العهد عهد هيرودوس، فتذكروا سخرة فرعون ورق سبي بابل، فطفقوا يتمطقون بما في النبوءات من آمال وأماني معسولة عن عودة ملك إسرائيل ، فقال أحدهم واسمه ناتان مترنما: «وأنت يا بيت لحم، أرض يهوذا، لست الصغيرة في الأمم؛ لأن منك يخرج مدبر يرعى شعبي إسرائيل.»
فقال منسى ضاحكا: أنبياء بسطاء يرجمون في الغيب، ويرشقون في الهواء حجارة طائشة تحار فيها الذرية.
أح، أح، دب للنار بالحطب يا يمين، الليلة باردة جدا، مكتوب علينا الرق لأننا عصينا يهوه، ويهوه رب ثارات، وثارات لا يغفر ولا يرحم.
قال هذا وأخذ يوحوح ويقضقض، ثم أخفى رأسه في لبادة كما تختفي البزاقة في حلزونها، فاستدفأ وأخذ ينعس ويهوم، فصاح به ناتان: أوع يا منسى، يا تعس شعب يغفي رجاله حين يتحدثون عن حريتهم، وعن مصيرهم.
أما يمين فاستضحك وانطوى ينفخ النار من صدر كأنه الكور، والنار تدخن ولا تشتعل، فاصفرت لحيته المبيضة وكساها الرماد طبقة رقيقة، فأضحك منظره رفيقيه.
وبينا هم في حال كالتي يكون فيها المرء بين الغافي والواعي، إذا برجل طلع عليهم بغتة فانشقت أعينهم، ثم انفتحت عليه متفرسة، فإذا بنور عجيب ملأ الوادي وفاض على رءوس القلل، وارتخى الفك الأسفل فانشق الفم نصف شقة، وأصبحت وجوه الرعيان كالزعفران، فقال لهم ملاك الرب: لا تخافوا، ها أنا أبشركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب، ولد لكم اليوم في مدينة داود مخلص هو المسيح الرب، وهذه لكم العلامة: تجدون طفلا مقمطا مضطجعا في مذود.
كان الرعيان الثلاثة يسمعون مشدوهين، لا يفهمون ما يقال لهم لأن عقلهم كان موزعا، كانوا يفكرون بالنور الذي لم يبصروا مثله من قبل، وبالرجل المنتصب أمامهم، وما اطمأنوا إلى المشهد العجيب حتى تلاه أعجب، دهمتهم طغمات منظورة وغير منظورة من الجند السماوي، ظهروا مع الملاك وأنشدوا جميعا النشيد الوطني الدولي:
المجد لله في العلا، وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرة.
وأسدل الستار وانتهى الترتيل والتهليل، ورجع سفراء السماء ورسلها أدراجهم، وظل الرعاة مبهوتين مما رأوا وسمعوا، وبعد دقائق معدودات انحلت عقدة لسان ناتان فقال لرفاقه: يا هو، بيت لحم على رمية حجر منا، فهيوا بنا إليها لننظر ما خبرنا به هؤلاء.
فضحك منسى ولكنه مشى، وسار يمين وراءهما متهدجا، وما كان أشد تعجب منسى حين أبصر ثوره وحماره قد سبقاه إلى الخان المعلوم، فالتفت ناتان إلى منسى التفاتة كاد يأكله بها وكأنه يقول له: تأمل يا قليل الإيمان، حمارك سبقك، لقد صحت بنا كلمة أشعيا القائل: «عرف الثور قانيه والحمار معلف صاحبه، لكن إسرائيل لم يعرف، وشعبي لم يفهم ...»
Bog aan la aqoon