالما على صورنا إذا أبصره
634
العارف يشاهد نفسه فيها، وذكر من عجائبها أن التفاحة فيها مقدار القبة إذا قبض عليها الرجل الذي يريد أكلها بهذه اليد المعهودة في القدر عمها بقبضته مع هذا العظم، وهذا مما يحيله العقول في نظرها، ولما شاهدها ذو النون المصري نطق بما حكي عنه من إيراد الكبير على الصغير من غير أن يصغر الكبير أو
635
يكبر الصغير أو يوسع الضيق أو يضيق الواسع؛ فالعظم في التفاحة على ما ذكرته باق والقبض عليها باليد الصغيرة والإحاطة بها موجودة والكيفية مشهودة مجهولة لا يعرفها إلا الله انتهى.
قال:
636
فقد بان لك أن تكبير ما هو مثل ذلك إلى أن يسع الدنيا بأسرها مما يجوز تعلق القدرة به، وأنه ليس بمحال وأن العقول إنما تحيله من حيث أفكارها، فإن قلت فقد صرح الشيخ قدس سره بتجويز ما منعتم من إدخال الكبير في
637
الصغير من غير تكبير ولا تصغير، حيث ذكر أن اليد تحيط بالتفاحة مع أنها في العظم مثل القبة وكل منهما على ما هي عليه، وقد
638
صرح ذو النون بذلك كما نقله عنه قدس سره،
639
فإما أن تجوزوا تعلق القدرة بالمحال أو تنفوا عن ذلك الإحالة.
قلت: لما صح النقل في وجود مثل ذلك وجب نفي الإحالة عنه؛ حفظا للقاعدة وصونا لتقصيم الحكم العقلي من الإبطال، وهربا من تجويز لحوق النقص
640 ،
641
به تعالى كتجويز إثبات الشريك واتخاذ الصاحبة والولد وغير ذلك مما لا يليق بجنابه الأقدس، فيقال:
642
إن العقل إنما يحيله تمسكا بالحس والعادة، أما لو خلي ونفسه فلا، فلذا يقوله
643
أولا ولا يصير إلى الإنكار إلا بعد النظر إلى الحس والعادة على أنه إذا أسنده إلى الله تعالى لا يداخله تردد ولا تشكيك في الجواز إلا لتقليد، ولو كان محالا لم يختلف في نسبته وفيه تأمل له، أو
644
أن تستثنى هذه الجزئية
645
من تلك الكلية وفيه نظر.
وقد سألت شيخنا - سلمه الله تعالى
646 - ولا زال في عافية شاملة عما ذكره الشيخ الأكبر قدس سره من حكاية التفاحة وقبض اليد عليها باقيين على حالهما من غير تكبير ولا تصغير، وقلت: إنها مصادمة لما ذكره علماء الكلام لكون ذلك محال، فأجابني بأن العقول إنما تحيل ذلك من حيث ما هي مفكرة، وأما من حيث هي قابلة فلا. والمراد بالممكن الذي تتعلق القدرة به ما لا يجب وجوده ولا عدمه، أو ما لا يمتنع وجوده ولا عدمه لذاته؛ إذ هو المتبادر عند
647
الإطلاق فدخل ما لم يتأت إيجاده من الممكنات، لكن لا بالنظر إلى ذاته بل بالنظر إلى غيره كممكن تعلق علم الله بعدم وقوعه كإيمان أبي لهب مثلا وهو أحد قولين في صحة تعلق القدرة الأزلية بالممتنع لتعلق العلم، وإن وفق حجة الإسلام بينهما بالنظر إلى إمكانه في ذاته وإلى تعلق العلم بعدم وقوعه احتج القائل بصحة التعلق بأنه لو انتفى تعلق القدرة لأجل تعلق العلم لعدم
648
الوقوع للزم ألا يكون للقدرة متعلق البتة،
649
والثاني باطل بالإجماع في المقدم بيان
650
الملازمة أن الممكن إما واجب الوقوع إن تعلق علم الله بوقوعه أو مستحيله، إن تعلق علمه بعدم وقوعه، فلو منعت الاستحالة العارضة من تعلق القدرة لمنع منه الوجوب العارض؛ إذ هما في المنع من تعلق القدرة سواء، ويؤيد المانع قولهم إن القدرة تابعة للإرادة والإرادة تابعة للعلم فلا توجد القدرة إلا ما تعلقت الإرادة بوجوده، ولا تتعلق الإرادة بوجود إلا ما تعلق العلم بوجوده، فما لم يتعلق العلم به لا تتعلق الإرادة به، وما لا يتعلق الإرادة به لا تتعلق القدرة به، وفي كل من الدليلين نظر، ويدخل في الممكنات التي تتعلق بها قدرة الله تعالى؛ الإعدام والتروك الممكنة ويخرج به الواجب والمستحيل؛ لأن القدرة صفة مؤثرة ومن لازم الأثر وجوده بعد عدم، فما لا يقبل العدم كالواجب لا يصح أن يكون أثرا لها أيضا، وإلا لزم تحصيل الحاصل، وما لا يقبل الوجود أصلا كالمستحيل لا يصح أن يكون أثرا لها أيضا، وإلا لزم قلب الحقيقة بصيرورة المستحيل جائزا، وكلاهما محال.
وبهذا
651
عرفت أن لا عجز ولا قصور في عدم تعلق القدرة الأزلية بالواجب والمستحيل؛ إذ ليسا من متعلقاتها،
652
بل لو تعلقت بهما للزم المحال؛ لأنه يلزم على هذا التقدير الفاسد أن يجوز تعلقها بإعدام نفسها، بل وبإعدام الذات العلية، وبإثبات الألوهية لمن لا يقبلها من الحوادث، وبسلبها عمن تجب له وهو مولانا عز وجل، وأي نقص وفساد أعظم من هذا، والعجب من خفاء هذا المعنى على بعض
653
المبتدعة حتى صرح بنقيض ذلك.
وعلى ابن حزم حتى قال: إنه تعالى قادر على أن يتخذ ولدا إذ لو لم يقدر عليه لكان عاجزا فانظر إلى اختلال هذا المبتدع كيف غفل عما يلزمه على هذه المقالة الشنيعة من اللوازم التي لا تدخل تحت وهم، وكيف فاته أن العجز إنما يكون لو كان القصور جائيا من ناحية القدرة وأما إذا كان لعدم متعلق القدرة فلا يتوهم عاقل أن هذا عجز. (4-30) تفسير
سئل بعض ممن يرى جواز تعلق القدرة بكل شيء من ممكن ومستحيل إلا ما دل العقل والنقل على عدم تعلقها به مما يوجب نقصا في الربوبية كاتخاذ الصاحبة والولد ونحوهما: هل يقدر الحق سبحانه أن يدخل الجمل في سم الخياط من غير تصغير ولا تكبير؟ فأجاب بأن الله على كل شيء قدير، قال
صلى الله عليه وسلم : إذا أراد الله خلق شيء لم يمنعه شيء. فلا يمنعه مانع عما أراد قدرته في الأشياء بلا مزاج، وفعله للأشياء بلا علاج، يفعل ما يشاء بلا تصغير ولا تكبير ولا سبب ولا آلة ولا ظهير. فإن قال قائل: دخول الكبير في الصغير مستحيل، قلنا إذا أسند الفعل إلى المخلوق فهو كما قيل، وإن أسند إلى القادر على كل شيء ولا يعجزه شيء
إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون .
654
ولا يقال إن كونه يفعل
655
هذا بلا تصغير ولا تكبير نقصا، بل هو كمال والاحتياج إلى السبب والوسائط في الأفعال من صفات المخلوقين، فلا تقس
656
قدرته بقدرتك ولا فعله بفعلك؛ إذ قدرته لا تكيف
657
ولا تمثل، وحد العقل إدراك آثار القدرة فلا يحيط العقل بإدراك ذاته
658
ولا صفاته، بل قدرته معلومة من حيث الوجود مجهولة من حيث الكيفية، كما يقال في الذات وهكذا سائر الصفات، كما يقال كنه الذات والصفات العقل محجوب على إدراكها؛ فليس لأحد أن يخوض في الكنه، فعلى هذا تعلق القدرة بالإدخال معلوم والكيف مجهول، ولا يلزم من ذلك محذور ولا فيه نقص ولا قصور بل كونه مستحيلا تعجيزا ونقصا واحتياجا إلى المهلة، ووجود مانع لهيئة إلى هيئة وتشبيها بأفعالنا.
659
والتصغير ينحصر في صورة تصغير بالتداخل وتصغير بالإعدام وتصغير بلا كيف؛ فالأول مستحيل، والثاني لا يفي بالمقصود لعدم صدقه على الكل، والثالث جائز والإدخال بلا كيف أولى منه للاحتياج إلى المهلة، والعلاج في
660
التصغير وعدم ذلك في الإدخال بالتصغير، انظر إلى ما فعل ولا تقل كيف فعل. والآية الشريفة إن ما يلج فيها هو الجمل الذي يمتنع في حقه الدخول وليس هو الحق سبحانه، فزالت الشبهة بهذا لمن ألقى السمع.
وأيضا كل شيء لفظ عام، واللفظ إذا عم فقصوره عن عمومه يحتاج إلى مخصص إما لفظي وإما عقلي؛ فاللفظي معدوم والعقل يخرج هنا الذات والصفات وسائر النقائض
661
قال البيضاوي: وأخرج العقل ذاته فليس عليها بقادر والضد والند والولد وشبهها منفي بالنقل والعقل، وانظر إلى جواب إدريس - عليه السلام - لإبليس حيث قال: يقدر، ولم يذكر سببا. وهذا على طريق السلف الصالح. قال الشيخ عبد الوهاب
662
الشعراوي: ومن علومهم أنه تعالى قادر بلا تصغير ولا تكبير. وقال
663
سيدي الشيخ أحمد زروق: قادر بلا سبب ولا آلة ولا واسطة. وقال سيدي شهاب الدين السهروردي: فعوالم قدرته غير محصورة، وغرائب مشيئته غير منكورة، وما نحن فيه من العالم بما نحن عليه من العقل والعلم عالم من عوالمه، لا تستبعد قولي لو شاء كوننا في غير مكان لكان فقد كون المكان لا في مكان؛ إذ لو كان في مكان لتسلسل فلا تحصر القدرة بعقلك إذ قوته أن تحصر الحكمة، فأما القدرة فلا يحصرها فحدث عن البحر ولا حرج، ومن هذا الأساس تمشت وتبينت الأمور الأخروية وعلمها من علمها وأنكرها من عجز عقله عن إدراكها انتهى.
وكتب في جوابه بعض الفضلاء. أما قوله بلا تصغير ولا تكبير ولا آلة إن كان في تعلق العلم فهذا لا تنكره ولا ينكره أحد من المتكلمين، وإن كان في تعلق القدرة فقد صدر منه زلة عظيمة لا يكفرها إلا التوبة وتجديد الإيمان؛ لأنه قد صدر منه ما هو منكر عند أهل الحقيقة وعند أهل الكلام.
وجوابنا أولا بعدم تكفيره جهل منا باعتقاده، وأما الآن فقد تحققنا اعتقاده؛ لأن اعتقاده في هذه الجزئية تدخل عليه جزئيات توجب تكفيره؛
664
لأنه إذا اعتقد أن هذا من قبيل المحال وقال تتعلق القدرة به فهذا القول يلزمه في الجزئيات المستحيلة في حق الربوبية من الشريك والولد والصاحبة، ويلزم من هذا تعلق القدرة بإعدام نفسها وإعدام جميع صفات الربوبية بل بإعدام الذات؛ لأن هذه الجزئية المتكلم فيها مثل هذه الجزيئات من باب لا فرق، وما يجوز على المثل يجوز على المماثل؛ لأنك مهما قلت تتعلق القدرة بالمحال يلزمك الإيجاد والإعدام.
