امرأة من الحجر
كيمياء اللاسلطوية
الخوف
هيئات جونسون التنكرية
إصلاح جو هولندز
خطاب الآلة الكاتبة
هلاك لندن
مأزق دي بلونفيل
مادة متفجرة جديدة
لغز بيجرام الكبير
Bog aan la aqoon
سيأتي الموت عاجلا أو آجلا
رهانات كبيرة «حين يكون الجهل نعمة»
رحيل الفتى ماكلين
القاطرة العتيقة رقم ستة وثمانين
اللعب بورق موسوم
تودد الملاكم
مداهمة ميليش
رد الصاع
قرار كراندال
خذلان برادلي
Bog aan la aqoon
تحول رينجامي
نزيل غامض
المقعد السادس
امرأة من الحجر
كيمياء اللاسلطوية
الخوف
هيئات جونسون التنكرية
إصلاح جو هولندز
خطاب الآلة الكاتبة
هلاك لندن
Bog aan la aqoon
مأزق دي بلونفيل
مادة متفجرة جديدة
لغز بيجرام الكبير
سيأتي الموت عاجلا أو آجلا
رهانات كبيرة «حين يكون الجهل نعمة»
رحيل الفتى ماكلين
القاطرة العتيقة رقم ستة وثمانين
اللعب بورق موسوم
تودد الملاكم
مداهمة ميليش
Bog aan la aqoon
رد الصاع
قرار كراندال
خذلان برادلي
تحول رينجامي
نزيل غامض
المقعد السادس
الوجه والقناع
الوجه والقناع
تأليف
روبرت بار
Bog aan la aqoon
ترجمة
عبد الفتاح عبد الله
مراجعة
هبة عبد المولى أحمد
امرأة من الحجر
كانت لورين فتاة جميلة، ورشيقة، في الثامنة عشرة من عمرها. وكانت تعمل بوظيفة جيدة في صيدلية سيام في شارع سانت أونوريه. ولم يكن هناك من تعوله؛ ولذا كان كل ما تجنيه من أموال ملكا لها وحدها. وربما كان فستانها مصنوعا من قماش زهيد الثمن لكن تصميمه كان قمة في الأناقة والرقة، وهو ما كان هبة طبيعية حبيت بها الفتاة الباريسية؛ ومن ثم لم يكن الناظر إليها ليفكر في رخص ثمن الفستان، وإنما كان سيعجب بتأثيره الساحر. وكانت تعمل في الصيدلية مسئولة عن الحسابات ومساعدة عامة، وتقيم في غرفة صغيرة في الضفة المقابلة لنهر السين في شارع ليل. وكانت تعبر النهر مرتين كل يوم؛ مرة في الصباح حين تكون الشمس مشرقة، وأخرى في المساء حين تتلألأ الأنوار البراقة المنعكسة عن ضفة النهر وكأنها درر في عقد طويل. وفي كل صباح كانت تسير في حديقة تويلري بعد عبورها الجسر الملكي، لكنها لم تكن تمر عبر الحديقة في طريق عودتها مساء؛ ذلك أن الحديقة في الصباح تختلف عنها في المساء. وفي طريق عودتها كانت دائما ما تسير في شارع تويلري حتى تصل إلى الجسر. وكانت نزهتها الصباحية عبر الحديقة مصدر سعادة لها؛ لأن شارع ليل ضيق وغير متألق بالأضواء؛ ولذا كان من الممتع لها أن تسير تحت الأشجار الخضراء وأن تشعر بالحصى المتغضن الهش تحت أقدامها، وأن تشاهد التماثيل البيضاء اللامعة تحت أشعة الشمس ومياه النافورة المستديرة المتلألئة التي كانت تجلس إلى جوارها في بعض الأحيان. وكان تمثالها المفضل تمثالا لامرأة يستند على قاعدة بالقرب من شارع ريفولي. كانت ذراع المرأة تمتد فوق رأسها، وترتسم على الوجه الرخامي ابتسامة غامضة. كانت تلك الابتسامة تسحر الفتاة حين ترفع نظرها إلى التمثال، وبدا الأمر كأنها تحية الصباح ليومها الحافل بالعمل في المدينة. وكانت الفتاة تقبل أطراف أصابعها حين لا تكون على مرأى من أحد - وهو ما كان عليه الحال غالبا في الثامنة صباحا - وتلقي التحية على التمثال بابتهاج، وكانت المرأة الحجرية تبادلها التحية دائما بتلك الابتسامة الغريبة التي كانت تشير فيما يبدو إلى أنها تعرف عن هذا العالم وأساليبه أكثر مما تعرفه تلك الفتاة الباريسية الصغيرة التي كانت تنظر إليها كل يوم.
