Weelka Marmarka
الوعاء المرمري
Noocyada
ونظر سيف إليه وهو يحس نحوه انجذابا يشبه انجذاب من يرى أعجوبة، ثم قال له: نعم سألتك عن أبي، وتحدثت لي عنه.
فوضع نفيل يده على جبينه ثم قال: لا شك أنك كرهت ما قلته لك. كلهم يكرهون ما أقول إذا استولت الخمر على لبي، أما أنا فلا أذكر شيئا سوى خيال غامض من صور متفرقة. إني أعتذر إليك يا سيف مما لست أعرف، فإني لا أذكر ما قلته لك. لست أدري ما ذلك الذي يلتبس بي إذا سكرت.
وكان صوته عند ذلك صافيا ونظرات عينيه هادئة، واكتسى وجهه مسحة من سماحة، وعاد فاتكأ على مرفقيه شاخصا ببصره إلى الأفق الأغبش، وقال كالحالم: هي أيام مضت وتباعد العهد بها، أتأملها في هذه الساعة كما أتأمل صورة صاحب سايرته حينا في مفازة، ثم ثرت به في ساعة لعبت بها الخمر برأسي فقتلته ودفنته في الرمال وخلفته وراء ظهري، لا يعرف مقره أحد غيري، فإذا ذكرته يوما ملأ الأسف قلبي وشعرت بالجريمة، فلا أجد مفرا منها إلا بأن أنسى. لست أحب أن أكذبك، وحسبي ما كان مني. عرفت أبا مرة منذ كنا شابين نتنافس على ما يتنافس الشباب عليه، وكان أبرع مني في الرماية والفروسية، وأقوى مني في المصارعة والمسابقة، وكان فوق ذلك أحب إلى الفتيات مني. ولست أحب أن أطيل عليك، فإن قلبي كان يتقد منه غيرة؛ لأن فتاتي تعلقت به، وإن كان هو متعلقا بابنة عمه. لم يكن له ذنب سوى أنها أحبته، وكان ذلك كافيا. فلم يقف بي الحقد عند غاية، ولم أتورع عن شيء في منافستي. وأقبلت على الخمر في شراهة وحنق، وعرفت بين الناس بأنني عربيد، لا تؤمن وثبتي إذا أخذ الشراب مني. اقترب مني يا سيف، فإنني إذا أعليت صوتي شعرت بقشعريرة ، ويخيل إلي أن أشباحا ترقص في ضوء القمر. كم قتلت من الناس في هذه الثورات بغير وعي مني، حتى ملني الصديق وتبرأت مني عشيرتي من خشية ما أجره عليها من جرائري.
وانحدرت إلى هوة عميقة مع خنجري الذي رأيته، كم قذفت به إلى صدر عدوي، وكنت أحس نشوة من الفرح كلما أصاب قلبا، كأنني صائد يحس السرور عندما يصيب صيدا. لم يخني ذلك الخنجر إلا مرتين، وهذه الليلة إحداهما، أما الأخرى فكانت عندما كنا نحارب أبرهة. كان أبوك عائدا من موقعة منصورة، وأوقدت النيران ونحرت الإبل ودارت علينا الخمر احتفاء بالبطل الظافر، ووجدت نفسي أكثر من الشراب، وكانت النيران تلتهب في صدري من الحقد، فلما أخذ الشراب مني عربدت عليه - على أبي مرة - في أقوال لا أذكر منها حرفا، وانقلب السامر إلى منازلة عنيفة، وقذفته بخنجري رمية كادت تخترق صدره، ولكن يدي خانتني. وكانت تلك الليلة فاتحة الهاوية. أتسمع يا سيف؟ تخلى عني قومي ولم أجد لي صديقا، وشعرت بوحشة زادت قلبي غليلا، فانقلبت على قومي، وساعدت أبرهة. أتسمع قولي؟
وكان سيف يكبح نفسه قسرا. ومضى نفيل قائلا: وانتصر أبرهة، فشعرت بشيء يشبه السعادة عندما عدت إلى قومي سيدا على رغم أنوفهم. وعرفت أن أباك جرح في المعركة وتسلل هاربا في الليل يهيم على وجهه، فالتهب الفرح في قلبي.
ثم تبين لي بعد قليل أنني صرت عبد أبرهة. نعم، عرفت أنني بعت حريتي بحقدي، فاستعنت على النسيان بالخمر أعب منها حتى أنسى، ولكن قلبي كان ينطوي على حقد آخر من عبوديتي لأبرهة، فأطلق السكر أقوالي تفوح بما في نفسي.
فلما ذهبت إليه يوم عزم على الخروج إلى مكة ...
وضحك ضحكة جشاء حتى ظن سيف أنه يعود إلى تخليطه، ولكنه قال في هدوء: قلب لي أبرهة ظهر العداوة، وخاطبني كما ينبغي للعبد أن يخاطب. وخرجت من عنده وأنا عازم على استرداد حريتي. ولكن ... ولكن قومي لم ينسوا، أتسمع؟ تخلوا عني وتركوني في المعركة مع حفنة من عشيرتي أمام جنود أبرهة، ونجوت بنفسي من حراب الحبشة بأعجوبة، وتسللت في الليل أحس المطاردة من ورائي.
ثم وقعت أسيرا، وذهبوا بي إلى أبرهة، وهناك وجدت زميلا استسلم قبلي، أتسمع عن ذي نفر؟ كان الشيخ يحسب أن مناة تنصره، فلما رأيته هناك عاد حب الحياة يملأ نفسي. ولست أدري أأنا الذي خدعت أبرهة أم هو الذي خدعني؟ فاستنجدت بالشيطان ورضيت أن أعود عبدا لأبرهة وأكون دليله، أدبر له المكائد في حرب قريش.
ولما بلغت مكة ورأيت الكعبة تحت بصري، صاح قلبي قائلا: «اضرب ودمر واقتل.» وتمنيت لو رأيت الكعبة ذليلة محطمة وقد نقضت من أساسها حجرا حجرا، وتصورت ذل قريش أمام أبرهة، وتصورت ذا نفر عندما تقع عينه على أصنام مناة واللات والعزى معفرة في الرمال، والتهب صدري شماتة. كان كل العرب أعدائي؛ لأنهم جميعا يتخلون عني.
Bog aan la aqoon