665
لأن ملازم الحقائق لا ينفك عنها وأطال في الرد عليه وشنع، وأقول لقد أخطأ في تكفيره له كيف، وقد قال بمثل ما قاله جماعة من العارفين بالله كذي النون المصري وغيره، وأخبرنا
666
بالوقوع وقوله في التعليل؛ لأنه قد صدر منه ما هو منكر عند أهل الحقيقة، وأهل الكلام لا يصلح سندا لدعواه؛ إذ ليس صدور كل ما هو منكر عندهم يوجب تكفيرا، على أن دعوى إنكاره عند أهل الحقيقة باطلة، وقوله لأنه إذا اعتقد أن هذا من قبيل المحال، وقال بتعلق القدرة به فهذا القول يلزمه في الجزئيات ... إلخ
667
ممنوع، إذ لا يلزم من صحة تعلق القدرة بجزء من جزئيات المحال صحة التعلق بالكل؛ إذ المثال الجزئي لا يثبت القاعدة الكلية على أنا لو سلمنا اللزوم لا يوجب ذلك التكفير؛ لأنه فرق كبير بين الكفر ولزوم الكفر، وقوله لأن هذه الجزئية المتكلم فيها مثل هذه الجزئيات من باب لا فرق جوابه إن أراد المماثلة من كل الوجوه، فهذا ظاهر البطلان وإن أراد المماثلة في الإحالة فهو لم يجوز تعلق القدرة بها من حيث كونها محالا حتى يلزمه القول بمثلها في كل ما دخل تحت الإحالة، فجاز أن يكون فيها أمر مانع من جواز التعلق كلزوم النقص في جانب الربوبية، كيف لا ومستنده في الجواز عموم الآية، وهذه الجزئيات مخرجة منها عقلا ونقلا وإجماعا، والذي كان يجب عليه حمل حال أخيه على الصواب والتسديد عنه بما يمكنه، فإن حمل حال المسلم على الصلاح واجب مهما أمكن؛ فقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه: وضع أمر أخيك على أحسنه حتى
668
يجيئك منه ما يغلبك. وقال الإمام ابن فورك: إدخال ألف كافر إلى الإسلام ولا إخراج مسلم إلى الكفر وإن كان في كلامه - رحمه الله - ما لا يصلح سندا لدعواه. (4-31) تنبيهات
الأولى:
الحكماء الإلهيون، فإنهم قالوا: إنه تعالى واحد حقيقي فلا يصدر منه أثران والصادر عنه ابتداء هو العقل الأول والبواقي صادرة عنه بالوسائط.
والجواب عن ذلك أنا لا نسلم
669
أن الواحد الحقيقي لا يصدر منه إلا الواحد.
الأول خالف في شمول قدرته للممكنات طوائف:
الثانية:
المنجمون، ومنهم الصائبة قالوا: الكواكب المتحركة بحركات الأفلاك، أي المدبرات أمرا في عالمنا لدوران الحوادث السفلية والتغيرات الواقعة في جوف فلك القمر وجودا وعدما مع مواضعها في البروج، وأوضاعها بعضها إلى بعض، وإلى السفليات وأظهرها ما نشاهده من اختلاف الفصول الأربعة، وما يتجدد فيها من الحر والبرد والاعتدال بواسطة قرب الشمس من سمت الرأس وبعدها عنه وتوسطها فيما بينهما، وتأثير الطوالع في المواليد بالسعادة والنحوسة.
والجواب أن الدوران لا يفيد العلية سيما إذا تحقق التخلف، كما في توأمين أحدهما في غاية السعادة والآخر في غاية الشقاوة؛ ولدا دفعة أو بين ولادتيهما مقدار درجة الذي لا يوجب تغير الأحكام باتفاق منهم، وسيما إذا قام البرهان على نقيضه. وقد قامت البراهين العقلية والنقلية بأن لا
670
مؤثر في الوجود إلا الله رب البرية، على أن ما أثبتوه
671
من الأحكام لا يستثبت
672
على قواعدهم؛ لأنهم قد ادعوا أن الأفلاك بسيطة،
673
وإذا كانت كذلك كانت أجزاؤها متساوية في الماهية فلا يمكن حينئذ جعل درجة حارة أو نيرة أو نهارية وجعل أخرى باردة أو مظلمة أو ليلية إلا تحكما بحتا، وكذا الحال في جعل بعض البروج بيتا لكوكب وبعضها بيتا لكوكب آخر، وبعضها شرفا وبعضها وبالا، إلى غير ذلك من الأمور التي يدعونها، فإنها على تقدير البساطة تحكمات محضة.
وأيضا الفلك إن كان بسيطا فقد بطل الأحكام التي يزعمونها كما بينا، وإلا فعلم الهيئة باطل؛ لأن مبناه أن الفلك بسيط
674
فحركاته بسيطة متشابهة في أنفسها، والحركات المختلفة المشاهدة والمرصودة منها تقتضي محركات مختلفة على أوضاع متفاوتة، وإذا
675
بطلت الهيئة بطلت الأحكام النجومية؛ لأنها مبنية على الهيئات المتخيلة لهم، وإلا فلا أوج ولا حضيض، ولا وقوف ولا رجوع، فكيف تثبت
676
لها أحكام مترتبة عليها لا يقال الأفلاك، وإن كانت بسيطة فالبروج مكوكبة بالثوابت المختلفة الطبائع. والعبرة في تلك الأحكام ليست بنفس البروج المتوافقة في الطبيعة بل بقرب كواكبها الثابتة من السيارات وبعدها منها وتسامتها وعدمها، فمدار الأحكام المختلفة على اختلاف أوضاع الكواكب السيارة بحركاتها من الثوابت المركوزة في البروج؛ لأننا نقول البروج كما علمت تعتبر من الفلك الأطلس الذي لا كوكب فيه على رأيهم، فإن قيل البروج المعتبرة فيه،
677
وإن كانت خالية من الكواكب إلا أنها تسامتها كواكب متخالفة الطبائع وهذا القدر كاف لاختلاف الأحكام والآثار، فالجواب
678
أن
679
تلك الكواكب تزول عن تلك المسامتة بالحركة البطيئة فيلزم أن تنتقل الأحوال من برج إلى برج آخر وهو باطل
680
عندهم.
الثالثة:
الثنوية، ومنهم المجوس قالوا: إنه تعالى لا يقدر على خلق البشر ولا على الأجسام المؤذية، وإلا لكان خيرا شريرا؛ فالخالق للشر إله آخر عندهم اسمه أهرمن.
والجواب عن ذلك أن الملازمة باطلة،
681
إن أريد بالشرير من غلب شره، وإن أريد به خالق الشر فلا محذور فيه وإنما لا يطلق عليه لفظ الشرير. إما لأن أسماءه توقيفية، وإما لإيهام أن ذلك دأبه وعادته كما يقال فلان شرير إذا كان ذلك يقتضي طبيعته والغالب على عادته، على أن عدم الإطلاق لا يدل على عدم الصدور، ألا يرى أنه خلق القردة والخنازير مع أنه لا يطلق عليه الوصف مضافا إليهما.
الرابعة:
النظامية، قالوا: لا يقدر على خلق القبيح؛ لأنه مع العلم سفه وبدونه جهل وكلاهما نقص.
والجواب أنه لا قبح بالنسبة إليه، كيف وهو تصرف في ملكه؟ ولو سلم فالقدرة عليه لا تنافي امتناع الصدور عنه؛ لوجود الصارف وعدم الداعي وإن كان ممكنا في نفسه.
الخامسة عباد وأتباعه قالوا: إنه ليس بقادر على ما علم أنه لا يقع لاستحالته ولا على ما علم أنه يقع لوجوبه.
والجواب أن مثل هذه الاستحالة والوجوب لا ينافي المقدورية.
السادسة
682
البلخي المعروف بالكعبي وأتباعه قالوا: لا يقدر على مثل فعل العبد؛ لأنه
683
إما طاعة أو معصية أو سفه وهو منزه عن ذلك.
والجواب أنها اعتبارات تفرض للفعل بالنسبة إلينا، وأما فعله تعالى فمنزه عن هذه الاعتبارات، فجاز أن يصدر عنه مثل فعل العبد مجردا عنها فإن الاختلاف بالعوارض لا ينافي التماثل في الماهية.
السابعة الجبائية، قالوا: لا يقدر على نفس مقدور العبد؛ لأنه لو صح مقدور بين قادرين لصح مخلوق بين خالقين؛ لأنه يجب وقوعه بكل منهما عند تعلق الإرادة لأنه يجب حصول الفعل عند خلوص القدرة والداعي واجتماع مؤشرين على أثر واحد باطل،
684
وأيضا لو أراد فعلا وأراد العبد عدمه لزم إما وقوعهما
685
فيجتمع النقيضان وإما عدمهما فيرتفعان
686
وقوع أحدهما فلا قدرة للآخر.
والجواب أنه مبني على تأثير القدرة الحادثة وهو بطل.
687
واعلم أن عد الفلاسفة ممن لا يقول بعموم قدرته مسامحة؛ لأن القول بعدم الشمول فرع للثبوت، وهم لا يقولون بأنه تعالى قادر مختار، فلذا عدهم بعض من الفرق المخالفة وتركهم
688
آخر، والدليل على شمول قدرته تعالى النص كقوله تعالى
الله خالق كل شيء
689
هل من خالق غير الله
690
وغير ذلك من الآيات والأحاديث وإجماع الأمة فإنها كانت مجمعة على ذلك قبل حدوث البدع والعقل؛ لأنه لو وقع شيء بإيجاد الغير فرضنا تعلق قدرة الله تعالى وإرادته بضد ذلك الشيء حال تعلق
691
قدرة ذلك الغير وإرادته بإيجاد ذلك الشيء كحركة جسم معين وسكونه في زمان بعينه، فإن وقع الأمران معا لزم اجتماع النقيضين، وإن لم يقع شيء منهما، لزم ارتفاعهما، وعجز الباري، وتخلف المعلوم عن علته التامة، وإن وقع أحدهما لزم الترجيح بلا مرجح وهو محال ، فلا بد وأن يكون قدرة الغير غير مؤثرة فلزم شمول قدرته تعالى.
الثاني الإرادة كالقدرة متعلقا فتختص بالممكنات دون الواجبات والمستحيلات إلا أن جهة تعلقهما مختلفة؛ فالقدرة تؤثر في الإيجاد والإعدام على وفق الإرادة، والإرادة توثر في اختصاص أحد طرفي الممكن بالوقوع، فتأثير القدرة فرع تأثير الإرادة إذ لا يوجد ولا يعدم بقدرته تعالى إلا ما أراد وجوده أو إعدامه وتأثير الإرادة على وفق العلم فكل ما علم تعالى أنه يكون من الممكنات أو لا يكون فذلك
692
مراده، والمعتزلة جعلوا تعلق الإرادة تابعا للأمر فلا يريد إلا ما أمر به سواء وقع أم لا؛ فإيمان أبي جهل مأمور به غير مراد له عندنا لتعلق علم الله بعدم
693
وقوعه وكفره منهي عنه واقع بإرادة الله تعالى وقدرته، وعند المعتزلة إيمانه هو المراد لا كفره فلزمهم وقوع النقص في ملك مولانا عز وجل إذا وقع فيه على قولهم مالا يريده تعالى له ملك السموات والأرض وما بينهما تعالى عن ذلك علوا كبيرا. (4-32) استطراد
دخل القاضي عبد الجبار على الصاحب بن عباد وعنده الأستاذ أبو
694
إسحاق الإسفراييني فقال عبد الجبار معرضا بالأستاذ: سبحان من تنزه عن الفحشاء، ففهم الأستاذ أنه أراد التعريض به فقال: سبحان من لا يكون في ملكه إلا ما شاء؛ ففهم أنه فهم مراده. فقال: أرأيت إن منعني الهدى وسلك بي سبل الردى أأحسن بي أم أساء؟ فقال الأستاذ: إن كان منعك ما هو لك فقد تعدى وأساء،
695
وإن كان منعك ما هو له فالله يختص برحمته من يشاء فأفحمه وانصرف الحاضرون يقولون والله ليس لهذا الجواب مدفع. (4-33) فرع
لا يحل أكل حيوان مائي سوى سمك لهم يطف؛ لأن ما سواه خبيث لاستخباث
696
الطبيعة السليمة إياه، وقال تعالى
ويحرم عليهم الخبائث
697
وأباحه ابن أبي ليلى ومالك والشافعي وأحمد واستثنى بعض المالكية كلب الماء وخنزيره وإنسانه. وعن أحمد والشافعي إلا الضفدع، وعن أحمد وبعض الشافعية كقولنا وعن الثلاثة لا يحل في البحر ما لا يحل مثله في البر. وأما السمك فحلال بالإجماع وهو المراد بقوله
صلى الله عليه وسلم
في البحر: هو الطهور ماؤه والحل ميتته. عندنا وهو بإطلاقه يتناول جميع أنواعه حتى الجريث والمارماهي وما نقل عن محمد في المغرب من تحريمهما
698
فضعيف والروافض واليهود يحرمون الحديث، ويقولون: كان ديوثا يدعو الناس إلى حليلته فمسح به. وإنما استثنينا الطافي وهو ما مات حتف أنفه وطفى على الماء بقوله
صلى الله عليه وسلم
ما نضب عنه الماء فكلوا وما طاف فلا تأكلوا. فلا يؤكل منه
699
إلا ما مات بسبب كالمأخوذ منه، فلو
700
ضرب سمكة وقطع بعضها حل الجميع، وكذا إن وجد في بطنها سمكة أخرى، أو قتلها شيء من الطير أو ماتت في جب، أو جمعها في حظيرة لا تستطيع الخروج منها وهو قادر على أخذها بغير صيد فمتن فيها، أو ماتت في الشبكة غير قادرة على التخلص منها ، أو يأكل شيء ألقاه لتأكله، أو ماتت بسبب ربطها بالماء، أو انجماد الماء؛ لأن موت الكل بسبب إما أن ماتت بحر الماء وبرده فلا تؤكل في رواية لأن الماء لا يقتلها حارا ولا باردا وتؤكل في أخرى؛ لأنه موت بسبب. (4-34) القول السابع
أن المد من تنفس ثور الأرض والجزر من رد نفسه. قال في الخريدة روي أن الله تعالى لما خلق الأرض كانت تتكفأ كما تتكفأ السفينة فبعث الله تعالى ملكا فهبط حتى دخل تحت الأرض فوضعها على كاهله، ثم أخرج يديه؛ إحداهما من المشرق والأخرى من المغرب، ثم قبض على الأراضين
701
السبع فضبطها فاستقرت، ولم يكن لقدم الملك قرار فأهبط الله
702
له ثورا من الجنة له أربعون ألف قرن وأربعون ألف قائمة فجعل قرار قدم الملك على سنامه، فلم تصل قدماه إلى سنامه فبعث الله تعالى ياقوتة خضراء من الجنة مسيرة غلظها كذا ألف عام فوضعها على سنام الثور فاستقرت عليه قدما الملك.
