لقد كانت المسيحية ديانة آسيوية، كما كان الإسلام، غير أنها لم تستقو في عصر من العصور على شعب من الشعوب الأوروبية التي اعتنقتها فغيرت مزاجه الاجتماعي. لقد انتقلت المسيحية إلى روما في صورة فكرة، ولكنها لم تنقل معها النظام الاجتماعي الذي خصت به البيئة اليهودية في الشرق بل على الضد من ذلك؛ فإن المسيحية قد تطورت وفقدت جزءا عظيما من ماهيتها الأصلية، بما أثرت فيها البيئة الاجتماعية الرومانية، مثال الحياة الأوروبية في ذلك العصر؛ فلو أن المسيحية كانت قد زحفت على أوروبا، من أورشليم بجيوشها وجحافلها، كما زحف الإسلام على الغرب، وأخضعت أوروبا لسلطانها وسطوتها، إذن لألغيت الحياة العائلية في أوروبا، ولحلت محلها شرائع الأعراب من أهل البادية، ولتبدلت أوروبا من حياتها الأولى حياة أخرى. بل ولا نغالي إذا قلنا بأن أوروبا الحديثة لم تكن لتوجد على ما هي عليه اليوم. على أية حال نقول بأن تاريخ أوروبا قد ذهب في متجه وحده؛ وبذلك أنقذت الحياة العائلية ونجت من تخريب التقاليد خلال كل العصور (ص81).
أما نحن فلم يكن لدينا شيء من روح هذا النظام العائلي، ذلك النظام الذي ولد في الأمم الأخرى روح القومية (ص82). ولقد حاول المصلحون عبثا أن يوفقوا بين الناحيتين؛ فإنهم من طريق المدارس القديمة العتيقة قبضوا على زمام التعليم في المعاهد، ومن طريق المحاكم الشرعية الدينية أخضعوا نظام الحقوق المدني، وباتباع ما أوحت به السياسة الإسلامية الصرفة، استطاعوا أن يلغوا العقلية التركية إلغاء كاملا (ص83). «لم يكن ذلك الجهد السياسي بشيء إلا جهد القانط اليائس يحاول إنقاذ دولة عملت فيها أيدي الفساد. إنه لم يكن تجديد ولا إصلاح بالمعنى الصحيح (ص86). لقد صم آذاننا إعلان الحكومة النيابية مرتين. ولم يكن لدى الذين أعلنوها من غرض، اللهم إلا أن يخضعوا الطوائف العثمانية المكونة من شعوب وعناصر متباينة، لقوة الخلافة أو السلطنة مجتمعة، فلم يفكر المصلحون يوما ما، في أن يضعوا حدا حاسما لتفوق السلطة الدينية، فيحيوا بذلك الشعور القومي في قلوب الأتراك» (ص91). «يقوم القانون في فرنسا على فكرة الحق، وفي ألمانيا على فكرة القوة، وفي إنكلترا على فكرة المنفعة (ص92). أما فكرة الحق ففكرة إنسانية صرفة وليست بفكرة قومية، على أننا نعيش اليوم في جو مشبع بفكرة القومية ولا شيء غيرها؛ ولهذا كان من الواجب بدلا من أن نتبع فرنسا أن نحذو حذو ألمانيا أو إنكلترا. إن القومية ألغت الفكرة العثمانية، وردت فلسفة الذاتية
Subjectivism
إلى حيث أصبحت بلا فائدة أو نتيجة، بل محت فكرة الفردية في الاقتصاد، وأضحت معها الشرائع المنزلة بلا معنى يلائم الحالة الراهنة. ومع تفوق الروح القومية أصبحت الآداب الدينية لدى الواقع بعيدة عن حكم الآداب المدنية. لهذا وجب أن نلغي الحياة العربية إلغاء تاما، وأن نتنكب طريق السياسة الإسلامية تنكبا، ونتحرز منها تحرزا» (ص107). «كان للموفقين ثلاثة أغراض تنحصر في أن نتمسلم ونستجدد ونستترك. وكان هذا في حيز المستحيل عمليا؛ فإن الأخطار التي انتابتنا من جراء القوانين التي استمددناها من الإسلام كانت جلية ظاهرة، واستخدام القوانين التركية التي ذاعت قبل الإسلام كانت موضع الشك. لهذا لم يصبح أمامنا إلا العمل للتجديد، ولم يكن للتجديد من وسيلة إلا ثورة طاحنة (ص109)، ولا سبيل للمستقبل إلا هذه السبيل.» (5) «ما هي الأسباب الأولية التي أحدثت تلك الفروق الكائنة بين العقلية الآسيوية والعقلية الأوروبية؟ سأحاول أن أعرف السبب من طريق تاريخي.» «يجب علينا أن نعي بداءة ذي بدء أنه لم يقم في أوروبا من نبي مثل بوذا أو كونفوشيوس أو موسى أو عيسى أو محمد، ممن حملوا إلى الناس أوامر ونواهي إلهية، ثم ألزموهم الخضوع لها قسرا وجبرا» (ص123). «تصادفنا في البدء حضارة رومانية قامت تعقيبا على الحضارة اليونانية التي حازت أرقى ما وصل إليه العقل البشري من الرقي والذكاء في التاريخ، على أن الحضارة اليونانية كانت حضارة إنسانية النزعة في مجملها وفي تفاصيلها. ولقد بحث العقل اليوناني الحياة ووضع من طريق هذا البحث نظاما للحقوق الإنسانية يوافق ما تقتضي هذه الحياة من حاجات. وكذلك الفلسفة اليونانية فإنها فلسفة صرفت كل همها لخير الإنسانية، ولكنها لم تأت من طريق التنزيل والوحي على أنبياء ورسل، كما هي الحال في الشرق. بل إنك لا تعثر في بلاد اليونان على فيلسوف انتحل لنفسه صفوة النبوة، أو ألقى على كاهله عبء الرسالة» (ص124). «لقد ورثت روما البربرية هذا التراث عن اليونان، وعلى الرغم من أن اليونان كأمة قد انحلت وزالت، فإن الفلسفة اليونانية ظلت الحاكمة بأمرها في العالم الروماني والحضارة الرومانية (ص125)، غير أن أنانية روما الاستعمارية قد هزت قواعد روما وخلخلتها. وفي ذلك العهد أمكن لحواري من حواريي المسيح أن يملك منها الزمام، وأن يقبض على أعنتها» (ص125). «حقيقة أنه هبط روما وفي يده كتاب، وكان يحمل فضلا عن ذلك نزعات المنطق الديني الآسيوي ليشق به لنفسه طريقا، ولكنه لم ينته إلا بأن بث فكرة مجردة لا غير؛ ذلك لأن الحضارة الرومانية ابتلعت المسيحية وكل نظاماتها، والدليل على هذا أنها ليست فكرة الحق المسيحية هي التي تسلطت على أوروبا، بل فكرة الحق الرومانية. وكذلك عاش نظام الأسرة الروماني وأينع وآتى أكله، في حين أنه لم يقو نظام واحد من نظامات آسيا الاجتماعية أن يلج لروما بابا، وكذلك لم تعرف هناك عادات المسيح، بل إنه لم يتغير في روما من شيء إلا اسم الإله الذي كانوا يعبدون، وهذا الدين على هذه الصورة هو الذي ذاع وانتشر في أنحاء الإمبراطورية الرومانية» (ص126). «على هذا النمط ملكت ثانية الديانات المنزلة زمام أوروبا. إنها ديانة قامت كغيرها على الأوامر والنواهي الإلهية، وكانت من الناحية المنطقية على أبعد ما يتصور من الإبهام والغموض والتعقيد، فكان هذا سببا في أن تتسع لكثير من ضروب التفسير الاختياري الذي لا يتقيد فيه مفسر بنص ولا قاعدة. غير أنه على الرغم من كل هذا أنقذت الحضارة الرومانية أوروبا؛ فإن كل أمة من الأمم التي اعتنقت النصرانية لم تتخل لحظة واحدة عن عقيدتها الأصلية إزاء الحق الإنساني، ولم تبعد قيد أنملة عن نظاماتها العائلية وغيرها من ظواهر الحياة كما ورثت عن الحضارة الرومانية. لهذا قام نضال، وكان صراع بين العقلية المسيحية المقدسة، وبين العقلية اليونانية الرومانية، دار حول نظام البابوية» (ص126). «لقد نهجت المسيحية نهج كل الديانات الأخرى. لقد علمها زعماؤها على أنها تقاليد لا تنقض. وبذلك