كانت لورين سعيدة بالطبع، أليست باريس جميلة دوما؟ أليست الشمس تشرق متألقة؟ أليس الجو صافيا دائما؟ ما الذي يمكن لفتاة يافعة أن تأمله أكثر من ذلك؟ ربما كان هناك شيء واحد ينقصها فعلا، لكن في النهاية تحقق لها ما كانت تريد؛ وهكذا لم يكن في باريس كلها فتاة أسعد من لورين. كادت تفصح لتمثالها المفضل في صباح اليوم التالي بما حدث؛ ذلك أن ابتسامة التمثال بدت لها وكأنها ازدادت اتساعا منذ آخر مرة مرت عليه صباح أمس، وشعرت وكأن المرأة المنحوتة من الحجر خمنت سر الفتاة المخلوقة من لحم ودم.
لاحظته لورين لعدة أيام وهو يحوم حول الصيدلية، وكان ينظر إليها بين الحين والآخر، رأت كل شيء، لكنها تظاهرت بأنها لم تر شيئا. كان شابا وسيما يافعا ذا شعر مجعد ويدين طويلتين نحيلتين وبيضاوين وكأنه لم يكن معتادا على العمل اليدوي الشاق. وذات ليلة تبعها حتى الجسر، لكنها تابعت سيرها بسرعة، ولم يستطع اللحاق بها. ولم يدخل الشاب إلى الصيدلية قط، لكنه كان يتسكع في الأرجاء وكأنه يتحين الفرصة ليتحدث إليها. لم يكن لدى لورين أحد تأتمنه على سرها سوى تلك المرأة الحجرية، وبدا من ابتسامتها أنها تفهم ما تريد قوله بالفعل، وأنها ليست في حاجة لأن تخبرها بأن الشاب الذي ساقه إليها القدر قد أتى. وفي المساء التالي تبعها لمسافة فوق الجسر، ولم تسرع لورين في سيرها هذه المرة. إن الفتيات في مثل وضعها لا يفترض لهن أن يتعرفن إلى محبيهن بالطريقة المعتادة، فكن يعتمدن في ذلك بصفة عامة على التعارف العشوائي، رغم أن لورين لم تكن تعلم ذلك. وتحدث إليها الشاب على الجسر، وبينما هو يحدثها رفع قبعته عن رأسه ذي الشعر الأسود.
كان كل ما قاله لها: «طاب مساؤك!»
فأشاحت بنظرها عنه خجلا لكنها لم تجبه، واستمر الشاب في السير إلى جوارها.
Bog aan la aqoon
وقال: «أنت تسلكين هذا الطريق كل مساء، كنت أراقبك. هل يزعجك ذلك؟»
فأجابته بصوت يكاد يكون همسا: «لا.»
فسألها: «إذن، هل يمكنني أن أسير معك حتى منزلك؟»
فأجابته: «يمكنك أن تسير معي حتى زاوية شارع ليل.»
قال الشاب: «شكرا لك.» وسارا معا تلك المسافة القصيرة، وعند المكان المحدد تمنى لها ليلة طيبة، بعد أن طلب منها أن تأذن له بلقائها عند زاوية شارع سانت أونوريه وأن يسير معها في طريق عودتها إلى المنزل في مساء اليوم التالي.
فقالت له: «لا تأت إلى الصيدلية.»
فأجابها وهو يومئ إيجابا بأنه سيحقق لها ما تريد: «أتفهم ذلك.» وأخبرها أن اسمه جان دوريه، وبمرور الوقت صارت تدعوه جان وصار هو يدعوها لورين. والآن لم يعد الشاب يأتي إلى الصيدلية أبدا، لكنه كان ينتظرها عند زاوية الشارع، وذات يوم أحد أخذها في نزهة صغيرة في النهر، وهو ما استمتعت به كثيرا. وهكذا مضى الوقت، وكانت لورين في غاية السعادة. وكان التمثال يبتسم لها ابتسامته الساحرة ، رغم أنها شعرت بما بدا وكأنه تحذير غامض في ابتسامته حين كانت السماء غائمة. ربما كان ذلك بسبب أنهما تشاجرا الليلة الماضية. بدا جان لها فظا وغير متسامح. كان قد سألها إن كان بإمكانها أن تحضر له بعض الأشياء من الصيدلية، وأعطاها قائمة بثلاث مواد كيميائية، كتب أسماءها في ورقة.
وقال لها: «يمكنك الحصول عليها بسهولة. إنها أشياء موجودة في كل صيدلية، ولن يلاحظ أحد اختفاءها.»
قالت الفتاة في ذعر: «لكن هذا ضرب من السرقة.»
ضحك الشاب.
Bog aan la aqoon
وسألها: «كم يدفعون لك هناك؟» وحين أخبرته ضحك مرة أخرى وقال: «يا إلهي، لو كنت أحصل على هذا القدر الضئيل من المال لأخذت كل يوم شيئا من الأرفف وبعته.»