وقرون الثور خارجة من أقطار الأرض مشتبكة إلى تحت العرش ومنخري الثور في ثقبين من تلك الياقوتة الخضراء تحت البحر فهو يتنفس كل يوم نفسين، فإذا تنفس مد البحر وإذا رد النفس جزر البحر.
قال: ولم يكن لقوائم الثور
703
قرار فخلق الله كمكما
704
من رمل كغلظ سبع سموات وسبع أرضين فاستقرت عليه قوائم الثور، ولم يكن الكمكم مستقرا فخلق الله حوتا يقال له بهموت فوضع الكمكم على وتر الحوت والوتر الجناح الذي يكون في وسط ظهره، وذلك مزموم بسلسلة من القدرة كغلظ السموات والأرض مرارا فانتهى إبليس - لعنه الله - إلى ذلك الحوت فيقال له ما خلق الله خلقا أعظم منك، فلم لا تترك الدنيا عن ظهرك فهم بشيء من ذلك فسلط الله عليه بقشة في عينه فشغلته.
وزعم لبعضهم أن الله سلط عليه سمكة كالشبر شغلته فهو ينظر إليها ويهابها ويخافها. قيل وأنبت الله من تلك الياقوتة جبل ق؛ وهو من زمردة خضراء وله رأس ووجه وأسنان، وأثبت الله من جبل ق الجبال الشواهق، كما أنبت الشجر من عروق الشجر انتهى.
قلت: يستأنس له بما أخرجه السيوطي عن أبي الشيخ وعن أبي الدنيا عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: خلق الله جبلا يقال له قاف محيط بالأرض وعروقه إلى الصخرة التي عليها الأرض، فإذا أراد الله أن يزلزل قرية أمر ذلك الجبل فيحرك الذي يلي تلك القرية فيزلزلها ويحركها فمن ثم تزلزل
705
القرية دون القرية انتهى. (4-35) القول الثامن
إن المد من وضع رجل الملك الموكل في البحر فيه والجزر من رفعها. ففي الهيئة السنية أخرج أبو الشيخ عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه سئل عن المد والجزر فقال: إن لله ملكا موكلا بقاموس البحر إذا وضع رجله فاض وإذا رفعها
706
غاص فذلك
707
المد والجزر. وقال في الخريدة بعد حكايته لقول أرسطاطاليس وكيماووس والمنجمين. وقد روي في بعض الأخبار أن الله تعالى جعل ملكا موكلا بالبحار، فإذا وضع قدمه في البحر مد وإذا رفعه جزر.
فإن صح ذلك - والله أعلم - كان اعتقاده أولى من المصير إلى غيره مما لا يفيد حقيقة. ولو ذهب ذاهب إلى أن ذلك الملك هو مهب الرياح التي تكون سببا للمد وتزيد في الأنهار ويفعل ذلك عند امتلاء القمر حتى يكون توفيقا وجمعا بين الكل لكان مذهبا حسنا والله أعلم انتهى.
أقول قد تحققت بطلان كل من الأقوال فلا حسن في رعايتها على أن القول يكون ذلك الملك مهب الرياح لا يقال إلا عن توفيق فلا يقال بالاحتمال، وأيضا دعوى أن الرياح تزيد في الأنهار ممنوعة وإنما زيادتها بالأمطار وإذابة الثلوج، ولو قال إن الرياح سبب لإثارة السحاب الذي هو سبب للأمطار التي هي سبب الزيادة لكان له وجه لقوله تعالى
الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا .
708
ولعله أراد ذلك لكن قوله يفعل ذلك عند امتلاء القمر باطل
709
لما علمت أن في كل يوم وليلة مدين وجزرين، فلو سكت عن لو لكان حسنا لا يقال إذا كانت الشرطية لا تقتضي إلا مكانا، فلا دلالة لها على الترجيح والاختيار.
لأنا نقول وإن لم تقتض إلا مكانا لكان يلزم من فرض وقوع مقدمها وقوع تاليها؛ فيلزم من فرض وقوع هذا القول ثبوت الحسن له مع أنه لا حسن فيه، على
710
أن مثل هذه العبارة في هذا المقام للتعريض بالقول بالمقدم فهي أمر للقول به بطريق التعريض والصواب أن يقال لما كان هذا القول لابن عباس - رضي الله عنهما - كما أخرجه أبو الشيخ عنه وهو في مثل هذه لا يقول إلا عن توقيف، ولا معارض له مثله تعين الأخذ به وبطل كل ماعداه اللهم إلا أن يظهر في المسألة قول يساويه ويعارضه، فيطلب الترجيح فإن وجد أخذ بالراجح وإلا فالتوقف أسلم. (4-36) فوائد
اختلف الناس في حقيقة الملائكة مع اتفاقهم في أنها ذوات قائمة بأنفسها؛ فمنهم من قال إنها أجسام لطيفة هوائية تقدر على التشكل بأشكال مختلفة مسكنها السماوات، وهذا قول أكثر المفسرين.
ومنهم من قال إنها الكواكب الموصوفة بالسعود والنحوس، وهو قول عبدة الأوثان. ومنهم من قال العالم مركب من أصلين قديمين؛ وهما النور والظلمة، وهما جوهران؛ فجوهر النور أصل خير كريم النفس، وجوهر الظلمة على ضد ذلك، ثم إن جوهر النور لم يزل يولد الأولياء وهم الملائكة على سبيل تولد الحكم من الحكيم والضوء من المضيء، وجوهر الظلمة لم يزل يولد الأعداء وهم الشياطين على سبيل تولد السفه من السفيه. هذا إذا كانت الملائكة جواهر متحيزة، أما إذا لم تكن، فمنهم من قال إنها هي النفوس الناطقة المفارقة لأبدانها، فإن المفارقة إذا كانت صافية خالصة فهي الملائكة، وإن كانت على خلاف ذلك فهي الشياطين وهذا هو مذهب أهل الهند وقوم من النصارى.
ومنهم من قال إنها جواهر قائمة بأنفسها مخالفة للنفوس ثم إنها على طائفتين: طائفة منهم مستغرقة في معرفة الله تعالى
711
وطاعته ومحبته، وهم
712
الملائكة المقربون وطائفة منها مدبرة للسماوات وما فيها من الكواكب. ونسبة الطائفة الأولى إلى الثانية كنسبة الثانية إلى نفوسنا الناطقة، وهذا هو مذهب الفلاسفة.
ومنهم من أثبت أنواعا أخر من الملائكة وهي الملائكة الأرضية المدبرة لأحوال هذا العالم السفلي، ثم المدبرة إن كانت شريرة فهي الشياطين. وأما إثبات الملائكة، فمنهم من قال لا يمكن إلا بالسمع، ومنهم من قال يمكن بالعقل أيضا وهو قول الفلاسفة، والأظهر من الدلائل العقلية عندهم هو أن الملك عبارة عن الحي الناطق الذي لا يكون مائتا، وهو ثابت إذ الحي إما أن يكون ناطقا دون مائت وهو الملك، أو ناطقا ومائتا وهو الإنسان، أو مائتا غير ناطق وهو البهائم.
ولا خفاء في أن الأشرف منها هو الأول وهو الناطق دون المائت، فلما اقتضت الحكمة الإلهية إيجاد أحسن المراتب وهو الثاني منها، والثالث فلأن يقتضي إيجاد أشرف المراتب وهو الأولى، كان أولى ولأن العقل يشهد بأن عالم السماوات أشرف من هذا العالم، ويشهد بأن الحياة والنطق والعقل أشرف من أضدادها فيبعد في العقل أن يحصل الحياة والعقل والنطق في هذا العالم ولا يحصل في ذلك، ولا يستراب في أنهما من الدلائل الإقناعية، قال السعد: وعندنا ظاهر الكتاب والسنة أن الملائكة أجسام لطيفة نورانية قادرة على التشكل بأشكال مختلفة كاملة في العلم والقدرة على الأفعال الشاقة. والجن أجسام لطيفة هوائية تتشكل
713
بأشكال مختلفة يظهر
714
منها أفعال عجيبة منهم المؤمن والكافر والمطيع والعاصي. والشياطين أجسام نارية شأنها إلقاء الناس في المفاسد والغواية بتذكير أسباب المعاصي واللذات ونسيان منافع الطاعات.
قيل الأنواع الثلاثة مركبة من امتزاج العناصر الأربعة إلا أن الغالب على الشياطين عنصر النار وعلى الآخرين عنصر الهواء، وذلك أن امتزاج العناصر قد لا
715
يكون على القرب من الاعتدال بل على قدر صالح من غلبة أحدها، فإن كانت الغلبية للأرضية يكون الممتزج مائلا إلى عنصر الأرض وهو التراب، وإن كانت للمائية فإلى الماء، أو للهوائية فإلى الهواء، وللنارية فإلى النار.
لا يبرح ولا يفارق إلا بالإجبار أو بأن يكون حيوانا فيفارق بالاختيار مثل ما يعيش بالماء كالضفادع، أو غيره كحشرات الأرض مثلا، وليس لهذه الغلبة حد معين بل يختلف إلى مراتب بحسب أنواع الممتزجات التي تسكن هذه العناصر، ولكون الهواء والنار في غاية التشفيف واللطافة كانت الملائكة والجن والشياطين حيث
716
يدخلون المنافذ والمضائق حتى في أجواف الإنسان، ولا يرون بحسن البصر إلا إذا اكتسبوا من الممتزجات الأخر التي تغلب عليها الأرضية والمائية جلابيب وغواش
717
ويرون في أبدان كأبدان الناس أو غيرهم من الحيوانات. والملائكة كثيرا ما يعاونون الناس على أعمال يعجزون عنها لقوتهم؛ كالغلبة على الأعداء، والطيران في الهواء، والمشي على الماء، وتحفظهم خصوصا المضطرين عن كثير من الآفات.
وأما الجن والشياطين والخلاف
718 ،
719
في غير نبينا -
صلى الله عليه وسلم ، إذ الاجماع منعقد على أفضليته على جميع المخلوقات، ومن تأمل لقوله
صلى الله عليه وسلم
إن الله خلق آدم على صورته وكونه
صلى الله عليه وسلم
من البشر، مع أنه الحبيب الأعظم والخليل الأقدم الذي لم تكن خلته من وراء وراء بخلاف خلة غيره، لم يشك في أن هذا الجنس أفضل من جميع ما عداه ولا منافاة بينه
720
وبين قوله تعالى
وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ،
721
حيث إنه يدل بمفهومه المخالف أن ثم أجناسا لم يفضلوا عليهم؛ فهم إما فاضلون أو مساوون؛ لأنا نحمل الكثير على الكل ولا بعد فيه، وإن استبعده البيضاوي إذا جعلت من بيانية كما في قوله تعالى
وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم ،
722
أو يكون التفضيل بالغلبة والاستعلاء، أو بنوع خصوصيته لا يوجب أكمليتها التفضيل عند الله حتى لا يلزم من ترجيح غيرهم فيها عليهم، أو مساواته لهم أن يكون أفضل منهم وعدم تفضيلهم عليه، أو نقول لما كان تفضيلهم على من عداهم على قسمين: تارة يكون مطلقا لا تفضيل فيه بين فرد وفرد وهو تفضيلهم على الكثير، وتارة يكون فيه تفضيل وهو تفضيلهم على ما عداه، وكان المقام مقام الامتداح والامتنان، والمناسب فيه ذكر الأول قيده بالكثير فلا بأس إذ دل بمفهومه على نفي الحكم على
723
الباقي، وقد يستأنس له بتأكيده بالمصدر يحمل التنوين فيه على التنويع،
724
أو التعظيم والكمال إذا التفضيل الذي لا تفضيل فيه أعظم وأكمل من غيره، أو أنه مطلق فينصرف إلى الفرد الكامل وتفضيل بعض أجزاء الجملة المفضولة فيخالطون
725
بعض الأناسي ويعاونونهم على السحر والطلسمات.
