فهذه النخبة إذن ترجمان صادق للنزعة الفنية، وعلامة على روح جديدة في النظر إلى الحياة، وتتمثل هذه الروح في العطف على الطفولة، وفي العطف كذلك على السلف الذي باد أو كاد يبيد، ومن أمثلة ذلك قصيدة يقول ناظمها إنه يرثي للشيوخ، الذين يسمعون كلام الأبناء عن فجائع الحرب الأولى كأنهم يتكلمون عن حرب طروادة ووقائع الرومان؛ لأن كلامهم هذا ينتزع من حياة المجاهدين قطعة حية ليحيلها سمرا من الأسمار.
وموقفهم مما وراء الحياة لا يصدق عليه وصف اليقين والإيمان، ولكنه لا يدخل في باب اليأس المصطنع أو الهدم المعتسف، أو قلة الاكتراث المقصودة في الباطن باكتراث شديد.
وقد تصور هذا الموقف قصيدة في المجموعة، يقول ناظمها إنه لا ينتظر آخر النهار إلا أن يسمع منه قبل احتجابه صفوة بليغة مما حدث فيه واستحق الذكرى والتعبير، فإذا جاء الليل بعد ذلك فلتغمض العينان في انتظار الأحلام، أو على انتظار كيف كان.
روح طيبة لا ريب فيها.
وكل ما نلاحظه عليها أنها تتفاهم مع البشرية كأنها في ناد أو نزهة خلاء، وقد كان شعراء أمس ينظمون لإخوانهم من بني الإنسان كأنهم أبناء بيت يشتركون في أعراسه ومآتمه وفي وفره وفقره وفي سره وجهره، فأما هؤلاء الشعراء الذين تتحدث عنهم البشرية عندهم «أعضاء ناد»، لا يباح فيه للعضو المهذب إلا إشارة يلفت بها الزميل المذهب إلى منظر هنا أو صيحة هناك، ثم يكتفي بالإشارة ولا ينتظر الجواب.
على أنهم، بعد كل ما يقال، خير من شعراء البشرية التي يفتح فيها المتكلم فمه ليقول إنه لا يهتم بمن يخاطبه وإن من يخاطبه لا يهتم به، والسلام عليكم ورحمة الله، أو لا سلام ولا كلام ولا رحمة ولا لعنة ولا يحزنون ولا يفرحون!
قرأت للأديب الأستاذ أنيس منصور في إحدى أسبوعياته القريبة كلمة يسأل فيها: هل يوجد فن بغير قواعد؟
يا سيد أنيس! لا يوجد في الدنيا ولن يوجد لعب بغير قواعد معلومة للاعبين، فما ظنك بكرة القدم التي تلقى في كل اتجاه؟ وما ظنك بالشطرنج الذي ترمى حجارته أو تتغير بحجارة أخرى في كل دور؟ وما ظنك بالسباق من غير مجال ومن غير مسافة ومن غير ميعاد؟
يا سيد أنيس، القاعدة مع من يطلب الفن بغير قاعدة أنك تصفعه على قفاه!
أما أن تناقشه مناقشة الجد، فمن طول البال الذي قد يطلب من عباد الله الصالحين في الصوامع، ولست منهم ولا نحن بحمد الله!
Bog aan la aqoon