نظرت إليه الفتاة في دهشة، فنظر إليها في غضب واستدار عنها وانصرف تاركا إياها. اتكأت بذراعها على حاجز الجسر ونظرت إلى المياه المظلمة بالأسفل. لطالما كان النهر في المساء يثير إعجابها، وكانت في كثير من الأحيان تقف لتلقي نظرة على النهر وهي تعبر الجسر، وفي أثناء ذلك كانت تشعر برجفة تسري في أوصالها. بكت قليلا حين فكرت في رحيله المفاجئ، وتساءلت في نفسها إن كانت فظة معه. ففي النهاية، لم يكن يطلب منها فعل الكثير، وكانوا في الصيدلية يدفعون لها مبلغا ضئيلا بحق. وربما كان عشيقها فقيرا، ويحتاج إلى تلك الأشياء التي طلب منها إحضارها. وربما كان مريضا ولم يخبرها بشيء. ثم شعرت بلمسة على كتفها. فالتفتت على إثرها. كان جان يقف إلى جوارها، لكن عبوس وجهه لم يكن قد تلاشى.
فقال على نحو مفاجئ: «أعطيني تلك الورقة.»
ففتحت يدها وأخذ الورقة منها، واستدار مبتعدا عنها.
فقالت: «انتظر! سأحضر لك ما تريد، لكنني سأضع ثمنه بنفسي في درج النقود.»
وقف الشاب في مكانه، وأخذ ينظر إليها للحظة، ثم قال: «لورين، أعتقد أنك حمقاء بعض الشيء. إنهم يدينون لك بأكثر مما ستدفعين بكثير. ولكن، لا بد لي من الحصول على تلك الأشياء.» ثم أعطاها الورقة محذرا إياها: «احرصي على ألا يرى أحد ذلك، وتأكدي جيدا من إحضار الأشياء الصحيحة.» ثم سار بصحبتها حتى زاوية شارع ليل وسألها قبل أن يفترقا: «لست غاضبة مني، أليس كذلك؟»
فردت عليه هامسة: «سأفعل أي شيء لأجلك!» ثم قبلها وتمنى لها ليلة طيبة.
ثم أخذت هي المواد الكيميائية حين كان صاحب الصيدلية في الخارج، وربطتها بإحكام كعادتها بعد أن دستها في سلتها الصغيرة التي كانت تحمل فيها غداءها. وكان صاحب المكان رجلا يقظا حاد البصر يعتني بمتجره ومساعدته الجميلة الصغيرة اعتناء كبيرا.
وقد سألها وهو يأخذ الإناء ويرمقها بنظرات حادة: «من ذا الذي يريد هذا الكم من كلورات البوتاسيوم؟»
ارتجفت الفتاة وقالت: «كل شيء على ما يرام، هذا هو المال في درج النقود.»
Bog aan la aqoon
فقال لها: «بالطبع، لم أكن أتوقع منك أن تبيعيه دون مقابل. من الذي اشتراه؟»
أجابته الفتاة وهي ما زالت ترتجف: «رجل عجوز!» لكن صاحب الصيدلية لم يلاحظ ارتجافها؛ إذ كان يعد النقود ووجد أنها مضبوطة. «أتساءل ماذا سيفعل بهذا الكم الهائل. إذا أتى مرة أخرى، فانظري إليه وأمعني النظر وأخبريني بأوصافه. الأمر يبدو مثيرا للريبة.» لم تعلم لورين لم يبدو الأمر مثيرا للريبة، لكنها مرت بوقت عصيب حتى أخذت السلة في يدها وذهبت للقاء عشيقها عند زاوية شارع بيراميد. وكان أول سؤال طرحه عليها هو: «هل أحضرت لي الأشياء؟»
فأجابته: «أجل، هل ستأخذها هنا، الآن؟»
فعاجلها برده قائلا: «ليس هنا، ليس هنا.» ثم سألها في قلق: «هل رآك أحد وأنت تأخذينها؟» «لا، لكن صاحب الصيدلية يعرف أنها كمية كبيرة؛ ذلك لأنه عد النقود.»
سألها جان: «أي نقود؟» «ثمن هذه الأشياء. أتظن أنني كنت سأسرقها؟»
ضحك الشاب وسحبها نحو زاوية هادئة في حديقة تويلري.
وقال لها: «لن يكون أمامي متسع من الوقت لأذهب معك إلى شارع ليل الليلة.»
فسألته في قلق: «لكنك ستأتي غدا كالعادة، أليس كذلك؟»
فأجابها وهو يخفي العبوات بسرعة في جيوبه: «بالتأكيد، بكل تأكيد.»
في مساء اليوم التالي كانت الفتاة واقفة تنتظر عشيقها بصبر عند زاوية الشارع التي اعتادا اللقاء عندها، لكنه لم يأت. كانت تقف تحت أحد أعمدة الإنارة المضيئة حتى يراها في الحال. وأثناء وقوفها هناك تحرش بها الكثير من الناس، لكنها لم تجب أحدا، وكانت تنظر أمامها مباشرة بعينين ثابتتين، وكانوا يتركونها ويغادرون بعد التردد للحظة. وفي النهاية رأت رجلا يجري بسرعة من الجهة الأخرى من الشارع، وحين مر أمام إحدى النوافذ المضاءة بأنوار براقة، أدركت أنه جان. وكان يأتي نحوها مسرعا.