الثانية أن المفاضلة واقعة بينهم كما بين البشر، فأفضلهم رسلهم وأفضلهم الأربعة الموكلون بتدبير العالم: جبريل وهو ملك الحروب والزلازل والصواعق، وإسرافيل وهو ملك النفخة، وميكائيل وهو ملك الأرزاق، وعزرائيل وهو ملك الموت والمصائب، وأفضلهم جبريل وإسرافيل واختلف في أيهما أفضل واختار قوم الوقف.
الثالثة اختلف الناس في تفضيلهم على البشر وتفضيل البشر عليهم؛ فالصحيح عندنا أن رسل البشر كموسى أفضل من رسل الملائكة كجبرائيل، ورسل الملائكة كإسرافيل أفضل من عامة البشر كأبي بكر، وعامة البشر كعمر أفضل من عامة الملائكة كحملة العرش والكروبيين.
والمراد بالرسل ما يعم الأنبياء وبعامة البشر الصلحاء دون الفسقة، وفي رواية عن أصحابنا أن خواص البشر وهم الرسل أفضل من خواص الملائكة، وخواص الملائكة أفضل من الأنبياء غير الرسل، والأنبياء غير الرسل أفضل من أنبياء الملائكة، وأنبياء الملائكة أفضل من عوام البشر. واختلفوا في التفضيل بين عوام الملائكة وعوام البشر واختار بعضهم الوقف. وعند الأشعرية في القول المشهور عنهم إن أنبياء البشر أفضل من الملائكة مطلقا، والملائكة مطلقا أفضل مما عدا الأنبياء من البشر. وفي رواية عنهم كالمشهور عن أصحابنا وذهب بعض أهل السنة والمعتزلة إلى تفضيل الملائكة على البشر مطلقا حتى الأنبياء على الجملة
726
الفاضلة لا يقدح في تفضيل الجنس على الجنس كما في الصلاة والصوم.
أو
727
تقول إن كثيرا وإن كان وصفا في الأصل إلا أنه لما عومل معاملة الاسم في عدم إجرائه على موصوف عومل معاملته في عدم المفهومية؛ إذ لا مفهوم للقب خلافا لابن الدقاق هذا على مذهب من يقول بالمفهوم، وأما مذهبنا فنحن لا نقول به في الأصول، وإن قلنا به في كلام العلماء في الفروع وغيرها كما نقله القاضي زكريا في حاشيته على جمع الجوامع ناقلا عن التحرير فلا إشكال.
الرابعة جريان الخلاف في التفضيل بالتفضيل بين البشر ومطلق الملائكة وخصه الرازي بالملائكة السماوية، وأما الملائكة الأرضية فحكى الإجماع على تفضيل الأنبياء عليهم.
الخامسة اختلف الناس في وجوب عصمتهم فذهب طائفة إلى أنهم معصومون لا يصدر منهم ذنب، وقالت طائفة بعدم العصمة قال السعد: والصحيح أنه لا قاطع عليها، وإنما تمسك مثبوتها بالعمومات الواردة في حقهم كقوله تعالى
بل عباد مكرمون * لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون .
728
وأمثال ذلك وهي لا تفيد إلا الظن والخلاف إنما هو في غير أنبيائهم، أما أنبياؤهم فحكمهم حكم أنبياء البشر، وفي بحر الكلام للنسفي ما يدل أن الحنفية على الثاني، وحكاه الفخر عن الحشوية.
السادسة لا توصف الملائكة بذكورة ولا أنوثة؛ إذ لا دليل على ذلك من نقل صريح أو عقل صحيح.
السابعة
729
يجوز في حق البشر غير الأنبياء رؤية الملائكة وتكليمهم لهم، وقد كلمت الملائكة مريم وأم موسى ورجل خرج لزيارة أخ له في الله، وبلغته أن الله يحبه كحبه لأخيه ذكره اللقاني في هداية المريد. والمختص بالأنبياء إنما هو تكليمهم بالأحكام التكليفية على وجه التشريع.
الثامنة اختلفوا في إرساله
صلى الله عليه وسلم
إلى الملائكة، فذهب بعض الحنفية كمحمود بن حمزة الكرماني، وبعض الشافعية كالبيهقي، إلى أنه لم يرسل إليهم. وحكى البرهان النسفي والرازي في تفسيرهما الإجماع على ذلك، والصحيح وقوع الخلاف بل ذهب جمع من المتأخرين كالسبكي والسيوطي وغيرهما إلى ترجيح إرساله إليهم.
التاسعة اختلفوا في تكليفهم والصحيح أنهم مكلفون بالطاعات العملية بخلاف نحو الإيمان؛ فإنه فيهم ضروري فالتكليف به
730
تحصيل للحاصل، وهو محال كذا في عمدة المريد نقلا عن البعض.
العاشرة اختلفوا في قدرتهم على المعاصي والشرور، فقال جمهور الفلاسفة وأكثر الجبريين: لا قدرة لهم على ذلك؛ لأنهم خير محض، وقال جمهور المعتزلة وكثير من الفقهاء إنهم قادرون على الأمرين.
الحادية عشرة اختلفوا في الملائكة المأمورين بالسجود لآدم، فذهب الأكثرون إلى أن الجميع كانوا مأمورين، قال وهب بن منبه: أول من سجد لآدم جبرائيل
731
فأكرمه الله بإنزال الوحي على النبيين خصوصا سيد المرسلين، ثم ميكائيل ثم إسرافيل ثم عزرائيل ثم سائر الملائكة. وقيل أول من سجد إسرافيل فرفع رأسه وقد ظهر القرآن كله مكتوبا على جبهته كرامة له على سبقيته على الائتمار.
وقيل إنهم مأمورون ما سوى العالمين وهم المهيمون في جلال الله لعدم شعورهم بآدم وخلقه. وقيل إن المأمورين
732
هم الملائكة الأرضية دون السماوية. وأما الحكماء فإنهم يحملون الملائكة على الجواهر الروحانية، وقالوا يستحيل أن يكون الأرواح السماوية منقادة للنفوس الناطقة، إنما المراد بالملائكة المأمورين بالسجود القوى الجسمانية البشرية المطيعة للنفس الناطقة.
الثانية عشرة اختلفوا في الذي يقبض أرواح الملائكة؛ فمذهب أهل السنة أن القابض لها ملك الموت قالوا: لأنه يقبض روح كل ذي روح من مقرها، أو من يد أعوانه
733
المعالجين لنزعها منه بشرا كان أو ملكا أو جنا أو غير ذلك من سائر الحيوانات حتى البراغيث. وقيل حتى روح نفسه، وقيل القابض لروحه هو الله تعالى. وزعم المعتزلة أنما يقبض ملك الموت أرواح الثقلين، وقالت المبتدعة إنما يقبض أرواح البهائم أعوانه،
734
وعلى قول المعتزلة القابض لأرواح الملائكة هو الله تعالى.
الثالثة عشرة ذكر الفخر الاتفاق على أن الملائكة لا يأكلون ولا يشربون ولا ينكحون، يسبحون الليل والنهار ولا يفترون.
الرابعة عشرة
735
اختلفوا في تشكل الملائكة بصورة أصغر من صورتهم كشكل جبريل عليه السلام في صورة دحية،
736
وتشكله في صورة فحل من الإبل فاتحا فاه على أبي جهل مريد أن يثب
737
عليه، فمن قائل بأنه سبحانه يغني الزائد من خلقه ثم يعيده إليه، ومن قائل بأنه تمثيل، ومن قائل بالتداخل. قال بعضهم وهو محال عقلا، والذي يظهر أنه لا إحالة فيه وتحقيق القول إن جبرائيل عبارة عن الحقيقة الملكية الخاصة وتلك الحقيقة لا تتغير بتغير الصور والأشكال.
الخامسة عشرة يجب الإيمان بوجود الملائكة؛ لأن الله تعالى ورسوله أخبر عنهم بأنهم يسبحون الليل والنهار لا يفترون، وأنهم يصلون على النبي، وأنهم يستغفرون لمن في الأرض، وأنهم سجدوا لآدم إلى غير ذلك. وهذه الأفعال لا تسند
738
إلا إلى موجود فيجب الإيمان بذلك لوقوعه في خبر الله ورسوله، وقد فسر
صلى الله عليه وسلم
الإيمان في حديث جبرائيل عليه السلام بأن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله الحديث، فلا إيمان لمنكر وجودهم.
السادسة عشرة في كثرتهم،
739
أخرج السيوطي في جامع الصغير عن ابن مردويه عن أنس قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : أطت
740
السماء ويحقها أن تئط، والذي نفس محمد بيده ما فيها موضع شبر إلا وفيه جبهة ملك ساجد يسبح الله بحمده. وفي تفسير الفخر قال
صلى الله عليه وسلم : أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد أو راكع.
وروي أن بني آدم عشر الجن والجن
741
وبنو آدم عشر حيوانات البر، وهؤلاء كلهم عشر الطيور وهؤلاء كلهم عشر حيوانات البحر، وكلهم عشر ملائكة الأرض الموكلين، وكل هؤلاء عشر ملائكة سماء الدنيا، وكل هؤلاء عشر ملائكة السماء الثانية، وعلى هذا الترتيب إلى السماء السابعة، ثم الكل في مقابلة الكرسي نزر قليل، ثم كل هؤلاء عشر ملائكة السرادق
742
الواحد من سرادقات العرش التي عددها ستمائة ألف، طول كل واحد وعرضه وسمكه إذا قوبلت بها السماء والأرضون وما فيها وما بينها فإنها كلها تكون شيئا يسيرا وقدرا صغيرا وما من مقدار قدم إلا وفيه ملك ساجد أو راكع أو قائم، لهم زجل بالتسبيح والتقديس، ثم هؤلاء في مقابلة الملائكة الذين يحومون حول العرش كالقطرة في البحر لا يعرف عددهم إلا الله، ثم مع
743
هؤلاء ملائكة اللوح الذين هم أشياع إسرافيل عليه السلام، والملائكة الذين هم جنود جبرائيل - عليه السلام - كلهم سامعون مطيعون لا يفترون ويشتغلون بعبادته سبحانه، رطاب الألسنة بذكره وتعظيمه، يتسابقون في ذلك مذ خلقهم، لا يستكبرون عن عبادته آناء الليل والنهار ولا يسأمون. لا تحصى أجناسهم ولا مدة أعمارهم، ولا كيفية عباداتهم، وهذا يحقق حقيقة ملكوته جل جلاله على ما قال
وما يعلم جنود ربك إلا هو .
744
وأقول رأيت في بعض كتب التذكرة أنه
صلى الله عليه وسلم
حين عرج به رأى ملائكة في موضع مشرف عال، بعضهم يمشي تجاه بعض فسأل رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إلى أين تذهبون؟ فقال جبرائيل عليه السلام: لا أدري، إلا أني أراهم منذ
745
خلقت ولا أدري واحدا منهم قد رأيته قبل ذلك، ثم سألا واحدا منهم وقيل له منذ كم خلقت؟ فقال: لا أدري، غير أن الله تعالى يخلق في كل أربعمائة ألف سنة كوكبا، فخلق مثل ذلك الكواكب منذ خلقني أربعمائة ألف كوكب، فسبحانه من إله ما أعظم قدرته، وما أجل كماله! انتهى.
وفي الثعلبي عن الأوزاعي قال موسى: يا رب من معك في السماء؟ قال: ملائكة. قال: كم عددهم يا رب؟ قال: اثنا عشر سبطا. قال: كم كل سبط؟ قال: عدد التراب. وعن ابن عباس أن عن يمين العرش نهرا
746
من نور مثل السماوات السبع والأرضين والبحار السبع، يدخل جبرائيل فيه فيغتسل فيزداد نورا إلى نوره وجمالا إلى جماله وعظما إلى عظمته، ثم ينتقض فيخرج الله تعالى في كل ريشة تقع من ريشه كذا وكذا ألف ملك لا يعودون إليه إلى يوم القيامة.
وقال وهب: إن جبرائيل واقف بين يدي الله، ترعد فرائصه، يخلق الله تعالى من
747
كل رعدة مائة ألف ملك. وعن أبي بن كعب إن العالمين رهط من الملائكة وهم ثمانية عشر ألف ملك، منهم أربعة آلاف وخمسمائة بالمشرق، ومثل ذلك بالمغرب ، ومثل ذلك في الجانبين الأخيرين، مع كل ملك منهم من الأعوان ما لا يعلم عددهم غير الله تعالى، ومن ورائهم من الجهات الأربع أرض بيضاء عرضها مسيرة السماء أربعين مرة مملوءة ملائكة يقال لهم الروحانيون؛ لهم زجل بالتسبيح والتهليل، لو كشف عن صوت أحدهم لهلك أهل الأرض من صوته، فهم العالمون منتهاهم إلى حملة العرش.
قال مجاهد: العالمون ثمانية عشر ألف ملك في نواحي الأرض الأربع، في كل ناحية منها
748
أربعة آلاف وخمسمائة مع كل ملك منهم عدد الإنس والجن وبهم يرفع الله العذاب عن أهل الأرض.
