بينما كنت أعد النفس بلقيا شقيقي وأبني قصورا في الهواء، على رأي العرب، وقلاعا في الجو، على رأي الإنكليز، وقصورا في إسبانيا، على رأي الفرنسويين؛ وإذا بشبح ظهر من وراء السور، ولما تمعناه وجدنا رجلين يحملان شيئا فاختفينا قليلا وراء حائط صغير حتى قرب منا الرجلان، وسمعنا أحدهما يقول بصوت منخفض: لولا أنك تداركتني لقتلني هذا اللعين، شكر الله غيرتك، ولكنك لم تطعنه كما طعنته في جنبه طعنة كانت القاضية عليه.
فقال الآخر: لعن الله الفقر، أما والله لولا المعيشة وخوفي من الحاج علي لما مسست هذا الفتى الطاهر الأخلاق الغريب البلاد، ولو كان له أقارب يأخذون بثأره ما طلع النهار علينا، سر بنا لندفنه في الجبل بملابسه الملوثة بالدماء، ولا كفن ولا صلاة ولا مأتم، وارحمتاه عليك أيها الشاب الذي قتل شهيد الظلم والاعتساف!
وما جاء على آخر عبارته إلا وفؤادي يتقطع إربا والخادم يصيح: «قتل الشاب»، فلما سمعته صرخت بالرجلين دون روية: أنا قريبه، أنا أخوه، لا طلع النهار عليكما، لبيكما، لبيكما.
واندفعت لا أعي ولا أفقه، وصوبت الريفلفر نحو أحدهما فخر قتيلا يتخبط في دمائه وهرب الثاني في الظلام تاركا ما يحمله على الأرض، فدنوت منه وأنا كالقصبة في الريح العاصف وكان الظلام حالكا والبرد قارسا فلم أر شيئا، والتفت للخادم فلم أره بجانبي فخفت من مكيدة ووقفت باهتا أنتظر الموت والبلاء والسخط والهلاك. وليعلم القارئ أني تربيت في مصر كتربية أغلب شبانها؛ لا نعرف استعمال السلاح ولا المدافعة عن أنفسنا بغير شقشقة اللسان والسباب اللذين نستعملهما للمدافعة عن الشرف وما شابه ذلك، ولم أوجد خارج منزلي بعد الساعة اثنين من المساء حتى ولا كما يفعل إخواني الشبان المصريون في السهر في المراقص ومحال الفجور بين الأنوار الكهربائية والغازية حتى الصباح، فهذه كانت أول مرة وقفت فيها في الظلام الحالك منتصف الليل، ولا أنيس معي سوى قتيلين أحدهما ملتف في عباءة والآخر ملقى بجانبه يعالج سكرات الموت.
فاعتراني ذهول وتشنجت أعصابي وإذا بنور مصباح ضعيف يجري على بعد، فخفت أن يكون الرجل الذي فر عاد ومعه بعض أناس ليقتلوني، وتخيلت في فكري أن الخادم أغراني على ذلك ليقودني إلى المحاكمة، ونحو ذلك من التخيلات، وأنا لا أقدر على التحول من مكاني كأني تمثال من الصخر لا حراك بي، وإذا به الخادم جاء بمصباح من المنزل لكي نتمكن من معرفة القتيلين، ولما عرفته جرى الدم في عروقي وتجلدت أمام المصاعب، «آه! إن ذكرى ذلك الموقف تقشعر لها الأبدان، وتجلب لي الكدر والأحزان.»
فقلت للخادم: أين كنت؟ فقال: أحضرت مصباحا لنرى ماذا جرى. ثم دنونا من القتيلين فوجدنا شابا ملفوفا في عباءة ومطعونا في جنبه ، فوضعت يدي ما بين الضلع السادس والضلع السابع فشعرت بضربات قلبية خفيفة آخذة في الانقطاع، وحينما وقعت عيني على وجهه ورأيت ملامحه في المصباح شبه علي وجه والدي محتضرا على فراش موته؛ فاضطرب فؤادي وقلت في نفسي: ليت شعري، هل أنت شقيقي؟ وهل تكون نتيجة أسفاري وفراق حبيبتي وأوطاني أن أراك قتيلا مضرجا بدمائك وأدفنك في بلاد العرب، أم تعيش وتكون حياتك على يدي؟ ولقد دلني النبض الخفيف على أن لا تزال فيه بقية من الحياة، فأخذت عمامة الخادم وربطت بها الجرح لأمنع نزيف الدم ولففته في العباءة وأملت فيه الحياة، وأما الرجل الثاني فقد تحققت أن الرصاصة كانت القاضية عليه، ولكن بعد ذلك وقفت باهتا وحرت في أمري: أأنقل الجثة إلى بيت الحاج علي وهناك البلاء، أم آخذها إلى منزل مولاي شرف الدين فيتهمني بقتله، أو يقع بينه وبين الحاج علي ما لا تحمد عقباه؟ كلاهما أمران أحلاهما مر، وفي ذلك الوقت عدمت كل صوابي وصرت:
كريشة في مهب الريح طائرة
لا تستقر على حال من القلق
فشاورت الخادم فزاد الطين بلة بأن أكد لي أن الحاج علي سوف يتكدر مني ويعمل على قتلنا لأننا عرفنا أنه السبب في قتل الشاب، ولا سيما أن مولاي شرف الدين سيقوم ويقعد لهذا النبأ، وبعد مضي ساعتين تفكرت فيهما فيما أعمل، ويعلم الله أن تينك الساعتين كانتا كسنتين شاب فيهما شعر رأسي ولعمري إن ذلك الموقف يجعل الولدان شيبا، ولكن خطر على بالي أن الحر من تجلد عند مقابلة الخطوب ومحاربة الزمان ولا سيما في مثل ذلك الوقت، فلذلك تجلدت وقلت للخادم: هل لك محل تسكن فيه؟ أو هل تقيم دائما في منزل سيدي علي؟ - لي كوخ خارج المدينة، أذهب إليه بعض الليالي لأرى والدتي العجوز. - فلنذهب إلى هناك ولنأخذ معنا الجثتين، فنرمي جثة الرجل بالجبل ونحفظ جثة الشاب في الكوخ ونعالجه لعل الله يرد فيه الحياة، حيث لا يمكننا الآن أن نذهب إلى منزل الحاج علي، وكذلك لا يمكننا أن نأخذ شريفا على منزل مولاي شرف الدين لئلا تقوم قائمة العدوان بين الأخير والأول ونكون نحن السبب، ولا يخفاك أن سيدي عليا له علي مكارم لا يجحدها إلا اللئيم، وحاشاي أن أقابل حسن معاملته بالضد بأن أوقعه في تهمة القتل الفظيع، فما رأيك؟ - رأي حسن، وسأحمل هذا الرجل فهل تقدر على حمل الشاب؟ - لا شك أقدر، هلم بنا.
ثم حملت الشاب على صدري وكأن الله أعارني قوة عجيبة في تلك الساعة، ولقد وضع رأسه على كتفي كأنما أحس قلبه أنه على صدر شقيقه الوحيد في هذا العالم فاطمأن، وسرنا في نور المصباح الذي ربطه الخادم في ذراعه. وتفكر أيها القارئ في حالتنا وكلانا يحمل قتيلا أو شبه قتيل والظلام حالك والبرد قارس، وليت شعري إذا مت أو قتلت هل أجد من يحملني كما حملت ذلك الشاب أو أروح فريسة الطيور والوحوش؟
Bog aan la aqoon