Jiritaanka Diineed
الوجودية الدينية: دراسة في فلسفة باول تيليش
Noocyada
ومع هذا كان ينازعه دائما اشتياق لزيارة المدينة الكبيرة - برلين. وكان الخط الحديدي الذي ينقله إليها هو في حد ذاته نصف أسطورة؛ وهذه الفتنة التي حملتها المدينة قد وقته خطر الرفض الرومانتيكي للحضارة التقانية، وعلمته أن يقدر أهمية المدنية من أجل تطور الجانب النقدي للحياة العقلية والفنية؛ لقد ظل حتى آخر لحظة في حياته يشعر بالارتباط الأقوى بالريف والطبيعة عموما، وهذا الارتباط تنامى في ذهنه أكثر عبر رحلاته وسفرياته البحرية في عرض البحار، وهو يرى أن مشهد البحر الصاخب المترامي الآفاق الذي يفتئت دوما على الشاطئ الجامد قد ألهمه بالكثير من رموزه وأفكاره، ومعظمها تخلق إما تحت الأشجار وإما في عرض البحار.
5
ومع هذا فإن الريف لم يستأثر به، وظل على الحدود بينه وبين المدينة، أو بين الطبيعة والمدنية.
وهو على أية حال قد خرج من أعطاف حياة شونفليس الهادئة الوادعة المشبعة بزخم الدين، حين التحق بالمدرسة الثانوية في كونجسبرج
Köngisberg - موطن كانط - وتلقى تعليما علمانيا؛ فواجه لأول مرة المثل الكلاسيكية لليبرالية الأوروبية، مثل حرية التفكير الخاضع فقط لمعايير العقل؛ وعلى الرغم من رفضه لليبرالية الاقتصادية، فإنه يؤكد دائما ليبراليته في التفكير. لقد تلقى هذه المثل - والتي عايشها أكثر في برلين، حين انتقل والده للعمل هناك عام 1900م - بحماس شديد، لكن لا يخل إطلاقا من ولائه للدين وتحمسه الأعمق لحيثيات اللاهوت؛ فقيمة تيليش تتجلى في وقوفه على الحدود بينهما - حسب تعبيره الأثير - وجمعهما معا بحيث جعلهما القطبين المتعامدين والمشكلين لهيكل تفكيره؛ القطب الديني اللاهوتي الذي استقطبه في طفولته وصباه (شونفليس)، والقطب الفلسفي الناسوتي الذي استقطبه في مراهقته ويفاعته (كونجسبرج وبرلين)، على أن الأول بالطبع هو الأساس والجذر والجذع. إن تيليش ينشغل بالدين وبصره شاخص إلى الاشتراكية والعدالة الاجتماعية والحرية والقضايا الثقافية، أو مشاكل الحضارة المعاصرة، ومن قبل ومن بعد بالمعضلة الوجودية للإنسان الفرد.
ويخبرنا تيليش أن الخيال الذي تأجج في خاطره بين سن الرابعة عشرة والسابعة عشرة ثم لازمه طوال حياته، هو الذي حال بينه وبين الوقوع في براثن المدرسية - بالمعنى الحرفي للكلمة، وكان الخيال وأعظم تعبيراته - أي الإبداع الفني، له دائما تأثير كبير على أفكاره الفلسفية واللاهوتية؛ لقد تذوق الموسيقى منذ طفولته، وكان أبوه يؤلفها، ويؤكد أن الموسيقى الكنائسية شيء أكثر من ضروري لتتحقق التجربة الدينية، ولكن عشقه للفنون اتجه توا للأدب، فله سحر خاص وهو أكثر الفنون تضمنا للفلسفة، «ويرى تيليش أن تعاطفه الغريزي مع الفلسفة الوجودية يعود من ناحية ما إلى فهم وجودي لأعمال شكسبير التي ترجمها شليجل إلى الألمانية، خصوصا «هاملت».»
6
ولم يجد تيليش أبعادا وجودية في أعمال جوته؛ لذلك لم تجذبه كثيرا. ويعد ريلكه أكثر الشعراء الألمان تأثيرا عليه؛ لواقعيته المستقاة من التحليل النفسي، ولثرائه الصوفي والشحنة الشاعرية المشبعة بمضمون ميتافيزيقي ؛ على أن زوجة تيليش هي التي قادته حقيقة إلى عالم الشعر؛ ولم يكن الأب يبدي اهتماما بالفنون البصرية، فلم يلتفت إليها في طفولته وصباه، ولكن الخراب والقبح الذي خلفته الحرب العالمية الأولى جعل فن التصوير يجتذبه، وتطور الأمر إلى دراسة منهجية لتاريخه ومعايشة عميقة لاتجاهاته الحديثة، وتبقى فنون العمارة والموزيكو والفسيفساء، ولا شك أن التاريخ والمعمار الكنسي كفيل بها.
وقد تلقى تيليش تعليمه العالي في اللاهوت والفلسفة بجامعات ماربورج ودرسدن وفرانكفورت، ووجد في فلسفة شلنج
F. W. Schelling (1775م-1854م) للطبيعة، بغيته التي تتجاوب مع عشقه لها وتمنحه الإطار النظري لتفسيرها بأنها المظهر الدينامي لروح الخالق والهادف إلى إدراك الحرية المتعالية على الثنائية التناقضية القائمة بين الإنسانية والحتمية الكونية.
Bog aan la aqoon