السابعة عشرة في ذكر شيء من قدرتهم؛ فمن ذلك حمل العرش المجيد والنزول منه، مع أن بين القائمين من قوائمه خفقان
749
الطير المسرع ثمانين ألف عام، وارتفاعه لا يحيط به الوهم. قال الفخر ويدل عليه قوله تعالى
تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ،
750
مع أن الحامل له أربعة كما جاء في رواية أو ثمانية كما جاء في أخرى. ووجه الجمع بينهما أن التنصيص على عدد لا يدل على نفي الزائد عنه، فهم ثمانية كما جاء مصرحا في حديث العباس السابق، ولهذا حمل ابن عباس - رضي الله عنهما - الثمانية في قوله تعالى
ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية ،
751
على ثمانية صفوف، وإذا أراد الله أمرا نزلت الملائكة من العرش في لحظة واحدة، ومن ذلك حمل الكرسي الذي وسع السماوات والأرض وفضله عليها كفضل الفلاة على الحلقة.
مع أن الحامل له أربعة، قال اللقاني في هداية المريد: حملة الكرسي أربعة، فأتت أقدامهم الأرض السابعة السفلى مسيرة خمسمائة عام وبينهم
752
وبين حملة العرش سبعون حجابا من نور، غلظ كل حجاب مسيرة خمسمائة عام، لولا ذلك لاحترقت حملة الكرسي من نور حملة العرش.
ومن ذلك قوة إسرافيل الذي بلغ منها أنه ينفخ في الصور فيصعق من في السموات والأرض، إلا من شاء الله ثم ينفخ أخرى فإذا هم قيام ينظرون. ومن ذلك قوة جبرائيل التي بلغ منها أنه اقتلع
753
مدائن قوم السبع وجبالهم وقلبها في دفعة واحدة.
الثامنة عشرة في ذكر شيء من عظيم خلقتهم. عن أبي داود جابر بن عبد الله أن النبي
صلى الله عليه وسلم
قال: أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله تعالى من حملة العرش ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسير سبعمائة عام.
وحكى
754
الثعلبي عن ابن عباس قال: حملة العرش ما بين كعب أحدهم إلى أسفل قدميه مسيرة خمسمائة عام. وحكى عنه أيضا لما خلق الله حملة العرش قال لهم احملوا عرشي فلم يطيقوا؛ فخلق مع كل ملك منهم من الأعوان مثل جنود سبع سموات وسبع أرضين وما في الأرض من عدد الحصى والثرى، فقال: احملوا عرشي فلم يطيقوا، فقال: قولوا لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فقالوها، فاستقلوا بعرش ربنا فنفذت أقدامهم في الأرض السابعة على متن الثرى ، فلم تزل لا تستقر فكتب في قدم كل ملك منهم اسما من أسماء الله تعالى فاستقرت أقدامهم.
وروي أن جبرائيل - عليه السلام - سد الأفق بجناح واحد، وقال: أنا إذا طرت في جناح إسرافيل وخرجت من الجانب الآخر لم يحس بي. وروي أن النبي
صلى الله عليه وسلم
سأل جبرائيل - عليه السلام - أن يتراءى في صورته، فقال جبرائيل: إنك لا تطيق ذلك، فقال له: أحب أن تفعل فخرج النبي
صلى الله عليه وسلم
إلى المصلى في ليلة مقمرة فأتاه جبرائيل في صورته فغشي على النبي
صلى الله عليه وسلم
ثم أفاق وجبرائيل مسنده واضع إحدى يديه على صدره والأخرى بين كتفيه فقال النبي
755
صلى الله عليه وسلم : ما كنت أرى شيئا من الخلق هكذا.
التاسعة عشرة في ذكر شيء من خوفهم مع كثرة عباداتهم وعدم إقدامهم على الزلات، وما ذاك إلا لمعرفتهم بربهم وعظمته واعترافهم بأنهم ما قدروه حق قدره ولا عظموه حق عظمته، فكأنهم نزلوا عباداتهم معاصي، وعلى قدر علم المرء يعظم خوفه. وقد جاء في الحديث: أنا أعرفكم بالله وأخوفكم منه أو مخافة من مكره. كما قيل على قدر علم المرء يعظم خوفه، ولا عارف إلا من الله خائف، فآمن مكر الله بالله جاهل، وخائف مكر الله بالله عارف.
وقد روي أن جبرائيل عليه السلام وميكائيل أخذا يبكيان فأوحى الله إليهما إسرافيل وقال: لم تبكيان؟ قالا: نخاف من مكر الله. فأوحى الله إليهما لا تأمنا مكري، قال الله تعالى في حقهم
يخافون ربهم من فوقهم
756
وقال تعالى
وهم من خشيته مشفقون .
757
وروي أن جبرائيل واقف بين يدي الله ترعد فرائصه، وروي أن إسرافيل - عليه السلام - يتضاءل الآحايين من عظمة الله تعالى حتى يعود مثل الوضع أي عصفور صغير مع ما علمت ما هو عليه من عظيم الخلقة. وروى البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس قال: بينما رسول الله -
صلى الله عليه وسلم
ومعه جبرائيل إذا انشق أفق من السماء فطفق جبرائيل يضأل ويدخل بعضه في بعض، فإذا الملك قد مثل بين يدي رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فقال: يا محمد إن ربك يقرئك السلام، ويخيرك بين أن تكون نبيا ملكا وبين أن تكون نبيا عبدا؟ قال: فنظر رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إلى جبرائيل
758
كالمستفهم، فأشار جبرائيل بيده إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أن تواضع. قال عليه السلام: فعرفت أنه لي ناصح، فقلت: عبدا نبيا، فعرج ذلك الملك إلى السماء. فقلت يا جبرائيل: إني أردت أن أسألك عن هذا فرأيت من حالك ما شغلني عن المسألة فمن هذا الملك؟ قال جبرائيل: يا محمد هذا إسرافيل خلقه منذ خلقه صافا قدميه لا يرفع طرفه وبينه وبين رب العزة سبعون حجابا من نور، ما منها نور يدنو منه أحد إلا احترق، وبين يديه اللوح المحفوظ، فإذا أذن الله في شيء من السماء أو في الأرض ارتفع ذلك اللوح فضرب جبينه فينظر فيه فإن كان الأمر من عملي أمرني به، وإن كان من عمل ميكائيل أمره به، وإن كان من عمل ملك الموت أمره به. قال: يا جبرائيل على أي
759
شيء أنت؟ قال: الرياح والحروب. قال فعلى أي شيء ميكائيل؟ قال: يا محمد على النبات. فقال فعلى أي شيء ملك الموت؟ قال: على قبض الأنفس. والذي بعثك بالحق ما ظننت أنه هبط إلا لقيام الساعة، وما ذاك الذي رأيت مني إلا خوفا من قيام الساعة انتهى.
فإذا كان هذا جبرائيل عليه السلام مع قربه من الله تعالى على ما سمع من الخوف من قيام الساعة، فكيف حال من هو مكبل بالشهوات، ملطخ بالنجاسات، منكب على الزلات، عاكف على المعاصي والسيئات؟ اللهم يا غفار يا غفور أخرجنا من الظلمات إلى النور، وقدنا إليك بسلاسل المحبة بيد التوفيق ويسر لنا الوصول إليك وسلوك الطريق.
وأقول قد دل حديث البيهقي المذكور بصريحه على أن إسرافيل عليه السلام هو الآمر
760
للثلاثة بالأوامر الإلهية، ومنه يظهر وجه وجيه أنه قال بأفضليته على جبرائيل. وها هنا إشكال وهو أن إسرافيل قد وكل بالوحي قبل جبرائيل بثلاث سنين كما أخرجه السيوطي في كتاب الإتقان نقلا عن الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - قال: أنزل الله على النبي
صلى الله عليه وسلم
النبوة وهو ابن أربعين سنة فقرن نبوته إسرافيل ثلاث سنين فكان يعلمه الكلمة والشيء ولم ينزل عليه القرآن على لسانه، فلما مضت ثلاث سنين قرن نبوته جبرائيل - عليه السلام - فنزل القرآن على لسانه عشرين سنة كما نقله صاحب المحاضرات عن الاتقان. وإذا كان كذلك يبعد منه
صلى الله عليه وسلم
أن يسأل جبرائيل عنه فإنه سؤال مستفهم لا سؤال مستخبر ما عند صاحبه من العلم. ويمكن الجواب عن ذلك والتوفيق بين الروايتين: أنه نزل في هذه الواقعة على غير الصورة التي كان ينزل عليها حال توليته على الوحي، فلعله
صلى الله عليه وسلم
لم يعرفه من اختلاف الصورة.
العشرون في ذلك شيء من شريف عباداتهم، ووصف بعض من شيء حالاتهم. اعلم أنهم كلهم عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون لا يفترون من عبادته ولا يسأمون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، يقتحمون من الأعمال مما يبهر العقول، ويأتون من العبادة ما يعجز عن بعضه الفحول. وفي تاريخ الخميس قالوا: لو قوبل طاعات أهل الأرض بطاعة واحد من أهل السماء الدنيا لرجح عمل ذلك الواحد
761
عليها. وطاعات أهل السماء الدنيا وأهل الأرض لو قوبلت بعمل واحد من أهل السماء الثانية لرجح عمل ذلك على عمل هؤلاء، وكذلك كل سماء على هذا الاعتبار إلى العرش. ثم هم يسرون بعمل أهل الأرض ويتقربون إليهم انتهى.
فهم لا يزالون مطيعون على ممر الأدوار، إلا أنهم من اختلاف الطاعة على أطوار كما قال أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - في وصفهم في بعض خطبه: فتق السماوات العلى فملأهن أطوارا من ملائكته، منهم سجود لا يركعون، وركوع لا ينتصبون، وصافون لا يزالون، ومسبحون لا يسأمون، لا يغشاهم نوم العيون ولا سهو العقول ولا فتوة الأبدان ولا غفلة النسيان. ومنهم أمناء على وحيه وألسنة إلى رسله ومختلفون بقضائه وأمره، ومنهم الحفظة لعباده والسدنة
762
لأبواب جناته، ومنهم الثابتة في الأرضين السفلى أقدامهم، والمارقة من السماء العليا أعناقهم، والخارجة من الأقطار أركانهم والمناسبة لقوائم العرش. أكتافهم ناكسة دونه أبصارهم متلففون تحته بأجنحتهم مضروبة بينهم وبين من دونهم حجب العزة وأستار القدرة، لا يتأملون ربهم بالتصوير، ولا يجوزون عليه صنعات المصنوعين، ولا يجدونه بالأماكن ولا يشيرون إليه بالنظائر.
وذكر الجيلي قدس سره في الإنسان الكامل الذي رأى من يسكن سدرة المنتهى من الكروبيين على هيئات مختلفة؛ لا يحصى عددهم وقد انطبقت أنوار التجليات عليهم حتى لا يكاد أحد منهم يحرك جفن طرفه، ومنهم من وقع على وجهه، ومنهم من وقع على ركبتيه
763
وهو الأكمل. ومنهم من سقط على جنبه،
764
ومنهم من حمل في قيامه وهو أقوى، ومنهم من دهش في هويته، ومنهم من خطف في آنيته.
قال: ورأيت فيهم مائة ملك مقدمين على هؤلاء جميعهم، بأيديهم أعمدة من النور مكتوب على كل عمود اسم من أسماء الله تعالى. قال: ثم رأيت سبعة من هذه الملائكة متقدمة على جميعهم يسمون باسم الكروبيين، ومن بلغ من مرتبتهم من أهل الله تعالى. ورأيت ثلاثة متقدمة على هذه السبعة يسمون بأهل المراتب والتمكين، ورأيت واحدا متقدما على جميعهم يسمى عبد الله. قال: وهؤلاء كلهم من العالين الذين لم يؤمروا بالسجود لآدم.
الحادية والعشرون
765
في ذكر أصنافهم. فمنهم الحفظة قال تعالى
له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله
766
وهم غير الكاتبين وعن عثمان - رضي الله عنه - سئل النبي
صلى الله عليه وسلم
كم من ملك على الإنسان؟ فذكر عشرين ملكا، وقال: بعضهم إن كل آدمي يوكل به من حين وقوعه نطفة في الرحم إلى موته أربعمائة ملك. كذا في هداية المريد. وفي بهجة الناظرين نقلا عن بعض التفاسير وكل بالمؤمن مائة وستون ملكا يذبون عنه ما لم يقدر عليه؛ من ذلك على البصر سبعة أملاك يذبون عنه كما يذب عن قصعة العسل الذباب، ولو وكل العبد إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الشياطين، ومنهم الكاتبون واختلف في عددهم فقيل ملكان يلزمانه إلى مماته وإذا مات قاما على قبره يسبحان ويهللان ويكبران ويكتب
767
ثوابهم للميت إلى يوم القيامة إن كان مؤمنا، ويلعنانه إلى يوم القيامة إن كان كافرا.
