Jiritaanka Diineed
الوجودية الدينية: دراسة في فلسفة باول تيليش
Noocyada
ونأتي للأخلاق الوجودية، فنجدها أخلاق موقف مشدود إلى المستقبل، لا قانون مستكن في الماضي؛ لذلك قيل إن «الاتجاه الأخلاقي للوجودية يحدد النظر إلى التاريخ على ضوء المستقبل.»
17
وأشباه المتعلمين ذوو النظرة العجلى المبتسرة يتصورون أن الحرية الوجودية ستجعلها فلسفة انحلال وإباحية، في حين أنها تحمل الإنسان أقسى مسئولية خلقية لا عن ذاته فحسب، بل عن الإنسانية جمعاء، على أساس أن اختيار قيمة معينة تأكيد لها، ودعوى للآخرين كي يختاروها، إنها اختيار للذات وللإنسانية جمعاء، التزام وإلزام.
18
فتتلخص أخلاقيات الوجودية في: تصرف بحيث يصبح فعلك أنموذجا للتصرف في كل موقف مماثل، في أي زمان ومكان، وكأننا وصلنا بالطريق المعكوس إلى أقصى صورة عرفتها الفلسفة للأخلاق الصارمة المتشددة؛ أي مبدأ الواجب المطلق عند إيمانويل كانط. ولئن كان الوجوديون، حتى بعض المؤمنين يحتقرون الأخلاق المتعارف عليها؛ لأن اتباعها الأعمى انقياد للآخرين وطمس للفرد، فإنه ليس في مقدور الإنسان أن يقف عند حد رفض القيم الجاهزة، إنما هو مقضي عليه أن يؤسس قيما يلتزم بها ويلزم بها الآخرين، لتصبح كلية على الرغم من أنها في أصلها ذاتية، هكذا يصبح الإنسان الأخلاقي مشرعا ومنفذا؛ فهو الخالق الوحيد لمعنى القيم في العالم. إنهم يبحثون عن مستوى أعمق للضمير، فيسلمون بحرية الإنسان ويرفعون من عليه كل وصاية أو إلزام مسبق؛ حتى لا يلتزم إلا بما يختار ويقرر هو الالتزام به، وبهذا تكون الأخلاق ذاتية نابعة من أعماق الفاعل متأصلة فيه، لا خارجية مفروضة عليه ربما بصورية فارغة، وتكون المسئولية عن الفعل من حيث كانت الحرية في الإقدام عليه. فالحرية والمسئولية وجهان لعملة واحدة كما تقضي مبدئيات التفكير، وكما يسلم كل دستور أو قانون؛ فلا يعد الفاعل مسئولا عن أية جريمة - مهما كانت بشعة - أرغم على ارتكابها بصورة أو بأخرى، وطبعا لا يوجد فيلسوف وجودي أو غير وجودي، مؤمن أو ملحد، يقول إن كل شيء مباح، ولن يوجد. والمفروض أن المسئولية الملازمة للحرية تقوم بعملية الضبط الأخلاقي المنشودة دائما، في كل موقف، فردي أو جمعي.
وتلك المكانة الفائقة للحرية من ناحية، وللموقف من الناحية الأخرى، جعلت الوجوديين شديدي العناية - على وجه الخصوص - بالمواقف التي يتجلى فيها معالم الحرية، كالتصميم والتعهد والالتزام والولاء، وعلى رأسها موقف الاختيار واتخاذ القرار - الطريق إلى الوجود الأصيل. من هنا كان «القرار» أحد محاور الفلسفة الوجودية، وكلنا نعلم صعوبته، وقد نحاول إرجاءه أو تجنبه، خصوصا حين القرارات الخطيرة التي يترتب عليها مواقف ذات دوام، كقرارات المهنة والزواج والصداقة. على أن القرار في كل حال يتضمن وثبة وتجاوزا للموقف المباشر، بحيث نكون قد ألزمنا أنفسنا بظروف لم تتعين وتتحقق بعد؛ فمن طبيعة الإنسان أن يلتزم وأن يراهن على المستقبل؛ لذلك لا بد أن يتخذ قرارات، وعنها تنبثق الذات.
19
الذات ليست معطاة جاهزة منذ البداية؛ المعطى حقل من الإمكانيات غير المتعينة، وبالقرار يختار الإنسان بعضا منها لتتعين وتشكل الذات. وعلى الرغم من أن القرار شاق ومؤلم، فإن النزعة الوجودية - على وجه الدقة - هي رفض كل ما يحول دون اتخاذ القرار حول الوجود الخاص، كالعرف والتقاليد والروتين؛ إنهم يحاربون كل ما يعمل على تشكيل حياة الأفراد في قوالب نمطية، تجعلهم يسيرون كالدهماء وراء قرارات اتخذت بالفعل، فيفقد الإنسان ذاته، ويقع في براثن الوجود الزائف.
وآية كل هذا يبلوره التمييز بين الوجود والماهية. ورغم أن هيدجر قال إن ماهية الإنسان كامنة في وجوده، فإنه يمكن اعتبار القول بأسبقية الوجود على الماهية من المعالم البارزة للوجودية، ذلك أن أي جماد أو نبات أو حيوان، ماهيته سابقة أو متآنية مع وجوده؛ المنضدة مثلا قبل وبعد أن تصنع، وفي أية مرحلة من مراحل وجودها مجرد منضدة؛ الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يسبق وجوده ماهيته، «إنه لا يأتي إلى الوجود كموضوع في مكان وزمان، بل كنشاط مستمر للحرية.»
20
Bog aan la aqoon