Bog aan la aqoon
فصاحت وهي تجري نحوه: «ها أنا!» ثم أمسكت به من ذراعه وهي تقول: «أوه، جان، ما الأمر؟»
فتملص منها بوقاحة، وصاح فيها: «دعيني، أيتها الحمقاء!» لكنها تمسكت به، حتى رفع قبضته وصفعها على وجهها. هوت لورين على الحائط، وهرع جان. وكان هناك رجل مقدام قوي البنية قد حاول التقرب إلى لورين قبل بضع دقائق، ولكنه لم يفهم صمتها فوقف عند أحد الأبواب بالجوار يراقبها، وقد هرع الرجل نحوها حين رأى الاعتداء عليها، وألقى بعصاه بين قدمي الرجل الذي يجري، فأرسل الأخير على وجهه إلى الرصيف. وفي اللحظة التالية كان يضع قدمه على رقبة جان مثبتا إياه على الأرض وكأنه ثعبان.
وصاح فيه: «أيها الحقير! كيف تجرؤ على ضرب امرأة؟»
كان جان يرقد على الرصيف مذهولا، وهرع شرطيان نحو المكان.
فقال الرجل: «لقد اعتدى هذا الوغد على امرأة لتوه. لقد رأيته.»
قال أحد الشرطيين في عبوس: «لقد فعل ما هو أكثر من ذلك.» وكأن ضرب امرأة والاعتداء عليها لم يكن خطبا جللا.
وأوثقا رباط الشاب وجراه معهما. فهرعت نحوهم الفتاة وقالت وهي مضطربة: «الأمر كله سوء تفاهم، كانت حادثة. لم يكن يقصد فعل ذلك.»
فسألها أحد الشرطيين: «أوه، حقا، وكيف عرفت ذلك؟»
قال جان للفتاة وهو يجز على أسنانه: «أيتها الغبية، الأمر كله غلطتك.»
وأسرع به الشرطيان.
Bog aan la aqoon
قال أحدهما: «في رأيي، كان ينبغي لنا أن نلقي القبض على الفتاة؛ فقد سمعت ما قالته.»
قال الآخر: «أجل، لكن تحقق لنا ما يكفي الآن، إذا ما عرف الملأ من هو.»
فكرت لورين أن تتبعهم، لكنها كانت مذهولة من الكلمات التي قالها لها عشيقها أكثر من الصفعة التي وجهها لها، حتى إنها استدارت في حزن نحو الجسر الملكي وذهبت باتجاه غرفتها.
وفي صباح اليوم التالي، لم تذهب إلى عملها عبر الحديقة كعادتها، وحين دخلت صيدلية سيام صاح مالكها: «ها هي، تلك الماكرة! من كان سيعتقد أنها السبب وراء ذلك؟ أيتها الحقيرة، لقد سرقت عقاقير الصيدلية لتعطيها ذلك الوغد!»
قالت لورين بكل شجاعة: «لم أسرقها، لقد وضعت النقود في الدرج ثمنا لها.»
قال صاحب الصيدلية: «اسمعا! إنها تعترف!»
تقدم نحوها الشرطيان المتخفيان وألقيا القبض عليها بتهمة التواطؤ مع جان دوريه الذي كان قد ألقى أمس قنبلة في شارع الأوبرا المزدحم.
وسرعان ما رأى القضاة الفرنسيون المتحيزون أن الفتاة كانت بريئة ولم تكن تضمر أي نية شريرة، وأنها كانت ضحية ذلك الوغد الذي يحمل اسم جان دوريه. وقد حكم عليه بالسجن مدى الحياة، بينما أخلي سبيلها. وقد حاول إلقاء اللائمة عليها كالجبان؛ وذلك ليحمي امرأة أخرى. وكان هذا هو ما أدمى قلب لورين. ربما كانت ستحاول أن تجد عذرا لجريمته، لكنها أدركت أنه لم يهتم لأمرها قط، وأنه كان يستغلها كأداة في يده ليحصل على المواد الكيميائية التي لم يجرؤ على شرائها.
