كأن ساحتها مرآة فولاذ
ترن إن قرعت أرجاء بغداذ ... بعد هاتيك الحرب
خوى عرش الملكة المخفية فزرت القرية المعلقة مرة ثانية، بهت إذ وجدتني قدام باب هامد كان بالأمس نباضا كقلب العصفور المروع، البيت بلا سكان كجسم بلا دم، والوقوف عنده وعند المقبرة سواء بسواء، كان الجاهليون على حق إذ بكوا على الطلول، فخراب البيوت كموت الأحياء، كان بيت أم نخول دنيا عامرة مؤنسة فإذا به اليوم كهيكل مهجور، لا كلاب تعزف فتنفخ روحا محييا في ذاك المحيط الأعزل، ولا حيوانات أليفة تناجينا عيونها البريئة الحلوة، لا ثور يخور ولا جدي يمعو، ولا حمار ينهق ولا هرة تموء، سكون راعب ناء بكلكله على ذلك البيت كأنه ليل امرئ القيس.
الشجيرات الغضة الشباب نحلت واصفرت فهي قائمة حوالي البيت كالمسلولين يتفرجون حول المصح، والعرائش سقطت عن أرائكها فهي مبعثرة هنا وهناك كأشلاء المحاربين بعد المعركة، الأرض بور منذ سنوات فسيطر الشوك على مملكة أم نخول، فبدت كالحسناء في الأطمار.
دققت الباب دقة يائس فما رد علي أحد، ودفعته فانفتح فخلتني أمام باب قبر، البيت الذي كان لماعا مصقولا كترائب أم الرباب، أمسى منكوتا كأنه وكر قنفذ تنبعث منه روائح العفن وقد فارقه صفاء القرية النقي.
في أرضه الزبالة وعلى حيطانه ستائر من نسج العنكبوت، والرتيلاء تروح في سقفه وتجيء كأنها أم نخول حين كانت تسدي، لم أسمع حس أحد في ذلك البيت القاتم الأعماق، الخالي إلا من الذكريات الصامتة، فصحت محدثا نفسي: «وأين هي أم نخول؟» فإذا بصوت يقول: «من؟» فالتفت حيث نجم الصوت فرأيت في الزاوية الغربية الشمالية لحافا يتحرك، وامرأة تصلب على وجهها ثم تقول: «تفضل، أهلا وسهلا.»
وبعد تسليم شرحه طويل جلست قبالتها على كرسي يصوصي تحتي ويقوقي كلما تحركت، فأحكمت جلستي معتمدا على ركبتي أكثر من اعتمادي على تلك الخشبات المفككة، وقلت لها: «عرفت من أنا يا أم نخول؟»
فتفرست بي بحدقتين منفتحتين وقالت: «أمهلني.» وطالت المهلة فقلت ممهدا طريق المعرفة: وأين «غبار» يستقبلني ذاك الاستقبال الراعب؟ فضحكت وأجابت بحسرة زادتها ابتسامتها الفاترة وضوحا: «مسكين غبار ! راح مع من راحوا.» وأطرقت تعصر صدغيها بيسراها، أردت أن أكفيها مئونة الجهد وأعرفها بي، فأومأت بجمع يدها أن أمهل، فقلت لها: «لا تكلفي نفسك يا خالتي، يستحيل أن تعرفيني، الدنيا تغيرت، ونحن تغيرنا معها، فكيف تعرفينني؟»
فأجابت: «عرفتك، عرفتك، أنت جئتنا منذ عشرين سنة، نعم نعم، أنت كبرت ونحن شخنا، لا تحسب أنا نسيناك، زيارتك تاريخ للضيعة، كيف حال الوالد؟»
فقلت: «وهبك الله عمره.»
Bog aan la aqoon