وقيل هم أربعة؛ اثنان بالليل واثنان بالنهار، وقيل خمسة؛ واحد لا يفارق في الليل ولا النهار، وأربعة يتعاقبون؛ اثنان في الليل، واثنان في النهار. واختلفت فيما يكتب عليه؛ فقيل كل شيء حتى أنينه في مرضه، وقيل ما يكتب إلا ما يؤجر عليه أو يوزر. وعن الحسن أن الملائكة تجتنب الإنسان عند غائطه، والظاهر أنه أراد الكتبة دون الحفظة.
ومنهم ملائكة الجنة قال الله تعالى
والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم .
768
ثم ومنهم ملائكة النار قال تعالى
وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة
769
قال الفخر: ورئيسهم مالك، وأسماء جملتهم الزبانية.
ومنهم الملائكة التي تزجر السحاب قال تعالى
فالزاجرات زجرا .
770
ومنهم الموكلون بقبض الأرواح؛ وهم النازعات والناشطات؛ فالأولى لأرواح الكفار تنزعها من أقاصي الأبدان، والثانية لأرواح المؤمنين ينشطون أي يخرجون أرواحهم برفق.
ومنهم الموكلون بالمطر، نقل الواحدي عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال : لا تنزل نقطة من المطر إلا ومعها ملك. وفي الثعلبي عن ابن عيينة قال: بلغنا أنه ينزل مع المطر ملائكة أكثر من عدد ولد إبليس وولد آدم، يحصون كل قطرة حيث وقعت وما نبتت، والفلاسفة يحملون ذلك الملك على الطبيعة الحالة في تلك الجسمية الموجبة لذلك النزول. قال بعضهم: فإن قلت الملائكة النازلين مع المطر هل يفنون بفنائه أو لا؟ فإن قلت لا - وهو الحق - لزم أن تضيق الأرض بهم؛ لأن الملائكة متخيرة على الصحيح كما نطقت به ألسنة السنة النبوية، ثم أجاب
771
عنه بأن الظاهر أنهم يصعدون إلى السماء وينزلون مع المطر كل مرة لكونهم موكلين، أو أنهم يذهبون في غامض علم الله تعالى.
وأقول وجدت في بعض الآثار لا يصعدون، بل يتعبدون في المساجد الخربة ولا مانع من أن يوسع الله عليهم تلك الأمكنة حتى تسعهم ، ومنهم الملائكة الموكلون بأحوال هذا العالم. قال الفخر في تفسيره: وهم المرادون بقوله تعالى
والصافات صفا
772
وبقوله تعالى
والذاريات ذروا
773
وقوله تعالى
النازعات غرقا
774
إلى قوله
فالمدبرات أمرا ،
775
قال وعن ابن عباس أن لله ملائكة سوى الحفظة يكتبون ما يسقط من ورق الشجر فإذا أصاب أحدكم عجزه بأرض فلاة فليناد أعينوا عباد الله رحمكم الله.
قال الجيلي قدس سره في الإنسان الكامل في الكلام عن السماء الثالثة: ثم إن ملائكتها محيطون بالعالم، يجيبون من دعاهم من بني آدم قال: أريت ملائكة هذه السماء مؤتلفة لكن على أنواع مختلفة؛ فمنهم من وكله الله بالإيحاء إلى النائم، إما صريحا وإما بضرب ما يعقله العالم، ومنهم من وكله الله بتربية الأطفال وتعليم المعاني والأقوال، ومنهم من وكله الله تعالى بتسلية الهموم وتفريج الغموم، ومنهم من وكله الله بإيناس المستوحشين وبمكالمة المتوحدين، ومنهم من وكله الله بامتثال أوامر أهل التمكين ليخرج لهم ثمار الجنان على أيدي الحور العين، ومنهم من وكله الله بإضرام نار المحبين في سويداء اللب، ومنهم من وكله الله بحفظ صورة المحبوب لئلا يغيب عن عاشقه الملهوب، ومنهم من وكله الله بإبلاغ الرسائل بين أهل الرسائل.
776
انتهى.
وقال قدس سره في الكلام عن السماء الخامسة، وملائكة هذه السماء خلقهم الله تعالى مرائي للكمال، ومظاهر للجلال بهم عبد الله في الوجود، بهم دان أهل التقليد للحق بالسجود جعل الله عبادة هذه الملائكة كمثل تقريب وإيجاد الفقيه، فمنهم من عبادته تأسيس قواعد الإيمان في القلوب والجنان، ومنهم من عبادته طرد الكفار عن عالم الأسرار، ومنهم من عبادته شفاء المريض وجبر الكسير المهيض، ومنهم من خلق لقبض الأرواح بإذن الحاكم ولا جناح.
وقال قدس سره في الكلام عن السماء السادسة: جعل الله ميكائيل موكلا بملائكتها وهم ملائكة جعلهم الله معارج الأنبياء ومراقي الأولياء، خلقهم الله تعالى لإيصال الرقائق إلى من اقتضتها له الحقائق، دأبهم دفع الوضيع وتسهيل الصعب المنيع، يجولون في الأرض بسبب رفع أهلها من ظلمة الخفض، فهم أهل البسط بين الملائكة والقبض ، هم الموكلون بإيصال الأرزاق إلى المرزوقين على قدر الوفاق، جعلهم الله من أهل البسط والخطوة فهم بين الملائكة مجابو الدعوة لا يدعون لأحد بشيء إلا أجيب، ولا يمرون بذي عاهة إلا يبرأ ويطيب إليهم. أشار - عليه الصلاة والسلام - في قوله فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة أجيبت دعوته وحصلت بغيته، فما كل ملك تجاب دعوته ولا كل حامد يستطاب ثناؤه ومدحته.
قال: ثم إني رأيت ملائكة هذه السماء مخلوقة على سائر أنواع الحيوانات؛ فمنهم من خلقه الله على هيئة الطائر لا ينحصر للحاصر وعبادة هذا النوع خدمة
777
الأسرار؛ رفعها من حضيض الظلمة إلى عالم الأنوار، ومنهم من خلقه الله تعالى على هيئة الحيوان المسومة وعبادة هذه الطائفة المكرمة رفع القلوب من سجن الشهادة إلى قضاء الغيوب، ومنهم من خلقه الله تعالى على هيئة النجائب وفي صورة الركائب وعبادة هذا النوع رفع النفوس إلى عالم المعاني من المحسوس، ومنهم من خلقه الله على هيئة البغال والحمير وعبادة هذا النوع رفع الحقير وجبر الكسير والعبور من القليل إلى الكثير، ومنهم من خلقه الله على سائر بسائط الجواهر والأعراض وعبادة هؤلاء تدبير الأديان، ومنهم من خلقه الله على سائر بسائط الجواهر والأعراض وعبادة هؤلاء إيصال الصحة إلى أجسام أهل الأمراض، ومنهم من خلق على أنواع الحبوب والمياه وسائر المخلوقات انتهى.
وقال قدس سره في الكلام عن السماء الثانية: إن ملائكتها مخلوقون من نور القدرة، لا يتصور شيء في عالم الوجود إلا وملائكتها المتولية لتصوير ذلك المشهود ففي دقائق التقدير المحكمة في دقائق التصوير عليه يدور أمر الآيات القاهرة والمعجزات الظاهرة، ومنها تنشأ الكرامات الباهرة خلق الله من هذه السماء ملائكة ليس لهم عبادة إلا إرشاد الخلق إلى أنوار الحق انتهى.
تمت الرسالة الموسومة بوري الزند بالجزر والمد، وإن شئت قل يتيمة العصر في المد والجزر، تأليف
778
سيدي - وقد وفى - الشيخ الأكمل الأرشد الشيخ عبد القادر بن أحمد علي بن ميمي تغمده الله تعالى برحمته ورضوانه وأسكنه فسيح جناته آمين.
اللهم آمين
والحمد لله رب العالمين
تمام شد.
كاتب الحروف سيدي محمد مرتضى - عفا الله عنه - يبلك لا نبرير يبنه- رياح سنة 1931ع.
كان
779
الشيخ ابن حجر في حاشيته على إيضاح المناسك للنووي للقطب الشمالي، وهو كما قال الشيخان تبعا لأهل اللغة نجم صغير في نبات نعش الصغرى بين الفرقدين والجدي ومحله النصف من الخط الخارج بالوهم من الجدي إلى الكوكب المنير بين الفرقدين، وقول أهل الهيئة ليس نجما بل نقطة صغيرة تدور عليها الكواكب المذكورة، وهي وسطها مخالف لما ذكر في التسمية لا في الحقيقة والمرجع في التسمية لأهل اللغة. انتهى والله أعلى وأعلم.
خاتمة حول إسهامات العلماء العرب والمسلمين في نظريات وتطبيقات ظاهرة مد وجزر
البحار
مقدمة
تحظى ظاهرة المد والجزر اليوم باهتمام عالمي كبير؛ إذ يجد فيها الكثيرون إحدى بوابات الطاقة المتجددة والنظيفة التي يمكن الاعتماد عليها في المستقبل.
في الواقع، لنا أن نتلمس عدم اهتمام مؤرخي الغرب أو مستشرقيهم بإسهامات العلماء العرب والمسلمين في نظريات ظاهرة مد وجزر البحار من خلال الأبحاث والدراسات التي قاموا بها.
فالمؤرخ جون هوث
J. Howth
ذكر أن تفسيرات ظاهرة المد والجزر في البحار قبل أن يضع نيوتن نظريته في الجاذبية مشتتة.
1
في حين أن الكاتب العلمي إيدجر وليمز
W. Edgar
قال: «كان يوهانس كبلر أول عالم يفسر أن سبب المد والجزر هو القمر.»
2
وحتى أحدث وأوسع كتاب تناول هذا الموضوع من الناحية العلمية التاريخية للمؤرخ ديفيد كارتويت
D. Cartwright
لا نجده يخصص أكثر من أقل من صفحة واحدة للحديث عن أبي معشر البلخي فقط من بين عشرات العلماء العرب والمسلمين الذين درسوا الظاهرة!
وهو ما يدلنا على أن مؤرخي الغرب لم يطلعوا بما فيه الكفاية على ما ألفه وكتبه العلماء العرب والمسلمين. أو أنهم تقصدوا تهميش إسهامات العلماء العرب والمسلمين في تفسير هذه الظاهرة.
على العموم سنوجز فيما يأتي إسهاماتهم التي بذلنا جهدنا في تسليط الضوء عليها من خلال هذا العمل. (1) المبحث الأول: على مستوى الأرصاد
لقد امتدت أرصاد المؤرخين والجغرافيين العرب والمسلمين لظاهرة المد والجزر من الصين والهند شرقا إلى الأندلس غربا، ومن سواحل بريطانيا شمالا إلى المحيط الهندي جنوبا. وهي على مستوى كبير من الأهمية؛ لأنها يمكن أن تساعدنا في معرفة مستويات المد والجزر في كل قرن من القرون السابقة وصولا إلى القرن الحادي والعشرين، حيث يزداد معدل انصهار الجليد وارتفاع مستويات البحار.
الأمر الذي يمكن المختصين بعلوم البحار من رسم منحنيات ومخططات توضيحية للحال التي وصلت إليها الأمور، خصوصا بعد أزمات الاحتباس الحراري التي يعاني منها كوكب الأرض حاليا. (2) المبحث الثاني: على مستوى النظريات (1)
لقد قدم لنا الكندي نظرية جديدة أراد من خلالها تفسير ظاهرة المد والجزر في البحار وفق رؤيته الخاصة (وإن لم تكن دقيقة وفق نظرياتنا الحالية)، لكنها لم تكن مأخوذة عن أي عالم سابق له. كما قدم لنا تصنيفه للمد الطبيعي على أساس يومي وشهري وسنوي. (2)
قام أبو معشر البلخي بتحديد العوامل الأساسية لحدوث المد والجزر وهي حالة موضع الماء، وحالة الماء نفسها، وانتقال القمر في أطواره. (3)
قدم لنا أبو معشر البلخي - ربما - أول صياغة رياضياتية تمكن الراصد من التنبؤ بساعة المد والجزر. (4)
انتبه أبو معشر إلى وجود ثمانية أسباب تؤثر على قوة المد وضعفه. (5)
قدم لنا أبو معشر تصنيفه للمياه على أساس ما يحدث فيها من مد وجزر إلى ثلاثة أنواع. (6)
وقد تبين لنا بعد إجراء المقارنة الدقيقة أن الكثير من العلماء الأوربيين في العصور الوسطى قد اعتمدوا على نظرية أبي معشر في تفسير ظاهرة المد والجزر وبشكل كبير. (7)
حاول البطروجي أن ينحي أثر القمر في ظاهرة المد والجزر، معتبرا أن السبب هو حركة السماء التي تعلو كتلة المياه في البحار. (8)
قدم لنا عبد القادر البصري مناقشة واسعة جدا، وقد أورد - ربما أول مرة - مقارنة تشبيهية بين جاذبية القمر لمياه البحر وجاذبية المغناطيس للحديد، ليقترب بذلك كثيرا من مفهوم الجاذبية. (3) المبحث الثالث: على مستوى التطبيق
لمدينة البصرة أن تفخر بأن الوثائق التاريخية العربية والعالمية، التي عثرنا عليها حتى الآن، تشير إلى أنها أول مدينة عربية استثمرت طاقة المد والجزر واستفادت منها بشكل عملي، وذلك بواسطة الطواحين التي وضعتها في طريق المياه ذهابا وإيابا. وهم بذلك يسبقون الأوربيين على الأقل بثلاثة قرون في هذا المجال. (4) المبحث الرابع: أثر النظريات العربية على الفكر الأوربي
لقد مارست نظرية أبو معشر البلخي تأثيرا كبيرا على علماء أوربا في العصور الوسطى، خصوصا على كل من جيرالد الويلزي، وروبرت غروستيست، ودانييل المورلي، وتوما الأكويني، وروجر بيكون.
