فإذا كان الأتراك قد حرروا الحكومة ونظام الدولة من الخلافة، وإذا كانوا قد أنقذوا الأمة من مخالب الفقهاء والأئمة، ومن المدارس والتكايا والقبور، وعلى الجملة من المذهبيات القديمة؛ فإنهم لم يخلصوها ليتركوا لها الحرية واسعة مفتحة الأبواب مفهومة على قدر كاف، يجيز للفكر أن يكون حرا في جولاته المترامية، بل إنهم خلصوها من مذهبيات قديمة؛ ليلقوا بها في أحضان مذهبية حديثة هم ممثلوها، مذهبية القومية بالغة أقصى مبالغ التطرف والبعد عن الاعتدال. وفي سبيل هذه المذهبية أعيد الاستبداد القديم ليدافع عن مذهبية جديدة؛ فكان القتل والشنق وخنق الحرية باسم الحرية.
وكذلك الحال إذا رجعنا إلى روسيا الشيوعية؛ فإن في نظامها من المذهبية ما فيه! فضلا عما تستشم فيها من روح الكثلكة الرسيسة في النفوس، والبعد عن مطاوعات الشك واللاأدرية الفائضة بصور المرونة الفكرية.
ولن تخلص من المذهبيات، لا في السياسة، ولا في الدين، ولا في النظام والمبادئ الاجتماعية؛ فكأن الاستناد إلى مذهبية ما صفة ملازمة لتطور الجماعات، وهي من النظم التطورية النشوئية، كلاهما ضروري لحماية ما يخيل للناس أنه الأصلح والأتم نظاما، والأفضل بقاء في حيز الأشياء الإنسانية؛ فإن المذهبية والجمود يحولان لدى الحقيقة دون التطورات الفجائية، والطفرة في الانتقال من حال إلى حال بما يفسد نظام الاجتماع.
2
لهذا نقضي بأن الشرق قد وثب الوثبة الأولى، ولكنه لم يتحرر بعد تحريرا يمكنه من مسايرة خطوات الحضارة الحديثة، تلك الخطوات التي تتطلب، على ما أعتقد، قدرا كبيرا من المران على الحرية واحترام الفكر مهما كان مصدره. •••
تلك إحدى صور المذهبية، على أن هنالك صورة أخرى عكفت عليها المدارس القديمة، ولم تستطع المدارس الحديثة التخلص منها.
لقد عودتنا المدارس القديمة، تحت تأثير التقاليد، أن تقبل كل ما يقال على أنه الحق، وعلى الأخص إذا صدر من أئمة يعلمون إلى صغار يتعلمون، فنشأت الأجيال خاضعة لهذه الضرورة، ضرورة تقبل ما يقال على أنه الحق وأنه الأصح وأنه الأولى بأن يعرف حالة عكفت عليها المدارس القديمة، ولم تتخلص منها المدارس الحديثة. خضوع للسلطة سواء أكان مصدرها فقهاء يدرسون شريعة الله، أم معلمين يلقنون مبادئ العلم. ولم يقتصر الخضوع لهذه السلطة على الأفعال، بل تناول الآراء والأفكار والمبادئ، على قاعدة أن الذين يلقنون الشرائع والعلوم، رجال أخلصوا العمل لله من ناحية، وللعلم من ناحية أخرى. وبذلك قتلت فضيلة الشك النفوس، فكان الذي يشك أو يسأل أو يحاول أن يفهم ما يقال، أو يحاول فهم ما لا يفهم، يعتبر مريض النفس والمنازع، فيعمل معلموه بكل جهد مستطاع لكي يشفوه من هذا المرض العضال، مرض الشك فيما يقال، والجدال فيما لا يفهم.
ولا يقف الأمر عند هذا الحد؛ فليس سلطان التقاليد مقصورا على الأب في البيت، وعلى المعلم في المدرسة، بل يتعدى إلى الرفقاء في المدارس والمعاهد، وكلهم شبوا خاضعين لتقبل ما يقال على أنه الحق ولا حق سواه. وبذلك يفشو مرض «التصديق» منقولا عن مجموع الرأي العام في المدرسة أو المعهد إلى عقل الشكوكين فيما يلقى عليهم، وبذلك لا يلبثون أن تتلقفهم العدوى، فيصبحون من أكثر الناس تقبلا للتقاليد على ما نقلت إليهم، وعلى الصورة التي قذفتها الأزمان. وكذلك لا يجب أن نغفل عن أن الإفلات من هذا القانون، له قانونه، ولكنه قانون صارم شديد، قلما يتفق لعقول ناشئة، أن تتمكن من تنفيذ مواده الخشنة التي تنوء بها أكبر العقول، بله الناشئة اللينة.
وهذه صورة أخرى من صور المذهبية، تحول بين الفكر وبين الحرية الصحيحة؛ ذلك لأن هذه المذهبية تقوم على السلطة. وعندي أنه لهذه المذهبية ثلاثة أركان:
الأول:
Bog aan la aqoon