على الموقف؛ إذ وهنت معنوياتها بالجوع وبالمطر الشديد، وكانت حادثة الكسوف قد ألقت الذعر في نفوس الجنود من الخرواتيين المعتقدين بالخرافات، وخضع البعض من الجنود الطليان، بينما الآخرون ولا سيما الجنود من موارفيه وبوهيمية؛ قد دفعهم اليأس إلى القسوة فارتكبوا فظائع تقشعر لها الأبدان، حتى راديتسكي نفسه لم يخجل من أن يأمر جنوده بقتل الأسرى من الأهلين، واضطر بعد ذلك إلى إخلاء الكتدرائية، واستولى أهل المدينة على جميع الحصون المحيطة بها فقدر راديتسكي حرج الموقف؛ إذ لو تحرك الجيش البيمونتي بسرعة لقطع عليه خط الانسحاب فاضطر أخيرا إلى طلب الهدنة، إلا أن اللجنة التي استلمت كتابه رفضت شروط راديتسكي بعد أن هب الشعب يطالب باستقلاله وسفك دمه في سبيل حريته.
وأخذ يتوارد على أذهان أهل ميلانو السؤال التالي: هل يجب أن يطلبوا مساعدة شارل ألبرت؟ وكان أكثر زعماء الحركة من الجمهوريين الذين ينظرون إلى مدى أبعد من الاستقلال، إلى عهد الأخوة والإصلاحات الاجتماعية العظيمة الشأن.
وكان «كتاينو» أحد هؤلاء الزعماء يريد أن يحصر الحركة في النزاع بين الدمقراطية الميلانية وبين الجيش النمسوي، وكان يكره البيمونتيين كرها عظيما، وقد أرسلت إلى الملك في ساعات القتال الأولى رسالة استنجاد فجاء الجواب وعدا بالمساعدة فيما إذا وصل إليه طلب من قبل شخصية ذات مقام في ميلانو.
وأصبح الناس في عشية الانتصار، وهاجم المتطوعون الذين هرعوا من مونزه وكرمة وبرغامة الأبواب الخارجية فلم يبق بيد النمسويين في صباح 22 آذار إلا القلعة والحصون، وهاجم أهل ميلانو الأبواب من الداخل واستولوا على أحدها مساء.
ثم استمر القتال طول الليل، وكانت في أثنائه مدافع القلعة تضرب المدينة، وكان راديتسكي قد قرر الانسحاب قبل يومين بعد أن أخذ الجوع والذعر يهددانه، وقد أظهرت الحادثة للعالم أن جماعة غير منظمة لا تملك السلاح في أول أمرها قد هزمت جيشا منظما كامل العدة بعد قتال عنيف استمر خمسة أيام، سميت أيام ميلانو الخمسة وغدت من مفاخر إيطالية.
أما البندقية فقد تخلصت من دون سفك دماء وأعلنت الجمهورية، إذ إنه حين وردت أخبار فينا في 17 آذار استولى الجمهور على السجن وأخلى سبيل مانين وتوماسو، وأدار مانين دفة الأمور بالكياسة التي تقتضيها الظروف، وكان أظهر مقدرة عظيمة كرجل سياسي في قضية مد السكة الحديدية بين ميلانو والبندقية؛ إذ استطاع بلباقته وصلابته أن يحمل السلطة على مد تلك السكة بصورة تلائم الرغبات القومية، وقد أدرك أن دور استعمال الوسائل المشروعة للحصول على الآمال الوطنية قد فات فأصبح الهدف الذي يتوخاه بعد خروجه من السجن هو طرد النمسويين من المدينة بلا سفك الدماء وصيانة أرواحهم إلى حين تأسيس الحكومة.
وكان لدى النمسويين سبعة آلاف مقاتل فضلا عن الأسطول المرابط بالقرب من المدينة، ونصف هؤلاء الجنود والقسم الأعظم من بحارة الأسطول من الطليان والدلماسيين، وقد اضطربت السلطات في المدينة لسقوط مترنيخ ولانقطاع أخبار فيينا عنها، وحدث أن أطلق الجنود الرصاص على الجمهور فدق ناقوس كنيسة القديس ماركوس يدعو الأهلين إلى القيام، ونشرت الرايات المثلثة الألوان، وكان مانين يعرف كيف يعتمد على العامة من أهل البندقية، وكان يقول للذين لا يثقون بهم: «أنتم لا تفهمونهم ومزيتي الوحيدة أني أفهمهم.»
وكان أول عمل قام به أن طلب إلى الحاكم الموافقة على تأليف الحرس المدني، وحين تمت الموافقة كان أربعة آلاف نفس قد انخرطوا في سلك المتطوعين، وبينما كان البعض من الزعماء ميالا إلى قبول الدستور النمسوي الجديد كان مانين وصحبه يستعدون لإعلان الجمهورية بعد أن شجعتهم أخبار ميلانو، وليس في هذا ما ينافي الهدف العام في الوحدة الإيطالية، فستندمج فنيسيه فيها نزولا عند إرادة الأمة.
وفكر مانين في الاستيلاء على دار الصناعة البحرية، وبينما كان يضع الخطة لذلك إذا بالثائرين يتسرعون فيقتلون الحاكم المكروه، فأصبح همه أن ينقذ الموقف قبل أن ينتقم النمسويون، فتقدم بعشرين رجلا من الحرس المدني نحو دار الصناعة، وكان يعلم أنه سوف ينال عطف العمال وأكثر جنود البحرية القائمين على حراستها.
واستحوذ الرعب على الضابط حين رأى رجال مانين واعتداده فسلم إليه مفاتيح دار الصناعة، وهكذا وقعت أعظم دار للصناعة في إيطالية بيد مانين، ثم أذعن النمسويون للأمر الواقع وأخلوا المدينة، وحين غادروها أعلن الجمهورية وأصبح الدكتاتور.
Bog aan la aqoon