وقال الأستاذ عن المقياس الثاني: «أما المقياس الثاني فأحسبه ليس كذلك فاصلا، فالطبقات الدنيا في الثقافة أو في الأخلاق لا تروج عندها إلا أنواع خاصة من القصص ليست هي التي يفاضل بينها الكاتب وبين الشعر، وكما يروج عندهم نوع من القصص رخيص كذلك يروج عندهم أنواع من الشعر رخيصة، على أننا نجد أن ميل العامة ليس دائما إلى القصص، فهناك من الأمم ما يميل عامتها وخاصتها إلى الشعر ويروج عندهم ...»
ونقول نحن: إن ميل بعض العامة إلى الشعر صحيح، ولكن حين يكون الشعر قصة، وحين يكون الشعر من قبيل ملاحم الهلالي والزير سالم، أما حين يكون الشعر وصفا كوصف ابن الرومي أو البحتري، وحكمة كحكمة أبي الطيب وأبي العلاء، وفخرا كفخر الشريف وأبي فراس، فالعامة لا تفضله على القصص التي تفهمها، وإن أسفت غاية الإسفاف.
ومما لا شك فيه أن عدد النسخ التي تصدر من ديوان المتنبي في الطبعة الواحدة أقل من عدد النسخ التي تصدر من ألف ليلة وليلة، أو من الروايات العصرية التي تتداولها الأيدي مرة في كل شهر أو مرة في كل أسبوع، وهذا مع إقبال القراء على ديوان المتنبي لغرض غير لذة المطالعة، وهو غرض الدرس أو المحاكاة، ومهما يكن من طبقة القراء الذين يقبلون على تلك الدواوين وتلك الروايات، فلا نزاع في أن الروايات إنما تروج لأن تحصيل لذتها أسهل وأقرب من تحصيل لذة الدواوين، وليس لارتفاعها عليها في طبقة الفن وملكة التأليف.
وقد يأكل الفقير اللحوم ويأكل الغني البقول، ولكننا لا نستطيع أن نقول من أجل ذلك: إن البقول طعام الأغنياء، وإن اللحوم طعام الفقراء.
وكذلك قد يوجد من العامة من يقرأ الشعر حتى الرفيع منه، كما يوجد من الخاصة من يقرأ القصة حتى الوضيع منها، ولكننا لا نستطيع أن نقول من أجل ذلك: إن الشعر هو قراءة الجهلاء، وإن القصة هي قراءة المثقفين.
الفصل التاسع والثلاثون
ندرة البطولة
كتب العالم الفاضل الأستاذ أحمد أمين بك مقالا في الرسالة ذهب فيه إلى أن البطولة قد ندرت في العصر الحديث، فلا تجد في الشعر أمثال بشار وأبي نواس وابن الرومي، ولا في النثر أمثال ابن المقفع والجاحظ وسهل بن هارون، ولا في السياسة أمثال عمر بن الخطاب وعمر بن العزيز، ولا في الغناء أمثال إسحاق الموصلي وإبراهيم بن المهدي، وعلل ذلك على الجملة بانتشار التعليم وكثرة المتوسطين بين الناس.
وقد ناقشه صاحب الكتاب بالمقال الأول من المقالين التاليين، فنادى الأستاذ قائلا: «إن كثرة العلماء والفنانين في عصرنا الحاضر حجة لي لا علي؛ وهي السبب في أننا لا نعدهم نابغين ولا أبطالا.» إلى أن قال: «فعصرنا الحاضر طابعه طابع المألوف والمعتاد لا طابع النابغة والبطل، وإن كان مألوفنا ومعتادنا أرقى من نابغة القرون الماضية وبطل القرون الماضية.»
وفي المقالين التاليين بيان لوجهة النظر الأخرى في هذا الموضوع:
Bog aan la aqoon