وتحلحل الناس عن مقاعدهم إيذانا بالانصراف، فما استمهلهم ولا استبقاهم، ولما خلا ببيته شرع يطوف فيه كالمجنون، ينادي بنته فيهتف باسم أمها، ويدرك خطأه فيعبر عن غيظه بصريف أسنانه، كانت مصيبته أشد لو لم تكن بنته تستطيع قضاء حاجات البيت البسيطة.
وهال فرنسيس موقفه الصعب، فنام على غيظ عازما على أن يبرق إلى هدلا لترجع، وفي الصباح رأى جارته سلطانة منهمكة في تهيئة القهوة والفطور بعدما نظمت ما تشوش من أثاث البيت، فأعجبته منها هذه المروءة فشجعها بالشكر الجزيل، فنظرت إليه بعينين فاترتين مهدتا الطريق لهدلا، فمزق فرنسيس البرقية ...
أما هدلا فكانت مضطربة ساهمة، روعها البحر وآلمها فراق زوجها وأولادها، فما جفت دموعها، لم يرق لها شيء مما حولها من شخوص وأشياء، هل يا ترى نرجع إلى الأوطان، ونرى سنديانة الكنيسة وندبك حولها ليلة العيد؟ قالت هذا عفوا وبصوت مسموع، فوضع الجار المتهيئ للملمات ذراعه الجبارة على كتفيها وكادت تطوق عنقها، فأحست برعشة غير مألوفة وأبدت حركة تملص، ولكنها لم تتملص بل أجهشت إليه، وظل الجار يحاسنها ويطايبها حتى لانت وأفرخ روعها.
كانت هدلا تحسب بيروت سيدة مدن العالم، فإذا بها تتضاءل في نظرها أمام مدينة مرسيليا، ولفتت نظرها طيور غريبة متجهة صوب الشط، فقالت بسذاجة: ترى هذه الطيور مهاجرة مثلنا، وهل الصغيرة منها أولاد لها؟ وكادت تبكي فامتدت ذراع الجار ولكنها ارتدت هذه المرة، وبعد أيام قضتها هدلا في مرسيليا انفكت بضع عقد من جبينها المقطب، فأصبح منظرها طريا لينا مألوفا، فحامت حولها العيون، أرسلت كتابا حاد العواطف، ولكن خط الجار العكش وبيانه المبتذل قلل من روعتها، ولولا بيت «عتابا» أرادت هدلا أن يختم به الكتاب، لكانت الرسالة جوفاء.
ما أخذ فرنسيس المكتوب حتى صرخ: «هذا خطه!» دبت الغيرة إلى قلبه فاحمر وجهه وازرق، وأخذ يتخيل الغرفة التي اختلت بها زوجته بالجار حتى كتبا هذا الكتاب، كان يقف عند كل عبارة ويقول: كيف تناظرا عندما كتبا إلي هذه الجملة؟ وظل يردد مثل هذه العبارات حتى نهاية الكتاب، وأخيرا ألقاه على الطارحة إلى جانبه وقال: «من يسكر لا يعد الأقداح.» ثم صرخ بجارته: «هاتي قهوة مرة، مرة حاذقة يا سلطانة.» وبينا هو يحسو القهوة كالمفكر ويدخن النارجيلة مع المصطبحين عنده، سمع هتاف صبيان فأصغى، وتعالى الهتاف: «يا يسوع شد طلوع، شيخ الضيعة مات الجوع.»
فزفر زفرة وأظهر أنه لا يسمع شيئا، وأخذ يرفع صوته ليخفي الأغنية عنهم، وأخيرا سكت الصبيان فهدأت أعصاب الشيخ بعد قليل، وتنفس كمصاب بضيق الصدر وقد زالت عنه الأزمة.
يقول المثل اللبناني: «من تزوج بالدين باع أولاده بالفائدة.» الفائدة ترهب الفلاح والرهن أعظم نكبة تحل به، فصاحبنا فرنسيس ينظر إلى جارته نظرة حامية، ولكن تذكر البيت المرهون يبردها، يخاف أن يكتب أولاد الحلال إلى زوجته، كما هي العادة في القرى، فتبرد حرارته، ولا يتمنى على الله إلا توفيق هدلا إلى مبلغ يفك الرهن، فالبيت كما يقول الفلاح اللبناني: «أول المقتنى وآخر المبيع.» كان على فرنسيس أن يرهن كل ما يملك ما عدا البيت، ولكن ما بات فات، وعلى هدلا المعول.
إنها في ميناء نويرك، شدهت لرؤية التمثال العظيم وراعتها ناطحات السحاب، وظلت تضرب في الولايات المتحدة حتى استقرت في مدينة سنسناتي، وبعد لبث أشهر فيها ذهبت عنها سيماء القرية، جمال عربي، شعر كالفحم، وعين سوداء مكحلة تذبح ذبحا، وابتسامة فيها كل ما خلق ربنا من جاذبية، تهبط آيات جمالها على القاسية قلوبهم فتلين وتنفتح لها أبواب الخزائن.
عشقها لأول نظرة فتى من أغنى أغنياء بلاد الدولار، فنصب شراكه في دربها فوقعت الحمامة في الشبكة وتركت «الجار» في بلواه ... كانت الشبكة مرصعة بالذهب والألماس، فرفلت بالحرير والديباج، وسكنت بيتا مفعما بالرياش الثمينة والرسوم الفنية المغرية المثيرة، صار ذلك العش الأدونيسي هيكل عشتروت لبنان، يتركه الشاب صباحا ليأوي إليه مساء، حيث يتهجد ويسجد لدميته، فانتقلت هدلا من دار زعامة الضيعة إلى دار زعامة شامخة تشد بنيانها ملايين الدولارات، وفكرت ليلة بزوجها وبنيها، فبكرت إلى البنك فكانت حوالتها عشرين ألف ريال: عشرة آلاف لفك الرهن، وخمسة آلاف دوطة لبنتها، وخمسة آلاف لمصروف الشيخ فرنسيس وتعليم الأولاد.
وقبض فرانسيس المبلغ وهو لا يشك أبدا بطهارة ذيل بنت عمه، وكان دائما يقول للناس: ما نظرت عيني امرأة أحرص من بنت عمي هدلا. والتف الناس حوله بعدما جفوه، وعاد الشيخ شيخا، ولم يسمع في القرية بعد ذلك: يا يسوع شد طلوع ...
Bog aan la aqoon