وتحت زخات المطر الخفيف المتساقط خرجت من سجنها معدمة، متعبة الجسد ومحطمة الروح. مرت من أمام صيدلية سيام الصغيرة لكنها لم تجرؤ على دخولها. وأكملت سيرها تحت المطر على طول شارع بيراميد، وعبرت إلى شارع ريفولي، حتى دخلت حديقة تويلري. كانت قد نسيت أمر المرأة الحجرية، لكن خطواتها كانت تقودها إليها من دون وعي منها. ورفعت نظرها إلى التمثال في دهشة، غير مدركة له في البداية. لم يعد التمثال لامرأة مبتسمة. كانت رأس التمثال ملقى للخلف وعيناه مغلقتان، وكانت آخر نزعات الموت مرسومة على وجهه. كان التمثال على درجة كبيرة من البشاعة والفظاعة. وكانت الفتاة متحيرة للغاية من التغير الذي اعترى التمثال، حتى إنها نسيت لبعض الوقت ما حل على حياتها من خراب. ورأت أن الوجه المبتسم لم يكن سوى قناع مثبث في مكانه بفعل انحناء الذراع اليسرى عليه. وقد أدركت الفتاة الآن أن الحياة ما بين مأساة وملهاة، وأن من لا يرى سوى وجهها المبتسم، فإنه لم ير سوى نصف الحقيقة. أسرعت الفتاة في سيرها نحو الجسر وهي تنشج في صمت بينها وبين نفسها، ونظرت إلى الأسفل نحو مياه النهر الكئيبة. لم يعرها المارة أي اهتمام، وتساءلت في نفسها لم كانت تفكر في النهر على أنه بارد وقاس ولا يرحم؟ إنه موطن المشردين الوحيد، والعشيق الذي لا يتغير ولا يتبدل. ثم استدارت نحو أعلى الدرج الذي كان يؤدي إلى الأسفل حيث حافة المياه. ونظرت نحو حديقة تويلري لكنها لم تستطع أن ترى تمثالها بسبب الأشجار التي حالت بينهما، فقالت في نفسها وهي تنزل الدرج بسرعة: «سأصبح أنا أيضا امرأة من حجر.»
كيمياء اللاسلطوية
Bog aan la aqoon
قيل في الصحف اللندنية إن تفكك منظمة سوهو اللاسلطوية كان سببه نقص الموارد المالية. والحقيقة أبعد ما تكون عن ذلك؛ فالمنظمة اللاسلطوية ليست في حاجة إلى الموارد المالية، وما دام هناك من الأموال ما يكفي لشراء الجعة فإن وجود المنظمة سوف يستمر لا محالة. وقد أخبرني صحفي شاب بالحقيقة وراء فض منظمة سوهو، وقد كان هو رئيس الجلسة في آخر اجتماعات المنظمة.
لم يكن ذلك الشاب من دعاة اللاسلطوية وأنصارها، رغم أنه كان يتعين عليه أن يدعي أنه كذلك خدمة لمصالح جريدته؛ ومن ثم فقد انضم إلى منظمة سوهو حيث ألقى بعض الخطب الحماسية التي لاقت استحسانا كبيرا. وفي النهاية، أصبحت الأخبار التي تتناول موضوع اللاسلطوية سلعة كاسدة في السوق، وقد تلقى مارشال سيمكنز الشاب أوامر من رئيس تحرير الجريدة التي يعمل بها تفيد بأنه يتعين عليه الآن أن يحول انتباهه إلى العمل البرلماني؛ ذلك أن رئيس التحرير لن ينشر المزيد من أخبار اللاسلطويين في جريدته.
ربما يتراءى للمرء أن سيمكنز الشاب سر بالتخلص أخيرا من عمله مع اللاسلطويين؛ حيث لم يكن لديه أي شغف تجاه هذه القضية. وقد سر الشاب فعلا لذلك، لكنه وجد صعوبة في إرسال استقالته من المنظمة. ففي اللحظة التي تحدث فيها عن الاستقالة، بدأ أعضاء المنظمة ينظرون إليه بعين الريبة. كان دائما ما يرتدي ملابس أفضل من الآخرين، فضلا عن أن احتساءه الجعة كان أقل منهم. وإذا كان هناك من يرغب في أن يحظى بمكانة جيدة في تلك العصبة، فعليه ألا يتأنق في ملبسه وأن يشرب ما لا يقل عن جالون من الجعة في الاجتماع الواحد. ولم يكن سيمكنز يحتسي من الجعة سوى «ربع جالون» فقط، وكان هذا الأمر يشي به طوال الوقت لولا الحماسة الزائدة التي كانت تغلب على خطاباته. وفي الكثير من المناسبات تجمع حوله الكثير من اللاسلطويين المخضرمين والتمسوا منه أن يحيد عن نواياه العدائية والشريرة نحو مباني البرلمان.
ذهب الأعضاء الأقدم إلى أن محو المجالس البرلمانية أمر مرغوب ولكن الوقت غير موات بعد لذلك. وقد أشاروا إلى أن إنجلترا هي المكان الوحيد الذي يمكن للاسلطويين أن يعيشوا فيه ويتحدثوا من دون تدخل في شئونهم؛ ومن ثم على الرغم من أنهم كانوا يتلهفون شوقا أن يذهب سيمكنز ويقوم ببعض التفجيرات في فيينا أو برلين أو باريس، فإنهم لم تكن لديهم الرغبة في أن يبدأ بلندن. وكانت تهدئة سيمكنز في الغالب عملية صعبة للغاية، وفي النهاية وبعد أن همس لنفسه «جبناء!» مرتين أو ثلاثا، اختتم حديثه قائلا: «أوه، حسنا، أنتم أكثر دراية مني؛ فأنا مجرد عضو شاب، لكن اسمحوا لي على الأقل أن أفجر جسر ووترلو، أو أن أزرع قنبلة في شارع فليت، لكي نبرهن فقط أننا موجودون وعلى أهبة الاستعداد للعمل.»
