الإصلاح الاجتماعي والعنف
يقول بارتلمي دي لجت
Barthélemy de Ligt : «كلما اشتد العنف قلت الثورات.» ويجدر بنا أن نتدبر هذه العبارة.
إن بارتلمي في هذه العبارة ينصح باستخدام العنف وسيلة للإصلاح، ولكن العنف في الواقع لا يولد إلا العنف؛ عنف الحاكم يؤدي إلى عنف المحكوم، ويثير في نفسه الريبة والاستياء والحقد. إننا إذا تتبعنا التاريخ ألفينا نتيجة العنف واحدة في كل موقف من المواقف - السخط ومقابلة الشدة بالشدة.
إن الثورة لا تعد ناجحة إلا إذا أدت إلى التقدم، والتقدم في عبارة الدكتور مارت التي سلف ذكرها هو تبادل المحبة بين الناس. فهل من الممكن أن نحقق التقدم بهذا المعنى - تبادل المحبة - بوسائل أبعد ما تكون بطبيعتها عن تبادل المحبة؟ إن التجربة والتاريخ كلاهما يؤكد لنا استحالة ذلك، غير أن المرء يميل إلى أن يعتقد بأنه يستطيع بعمل حاسم جريء أن يرفع مستوى العالم إلى المدينة الفاضلة كما يتصورها، كما أنه في الوقت نفسه يميل إلى التحيز لمن يشاطره الرأي، ومن ثم تراه يميل إلى استخدام العنف ولا يطيق اللين والهدوء وهما من ضرورات الحكم الرشيد. إن أكثرنا يعتقد أن الغاية الطيبة تبرر الوسيلة الدنيئة. ومن العبارة الآتية التي نقتبسها من كتاب الأستاذ لاسكي عن الاشتراكية يتبين لنا مدى الخطأ الذي نقع فيه من جراء ذلك، يقول لاسكي في معرض حديث له عن تاريخ إنجلترا : «لولا دكتاتورية أسرة جيمس الحديدية لانهارت الجمهورية.» كأن العنف الذي لجأت إليه هذه الأسرة هو الذي حفظ للبلاد الحكم الجمهوري. والواقع الذي يسجله التاريخ هو أن هذه الأسرة بعينها هي التي كانت السبب في انهيار الجمهورية من جراء ما لجأت إليه من قسوة وشدة، بل لقد كانت هذه الأسرة بعينها بسبب عنفها واستبدادها عاملا من العوامل التي أدت إلى الحروب النابليونية الطاحنة، وإلى التجنيد الإجباري - وهو نوع من أنواع الإذلال والاستعباد - كما أدت إلى نشأة الروح القومية القوية التي تهدد كيان المدنية الحاضرة؛ تلك هي نتائج هذه الدكتاتورية الغاشمة التي يتمشدق بها لاسكي، وبرغم هذا كله لا يني أنصار الثورات عن الاعتقاد بأن هذه الوسائل العنيفة وأشباهها تؤدي إلى خير النتائج. إنهم يحسبون أنهم يستطيعون بالثورات أن يرفعوا لواء العدالة الاجتماعية، وأن ينشروا السلام بين الأمم.
إن العنف لا يؤدي إلى التقدم الحق إلا إذا أعقبته الأعمال العادلة اللينة التي تنطوي على حب الخير وحسن النية، حينئذ تصلح هذه الأعمال ما أفسد العنف وتعوض ما فقدته الجماعة من جرائه، والفضل عندئذ لا يرجع إلى العنف ذاته، وإنما يرجع إلى ما يعقبه عادة من إصلاح وتعويض، وعلى سبيل المثال نقول: إن غزو الرومان لبلاد الغال والغزو البريطاني للهند كلاهما عمل عنيف انتهى بالخير وأدى إلى التقدم، وإنما يرجع ذلك التقدم إلى الإصلاح الذي قام به رجال الإدارة من الرومانيين والبريطانيين بعدما ألقى رجال الحرب السلاح، ومع هذا فنحن نؤمن بأن هذا التقدم الذي حدث كان من الجائز أن يتم بغير الغزوات التي شنها المحاربون، أما إذا لم يتل أعمال العنف الأولى عمل إصلاحي - كما حدث في البلاد التي فتحها الأتراك - فإن البلاد تبقى على حالها من الهمجية والتأخر.