وقف تيار العلم الارتقائي، وحصر التعليم بين جدران المدارس المسيحية، غير أنه بجانب هذا قامت الحياة الاجتماعية ونظاماتها غير ممسوسة بشيء من هذه الروح. والحقيقة أنه لم يكن للمسيحية من نظامات ومعاهد تتغلب بها على النظامات والمعاهد التي كانت في أوروبا من قبل. وهذا هو السبب في أن أوروبا قد استطاعت أن تنجو بنفسها عن أن تصطبغ بالصبغة الآسيوية؛ فإذا كانت المسيحية قد نقلت معها إلى أوروبا شرائع كشرائع تعدد الزوجات أو الحجاب أو منطق يوحي بالقضاء والقدر أوامر منزلة تقضي على حس الجمال وحب الطبيعة والحياة، إذن لقضي على أمم أوروبا ب «الدروشة» كما قضي على بلاد فارس والهند وجزيرة العرب. وما كان يغني عنهم أنهم أوروبيون؛ فإن مسلمي البوسنة ومسيحييها لأبلغ مثال نضربه لنؤيد به ما نقول. وما دام مسلمو البوسنة في هذا العصر قد انتحلوا حياة العرب الاجتماعية، وهم بعد في قلب أوروبا، فما الذي كان ينجي أوروبا من مثل ذلك؟» (ص127). «ثم جاء عصر التجديد، وتبعه لوثر. إن المزاج الألماني لم توافقه مراسيم روما وطقوسها فبدأ عهد الإصلاح وشق له لوثر الطريق. قيل بأن كلمات الله لا يمكن أن تحتكرها اللاتينية. وإن كل اللغات يصح أن تكون لله، وكذلك الطقوس الدينية يجب أن تتبع أحكام العقل؛ فألغى لوثر كل الطقوس التي لا تتفق ومطالب الحياة، أو لا تتجانس والعقل أو الذوق السليم. إذ كيف يتسنى لأمم متحضرة على النمط الحديث أن تلزم طقوسا ومراسيم بشر بها بداءة ذي بدء لشعوب عراة حفاة دأبهم البطالة والكسل، وأخص صفاتهم الجهل. شعوب عاشت بلا نظامات تشريعية أو حكومات. لقد فهم لوثر هذه الحقيقة؛ ولذا سلك أقوم سبيل» (ص127). «ليس الإصلاح الديني، الذي قام به لوثر، إلا جزءا من التأثير الروماني العظيم الذي برز إلى الوجود من خلال الحضارة اليونانية. وعلى هذه القاعدة عينها قامت الثورة الفرنسوية؛ فإن كل زعماء الثورة في فرنسا كانوا جميعا من المؤتمين بما أوحى به فلاسفة اليونان لعالم البشرية، فكتاباتهم ملأى بكلمات تفوه بها فلاسفة اليونان، وحياتهم مثل لمبادئ وضعوها. إنك لا تقع فيما كتبوا على استشهاد اقتطع من كتاب منزل؛ لأنهم لم يجدوا لا في الأناجيل ولا في التوراة ولا في كتاب زرادشت، حقائق كالتي وقعوا عليها في مؤلفات اليونان. لقد كمن هذا الحق الثابت في تضاعيف الفطرة الإنسانية. والثورة الفرنسوية إنما استكشفت هذا الحق وعكفت عليه (ص129). «لقد استكشفت أن الحق عقلي لا تقليدي، وأن العلم يمكن استنباطه واستقراؤه من أعمال الناس وحاجات الجماعة وكنوز الطبيعة، وأن ليس للملوك ولا للبابوات من حق في الادعاء بأن لهم من قدرة على فهم الحق والعصمة من الخطأ أكثر مما لكل الناس. لقد نزعت الثورة عن الدين سلطة الدنيا وتركته في حيزه الطبيعي، في صدر الجماعات ومشاعرها» (ص130). «وما كان لشيء أن ينتج عن هذا إلا القومية. لقد كانت الثورة الفرنسوية لكل الإنسانية، ولكنها انتهت بالقومية، وفيها تعثر إذا ما بحثت على الأسس التي قامت عليها العقلية القومية في أوروبا (ص132) هذه هي العقلية الأوروبية، ولن تجد لها من مثيل في آسيا. على أننا قادرون على انتحالها؛ فإننا بشر مثلهم. والواجب علينا أن ننتحل هذه العقلية كما هي جملة وبلا تجزئة» (ص133).
