أدت هذه الحوادث إلى هياج وسخط في نابولي، ولاح للأحرار أن الحركة الرجعية في صقلية قد شجعها الأشراف؛ ولذلك طالبوا باتخاذ التدابير اللازمة لقمع الثورة ولكن الحكومة ترددت في الأمر، وأراد الملك أن يصطاد في الماء العكر فوعد الصقليين بدستور 1812، وشجع هو ووصيه الأشراف على المطالبة بالانفصال، ثم منح الوصي بموافقة الوزراء أهل الجزيرة حق تأسيس مجلس نيابي على شريطة أن يقبله أهل الجزيرة بالإجماع، وفي الوقت نفسه أوفد أخو الوزير «ببه» على رأس سبعة آلاف جندي إلى الجزيرة لإخضاع الانفصاليين ولمساعدة الحكومة على التخلص من وعدها.
ولقيت القوة الموفدة مقاومة شديدة، حتى تحرج موقفها لو لم يسأم القابضون على زمام الثورة من كلا الفريقين الفوضى والدمار اللذين أصابا الجزيرة، فطلب أحد الأشراف من الشعب الخضوع، وقبل طلبات القائد بتعديل على أن تبقى الجزيرة تابعة للتاج، وأن تقبل الدستور الإسباني، وبهذا خضعت الجزيرة ولكن عين مترنيخ الداهية النمسوي لم تنم، فرأى في ثورة نابولي هدما للبناء الذي شيده وخروجا على السياسة التي وضعها بعد مؤتمر فينا؛ ولذلك عقد النية على أن يخنق الدستور الجديد قبل أن يشب، وبلغت الحماسة في النابويليين من جراء انتصارهم درجة لم يروا معها الخطر الذي كان يتهددهم، فدفعوا الضرائب قبل آجالها وانخرط المتحمسون منهم في سلك المليشيا.
واجتمع المجلس في 1 تشرين الأول فوعد الملك للمرة الثانية بأن يحترم الدستور وكانت أكثرية المجلس من المعتدلين الذين انتخبوا من الطبقة الوسطى ومن ذوي المهن الحرة، وكانت رءوس هؤلاء مملوءة بالأفكار الإصلاحية، إلا أنهم كانوا محرومين من التجارب ويرجحون الخطب على العمل، ولم يفكر أحد منهم في تهيئة البلاد لصد الغزو الخارجي.
أما الكاربوناريون فيلوح أنهم اعتزموا إما التهديد وإما أن يقوموا هم مقام البرلمان، فاستيقظ الحزب الرجعي من ذهوله وتحفز للعمل، وقد اعتاد الناس أن لا يثقوا بكلام الملك، وكانت هناك عدة أسباب تدل على أن الملك يتآمر، وأن الوزارة أصبحت ألعوبة في يده، وكانت باكورة أعمال المجلس أن رفض التصديق على معاهدة القائد ببه التي تنظم أمور صقلية، والتي تنص على أن يقدم الصقليون عشرة آلاف رجل للدفاع المشترك، وعلى الرغم من احتجاج القائد على هذا الرفض، فإن الوزارة قد ارتاحت إليه؛ لأنه ساعدها على أن تتملص من وعدها فعينت قائدا آخر وفق في أن يقبض على ناصية الجزيرة بالتدابير الصارمة.
وكان من أثر ذلك أن اغتاظ الصقليون وتأهبوا لانتهاز الفرص وأخذ الكاربوناريون في الجزيرة يتحفزون للثورة ويستعدون لها، مما اضطر نابولي إلى إبقاء قوة حامية تتألف من سبعة آلاف من خيرة جنودها في الجزيرة.
وراح المجلس يهاجم الوزارة حتى اضطرت إلى أن تلقي بنفسها في أحضان الملك، وكان الملك يعلم أن النمسة لا ترضى أبدا بالثورة وبالنظم الديمقراطية؛ فلذلك حدث حين استدعاء ملوك الحلف المقدس إلى «تروباو» لحضور الاجتماع المؤجل في لايباخ أن طلب من المجلس الموافقة على ذهابه وهدده بالحل إن هو لم يوافق، فلم يبق أمام المجلس تجاه هذا التهديد إلا أن يختار أحد الأمرين: فإما أن يطلب مساعدة فرنسية وتهدئة الحلفاء بموافقتهم على تأسيس مجلس الأعيان وتوسيع سلطة الملك، وإما أن يخلع الملك وينصب ابنه محله وبذلك يعلن الخصومة على النمسة.
فظل المجلس مترددا بين الأمرين، ومع أن الوزير ببه صوت للأمر الثاني فإن الكاربوناريين لم يكونوا يريدون أن يغيروا شيئا في أحكام الدستور، أما الملك فإنه بعد وصوله إلى تروباو رفع القناع عن وجهه، وأخبر المجلس أن الحلفاء قد قرروا إلغاء الدستور، وأنه نزل عند رغبتهم وأيد ذلك ، واستطاع مترينخ أن يحصل على موافقة الدول على إرسال قوة نمسوية لتأييد الحكم المطلق، ولما اطلع المجلس على ذلك اعتزم المقاومة واستعد للدفاع بكل قوته، وكان لدى الحكومة حينئذ أربعون ألفا من الجند النظاميين ومثل ذلك من قوة المليشيا.
وكان النابوليون يجهلون أن بيمونته كانت على وشك أن تثور، وأن فكرة الثورة قد اختمرت في إيالات الروماني والمارك، وبذلك كانت جميع الظواهر تدل على أن الكفة الراجحة بجانب النابوليين، لا سيما إذا أحسنوا المقاومة، وكان الشعب يريد الحرب لكن الأمور لم تسر وفق المرغوب فيه؛ إذ كان الوصي «ابن الملك» يلعب على الحبلين، وقد شجع وهن الحكومة الحزب الرجعي على العمل، وكان الجيش لا يثق بقادته ولم ترسم في البدء خطة للدفاع.
أما النمسويون فاجتازوا نهر «بو» في نهاية كانون الثاني، وتقدموا رويدا رويدا نحو الجنوب وكانت قوة نابولي تتفاوت بين 40000-50000 من النظاميين والمليشيا، فانقسم الجيش إلى قسمين القسم الأول بقيادة «كرسكوسا» والثاني بقيادة «ببه» وكانت الخطة المثلى أن يظل القسمان في حالة الدفاع.
ولما علم «ببه» بأن «كرسكوسا» أخذ يفاوض العدو بالاتفاق مع وزير الحربية؛ ترك خطة الدفاع وهجم على الجيش النمسوي، وبعد معركة استمرت سبع ساعات اضطر إلى الانسحاب، فتحطمت معنويات الجنود، فأعلن الملك بأنه سيقتل كل من يقاوم ويصادر أملاكه، فانتشر الذعر بين الصفوف، وتشتت قوات الجيش، ومالت قوات الحرس إلى جانب الملك، فاضطر المجلس إلى أن يترك الميدان ويلتجئ إلى رحمة الملك، وهكذا دخل النمسويون نابولي في 23 مارت بدون خسائر.
Bog aan la aqoon