اتضح لنا من الفصول السابقة أننا مجمعون على مميزات المجتمع المثالي والإنسان المثالي، بل إن أكثر المصلحين السياسيين في القرن الماضي على درجة عظيمة من الاتفاق على الوسائل التي يصح اتباعها في تنظيم الدول حتى تبلغ الغايات التي ترمي إلى تحقيقها. ولا ينكر أحد أن الحكم الاستبدادي وشدة تركيز السلطة من بين العقبات الكبرى في طريق التقدم الاجتماعي والفردي، وحتى الاشتراكيون أنفسهم يمقتون المركزية وحكم الاستبداد. وقد وصف ماركس الدولة بأنها «حيوان طفيلي يعيش على جسم المجتمع»، وكان يتطلع إلى الوقت الذي تتلاشى فيه الدولة من تلقاء نفسها. ولكن إلى أن يتم هذا التلاشي لا بد من دكتاتورية العامة ولا بد من تعزيز نفوذ السلطة التنفيذية المركزية؛ فالدولة الروسية الحديثة أوليجاركية تتركز في يدها السلطة، ويجند رعاياها رجالا ونساء وأطفالا تجنيدا إجباريا. وفي الروسيا نظام دقيق للبوليس السري لرعاية المدنيين، وهناك فوق ذلك رقابة على الطبع والنشر. ونظام التعليم يقوم على مبدأ الخضوع والروح العسكرية، وهو بعينه النظام التعليمي الذي كان معروفا في روسيا القيصرية، والذي يسود في إيطاليا تحت حكم موسوليني وفي ألمانيا قبل الحرب العظمى وتحت سيطرة هتلر. إن أعوان حكومة استالين يريدوننا أن نعتقد أن أقصر الطرق إلى الحرية وأحسنها هو الخدمة العسكرية! وأن خير استعداد لتأليف حكومة مسئولة مستقلة هو الحكم الاستبدادي الذي يستخدم الجاسوسية البوليسية والإرهاب ورقابة المطبوعات! وأن التعليم الملائم الذي ينشئ لنا رجالا أحرارا يحبون السلام هو ذلك التعليم الذي يستخدمه العسكريون البروسيون!
إننا نعيش على أرض كرية مستديرة؛ فيستطيع المرء أن يسافر من باريس إلى روان عن طريق شنغهاي. ولكننا نعيش في زمن مسطح مستو، ولن يستطيع المرء أن يصل إلى هدف تاريخي معين إلا إذا اتجه رأسا إليه، ومهما أمعن في السير في الطريق المضاد فليس ببالغ غايته في يوم من الأيام.
والهدف الذي يرمي إليه المصلحون الاجتماعيون هو الحرية والعدالة والتعاون السلمي بين الأفراد المتحررين، الذين يحملون التبعات برغم تحررهم، والذين يتوفر فيهم النشاط الجم والحركة الدائمة. فهل هناك ما يدعونا إلى أن نعتقد أننا نستطيع أن نبلغ هذا الهدف عن طريق تجسس البوليس، والرق العسكري، وتركيز السلطة، وتسلط طبقة على طبقة، وكم الأفواه، وحبس الحريات، وفرض نظام استبدادي للتعليم؟ إنا لا نظن ذلك، ولا نحسب أن أحدا عاقلا يظن ذلك.
كان ماركس يعتقد أن الدولة ستتلاشى من تلقاء نفسها في الوقت الملائم، وهذا رأي جدير بالنظر في شيء من التفصيل. إن الدولة في رأي ماركس تقوم في المجتمع لأسباب عديدة منها ضمان امتيازات الطبقة الحاكمة؛ ففي الجماعة الإقطاعية مثلا تكون الدولة أداة يضمن بوساطتها أصحاب الأراضي من النبلاء أن يمسكوا زمام الحكم. وعند الرأسماليين الدولة هي الأداة التي تمكن للبورجوازي من الاستيلاء على الحكم والاحتفاظ بالثروة. والدولة في ظل الاشتراكية القومية هي الأداة التي تدافع بها البيروقراطية الحاكمة عن المركز الذي ارتفعت إليه. والدولة الدكتاتورية التي تتركز فيها السلطة إلى حد بعيد قد تحطمها الحرب، وقد تقلبها ثورة داخلية، ولكنها لن تذوي من تلقاء نفسها كما يحسب كارل ماركس. كما أن دكتاتورية العامة ليست في الواقع سوى دكتاتورية فئة صغيرة من الناس لها في البلاد بعض الامتيازات. ومثل هذه الدكتاتورية لا تؤدي إلى الحرية والعدالة والتعاون بين الأفراد المتحررين العاملين المسئولين. إنما تؤدي إما إلى تقوية نفوذ الدكتاتورية أو إلى الحرب أو الثورة، أو تؤدي إلى هذه النتائج الثلاث على التتابع.
