إن الفرصة لا تتهيأ للفرد لكي ينشئ بينه وبين غيره من الناس صلات طيبة خلال فترة التربية وحدها. وإنما نحن نستطيع ذلك أيضا إذا مكنا للفرد أن يتنقل في حياته العملية من وظيفة إلى وظيفة؛ فيتعرف إلى زملاء جدد كما يكتسب خبرة جديدة، ويقلل ملله من العمل الرتيب الذي لا يتنوع ومن الجو المحيط الذي لا يتغير (وقد رأينا من قبل أن الملل أحد أسباب الحروب وأن أي تعديل - سواء في بناء المجتمع أو في بناء شخصية الفرد - يعمل على تخفيف الملل، يعمل كذلك على تخفيف خطر نشوب القتال).
وهناك سبل أخرى غير هذه لتعزيز الروابط بين الأفراد مما يؤدي إلى تدريب الرجال والنساء على تحمل التبعات وعلى التعاون المشترك.
ويلاحظ أن الأفراد المتفقين في المزاج يستطيعون تبادل التفاهم بينهم حتى إن كانوا يحملون لبعضهم بعضا حقدا في النفوس دفينا. ولكن الأفراد المختلفين في المزاج لا يستطيعون التفاهم إلا إن تبادلوا حسن المعاملة. ويلاحظ كذلك أن أرباب المهنة الواحدة يستطيعون التفاهم فيما بينهم، وما أيسر أن يصادق الرياضي أو الموسيقي زميله في العمل. وما أيسر أن ينضم الشواذ بعضهم إلى بعض فإنما الطيور على أشكالها تقع. يجب أن ينظم المجتمع بحيث يهيئ الفرص للناس الذين يختلفون مهمة ومزاجا للاجتماع والتعاون، وهذا - بطبيعة الحال - لا يمنع الأفراد الذين ينتمون إلى لون واحد من ألوان المزاج أن يكونوا جماعاتهم الخاصة بهم. ويستطيع الإنسان أن يكون عضوا في جماعات متعددة في آن واحد؛ فالفرد قد يكون عضوا في أسرة، وفردا في جماعة من الأصدقاء، وعضوا في جماعة فنية أو رياضية أو دينية أو علمية.
ومن المعروف أن الأفراد يختلفون قدرة وذكاء ومزاجا؛ فواجب المجتمع أن يحدد للفرد العمل الذي يلائم مواهبه، وأن يمنع الزعيم الموهوب من استغلال موهبته استغلالا غير مشروع. وقد بين دبريل في كتابه «لكل فرصته» أنه عندما تشتغل الجماعات الصغيرة بعمل معين يتحملون فيه التبعة متعاونين، ويتناولون فيه جزاءهم جماعة لا أفرادا، لا يكون اختيار الزعيم أو تعيين عمل معين لكل فرد من الأمور العسيرة الشاقة. إن كل إنسان - بطبيعته - حكم نافذ البصيرة، يستطيع أن يحكم على المقدرة المهنية والخلقية لزملائه في العمل؛ ولذا ففي الحياة العملية يمكن للأفراد المتعاونين دائما أن ينتخبوا لزعامتهم خيارهم، دون أن يستغل الزعيم نفوذه في غير مصلحة الآخرين. وهذا لا يمكن أن يتم في ظل النظام الدكتاتوري (ويلاحظ أن الهيئات الصناعية دكتاتورية حتى في البلدان الديمقراطية) وذلك لأن الزعيم الدكتاتوري مشبع بروح الانتقام ممن دونه كي يعوض الإساءة التي لحقت به ممن فوقه في تاريخ حياته الباكر؛ فإن الجماعات الإنسانية تشبه جماعات الدجاج في نظامها، تنقر الدجاجة «أ» الدجاجة «ب» فتنقر «ب» الدجاجة «ج» وتنقر «ج» الدجاجة «د» وهكذا. وكذلك الحال في المجتمعات الإنسانية؛ لأن الرئيس المستبد إنما يفعل ذلك لأن غيره استبد به من قبل. إن كبار الدكتاتوريين يولدون صغارهم، كما تولد العقارب العقارب والحية الحية. غير أن الجماعة المتعاونة التي تتمتع بالحكم الذاتي محصنة من وباء الاستبداد.
إن الزعامة السيئة ممقوتة في المجتمعات الصغيرة، بله المجتمعات الكبيرة؛ لأنها حينئذ تأتي بشر الكوارث. وقد يرتفع إلى عرش السلطان والنفوذ أفراد معتوهون بالحق الوراثي، أو لأن لديهم صفات خاصة تعاونهم على التسلط على الناس، أو لأن مصالح بعض الهيئات في المجتمع تتطلب هذا الزعيم الأبله. وكثيرا ما ترى صاحب المال أو مدير المصنع رجلا شاذ الخلق سيئ السلوك.
وأرى من واجب الجماعة أن تختبر الرجل قبل أن توليه شأنها؛ إذ ليس من المعقول أن تتطلب في الخادم والملاح والكاتب الصغير خلقا خاصا ولا تتطلب مثل ذلك من الرجل الذي تملكه زمام أمرك. ونحن في أكثر الوظائف اليوم لا نقبل الرجل إلا إن توفرت لديه مؤهلات علمية خاصة وكان صحيح البدن، حسن السير والسلوك. ثم إن الموظف بعد هذا كله يتخلى عن العمل عندما تتقدم به السن؛ فلا أقل من أن نفعل ذلك عند اختيار رجال السياسة، وبذلك نتخلص من حكم الأغبياء، الذين يعملون لأنفسهم قبل أن يعملوا لغيرهم، ومن حكم المسنين الجامدين غير القادرين، ومن حكم الخائنين ومن إليهم، مما يؤدي إلى فساد المجتمع.
بيد أن عملية الانتقاء قد تخلصنا من تسلط البلهاء، ولكنها لا تخلص الزعيم من الطموح والطمع. إن الزعامة لن تكون رشيدة حتى ننشئ المعاهد لتخريج مديري الأعمال الأكفاء، والسياسيين ورجال الحكم والإدارة.
ومما تقدم يتبين أن الاختبارات والعضوية في جماعة مهنية تعيننا كثيرا على رفع مستوى الزعامة السياسية والاقتصادية، وعلى إيقاف أطماع الرؤساء عند حد. وإذا فلنحافظ على نظام الامتحانات ونظام الهيئات المهنية، بل لنتوسع في تطبيق هذين النظامين. بذلك نتخلص من كثير من الأخطار الاجتماعية التي تنجم عن عدم المساواة الطبيعية بين الأفراد.
الفصل الثاني عشر
التربية
Bog aan la aqoon