وهذه الاعتبارات على ما فيها من صعوبة التحليل، بينة غير غامضة، بل هي جلية الغايات واضحة السبل. وما أتينا على ذكرها هنا إلا لنظهر على وجه الاختصار ما يعانيه الغرب، وقد أخذنا ندلف بقدمنا في مفاوزه الواسعة المترامية الأطراف.
العقلية التركية الحديثة
مثال العقلية السليمة
في تركيا الآن ثلاث مدارس، تتعاون ولا تتنابذ، وتتساند ولا تتجادل، ويمثل كل من هذه المدارس، مؤلف من كبار المؤلفين، وباحث اجتماعي من أئمة الباحثين الذين للشرق أن يفخر بهم، وأن يشيد بذكرهم، وأن يتخذهم مثالا يحتذى في حرية الفكر، ودقة البحث، وسمو النزعة، والتخلص من آثار التقاليد، التي ظلت حتى الآن مغشية على الفكر الشرقي بأغشيتها الثقيلة.
فالمدرسة الأولى يمثلها المؤلف العظيم الأستاذ قابيل آدم، وقد شرح مبادئها في كتابه الذي سماه «كتاب مصطفى كمال أو كتاب الرجال الذين هم من طابع مصطفى كمال»، وهذه المدرسة تمثل أقصى التحرر من تقاليد الماضي، وتضرب على وتر القومية والإصلاح القومي، بدون نظر إلى الماضي الذي يجب أن تتخلص منه الشعوب الشرقية تخلصا كاملا، وتنتحل العقلية الغربية الحرة من كل أثر من آثار العقلية الآسيوية القديمة، وقد ظهر هذا الكتاب في الآستانة سنة 1926.
أما المدرسة الثانية فيمثلها الأستاذ الأشهر، والكاتب القدير جلال نوري بك، وقد شرح مبادئها في كتابه المسمى «الثورة التركية»، وهو يختلف عن الأستاذ «قابيل آدم» في أن ذاك يضحي بكل المبادئ الدينية، في سبيل المصالح القومية، في حين أن نوري بك يرى أن أقوم طريق هو إصلاح الدين الإسلامي إصلاحا يتمشى مع المصالح القومية. وهو مع هذا لا يريد أن يظل مسلما بالمعنى الآسيوي الذي ورث عن مكة وبغداد، بل يقول بأنه من الممكن أن يظل المرء مسلما، إذا أصلح الإسلام إصلاحا تتطلبه مقتضيات العصر الحديث والحاجات الوطنية، هو يعتقد أن إصلاح الإسلام على القواعد التي شرحها في كتابه، هو الطريق الوحيد لخلاص تركيا والأمم الشرقية الإسلامية عامة.
والمدرسة الثالثة يمثلها الأستاذ الكبير رفيق صدقي بك في كتابه المسمى «الثورة التركية إزاء الثورات» - وقد ظهر في القسطنطينية سنة 1927 - وقد اتبع في كتابه طريقة المقارنة التاريخية، فأحاط بتاريخ الثورات التي شهدها العالم، في القانون والحياة الاجتماعية، والدين وحرية الفكر، والمعتقد والسياسة والآداب، وحاول أن يحدد موقف الثورة التركية إزاء هذه الثورات.
ومن هنا ترى أن هذه المدارس الثلاث، تناظر على وجه أكمل ثلاث مدارس تقوم عليها العقلية الأوروبية؛ فالأولى مدرسة التحرير الكامل والعتق التام للعقل الإنساني، والثانية مدرسة الإصلاح المستمد من ميراث القرون الوسطى، والثالثة مدرسة الأقيسة التاريخية. وقد نشأت هذه المدارس في أوروبا وتجذرت مرات عديدة على مقتضى تكيف المصدر، ومطاليب الزمان والمكان، ولكن مبادئها ظلت ثابتة متأصلة في تضاعيف العقلية الغربية، ففازت أوروبا من طريقها بتأسيس هذه الحضارة، التي هي أعجب الحضارات التي شهدها السيار الأرضي.
وليس لنا أن نمضي في شرح مبادئ هذه المدارس الثلاث، بل نرى أن أقوم سبيل، هو أن نقتطف من الكتب الثلاثة التي تمثل هذه المدارس العظمى مبادئها الأساسية، تاركين للقراء والباحثين أن يستوغلوا إمعانا في التفكير فيها ليفوزوا منها بلبها دون القشور. •••
على أننا لا نكون بعد هذا إلا ظالمين لأنفسنا إذا لم نصرح بأن العقلية التركية الحديثة، التي تقوم على هذه المدارس الفكرية الثلاث، والتي تستأثر اليوم، على اختلاف نواحيها بالعقلية الإصلاحية في تركيا، هي مثال العقلية السليمة التي لا يمكن للشرق أن يخلص من مصائبه إلا بالعكوف عليها، والتثبت من حقائقها واتباع موحياتها في الحياة.
Bog aan la aqoon