لكن اللاسلطويين ما كانوا ليوافقوا على هذا. إذا كان يريد تفجير الجسور، فيمكنه أن يبدأ بتفجير الجسور التي تمتد على نهر السين. وقد اتخذوا قرارهم بأنهم لن يقوموا بأي تفجير في لندن ما دامت إنجلترا تشكل لهم ملاذا ومأوى.
صاح سيمكنز في غضب: «لكن انظروا إلى ميدان ترافلغار؛ فلا يسمح لنا بالاجتماع هناك.»
فقال رئيس الجلسة: «ومن يريد الاجتماع هناك؟ إن الاجتماع في هذه الغرف يوفر لنا قدرا أكبر من الراحة ، كما أنه لا توجد جعة في ميدان ترافلغار.» وقال بضعة أعضاء آخرين: «أجل، أجل. لم يحن الوقت لذلك بعد.» وهكذا هدءوا من حماسة سيمكنز، وسمح بصب الجعة مرة أخرى في هدوء، في حين أن واحدا من دعاة اللاسلطوية الأجانب، والذي لم يكن مسموحا له بأن تطأ قدمه أرض بلاده، كان يقف متحدثا بإنجليزية ركيكة عن الأشياء الرائعة التي يمكنهم القيام بها باستخدام الديناميت.
لكن عندما أرسل سيمكنز استقالته تغيرت نظرتهم إليه، ورأى في الحال أنه صار مشتبها به. وقد نصحه رئيس الجلسة هامسا بأن يسحب استقالته. ومن ثم، وقف سيمكنز الفطن متفهما حدة طباع الجمع وقال: «لا نية لدي للاستقالة، لكنكم لا تفعلون شيئا سوى الكلام، وأريد أن أنتمي إلى جمعية لا سلطوية تطبق مقولة «أفعال لا أقوال».» ولم يحضر الاجتماع التالي لذلك، وحاول أن يتخلص منهم بهذه الطريقة، لكن زارته إحدى لجان المنظمة في مسكنه، وظنت مالكة المنزل أن سيمكنز الشاب قد تورط في أمور سيئة حين رأت أولئك الرجال ذوي المظهر الخبيث الماكر وهم يزورونه.
وضع سيمكنز في مأزق، ولم يستطع أن يتخذ قرارا بشأن ما يتوجب عليه أن يفعل. وبات واضحا أنه لن يستطيع التخلص من مجموعة اللاسلطويين هؤلاء. فعاد إلى رئيس التحرير طالبا مشورته بشأن الوضع، لكن لم يستطع هذا الرجل أيضا أن يجد أي مخرج من هذا المأزق.
فقال له: «كان عليك أن تكون أذكى من ذلك، بدلا من الانخراط مع أولئك الأشخاص.»
Bog aan la aqoon
سأله سيمكنز في سخط وغضب: «ولكن أنى لي الحصول على الأخبار؟» فهز رئيس التحرير كتفيه. ولم يكن هذا الأمر يعنيه؛ ولو أن اللاسلطويين اختاروا أن يعكروا صفو حياة الشاب، فليس ثمة ما يسعه فعله.
وكان زميل سيمكنز في السكن طالبا يدرس الكيمياء في لندن، ولاحظ أن الصحفي قد أصبح هزيلا واهنا من الجزع.
قال له سيدليتز ذات صباح: «تبدو منهكا ومهموما يا سيمكنز، ما خطبك؟ هل أصابك سهم العشق، أم أن هناك دينا يثقل كاهلك؟»
فأجابه سيمكنز: «لا هذا ولا ذاك.»
قال سيدليتز: «ابتهج إذن. إن كان لا هذا ولا ذاك، فأي شيء آخر من السهل علاجه.»
أدركه سيمكنز: «لست واثقا من ذلك.» ثم جلس وأخبر صديقه ما كان يزعجه.
قال سيدليتز: «آه، هذا يفسر ما رأيت إذن. كان هناك همجي أشعث يتجول في الأرجاء ويراقب المنزل. إنهم يتتبعونك يا صديقي وحين يكتشفون أنك صحفي ومن ثم خائن، فقد يقبضون عليك في إحدى الليالي المظلمة.»
قال سيمكنز وقد دفن رأسه بين يديه: «كم هذا مشجع.»
سأله سيدليتز: «هل يتسم هؤلاء اللاسلطويون بالشجاعة، وهل هم على استعداد للمخاطرة بحياتهم في سبيل أي شيء؟» «أوه، لا أعلم. إنهم يتحدثون كثيرا، لكنني لا أعلم ما يمكن لهم القيام به. لكن يمكنهم فعلا القبض علي في أحد الأزقة المظلمة.»
