أما المعركة القائمة اليوم، فموجهة بكل ما فيها من قوة إلى القضاء على هذه العقلية الآسيوية. والحالة جلية واضحة، فلست تجد في أوروبا مثقفا أو غير مثقف، يمضي في أعماله متوكلا على سلطة الوحي. أما في آسيا فإنك لا تجد شيئا اللهم إلا الأنبياء والقديسين والحكام الذين يستمدون سلطتهم من الله مباشرة. تجد الأوامر والنواهي القدسية، متغلغلة في تضاعيف العديد الأوفر من الشئون الخاصة الصرفة للناس، محتكمة في كل وجه من أوجه حياتهم الاجتماعية، والاقتصادية، والتجارية والإدارية. ولديهم أن هذه الأوامر والنواهي، هي أوامر الله ونواهيه، وعلى هذا لا يمكن تبديلها أو تكييفها؛ فإذا تبدل الزمان وتكيف، وجمدت هذه الأوامر والنواهي، مقصرة عن اللحاق بروح العصر نشوءا وارتقاء، فلا تجد من شيء اللهم إلا نبيا آخر مرسلا بتعاليم جديدة. ولا مرية في أن تتابع ظهور الأنبياء في آسيا طابع خاص بها، ولا تفضلها فيه بقعة أخرى من بقاع الأرض (ص16).
على أن أعجب ما ترى في كل هذا، أن كل نبي من هؤلاء الأنبياء قد نصح وأهاب بهم أن ينكروا حقيقة هذه الحياة بكل ما فيها، وأن يتلظوا حرقة إلى الحياة الآخرة. وفي هذا ينحصر كل ما يقصد بوذا من النرفانا، وكل ما يقصد الإسلام والنصرانية واليهود من الفردوس (ص17). وهذه العقلية قتلت في الشرق فكرة النقد، كما غشت على العقول والأفهام بأغشيتها الثقيلة.
بيد أن هؤلاء الأنبياء الذين حكموا الدول وساسوا الممالك لم يقنعوا بأن يفرضوا على الناس أوامر الدين ونواهيه، بل صبغوهم بأخلاقهم، ودهنوهم بطلائهم. فإن الإسلام مثلا، قد صبغ المسلمين - فضلا عن الدين - بصبغة الحياة العربية الاجتماعية في كل مكان وآن، واضطر الناس أن يقبلوا مذعنين، لا الله والدين وحدهما، بل حياة العرب العائلية والاجتماعية، والخلق العربي والعادات العربية بصورة كلية، واللغة العربية بصورة جزئية. كذلك لم يفرقوا بين الدين والقومية؛ فإن الدين والقومية ظلا في الشرق شيئا واحدا طوال الأزمان؛ ولهذا لا نقع في الشرق على حركة اجتماعية صبغت بالروح القومية على إطلاق القول (ص18).
لقد لعن بوذا هذه الحياة، وكذلك مذاهبنا القديمة؛ فإنها لم تعمل إلا لتمهد الطريق للحياة الأخرى. ولقد أخذت أمم آسيا كلها بموحيات هذه التعاليم النظرية. وعلى هذه الطريقة قيد «اللاما» أمة الصين «والبراهمة» أمم الهند، و«الآخوند» أمة الفرس، وأئمة الإسلام العالم الإسلامي. أما العقلية التي اختفت وراء هذه التعاليم فتتكون في الاعتقاد بما يأتي: (1)
إن الحقيقة لا يمكن معرفتها بالعقل بل بالتقاليد. (2)
إن الحياة لا يجب أن تحكم بمقتضى المبادئ الإنسانية المستمدة من غرائز الإنسان، بل بمقتضى الشرائع المنزلة التي لا تتبدل ولا تتغير. (3)
هذه الحياة فانية، والأخرى باقية. (4)
نسبة كل شيء إلى القضاء والقدر. (5)
رفض الاعتقاد بضرورة الحياة القومية، والعكوف على الخضوع للتقاليد الدينية. (6)
الخضوع الكامل للرئيس الروحي.
Bog aan la aqoon