كذلك فقد أثرت نظرية البطروجي عن المد والجزر التي تستبعد أثر القمر كثيرا على روبرت غروستيست عندما اطلع عليها.
في حين أننا لم نعثر على أي دليل بشأن انتقال فكرة الاستفادة من طاقة المد والجزر التي ابتكرها أهل البصرة إلى الأوربيين.
قائمة المصادر والمراجع
أولا: المراجع العربية (1)
إخوان الصفا، رسائل إخوان الصفا، مجلد 2، دار صادر، بيروت، (د.ت). (2)
الإصطخري، أبو إسحاق، كتاب الأقاليم، تحقيق: مولر غوتا، 1893م. (3)
الإصطخري، أبو إسحاق، المسالك والممالك، دار صادر، بيروت، 2004م. (4)
ابن أبي أصيبعة، عيون الأنباء في طبقات الأطباء، تحقيق: نزار رضا، دار مكتبة الحياة، بيروت، (د.ت). (5)
ابن إياس، محمد بن أحمد، نشق الأزهار في عجائب الأقطار، مخطوطة في المكتبة الوطنية بباريس، رقم (
Arabe 2208 ). (6)
ابن إياس، محمد، نزهة الأمم في العجائب والحكم، تحقيق: عزب محمد زينهم محمد، ط1، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1995م. (7)
الباباني البغدادي، إسماعيل بن محمد أمين بن مير سليم، طبع بعناية وكالة المعارف الجليلة في مطبعتها البهية إستانبول، أعادت طبعه بالأوفست دار إحياء التراث العربي، ج1، بيروت، 1951م. (8)
الباكوي، عبد الرشيد، تلخيص الآثار في عجائب الأقطار، مخطوطة المكتبة الوطنية بباريس، رقم (
Arabe 2247 ). (9)
بدوي، عبد الرحمن، الأفلاطونية المحدثة عند العرب، كتاب الروابيع، وكالة المطبوعات، الكويت، 1977م. (10)
البطروجي، نور الدين، كتاب في الهيئة، مخطوطة مكتبة الإسكوريال، رقم (963). (11)
ابن بطوطة، أبو عبد الله، رحلة ابن بطوطة (تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار)، ج2، تحقيق وتقديم عبد الهادي التازي، أكاديمية المملكة المغربية، الرباط، 1997م. (12)
بطلميوس، المقالات الأربع، ترجمة: زياد الخفاجي، (د. د)، بغداد، 2009م. (13)
البغدادي، عبد المؤمن، مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع، تحقيق: السيد علي محمد البجاوي، ط1، ج2، دار الجيل، بيروت، 1992م. (14)
البكري، أبو عبيد، كتاب المغرب في ذكر إفريقية والمغرب، مكتبة المثنى ، إعادة طبع الجزائر 1857م، بغداد، (د.ت). (15)
البكري، أبو عبيد، المسالك والممالك، ج2، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1992م. (16)
البلاذري، أحمد بن يحيى بن جابر بن داود، فتوح البلدان، دار ومكتبة الهلال، بيروت، 1988م. (17)
ابن البهلول، الحسن، المختار من كتاب الدلائل، اختيار وتقديم: إياد خالد الطباع، وزارة الثقافة، الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق، 2014م. (18)
البيروني، أبو الريحان، تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة، ط2، عالم الكتب، بيروت، 1982م. (19)
بيكون، فرنسيس، الأورجانون الجديد، ترجمة: عادل مصطفى، رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، 2013م. (20)
تارن، و.و، الحضارة الهلنستية، ترجمة: عبد العزيز توفيق جاويد، المركز القومي للترجمة، العدد 1954، ط1، القاهرة، 2015م. (21)
التميمي المقدسي، محمد بن حمد، مادة البقاء، تحقيق: يحيى شعار، ط1، معهد المخطوطات العربية، القاهرة، 1999م. (22)
تويلييه، بيير، العالم الصغير، ترجمة: لطيفة ديب غرنوق، سلسلة العلوم -16، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 1995م. (23)
الجاحظ، أبو عثمان عمرو بن بحر، الرسائل الأدبية، دار ومكتبة الهلال، ط2، بيروت، 2002م. (24)
جبر، يحيى عبد الرءوف، التكون التاريخي لاصطلاحات البيئة الطبيعية والفلك-مجلة مجمع اللغة العربية في الأردن، العدد 46-يناير، عمان، 1994م. (25)
ابن جبير، محمد بن أحمد، تذكرة بالأخبار عن اتفاقات الأسفار، تحقيق: علي كنعان، ط1، دار السويدي للطباعة والنشر، أبو ظبي، 2008م. (26)
ابن الجوزي، سبط، مرآة الزمان في تواريخ الأعيان، ط1، ج19، تحقيق وتعليق: محمد بركات، كامل محمد الخراط، عمار ريحاوي، محمد رضوان عرقسوسي، أنور طالب، فادي المغربي، رضوان مامو، محمد معتز كريم الدين، زاهر إسحاق، محمد أنس الخن، إبراهيم الزيبق، دار الرسالة العالمية، دمشق، 2013م. (27)
أبو حجر، آمنة، المعجم الجغرافي، ط1، دار أسامة، عمان، 2009م. (28)
ابن حزم الأندلسي، علي بن أحمد، الفصل في الملل والأهواء والنحل، ج4، مكتبة الخانجي، القاهرة، (د. ن). (29)
حماد، حسين فهد، موسوعة الآثار التاريخية، دار أسامة، عمان، 2003م. (30)
الحموي، ياقوت، معجم البلدان، ج2، دار صادر، بيروت، 1995م. (31)
الحميري، محمد بن عبد الله بن عبد المنعم، الروض المعطار في خبر الأقطار، تحقق: إحسان عباس، ط2، مؤسسة ناصر للثقافة، بيروت، 1980م. (32)
ابن حوقل، محمد، صورة الأرض، ج2، دار صادر، أفست ليدن، بيروت، 1983م. (33)
ابن خرداذبة، عبيد الله بن أحمد، المسالك والممالك، أوفست عن طبعة ليدن، دار صادر، بيروت، 1889م. (34)
خسرو، ناصر، سفرنامة، تحقيق: يحيى الخشاب ، ط3، دار الكتاب الجديد، بيروت، 1983م. (35)
دبس، محمد، معجم أكاديميا للمصطلحات العلمية والتقنية، دار أكاديميا، بيروت، 1993م. (36)
الدمشقي، شمس الدين أبو عبد الله، نخبة الدهر في عجائب البر والبحر، طبعة فرين وأغسطس بن يحيى مهرن، كوبنهاجن، 1865م. (37)
ابن الدواداري، أبو بكر بن عبد الله بن أيبك، كنز الدرر وجامع الغرر، ج1، حققه مجموعة من المحققين، نشره عيسى البابي الحلبي، نشر بين عامي 1960-1994م. (38)
ديكارت، رينيه، العالم أو كتاب النور، ترجمة: إميل خوري، ط1، درا المنتخب العربي، بيروت، 1999م. (39)
الرازي، فخر الدين، المباحث المشرقية في علم الإلهيات والطبيعيات، ج2، منشورات بيدار- قم، ط2، 1990م. (40)
رايس، إ. إ.، البحار والتاريخ تحديات الطبيعة واستجابات البشر، ترجمة: عاطف أحمد، سلسلة عالم المعرفة، العدد314، تصدر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 2005م. (41)
ابن ربن الطبري، فردوس الحكمة في الطب، تحقيق : محمد زبير الصديقي، مطبعة آقتاب، برلين، 1928م. (42)
ابن رشد، تلخيص الآثار العلوية، تحقيق: جمال الدين العلوي، ط1، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1994م. (43)
الزركلي، خير الدين، قاموس الأعلام، ط5، ج2، دار العلم للملايين، بيروت، 1980م. (44)
الزهاوي، جميل صدقي، المد وتعليله، مجلة العلم، ج8، المجلد 1، العدد 1، النجف، 1910م. (45)
سارتون، جورج، تاريخ العلم، ترجمة: لفيف من العلماء، ج3، ط1، المركز القومي للترجمة، العدد 1638، القاهرة، 2010م. (46)
سباهي زادة، محمد بن علي البرسوي، أوضح المسالك إلى معرفة البلدان والممالك، تحقيق: المهدي عيد الرواضية، ط1، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 2006م. (47)
سزكين، فؤاد، تاريخ التراث العربي «أحكام التنجيم والآثار العلوية»، ط1، المجلد 7، ترجمة: عبد الله حجازي، جامعة الملك سعود، الرياض، 1999م. (48)
سزكين، فؤاد، تاريخ التراث العربي «علم الفلك حتى نحو 430 ه»، مجلد6، ج1، ترجمة: عبد الله حجازي، جامعة الملك سعود، الرياض، 2008م. (49)
ابن سيده، علي بن إسماعيل، المخصص، تحقيق: خليل إبراهيم جفال، ط1، ج3، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1996م. (50)
سهراب بن سرابيون، كتاب عجائب الأقاليم السبعة إلى نهاية العمارة، اعتنى بنسخه وتصحيحه: هانس فون مزيك، مطبعة أدولف هولز هوزن، فيينا، 1929م. (51)
السعدي، عباس فاضل، البيروني وجهوده العلمية في الرياضيات والفيزياء، مجلة التراث العلمي العربي، العدد 1، جامعة بغداد، بغداد، 2013م. (52)
سعيد، جلال الدين، فلسفة الرواق، مركز النشر الجامعي، تونس، 1999م. (53)
السيرافي، سليمان التاجر، رحلة السيرافي، المجمع الثقافي، أبو ظبي، 1999م. (54)
السيرافي، سليمان التاجر، عجائب الدنيا وقياس البلدان، دراسة وتحقيق : سيف شاهين المرخي، مركز زايد للتراث والتاريخ، ط1، أبو ظبي، 2005م. (55)
الشريف الإدريسي، محمد بن محمد، نزهة المشتاق في اختراق الآفاق، ط1، ج1، عالم الكتب، بيروت، 1989م. (56)
الشوك، علي، الثورة العلمية وما بعدها، دار المدى، دمشق، 2004م. (57)
الشيباني، ابن مجاور، صفة بلاد اليمن ومكة وبعض الحجاز المسمى تاريخ المستبصر، تحقيق: أو. لوفجرين، ليدن، 1951م. (58)
الشيرازي الشافعي، محمود، ابتداء دولة المغول وخروج جنكيز خان، ترجمة وتحقيق: يوسف الهادي، كربلاء، دار الكفيل، 2017. (59)
العباسي، عبد القادر باش أعيان، البصرة في أدوارها التاريخية، مطبعة دار البصري، بغداد، 1961م. (60)
عبد العليم، أنور، البحار في كتب البلدان، مجلة قافلة الزيت، العدد 7، المجلد 31، رجب 1403ه، إبريل-مايو، تصدر عن شركة أرامكو، الظهران، 1983م. (61)
عبد العليم، أنور، الملاحة وعلوم البحار عند العرب، سلسلة عالم المعرفة، العدد13، تصدر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1979م. (62)
عبده، طلعت أحمد محمد، وحورية محمد حسين جاد الله، جغرافية البحار والمحيطات، دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، 1997م. (63)
العمري، ابن فضل الله، مسالك الأبصار في ممالك الأمصار، ج16، ط1، المجمع الثقافي، أبو ظبي، 2002م. (64)
الغرناطي، أبو حامد، تحفة الألباب ونخبة الإعجاب، تحقيق: إسماعيل العربي، ط1، منشورات دار الآفاق الجديدة، المغرب، 1993م. (65)
فاخوري، محمود وخوام، صلاح الدين، موسوعة وحدات القياس العربية، ط1، مكتبة لبنان ناشرون، بيروت، 2002م. (66)
ابن فارس، أحمد بن زكرياء القزويني الرازي، أبو الحسين، معجم مقاييس اللغة، ج5، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، دار الفكر، بيروت، 1979م. (67)
أبو الفداء، عماد الدين إسماعيل، تقويم البلدان، المكتبة الثقافية الدينية، القاهرة، 2007م. (68)
فريلي، جون، مصباح علاء الدين، ترجمة: سعيد محمد الأسعد ومروان البواب، دار الكتاب العربي، بيروت، 2010م. (69)
القزويني، زكريا بن محمد، آثار البلاد وأخبار العباد، دار صادر، بيروت، (د.ت). (70)
القزويني، زكريا بن محمد، عجائب البلدان، مخطوطة مكتبة الدولة، برلين، رقم (
Diez A quart. 133 ). (71)
القزويني، زكريا بن محمد، عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات، تحقيق ومراجعة: سعد كريم الفقي وكرم السيد الأزهري، دار ابن خلدون، الإسكندرية، (د.ت). (72)
القلقشندي، أحمد بن علي بن أحمد الفزاري، صبح الأعشى في صناعة الإنشا، تحقيق: محمد حسين شمس الدين وآخرون، ط1، ج5، دار الكتب العلمية، بيروت، 1987م. (73)
