John Tauler : «إن التحرر طهارة تامة، وانفصال كامل عن شئون الدنيا يؤدي إلى البحث عن الله حتى يصبح المرء متحدا بربه أو متصلا به كل الاتصال.» ويقول فيلسوف آخر: «علينا أن نمر بالهموم كألا وجود لها، لا عن خمول أو كسل، ولكن عن حرية عقلية تدفعنا إلى عدم التمادي في حب مخلوق ما إلى حد التطرف.» وهناك أقوال أخرى كثيرة في هذا المعنى لسنا نرى داعيا لذكرها. كما أن علماء الأخلاق من غير رجال المسيحية يؤكدون ضرورة التحرر بدرجة لا تقل عما يحب المسيحيون. فالفيلسوف اسبينوزا يبشر به، وهو يقصد ب «العبودية الإنسانية» حالة المرء الذي يخضع لرغباته وعواطفه وأفكاره ويسمح لها أن تتحكم فيه.
والرجل المتحرر هو الرجل الذي يضع حدا للألم - على حد تعبير بوذا - فهو لا يتألم ولا يوقع بغيره الألم. ذلك هو الرجل السعيد، وذلك هو الرجل الطيب.
غير أن من بين رجال الأخلاق قلة تنكر قيمة التحرر. من هؤلاء نيتشه، ولعله أكثرهم شهرة وأبعدهم صيتا، ومنهم ماركيز دي ساد
Marquis de sade . ولكن هؤلاء الرجال من غير شك فرائس لأهوائهم ولظروف اجتماعية معينة أحاطت بحياتهم. إنهم كانوا لا يقدرون على التحرر فلم يستطيعوا التبشير به. كانوا هم أنفسهم أرقاء فلم يفهموا مزية الحرية. وهم في هذا شواذ من غير شك. وكذلك كان مكيافلي وهجل، وأمثالهما من فلاسفة الفاشستية والاشتراكية الدكتاتورية المعاصرين، فرائس لظروف اجتماعية معينة. وكلهم شواذ في عالم الفكر السياسي.
هذه هي المثل العليا للفرد والمجتمع، المثل التي اتخذت صيغتها منذ نحو ثلاثة آلاف عام في آسيا، والتي ما زال يتعلق بها الكثيرون حتى وقتنا الحاضر. ولكن أكثر شعوب العالم اليوم - رغم إعجابها بهذه المثل - أبعد ما تكون عن اتباعها أو الاهتداء بنورها.
يقول الدكتور مارت
Marett : «إن التقدم الحق هو أن يحب الناس بعضهم بعضا. أما جميع أنواع التقدم الأخرى فهي ثانوية.» وقد تقدمت الإنسانية خلال العصور التاريخية تقدما حقا، ولكن في فترات متباعدة وبغير نظام، وكان التقدم عظيما حقا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. ويحب أبناء القرن العشرين بعضهم بعضا في وجوه متعددة، ولكنهم في الأمور السياسية لا يعرفون تبادل الحب والتسامح؛ فرجال الحكم كثيرا ما يحيدون عن جادة العدل والاتزان. بل إن هناك من أصحاب النظريات من يبرر قسوة الدولة على الشعب، ولا يرى غضاضة في ضرب الناس بالسياط، أو في اضطهاد الأقليات أو شن الحروب.
ويترتب على تبادل البغضاء بين الناس انحطاط في نظرتهم إلى الحق؛ فالدكتاتوريون السياسيون والاقتصاديون في العصر الحاضر يخترعون الأكاذيب بصورة لم يسبق لها مثيل في التاريخ. وهم يبثون أكثر هذه الأكاذيب في الدعاية المنظمة التي تنفث الكراهية والغرور في صدور الناس وتمهد العقول لقبول فكرة الحرب والقتال.
ويجب أن نذكر أن تبادل الحب لا يمكن أن يتمكن من القلوب إلا إذا عاد الناس إلى الدين الصحيح والعقيدة في إله واحد . ولكن العامة اليوم تعبد آلهة متعددة؛ فهي تعبد الأمة أو تعبد طبقة معينة من الناس أو قد تقدس الفرد.
هذا هو العالم الذي نعيش فيه. إذا حكمنا عليه بمعيار التقدم الحق ألفيناه ينحدر في سبيل التأخر والانحطاط. إننا لا ننكر أن التقدم العلمي والفني يسير بخطى حثيثة، ولكن تبادل الحب بين القلوب لا يسير مع هذا التقدم جنبا إلى جنب؛ ولذا فليس من وراء التقدم العلمي والفني فائدة، بل إنه من بواعث التأخر والتدهور في كرم النفوس وطيب الأخلاق.
Bog aan la aqoon