وعظة وديك
كانت الحرب التي مضت حربا مفترسة، غرزت أنيابها في القرية اللبنانية فأثخنتها الجراح، فهاتيك البيوت المتهدمة أفواه من جماد تشهد أن البشر أشد فتكا من إخوانهم في اللحم والعظم.
كنت عام المجاعة - 1917 - في قرية من جرود كسروان أقوم بعمل حكومي، فدهمنا الميلاد فيها، وكان لي في تلك القرية صديق جمعتني وإياه مدرسة الحكمة سنتين، ثم تفارقنا وانقطع الحبل، صار صديقي حارثا في كرم الرب، وتهت أنا كما أراني حتى الساعة، كان صاحبي متمسكا بدينه لا يقبل فيه الجدل، شعاره: «من تمنطق فقد ترندق، الإيمان وكفى.» وإن أحرجته تجمعت أصابعه وصارت يده دبوسا أقطع من برهان ذي حدين ...
بلغ صديقي نبأ قدومي «السعيد» فأرقل إرقال الجمال المصاعب، وأقبل علي بلحيته الوارفة فقال رفيق آخر: احزر من هو؟ فأنكرت منه كل ما كنت أعرف، ولم تنحل المعضلة الكبرى إلا حين تكلم وابتسم.
حبسنا الثلج في تلك الضيعة أياما، فكان صاحبي في أثنائها يتصرف بي كما يتصرف في عقار ورثه عن جد جده: ارحم فلانا فأرحمه، وفلانة أرملة مقطوعة لا تجعل عليها ضريبة وارمة فنأخذ من الجمل أذنه. - مارون، غدا عيد الميلاد، أتسمع وعظتي؟ - وعظتك أنت، أنت تعظ؟ - نعم، ووعظا يرضيك. - حسبتني نسيتك يا زيدان. - أنت مغشوش، تندم إذا لم تحضر. - غيابي وأندم خير من هلاكي بالبردين ...
والتفت فإذا بأصابعه تتجمع فأخذت حذري، فضحك وقال: يا سبحان الله، ما زلت كما كنت. تسمع ما يرضيك إن حضرت، كنيستي ليست كاتدرائية ولكنها خشوعية قديمة من عهد الفينيقيين، فيها رهبة ونور ضئيل، تلهم أشياء أشياء.
قلت: إذا يتضاعف هم القديس هيرونيموس في كنيستك. ورأيته لم يدرك ما عنيت فضحكت وقلت: الكنيسة معتمة ... فأجاب وهو يزعزعني بيديه كأنه يقلع توتة: والقسيس أعمى، احضر يا مارون، واحك ما تريد.
ودقت أجراس القرى تسبح الله نصف الليل، وقرع جرس كنيسة صاحبي فتغلغلت في فراشي وقلت في نفسي: أعتذر له بغرقي في النوم، ولكن صاحبي لم يحل عن عهدي به فجاء بنفسه، وفتح الباب وهو يقول: المجد لله. فقلت: وعلى الأرض السلام.
فقال: «قم، بلا طق حنك، لا سلام ولا رجا صالح لك، أنا عاجنك وخابزك.»
وساقني أمامه.
Bog aan la aqoon