وكان الأساقفة يبذلون جهدهم ليحولوا دون انتشار التعليم، حتى خلت بعض المديريات من أي فرد يقرأ ويكتب، ومما يدل على انتشار الجهل أن القانون كان يحتم أن يكون ثلث أعضاء مجلس المديرية ممن يحسنون القراءة والكتابة، ولكن الجامعة كانت ذات مقام وصيت، فدروسها تلقى اهتماما وتتبعا كثيرا، وأساتذتها يتمتعون بالاستقلال إلى حد ما، بيد أن بلادة الحياة والجو الصاخب في العاصمة كانا يفسدان أخلاق فتيان الولايات أحيانا.
ويمكن تشبيه الحكومة بهرم رأسه الملك وقاعدته الشرطة والرهبان، فما اهتم الرأس ولا القاعدة بالمصلحة العامة قط، وهذه وزارة الداخلية كانت سوقا يروج فيه بيع المناصب وشراؤها، وكان بعض الموظفين الكبار يحتكرون الحنطة للمضاربة بها على حسابهم الخاص، وقد استولى وزير الداخلية على أثمن قنى خرائب «بومبئي» لمجموعاته التحفية الذاتية، ولم تتردد حاشيته (أو من يعملون معه) من الاقتداء به، ولا يجوز محاكمة الموظف إلا بموافقة الملك، فاستغل الموظفون هذه الحصانة كل الاستغلال.
وكانت الشرطة تخل بحرمة المراسلات وتقوم هي بعمليات التهريب، وتخبر الأشقياء من أهل كلبريه حينما يتهددهم خطر الحكومة، وقد تؤويهم حين يطاردون، وكان أكثر الأشراف راضيا عن ذلك ما دام القسم الأكبر من المتاع المنهوب ينتهي إليهم، وكان أشراف كلبريه يتغيبون عن محل سكناهم ويترددون على العاصمة، الأمر الذي لم يكن مألوفا في جميع إيطالية.
وكانت ضرائب الجمرك فاحشة، حتى تناولت الكتب الأجنبية فحالت دون دخولها، وكانت الطبقة المثقفة ضئيلة العدد. ولا ينكر أن البعض من القضاة والأدباء كانوا ذوي ثقافة راقية إلا أنه كانت تعوزهم الحيوية والوطنية اللتان يمتاز بهما مثقفو شمال إيطالية ووسطها، وكانت الدسائس وارتباك الحكومة عبارة عن عراقيل أمام كل المشاريع، وقد فرض الملك بعض القيود على المصارف وألغى شركات التأمين.
وكانت نابولي أكبر مدن إيطالية، ويبلغ عدد نفوسها ثلاثمائة ألف ونيفا، وكانت العاصمة بالنسبة لسائر المدن ابن الحكومة المدلل، فبينما القرويون يتضورون جوعا كانت الحكومة تجود بالإعانات لمسرح «سان كارلو» وكانت جمعية «لزاروني
Lezzaroni » البالغ عدد أعضائها أربعين ألفا ونيفا تضم خليطا من فاسدي الأخلاق والعاطلين الذي حجرت الآلام قلوبهم وزادتها غلظة بالاعتقادات الباطلة، وكانوا يتحفزون لتلبية أول نداء يحدوهم إلى قتل الصناع والتجار ونهب ما يستطاع نهبه باسم منفعة العرش والمذبح، أما جمعية «كامورا
Camora » فكانت ذات تنظيمات مروعة تستخدمها لحماية الإجرام وجباية الضريبة السوداء.
وكان خمس أسداس العمال يخدمون في الأرياف، وتحتوي المملكة مقاطعة «ترادي لافورو» الخصبة فضلا عن منطقة المراعي السهلة على ضفاف الأدرياتيك ومزارع الزيتون الغنية، وكان القسم الأكبر من البلاد ذا خصب يفوق الوصف، بيد أن إهمال الحكومة وسوء الإدارة حالتا دون الاستفادة من هذا الخصب إلا في بعض الساحات الضيقة.
وعرقل الزراعة في القسم الجنوبي من البلاد فقدان الطرق، فكان طبيعيا ألا تتقدم الزراعة تقدما يذكر، وأن تكون غلة الحبوب والجوز والزيت رديئة، وكانت أكثرية المزارعين تستأجر مزارعها بشروط باهظة، ثم تدفع الفوائد الفاحشة إلى الشريف المرابي وإلى الدائن، ويحدث - أحيانا أن يؤجر قسم كبير من الأرض، وذلك رغم تحظير التشريع الإفرنسي بعقود كثيرة الأجل جدا حتى إذا ما انتهت استلم الشريف الأرض وغلتها بتعويض قليل أو بدونه، ثم يأتي دور جابي الضرائب ليأخذ ما أبقاه الملاك.
وكانت هناك ضريبة فاحشة مفروضة على الأرض يطالب القرويون بدفعها دون هوادة، وكثيرا ما كانت بيوتهم وأدواتهم تصادر لأداء ضريبة الطحن الباهظة، وكان سعر الملح الذي تحتكره الحكومة غاليا حتى كان الشعب أحيانا لا يستطيع شراءه، وكان الأشراف يضطهدون القرويين والفلاحين ويستعبدونهم ويفسدون أخلاق أسرهم ويدعونهم في فقر مدقع، واستوطنت الشقاوة منذ أجيال خلت بعض المناطق الجبلية ولكنها اكتسبت في عهد الإفرنسيين صبغة سياسية، ولما عاد آل بوريون أصبحت واسطة إجرام؛ فكان أهل كلبريه لا يخرجون من دورهم إلا شاكيي السلاح من رءوسهم إلى أخمص أقدامهم.
Bog aan la aqoon