ولكن كيف يتيسر لنا ذلك؟ يتيسر لنا بأن نسلك الطرق الثورية الانقلابية. إن الحاجة تدعونا لأن نلغي العقلية الآسيوية وأن نحل محلها العقلية الأوروبية. إننا تواجهنا الآن مصاعب ومشكلات كتلك التي قامت في وجه الثورة الفرنسوية؛ لهذا وجب علينا أن نستخدم الوسائل الثورية. وليس في الدنيا من ثورة حبت أعداءها بنعمة الحرية. إنما الحرية الشخصية تكون بيقين حقا للجميع بعد أن تضع الثورة أوزارها وتثبت أصولها. لهذا لا نستطيع أن نترك بذرة الحركات الرجعية تنمو حبتها في العصر الحاضر، وإلا فإن الثورة لن تنجح (ص135).
إن الحضارة الأوروبية تقوم على ثلاثة أسس عظمى؛ الأول: حقوق الإنسان، والثاني: الثقافة القومية، والثالث: الاقتصاد والمالية القومية. ولنبحث كلا من هذه الأسس على حدة:
أولا: حقوق الإنسان:
تنحصر في أن كل شخص تابع لرعوية الحكومة يولد ويعيش حرا. وهذا هو المبدأ الجوهري الذي تقوم عليه كل جماعة متحضرة، وهذه الحرية تطبق على كل المعاهد التي يقوم عليها النظام الاجتماعي فرديا وعائليا وحكوميا: (1)
الحرية الفردية: تقيد هذه الحرية بكل الأشياء التي لا يجب شخص أن يستعملها ضد شخص غيره، ولم يبق في أوروبا أمة واحدة لم تقبل مبدأ الحرية الفردية محددا هذا التحديد. ومن غير الحرية الفردية وحرية الضمير وحرية الفكر والنشر، لا يمكن أن تمضي أمة متحضرة في سبيل الارتقاء (ص140). (2)
أما الوجه الثاني من أوجه الحرية الفردية فذو علاقة بالحياة العائلية (ص145). أما العقلية الأوروبية فقد حلت هذه المشكلة أيضا؛ فإن الحياة العائلية في أوروبا إنما تقوم على مبدأ التساوي في الحقوق؛ لأن الحياة لم تعط الرجل حقا أكبر، ولم تحرم المرأة حقا، مهما كان نوعه؛ فإن الحياة مرح وسعادة. إذن وجب أن تعطى المرأة حرية الرجل، والرجل حرية المرأة، وليس على غير هذا الأساس تقوم الحياة العائلية الحرة. وهذه العقلية بالطبيعة ترفض الاعتراف بحق تعدد الزوجات، وتسع بالضرورة مبدأ مساواة حقوق المرأة بحقوق الرجل في الاجتماع (ص146). المرأة والرجل أحرار فرديا، وما الزواج إلا اشتراك يحدث بتوحيد مصالحهما وحقوقهما بمحض الاختيار، والطلاق عبارة عن فسخ هذه الشركة؛ إذن وجب أن يكون للزوج والزوجة نفس هذه الحقوق المشتركة، والزواج موجه بكليته إلى خير الجماعة ويجب أن يقوم على هذه المبادئ» (ص148). (3) «حرية الحكومة: بحكم وجود أكثر من فردين اثنين في هذه الحياة فرض نظام الحكم. ولهذا لزم أن تقوم الحكومة على صورة تضمن حقوق كل الناس، ووجب أن يمثل في نظاماتها كل شخص من أشخاص الرعية. وهذه هي الديمقراطية، ينبغي للحكومة أن تمثل شرائع الأفراد وأن تقوم حفيظة على مصالح الجماعة، وأن مصالح الجماهير لا يجب أن تعبث بمصالح الأفراد، ولا يجب أن تعبث مصالح الأفراد بمصالح الجماهير. إن مصالح الأفراد والجماهير يلزم أن تسير متعاونة في سبيل الخير والصلاح. وعلى هذا لا ترى حكومة أوروبية تستطيع أن تفكر في أن تعتدي على مصالح الأفراد (ص149).
Bog aan la aqoon