قال سيدليتز: «اسمع، لنفترض أنك ستسمح لي بتجربة إحدى الخطط. دعني أحاضرهم عن كيمياء اللاسلطوية. إنه موضوع جذاب.» «وما النفع الذي قد يعود من ذلك؟» «أوه، انتظر حتى تسمع المحاضرة. إذا لم أجعل شعر بعضهم ينتصب رعبا، فإنهم عندئذ أشجع مما نتخيل. لدينا حجرة كبيرة في حانة كليمنت، حيث نتقابل نحن الطلاب لأداء بعض التجارب ولتدخين التبغ. إن نصف المكان ناد، ونصفه قاعة محاضرات. والآن أقترح أن نحضر هؤلاء اللاسلطويين إلى هناك، وأن نوصد الأبواب، وأن نخبرهم شيئا عن الديناميت وغيره من أنواع المتفجرات. وستقول أنت إنني أمريكي من دعاة اللاسلطوية. أخبرهم أن الأبواب ستوصد لمنع دخول الشرطة، وأنه سيكون هناك برميل من الجعة. ويمكنك أن تقدمني بصفتي رجلا من أمريكا حيث يعرفون هناك عن اللاسلطوية في عشر دقائق ما يعرفونه عنها هنا في عشر سنوات. وأخبرهم أنني قضيت حياتي في دراسة المتفجرات، وسيكون علي أن أضع بعض المساحيق على سبيل التنكر، لكنك تعرف أنني ممثل هاو ضليع، ولا أعتقد أنه ستكون هناك مشكلة في هذا الشأن. وفي النهاية عليك أن تخبرهم أن لديك موعدا وأنك ستتركني لأذهلهم لبضع ساعات.»
Bog aan la aqoon
قال سيمكنز: «لكنني لا أرى نفعا من كل ذلك، وإن كنت قد أصابني اليأس وعلى استعداد لفعل أي شيء. لقد فكرت في تفجير نفسي في أحد اجتماعاتهم.»
وحين حل مساء يوم الجمعة الذي سيعقد فيه الاجتماع، امتلأت القاعة الكبرى في حانة كليمنت عن آخرها. ورأى المجتمعون هناك منصة في أحد أطراف المكان، وبابا يؤدي منها إلى حجرة في مؤخرة القاعة. وكانت هناك طاولة على المنصة، وعليها صناديق وأجهزة كيميائية وأدوات علمية أخرى. وفي تمام الساعة الثامنة، ظهر سيمكنز الشاب واقفا وحده أمام الطاولة وقال: «زملائي اللاسلطويين، أنتم تعرفون جيدا أنني سئمت الأحاديث الكثيرة التي نخوض فيها، وسئمت كذلك قلة ما نأتي به من أفعال بعدها. وكنت محظوظا بما يكفي لأن أحصل على تعاون أحد دعاة اللاسلطوية الأمريكيين، الذي سيحدثكم عن تلك القضية هناك. لقد أوصدنا الأبواب، والأشخاص الذين يحتفظون بالمفاتيح يجلسون الآن بالأسفل أمام مدخل الحانة، حتى يستطيعوا إخراجنا بسرعة إذا ما وقع حريق. لا يوجد خطر كبير من اندلاع حريق، بيد أننا ينبغي أن نحصن أنفسنا جيدا من تدخل الشرطة ومقاطعتها. والنوافذ - كما ترون - مغلقة ومزودة بقضبان، ولا يمكن لشعاع ضوء أن ينفذ من هذه الغرفة إلى الخارج. وحتى تنتهي المحاضرة، لا أحد بوسعه أن يغادر الغرفة، كما أن لا أحد بوسعه الدخول إليها، وهذا إمعانا في تحقيق الغرض.
لقد كرس صديقي البروفيسور جوزايا بي سليفرز حياته لدراسة كيمياء اللاسلطوية، وهذا هو عنوان المحاضرة اليوم. وسيخبركم عن بعض الاكتشافات المهمة، التي سيكشف عنها الآن لأول مرة. ويؤسفني أن أقول إن البروفيسور ليس في حالة صحية جيدة جدا؛ وذلك بسبب السلبيات والعوائق التي تعتري خط الحياة الذي انتهجه. لقد فقد عينه اليسرى في انفجار سابق لموعده أثناء إجرائه بعض التجارب. كما أنه أصيب بإعاقة مستديمة في ساقه اليمنى. وستلاحظون أن ذراعه اليسرى معلقة في حمالة كتف، وذلك جراء إصابته في حادثة صغيرة وقعت في مختبره حين قدم إلى لندن. وكما سترون، فإنه رجل كرس روحه وجسده لخدمة القضية؛ ولذا آمل أن تنصتوا إليه جيدا وتعيروه آذانا مصغية. ويؤسفني أنني لن أتمكن من البقاء معكم الليلة؛ وذلك لأنني مشغول بمهام أخرى ملحة يتوجب علي القيام بها. ومن ثم إذا سمحتم لي، فسأغادر من المدخل الخلفي بعد أن قدمت البروفيسور إليكم.»
في تلك اللحظة سمع صوت وقع قدم خشبية، ورأى الحضور أمامهم رجلا يسير بعكاز، وإحدى ذراعيه معلقة في حمالة كتف ويلف إحدى عينيه بضمادة، وقد نظر إليهم بعينه الأخرى بود.
