إن المجتمع لا يرقى إلا إذا استقر السلام واستتب أولا، ثم تخلى الناس بعد ذلك عن التكالب على المال والنفوذ، وقد تبين أن الحكومات لا تشجع على ذلك، والأفراد لا تعمل عليه؛ فهو إذا من واجب الجماعات. إن الفرد قد يصوغ الحقائق النظرية ويذيعها بين الناس، ومن واجب أفراد الجماعة بعد ذلك أن يعيشوا طبقا لهذه الحقائق، وأن يحولوا النظر إلى العمل، وأن تكون حياتهم صورة مصغرة للمجتمع الراقي الذي يحقق لنا المثل العليا الرفيعة.
والآن فلننظر فيما عسى أن تقوم به الجماعات التي تريد إقرار السلام، وتعمل على إيجاد نظام اقتصادي واجتماعي جديد لا يكون للمال والنفوذ فيه شأن كبير. الواقع أن السلام وهذا النظام الاقتصادي الاجتماعي مرتبطان أحدهما بالآخر أشد الارتباط. والجماعة التي تحاول أن تجعل من حياتها نموذجا عمليا لمجتمع لا تخلب لبه شهوة النفوذ، توجد في الوقت نفسه نموذجا عمليا لمجتمع يعيش في سلام بعيدا عن أسباب الحروب. ولسهولة البحث فقط سأفصل بين نشاط الجماعات في سبيل السلام ونشاطها في الشئون الاقتصادية والاجتماعية.
أما نشاطها في سبيل السلام فينبغي أن يقوم على أساس اتباع سياسة اللين التي تحدثت عنها في فصل سابق من هذا الكتاب. وفيما يلي خلاصة لنقط الضعف في سياسة العنف:
إننا إذا رددنا العنف بالعنف انتهينا إلى نضال مادي لا ينتهي، وأثرنا في النفوس الكره والخوف والغضب والحقد. وفي حرارة النضال يتلاشى تأنيب الضمير، ولا تجد الرأفة والتسامح والرحمة محلا في القلوب، وينسى الناس كل شيء سوى النصر. وليس النصر تسوية نهائية لأسباب النزاع، إن الحرب لا تنتهي بشيء من التسوية إلا في الأحوال الآتية: (1)
إذا فني المهزوم فناء يكاد يكون تاما، كما حدث للهنود الحمر في أمريكا الشمالية. ولما كانت الحرب الحديثة تنشب عادة بين أمتين كثيفتي السكان، فإن الفناء غير محتمل؛ ولذا فإن الحرب تؤدي إلى غيرها. (2)
إذا كانت القوات المحاربة صغيرة جدا، بحيث يبقى مجموع سكان البلد المعادي سليما لم يصبه أذى، قلوبهم نقية لم تدنسها مرارة النزاع. حينئذ قد ينتهي نصر أحد الفريقين بالتسوية الدائمة. أما اليوم فإن مجموع السكان معرض لخطر القتال، ولم تعد الحرب - كما كانت في الماضي - من شأن الجند وحدهم، ولا يتعرض لأذاها غيرهم. (3)
والنصر قد يؤدي إلى سلم دائمة إذا أقام الظافرون بين المهزومين كأقلية حاكمة تهضمها البلاد المحكومة على مر الزمان. وهذا أيضا لا ينطبق على الحرب الحديثة. (4)
إن النصر قد تعقبه أعمال إصلاحية من جانب الظافرين، وهذه الأعمال تخفف من حدة غضب المهزومين ، وتؤدي إلى تسوية دائمة. وهذه هي السياسة التي اتبعها الإنجليز بعد حرب البوير. ومثل هذه السياسة هي بطبيعتها تطبيق لمبادئ اللين وعدم العنف. وكلما طال أمد الحرب وازداد لهيبها تعسرت الأعمال الإصلاحية بعد النصر؛ فقد كان التسامح مستحيلا من الناحية النفسية بعد معاهدة فرساي؛ ومن ثم يتضح أن مبادئ اللين لا ينبغي أن تطبق بعد الحرب حينما يكون ذلك عسيرا، ولكن قبل أن تشتعل نار النضال، حتى لا تلجأ الأمم إلى النضال.
وتقوم سياسة اللين على فلسفة سأناقشها في فصل مقبل. وبغض النظر عن هذه الفلسفة فإن اللين له قيمة عملية. وكلنا - ولا شك - يدرك فائدته في المعاملات الخاصة. كلنا يعرف أن الغضب يثير الغضب، ولكن حدة الغضب تضعف بالصبر والحلم الشديد. وكلنا يعلم أن المرء يخجل من وضاعته حينما يلقى رجلا كريم الأخلاق، حتى إنه كثيرا ما يتخلى عن وضاعته كي يقابل كرم الأخلاق بما يماثله. وكلنا يعرف أن المرء لا يقسو على الرجل الذي لا يتصف بالأنانية وحب الذات. إن استخدام العنف يصحبه الغضب والبغض والخوف والقسوة والحقد الشديد. أما أولئك الذين يتبعون سياسة اللين فهم يتجملون بضبط النفس والشجاعة، لا يغضبون ولا يحقدون، نياتهم حسنة، وعطفهم على الناس شديد. العنف يجعل الناس أسوأ مما هم، واللين يجعلهم خيرا مما هم.
وينظم مبادئ سياسة اللين في الحياة الاجتماعية العادية قانون «آداب المعاشرة» تنظيما لا بأس به، وإن يكن ما زال ناقصا غير كامل. أما فيما يتعلق بالعلاقات الاجتماعية المعقدة التي لا تنحصر في حجرات الاستقبال وفي الطرقات العامة فإن قواعد الدين والأخلاق هي القانون الذي ينظم لها سياسة اللين.
Bog aan la aqoon