وكلما طال أمد العنف تعسر على القائمين به أن يقوموا بالأعمال الإصلاحية التي تستند إلى سياسة اللين؛ ذلك لأن أعمال العنف تصبح من تقاليد الحكم، كما تصبح الأعمال العنيفة - في أعين الجمهور - أعمالا فاضلة تنم عن الشرف الرفيع، وتدل على البطولة الجبارة، وهذا هو ما حدث أيام التتر، وهذا هو ما يحدث الآن في الدول الدكتاتورية الحديثة، وأقصد بها ألمانيا وإيطاليا والروسيا، وفي مثل هذه الظروف يضعف الأمل في تحويل آثار العنف إلى الأعمال الخيرية العادلة التي قد تعقب الشدة إن قصر أجلها.
ومما تقدم يتبين أن الإصلاح لا يحقق النتائج المرجوة إلا أن كان قائما على حسن النية وفي الوقت الملائم. إن القيام بالإصلاح الاجتماعي الذي يثير معارضة قوية تتطلب استخدام العنف والالتجاء إلى الشدة تهور وإجرام؛ لأن الإصلاح الذي يستدعي العنف لإقراره يفشل في تحقيق الخير المرجو، بل يجعل الحياة أسوأ مما كانت من قبل. إن العنف - كما قلت من قبل - لا يولد إلا آثار العنف، وهذا الآثار لا يمكن محوها إلا بأعمال الإصلاح اللينة التي تعقب العنف وتعوض بعض آثاره. وإن طال أمد العنف أضحى عادة في نفوس مرتكبيه وبات من العسير عليهم أن يسلكوا مسلكا آخر أو أن يتخذوا سياسة أخرى. وقد يقبل الحاكم على العمل العنيف عن قصد نبيل ونية حسنة، ولكن أعماله العنيفة تؤدي إلى نتائج لم تكن لتخطر على باله أو تدور بخلده. فقد انتهت دكتاتورية أسرة جيمس بالاستبداد الحربي، وبحرب دامت عشرين عاما، وبالتجنيد الإجباري في كل أنحاء أوربوا، وبظهور القومية المقدسة، وما كان لأحد من أفراد أسرة جيمس أن يحلم بشيء من هذا. وفي العصر الحديث نرى أن ظلم القياصرة الروس واستبدادهم الذي امتد إلى فترة طويلة من الزمن قد أدى، كما أدت أعمال القسوة في الحرب العظمى، إلى دكتاتورية البلاشفة الحديدية. وما كان للقياصرة أو لرجال الحرب العظمى أن يتصوروا هذه النتيجة البعيدة. ثم إن الخوف من اشتعال ثورة عالمية عنيفة دعا إلى قيام الفاشستية، وأعادت الفاشستية التسليح، وتطلبت إعادة التسليح من الدول الديمقراطية أن تخرج تدريجا عن قاعدة الحرية التي رسمتها لنفسها، وتشير كل الدلائل اليوم (يونيو 1937) على أن المستقبل مظلم كئيب.
1
إذا أردنا إذا أن نقوم بإصلاح شامل لا يثبت بطلانه عند تطبيقه فلا مندوحة لنا عن اختيار الوسائل التي لا تتسم بالعنف والشدة، أو - على الأقل - تلك الوسائل التي تقوم على الحد الأدنى منهما (ويجدر بنا هنا أن نذكر أن الإصلاح الذي ينفذ تحت حافز الخوف من جار أجنبي قوي، والذي يرمي إلى استخدام العنف في الحروب الدولية المنتظرة، لا يبوء إلا بالفشل، ومثله كمثل الإصلاح الذي ينفذ بطريق الإرهاب الداخلي، وقد أدخل الدكتاتوريون تعديلا شاملا في بناء المجتمعات التي يحكمونها دون أن يلجئوا إلى وسائل الإرهاب، فقابلت شعوبهم هذا التعديل بالرضا لأنها آمنت - بفعل الدعاية المنظمة - أن هذا التعديل ضروري لتأمين الدول من العدوان الخارجي. وقد كان بعض هذا التعديل إصلاحا مستحبا، ولكن لما كان هذا الإصلاح موضوعا بقصد تمكين الدولة من إدارة عجلة الحرب، فقد حفز ذلك الدول الأخرى على الاستزادة من قدرتها الحربية، وبذا أصبح نشوب الحرب من جديد أمرا محتمل الوقوع. ولما كانت طبيعة الحرب الحديثة تجعل من المستحيل أن يبقى أي أثر من آثار الإصلاح بعد نهاية الحرب، فإن الإصلاح المرغوب، ذلك الإصلاح الذي لا يلاقي من الشعب معارضة، قد يفشل إذا كان القائمون بالأمر يحملون الجماعة على قبوله بطريق الدعاية التي تثير فيها الخوف من عدوان الآخرين، أو الدعاية التي تمجد العدوان، تقوم به الجماعة لمصلحة نفسها كي تحقق من ورائه خيرا ترجوه.
Bog aan la aqoon