Weelka Marmarka
الوعاء المرمري
Noocyada
وعاد المطاردون آخر النهار ومعهم جموع من الأسرى وأكداس من الغنائم، ولم يبق من أثر المعركة سوى حطام يغطي السفح! أشلاء جنود وخيل، وقطع من سلاح ، ودماء متجمدة، وخدوش في الأرض، وحجارة مبعثرة. وكان مسروق مسجى بثيابه النفيسة المجوهرة، تلوثها بقعة من دماء داكنة اللون. ومالت الشمس إلى رءوس الجبال الجرداء، والبحر ما يزال هادئا كأنه بساط زبرجدي، تتواثب أشعة الأصيل على رءوس أمواجه الفاترة، كأن لم تهلك دولة في أثناء ذلك النهار.
واعتزل سيف على صخرة من الساحل، يحس في صدره قبضه كأن الملك لم يصبح بين يديه. لقد قتل حتى مل من القتل، وأسال دماء أعدائه حتى كره منظر الدماء، ورأى جثة أخيه معفرة في الرمال، وصدقت نبوءة الساحرة عليه. كأن هزيم الرياح كان يتنبأ له بها في كهف ينور، وها هو ذا جيشه المنتصر يضرب خيامه فوق الهضبة التي كان عليها جيش مسروق في الصباح، ولم يبق شيء يحول بينه وبين غمدان، ولكن صدره بقي ضيقا ثقيلا لا ينعشه نسيم البحر ولا تستفزه نشوة الانتصار.
وقال في نفسه: مسكينة ريحانة! فلعلها في تلك الساعة تجلس مطرقة في شرفتها تنظر إلى الفضاء وتحدث نفسها كما كانت تحدثها دائما عن قسوة الأمس والغد، وهي تفكر في ولديها الذين يقفان وجها لوجه في المعركة الصارمة، ولعلها في تلك الساعة تسأل نفسها أي ولديها هلك وهي مفجوعة في الحالين. أكانت تحسب عندما قالت له: «اذهب في الأرض» أنه سيعود يوما ليقاتل أخاه؟ أكانت تتوقع أن يكسوم يهلك، ويخلي بينها وبين المقادير لتسخر منها؟
وهل يلقى خيلاء؟ أهي هناك في تلك الساعة في دير نجران؟ أيستطيع أن يعود إليها ويحدثها عن مغامراته ومصادفاته، والمآزق التي وقف فيها حتى استطاع أن يظفر بالملك آخر الأمر؟ وهل يقوى أن ينظر في عينيها الصافيتين وصورة طليبة تتخايل أمامه دونها؟ طليبة التي قتلت نفيل بن حبيب من أجله، والتي كانت تستغرق في ضحكها وهي تعزم على العودة إلى الحانة؛ لترقص حتى تعيا وتشرب حتى لا تعي ثم تنتظر قضاءها الفظيع؟ أكان يجرؤ أن يطرد من حياته تلك الهرة الوحشية، ويعود إلى خيلاء يسألها أن تعود إليه؛ ليتنسم السلام من عندها، ويعيش معها سائر حياته في كذبة متصلة؟
وأفاق من غمرة أفكاره على صوت الأبواق ودق الطبول مؤذنة بالسير إلى صنعاء.
الفصل العشرون
قال الراوي:
وجد سيف غمدان كما تركه منذ أربع سنوات، بستانه اليانع الذي لا يبخل بزهره لا يبالي أي عين تنظر إليه، ولا يضن بعطره الزكي لا يبالي أي صدر يمتلئ منه. وكانت طبقاته السبع ما تزال شامخة بقبتها المرمرية التي تلمع في ضوء الشمس، مثل منارة على رأس جبل. وكانت أبهاؤه على عهدها، فسيحة أنيقة بأعمدتها الوردية، وسقوفها المذهبة، ونقوشها البديعة، وآنيتها الفضية، وتماثيلها الرائعة، والأسود النحاسية الأربعة التي تزأر كلما هب الهواء في أجوافها، وعناقيد المصابيح المتدلية من السقوف كأنها قطع من زخارفها. كان كل ذلك كما تركه سيف، ولم يتبدل في القصر شيء سوى سيده، وكان الوعاء المرمري ما يزال على قاعدته الرشيقة الأبنوسية، في الركن الذي طالما كتم همسات نجواه مع خيلاء.
ولكن خيلاء لم تكن تنتظره أو تحييه ببسمتها، أو تعتب عليه بنظرتها، أو تبادره قائلة في دهشة: «أنت هنا؟» ووقف سيف حينا إلى جانب الوعاء المرمري وهو متجه إلى جناح أمه ريحانة.
وعادت إليه حرقته كيوم رآها تخرج من صنعاء في هودجها على طريق نجران. هي خيلاء التي لا يهتز قلبه إلى امرأة كما يهتز إليها أو إلى صورتها. كانت هي أمنيته الكبرى قبل أن يلقي به اليأس منها إلى أمنيته الأخرى؛ تحرير أمته. وها هو ذا قد عاد إلى غمدان ملكا، وها هو ذا شعب صنعاء يهتف باسمه عند أبواب المدينة وعلى جانبي الطريق، حتى تبعه إلى فناء القصر، ولكنها لم تكن فرحته الكبرى. أما تجتمع له الأمنيتان معا؟
Bog aan la aqoon