وكان زديج يعجب حين يرى رجلا قد أتى تلك الأعمال الغريبة يفكر على هذا النحو الدقيق.
فلما أخذ القوم بحظهم من سمر ممتع لذيذ، قاد المضيف ضيفه إلى حجرتهما شاكرا لله أن أرسل إليه رجلين على هذا الحظ من الحكمة والفضيلة، ثم قدم إليهما شيئا من مال بطريقة سمحة كريمة لا تؤذي النفوس، فاعتذر الناسك وودع مضيفه زاعما أنه يريد أن يسافر إلى بابل قبل أن يشرق النهار، وكان وداعهم رقيقا، وكان زديج يشعر بشيء من الاحترام لهذا الرجل الحبيب إلى القلوب.
فلما صار الناسك وصاحبه في حجرتهما، أثنيا ثناء جميلا على مضيفهما، ثم أيقظ الشيخ رفيقه من آخر الليل قائلا له: «يجب أن نرحل، ولكني أرى قبل أن يستيقظ الناس أن أترك لهذا الرجل آية على ما أضمر له من حب وإكبار.» قال ذلك وأخذ مصباحا فأشعل النار في الدار، وقد روع زديج فجعل يصيح، وهم أن يمنع الشيخ من اقتراف هذا الإثم المنكر، ولكن الناسك كان يجذبه بقوة لا تقاوم على حين كانت النار تشتعل، والناسك ينظر إليها من بعيد في هدوء أي هدوء قائلا: «الحمد لله، هذه دار مضيفي قد دمرت تدميرا، ما أسعد هذا الرجل!» فلما سمع زديج هذا الكلام هم أن يضحك وأن يضرب الشيخ، وأن يسبه وأن يمضي لوجهه، ولكنه لم يصنع من ذلك شيئا، وإنما خضع لسلطان الناسك وتبعه كارها إلى المرحلة الأخيرة.
وقد انتهت بهما هذه المرحلة إلى أرملة محسنة فاضلة، يعيش معها فتى قريب لها في الرابعة عشرة من عمره وكان جميلا محببا، وكان أملها الوحيد، وقد ضيفتهما كأحسن ما استطاعت، فلما كان الغد أمرت قريبها أن يصحب المسافرين إلى جسر قد قطع منذ حين، فأصبح عبوره خطرا على الذين لا يعرفونه، ومضى الفتى أمامهم حفيا بهما، فلما بلغوا الجسر قال الناسك للفتى: «أقبل، فإني أريد أن أشكر لعمتك صنيعها.» ثم يأخذ بشعره ويلقيه في النهر، ويسقط الفتى ثم يطفو ثم يستخفي في لجة الماء.
هنالك لم يستطع زديج صبرا فصاح: «يا لك من وحش! يا لك من مجرم لم ير الناس مثله!» قال الناسك: «لقد وعدتني أن تصبر على ما ترى، فتعلم أن تحت هذه الدار التي دمرتها القدرة الإلهية كنزا عظيما قد ظفر به صاحبها، وتعلم أن هذا الفتى الذي قتلته القدرة الإلهية لو عاش لقتل عمته بعد عام، ولقتلك أنت بعد عامين.» قال زديج: «من أنبأك بهذا أيها الهمجي؟ وهبك قرأت هذا في كتابك، أمن حقك أن تقتل صبيا لم يسئ إليك؟»
وبينما كان البابلي يتكلم نظر فإذا الشيخ قد فقد لحيته، وظهرت على وجهه ملامح الشباب، وقد زال عنه ثوب الناسك ونبتت في جسمه المهيب أجنحة أربعة؛ قال زديج وهو يجثو: «أي رسول السماء أيها الملك الإلهي، فأنت إذن قد هبطت من أعلى عليين لتعلم إنسانا ضعيفا هالكا أن يذعن لسلطان القضاء الخالد.» قال الملك جسراد: «إن الناس ليقولون في كل شيء دون أن يعلموا شيئا، وقد كنت أشد الناس حاجة إلى أن تتعلم.» فاستأذنه زديج في أن يتكلم: «إني أتهم نفسي، ولكن أأجرؤ على أن أسألك أن تجلو لي شكا يقوم بنفسي؟ ألم يكن إصلاح هذا الصبي وتقويمه خيرا من إغراقه؟» قال جسراد: «لو قد أتيح له أن يكون خيرا وأن يعيش ويتخذ زوجا؛ لقتل وقتلت معه زوجه وقتل معهما ابنهما.» قال زديج: «ماذا؟ أليس من الجريمة والشقاء بد؟ أليس بد من أن يلم الشقاء بالأخيار؟» قال جسراد: «إن الأشرار أشقياء دائما، وإنهم محنة تمتحن بهم قلة من الأخيار مفرقة في الأرض، وليس من شر إلا وهو مصدر للخير.» قال زديج: «وما يمنع أن يوجد الخير ولا شر معه؟» قال جسراد: «إذن لتبدل الأرض غير الأرض، وتتابع الأحداث على أسلوب آخر من الحكمة، وهذا الأسلوب من الحكمة الكاملة لا يمكن أن يوجد إلا في الملأ الأعلى؛ حيث لا يستطيع الشر أن يرقى، وقد خلق الله ما لا يعين من العوالم ما ليس منها واحد يشبه الآخر، وهذا الاختلاف العظيم آية على قدرته التي لا حد لها، فليس من ورقتين في الأرض ولا كرتين في حقل السماء تشبه إحداهما الأخرى، وكل ما تراه على هذه الذرة الضئيلة التي ولدت عليها قد قدر له مكانه تقديرا حسب النظام الثابت الذي أبدعه القادر على كل شيء.
إن الناس يظنون أن هذا الصبي الذي هلك قد سقط في الماء مصادفة، وأن المصادفة نفسها هي التي حرقت الدار، ولكن المصادفة لا وجود لها، فكل شيء إما امتحان، وإما عقاب، وإما مكافأة، وإما احتياط، تذكر ذلك الصياد الذي كان يرى نفسه أشقى الناس، لقد أرسلك أوروزماد لتغيير مصيره، أيها الهالك الضعيف، لا تعترض على من يجب أن يعبد.» قال زديج: «لكن ...» وبينما كان يقول «لكن» كان الملك يرقى في السماء العاشرة، فجثا زديج ورفع إلى القدرة الإلهية عبادته وإذعانه، قال له الملك من أعلى السماء: «اسلك طريقك إلى بابل.»
الفصل الحادي والعشرون
الألغاز
مضى زديج في طريقه هائما، وقد خرج عن طوره كرجل سقطت الصاعقة منه غير بعيد، فدخل بابل في اليوم الذي اجتمع فيه المتنافسون في بهو من أبهاء القصر ؛ ليمتحنوا بتفسير الألغاز، وليجيبوا على أسئلة الكاهن الأعظم، وقد اجتمع الفرسان جميعا إلا صاحب اللأمة الخضراء، فلم يكد زديج يظهر في المدينة حتى اجتمع الشعب من حوله، ولم تكن العيون تشبع من النظر إليه، ولم تكن الأفواه تكف عن الثناء عليه، ولم تكن القلوب تكف عن أن تتمنى له الملك، وقد رآه الحسود فارتعش وحول وجهه، ثم حمله الشعب إلى مكان الاجتماع، وأنبئت الملكة بمقدمه فتنازعها الخوف والرجاء، وكان القلق ينهب نفسها نهبا، ولم تكن تفهم لماذا كان زديج مجردا من سلاحه، ولا لماذا كان إيتوباد يحمل اللأمة البيضاء.
Bog aan la aqoon