كلا، إن الطريق السياسي الذي يؤدي بنا إلى ترقية المجتمع (ولنذكر أننا إن كنا نريد أن نبلغ أهدافنا فعلينا أن نسلك طرقا أخرى متعددة غير الطريق السياسي) هو طريق اللامركزية والحكم الذاتي الذي يتحمل التبعات. أما الدكتاتورية التي نزعم أنها طريق قصير للإصلاح المنشود فلن تؤدي بنا إلى الغاية التي نحب. ينبغي أن نقصد إلى الهدف بغير التواء، فإن وليناه ظهورنا أطلنا المسافة التي تفصل بيننا وبينه.
وأقول ثانية إن الطريق السياسي لترقية المجتمع هو طريق اللامركزية والحكم الذاتي المحمل بالتبعات. غير أن الظروف الراهنة لا تتيح لأمة من الأمم أن تسلك هذا الطريق؛ وذلك لسبب يسير ذكرته من قبل، وأجدني مضطرا إلى إعادة ذكره هنا؛ وذلك أن الدولة التي تستعد للحرب لا يسعها إلا أن تجمع السلطة في أيديها؛ لأن توحيد القيادة ضروري قبل إعلان الحرب كما هو ضروري بعد إعلانها. إن الأمة التي تريد أن تستخدم الحرب الحديثة أداة سياسية لا بد لها من سلطة تنفيذية شديدة التركيز قوية النفوذ (ومن ثم كان من التناقض في القول أن نتحدث عن الدفاع عن الديمقراطية بقوة السلاح؛ فالديمقراطية التي تستعد استعدادا جديا لحرب علمية حديثة لا بد لها من التخلي عن ديمقراطيتها؛ فالدولة لا تستطيع أن تستعد استعدادا صحيحا للحرب الحديثة إلا إذا تولى أمرها حاكم مستبد على رأس بيروقراطية مدربة طيعة).
قلت إن الأمة التي تريد أن تستخدم الحرب الحديثة أداة سياسية لا بد لها من سلطة تنفيذية شديدة التركيز قوية النفوذ. ومثل هذه الدولة أقرب إلى إعلان الحرب من أمة السلطة فيها لا مركزية والشعب فيها يحكم نفسه بنفسه، ولذلك دواع عدة؛ منها أن الدكتاتوريات قلما تكون آمنة، وكلما أحس الحاكم المستبد بزوال سلطانه لجأ إلى العاطفة القومية يستغلها كي يقوي مركزه. ومحاكمات الخائنين والمذابح الكبرى وما إليها هي الحيل العادية التي يلجأ إليها الدكتاتور لإحياء حماسة شعبه الفاترة. فإن فشلت هذه الحيل لجأ إلى إعلان الحرب. وكلما اشتد نفوذ الحاكم ازداد رغبة في أن ينظر إلى نفوذ الأمة الأدبي على أنه نفوذه الأدبي الشخصي . وعبارة «أنا الدولة»
L’etat C’est moi
وهم كثيرا ما ينزلق فيه الملوك والدكتاتوريون، بل ومن أقل منهم من الحكام ورجال السياسة. وأمثال هؤلاء الحكام الواهمين يرون فقدان نفوذ الأمة الأدبي ضربة موجهة إلى كبريائهم الشخصي، كما أنهم ينظرون إلى انتصار الأمة كأنه انتصار شخصي لهم. إن شدة تركيز السلطة تهيئ للحكام الذين بيدهم الأمر أنهم والدولة شيء واحد. وحينئذ تصبح الحرب أو التهديد بها طريقة من الطرق التي يفرض الحاكم المستبد بها شخصيته على أبناء أمته. وتمسي الدولة أداة لتنفيذ الأغراض الشخصية، من اضطهاد الأعداء إلى التظاهر بالكبر والخيلاء؛ ومن ثم نرى أن المبالغة في تركيز السلطة أمر لا مندوحة عنه لنجاح الحرب بعد إعلانها، كما أنها كذلك عامل من عوامل شن الحروب.
وفي الظروف الراهنة خاصة تحس الطبقات الحاكمة في الأمم جميعا بضرورة الاستعداد للحرب. ومعنى هذا أن تسعى الحكومة نحو توسيع سلطتها التنفيذية، وهذا التوسع نفسه يشجع على إشعال نار الحرب، فيزداد تركيز السلطة بعد إعلان الحرب، وهكذا دواليك حتى يصبح الصراع قويا بين الأمم.
Bog aan la aqoon