القمي، أبو نصر، المدخل لعلم الفلك والتنجيم، مخطوطة مكتبة الدولة ببرلين، رقم (
Sprenger 1841 ). (74)
ابن كثير ، أبو الفداء، البداية والنهاية، تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي، ط1، ج 1، دار هجر للطباعة والنشر والتوزيع والإعلان، القاهرة، 1997م. (75)
ابن كثير، أبو الفداء، بداية خلق الكون، تحقيق: عادل أبو المعاطي، دار البشير، القاهرة، (د.ت). (76)
كحالة، عمر رضا، معجم المؤلفين، ج5، مكتبة المثنى ودار إحياء التراث العربي، بيروت، (د.ت). (77)
كراتشكوفسكي، أغناطيوس، تاريخ الأدب الجغرافي العربي، ترجمة: صلاح الدين عثمان هاشم، الإدارة الثقافية في جامعة الدول العربية، ج1، القاهرة، 1987م. (78)
كلوز، فرانك، النهاية، ترجمة: مصطفى إبراهيم فهمي، سلسلة عالم المعرفة، العدد191، نوفمبر (تشرين الثاني)، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1994م. (79)
كلوزييه، رينيه، تطور الفكر الجغرافي، تعريب: عبد الرحمن حميدة، دار الفكر، دمشق، 1985م. (80)
كومنس، نيل كومنس، ماذا لو لم يوجد القمر؟، مجلة علوم وتكنولوجيا، تصدر عن معهد الكويت للأبحاث العلمية، العدد 39، الكويت، يناير 1997م. (81)
الكندي، أبو يوسف، رسالة في العلة الفاعلة للمد والجزر، نسخة موجودة ضمن مجموع آيا صوفيا رقم (
AYASOFYA 4832 ). (82)
لانداو، ل. وكيتايجورودسكي، أ، الفيزياء للجميع، ترجم بإشراف: داود المنير، ط3، دار مير، موسكو، 1978م. (83)
ابن المجاور، محمد بن مسعود، صفة بلاد اليمن ومكة وبعض الحجاز (تاريخ المستبصر)، راجعه: ممدوح حسن محمد، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، 2018م. (84)
مجلة لغة العرب، العدد 26، ج3، صاحب امتيازها: أنستاس ماري الألياوي الكرملي، وزارة الإعلام، الجمهورية العراقية، مديرية الثقافة العامة، مطبعة الآداب، بغداد، 1913م. (85)
مجلة المقتبس، العدد 88، يصدرها محمد بن عبد الرزاق بن محمد كرد علي، دمشق، 1914م. (86)
مجلة الهلال، الجزء 6، السنة الأولى، أول فبراير (شباط)، القاهرة، 1893م. (87)
مجموعة من المستشرقين، تراث الإسلام، ترجمة: جرجيس فتح الله، ط2، دار الطليعة للنشر، بيروت، 1972م. (88)
محمدين، محمد محمود، التراث الجغرافي العربي، ط3، دار العلوم للطباعة والنشر، الرياض، 1999م. (89)
محيي الدين، عبد الواحد بن علي التميمي المراكشي، المعجب في تلخيص أخبار المغرب من لدن فتح الأندلس إلى آخر عصر الموحدين، تحقيق: الدكتور صلاح الدين الهواري، المكتبة العصرية، صيدا-بيروت، 2006م. (90)
المرزوقي، أبو علي، الأزمنة والأمكنة، تحقيق خليل المنصور، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1996م. (91)
المسعودي، أبو الحسن، مروج الذهب ومعادن الجوهر، ج1، ط1، اعتنى به وراجعه: كمال حسن مرعي، المكتبة العصرية، صيدا-بيروت، 2005م. (92)
المسعودي، أبو الحسن، التنبيه والإشراف، ج1، تصحيح: عبد الله إسماعيل الصاوي، دار الصاوي، القاهرة، (د.ت). (93)
المسعودي، عباس فضل حسين، المحيط الأطلسي في التراث الجغرافي العربي الإسلامي، مجلة آفاق الثقافة والتراث، السنة 23، العدد 89، مركز جمعة الماجد، دبي، 2015م. (94)
المصري، عبد الغني، غرائب الفنون وملح العيون، مخطوطة مكتبة بودليان رقم (
MS. Arab. c. 90 ). (95)
أبو معشر البلخي، جعفر، المدخل الكبير في علم أحكام النجوم، مخطوطة المكتبة الوطنية بباريس، رقم (
Arabe 5902 ). (96)
المغربي، أبو الحسن علي بن موسى بن سعيد، بسط الأرض في الطول والعرض، حققه: خوان فيرنيط خينيس، معهد مولاي الحسن، تطوان، 1958م. (97)
المغربي، أبو الحسن علي بن موسى بن سعيد، الجغرافيا، حققه ووضع مقدمته وعلق عليه: الدكتور إسماعيل العربي، منشورات المكتب التجاري للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 1970م. (98)
المقدسي البشاري، أبو عبد الله محمد بن أحمد، أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، ط3، مكتبة مدبولي القاهرة، 1991م. (99)
المقدسي، المطهر بن طاهر، البدء والتاريخ، ج2، مكتبة الثقافة الدينية، بور سعيد، (د.ت). (100)
المقري، أحمد، نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، تحقيق: إحسان عباس، ط1، ج1، دار صادر، بيروت، 1997م. (101)
المقريزي، تقي الدين، المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، ج1، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1998م. (102)
الموسوعة العربية العالمية، مؤسسة أعمال الموسوعة، الرياض، 2004م. (103)
مؤلف مجهول، الاستبصار في عجائب الأمصار، دار الشئون الثقافية، بغداد، 1986م. (104)
مؤلف مجهول، حدود العالم من المشرق إلى المغرب، تحقيق وترجمة عن الفارسية: السيد يوسف الهادي، الدار الثقافية للنشر، القاهرة، 2002م. (105)
مؤلف مجهول، طريق الرشاد إلى تعريف الممالك والبلاد، مكتبة بايزيد العمومية (رقم 4689). (106)
مؤلف مجهول، كتاب يشتمل على الآثار العلوية، كتاب ضمن مجموع، [Ahlwardt no. 7534; We1813] ، في مكتبة الدولة ببرلين. (107)
مؤلف مجهول، المدخل في علم أحكام النجوم، مخطوطة المكتبة الوطنية الفرنسية بباريس، رقم (
Arabe 6224 ). (108)
مؤلف مجهول، هيئة أشكال الأرض ومقدارها في الطول والعرض، مخطوطة المكتبة الوطنية باريس، رقم (
Arabe 2214 ). (109)
موسوي حسيني، عباس بن علي، نزهة الجليس ومنية الأديب الأنيس، ج1، تحقيق: خرسان محمد مهدي، المكتبي الحيدري، قم، 1996م. (110)
ابن ميمون، موسى، دلالة الحائرين، ج2، تحقيق: حسين آتاي، دار مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، (د.ت). (111)
ابن ميمي، عبد القادر، يتيمة العصر في المد والجزر، مخطوطة دائرة المعارف العثمانية، حيدر أباد الدكن، رقم (ق ع 110 / 423). (112)
نخبة من العلماء، العلم وأزمنته ، ترجمة: أيمن توفيق، ط1، المجلد1، ج2، المركز القومي للترجمة، العدد 1961، القاهرة، 2015م. (113)
ابن النديم، الفهرست، تحقيق : إبراهيم رمضان، ط2، دار المعرفة، بيروت، 1997م. (114)
النويري، شهاب الدين، نهاية الأرب في فنون الأدب، ط1، ج1، دار الكتب والوثائق القومية، القاهرة، 2002م. (115)
نيلينو، كرلو، علم الفلك تاريخه عند العرب في القرون الوسطى، الجامعة المصرية، ط1، روما، 1911م. (116)
هارون، عبد السلام محمد، كناشة النوادر، ط1، مكتبة الخانجي، القاهرة، 1985م. (117)
الهروي، أبو الحسن، الإشارات إلى معرفة الزيارات، ط1، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، 2002م. (118)
الهمذاني، أحمد بن محمد، كتاب البلدان، تحقيق: يوسف الهادي، ط1، عالم الكتب، بيروت، 1996م. (119)
هوث، جون إدوارد، الفن الضائع ثقافات الملاحة ومهارات اهتداء السبيل، ترجمة: سعد الدين خرفان، سلسلة عالم المعرفة، العدد441، تصدر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 2016م. (120)
هويت، بول ج. وسوشكوي، جون أ. وهويت، ليسلي أ.، مفاهيم العلوم الفيزيائية، مكتبة العبيكان-وزارة التعليم العالي، الرياض، 2014م. (121)
ابن الوردي، سراج الدين أبو حفص عمر بن المظفر، خريدة العجائب وفريدة الغرائب، تحقيق: أنور محمود زناتي، ط1، مكتبة الثقافة الإسلامية، القاهرة، 2008م. (122)
يحياوي، صلاح، الإبداع مصادفة أم ذكاء أم ماذا؟، مجلة الفيصل، العدد 251، الرياض 1997م.
ثانيا: المراجع الأجنبية (1)
Adams, Simon & David Lambert, Earth Science: An Illustrated Guide to Science, Chelsea House, New York, 2006. (2)
Cartwright, David Edgar, Tides A Scientific History, Cambridge UNiversity Press, Cambridge, 1999. (3)
Dales, Richard C., the Scientific Achievement of the Middle Ages, University of Pennsylvania Press, 1973. (4)
Daly, Chas. P., On The History of Physical Geography, American Geographical Society, Vol. XXII, No. I, Annual Address, 1890. (5)
Darwin, George Howard, the Tides and Kindred
1898. (6)
Dugas, Rene, A History Of Mechanics, Routledge &Kegan Paul ltd. London, 1957. (7)
Ekman, Martin, A concise history of the theories of tides, Surveys in Geophysics, Kluwer Academic Publishers,
(8)
Glick, Thomas F. (ed.). Marina Tolmacheva, Geography, Chorography. Medieval Science, Technology, and Medicine: An Encyclopedia. Routledge, 2014. (9)
Johnson, Walter, Folk-memory: Or, The Continuity of British Archaeology, Clarendon Press, 1908. (10)
Harris, Rollin Arthur, Manual of tides, Part 1, Govt. Print. Off., Washington, 1898. (11)
Laird, Edgar S., Robert Grosseteste, Albumasar, and Medieval Tidal Theory, Isis, University of Chicago Press, Vol. 81, No. 4 (Dec., 1990). (12)
Merton, E. S., Sir Thomas Browne’s Theories of Respiration and Combustion, Osiris, Vol. 10 (1952). (13)
Minchinton, W. E., Early Tide Mills: Some Problems, Technology and Culture, Vol. 20, No.4, The Johns Hopkins University Press and the Society for the History of Technology, (Oct., 1979). (14)
and his book De ingeneis, Cambridge, Mass., MIT Press, 1972. (15)
Rambosson, Jean Pierre, Astronomy, Chapman & Hall, London, 1875. (16)
Richard Lemay, Abu Ma’shar and Latin Aristotelianism in the Twelfth Century, The Recovery of Aristotle’s Natural Philosophy through Iranian Astrology, 1962. (17)
Schrum, Corinna, Tides and tidal flows,
https://folk.uib.no/ngfhd/HD2LHS/Tides_and_tidal_flows_A.pdf, 2006 . (18)
Singer, Charles, et al., A History of Technology, volume 2, Oxford, Oxford University Press, 1957. (19)
Stephen C. McCluskey, Astronomies and Cultures in Early Medieval Europe, Cambridge University Press, 2000. (20)
Veranzio, Fausto, Machinae novae Favsti Verantii siceni, Venice. (21)
Williams, Edgar, Moon, Reaktion Books Ltd, London, 2014. (22)
Woodward, John,
Oceans, DK Eyewitness Books, New York, 2008.
ثالثا: مواقع على الشابكة (الإنترنت)
https://alchetron.com/Abu-Ma
ʿ
shar
https://inventions.t4edu.com/inventions
https://en.wikipedia.org/wiki/Tide#cite_ref-25
https://en.wikipedia.org/wiki/Whirlpool
Bog aan la aqoon