قال سيمكنز: «زملائي اللاسلطويين، اسمحوا لي أن أقدم لكم البروفيسور جوزايا بي سليفرز من الولايات المتحدة.»
وهنا انحنى البروفيسور وصفق الحضور. وبمجرد أن بدأ التصفيق، رفع البروفيسور ذراعه السليمة وقال: «أيها السادة، أستميحكم عذرا ألا تصفقوا.»
فيما يبدو، جرى العرف في أمريكا على مخاطبة جميع الرجال من كل الفئات والأنواع ب: «أيها السادة.»
وأكمل البروفيسور حديثه: «في حوزتي بعض المتفجرات الشديدة الحساسية للغاية حتى إنها لتنفجر عند أقل اهتزاز؛ ولذا فإنني أطلب منكم أن تستمعوا في صمت إلى ما سأقول. وعلي أيضا أن أطلب منكم تحديدا ألا تضربوا الأرض بأقدامكم.»
وقبل أن يختتم البروفيسور كلامه، كان سيمكنز قد انسل خارجا من المدخل الخلفي، وبطريقة ما خلف فراره هذا تأثيرا مكدرا على الرفاق الذين نظروا إلى البروفيسور المبتلى بعيون يملؤها العجب والتوجس.
سحب البروفيسور نحوه أحد الصناديق وفتح غطاءه. ثم وضع يده السليمة في الصندوق ورفعها وترك شيئا مثل نشارة الخشب المبللة ينسل من بين أصابعه وقال في ازدراء شديد: «هذا أيها السادة هو ما يعرفه العالم باسم الديناميت. ولا شيء لدي أقوله ضده. ففي عصره كان الديناميت وسيلة فعالة للغاية لتوصيل أصواتنا إلى آذان العالم أجمع، إلا أن عصره هذا قد ولى وانقضى. إنه الآن مثل العربة التي تجرها الجياد في مقابل القطار، أو مثل الخطابات في مقابل البرقيات، أو مثل السفينة الشراعية في مقابل السفينة البخارية. وسيكون من دواعي سروري الليلة أن أقدم لكم مادة متفجرة شديدة القوة والفتك، وبعدما ترون ما يمكن أن تفعله تلك المادة لن يسعكم سوى الاستهزاء بالمركبات البسيطة وغير الضارة كالديناميت والنتروجلسرين.»
Bog aan la aqoon
ثم نظر البروفيسور إلى الحضور أمامه في تعاطف ولطف بينما كان الخليط الأصفر ينسل ببطء من بين أصابعه إلى الصندوق مرة أخرى. ثم راح البروفيسور يكرر تلك الحركة مرات ومرات.
وتبادل أنصار اللاسلطوية الموجودون في الغرفة فيما بينهم نظرات تنم عن القلق والاضطراب.
ثم استطرد البروفيسور قائلا: «لكن، سيكون من المفيد لنا أن ننظر في أمر هذه المادة لبضع دقائق، وذلك بغرض المقارنة ليس إلا.» ثم قال وهو يدس يده في صندوق آخر ويخرج أمام أعينهم حجرا أصفر اللون: «هاك هو الديناميت في صورته المنضغطة. يوجد هنا ما يكفي لتدمير هذا الجزء من مدينة لندن. يمكن لهذا الحجر الصغير أن يحول كاتدرائية القديس بولس إلى خراب؛ ولذا مهما بدا أن الديناميت قد عفا عليه الزمن، فعلينا دوما أن ننظر إليه بإجلال واحترام، تماما كما ننظر إلى المصلحين من القرون السابقة الذين هلكوا في سبيل إعلاء آرائهم، وإن كانت آراؤهم اليوم متأخرة كثيرا عن ركب آرائنا الآن. وسأسمح لنفسي بإجراء بعض التجارب باستخدام حجر الديناميت هذا.» وبقوله هذا، أمسك البروفيسور بحجر الديناميت بيده السليمة وأطاح به على طول الممر حيث سقط على الأرض فأصدر صوتا مكتوما بغيضا. فوثب الحضور كل عن مقعده وتراجعوا للخلف بعضهم فوق بعض. وانطلقت في الهواء صرخات الذعر، لكن البروفيسور نظر في هدوء إلى الجمع المضطرب أسفل منه وعلت وجهه ابتسامة شامخة وقال: «أستميحكم عذرا أن تعودوا إلى مقاعدكم، ولأسباب شرحتها لكم بالفعل، أثق أنكم لن تستحسنوا أيا مما أقول لكم. لقد جسدتم الآن إحدى الخرافات الشهيرة بشأن الديناميت، وقد برهنتم بأفعالكم هذه كيف أن هذه المحاضرة مهمة للغاية للوصول إلى استيعاب أفضل من جانبكم للمادة التي عليكم التعامل معها. إن هذا الحجر غير ضار بالمرة؛ لأنه مجمد. إن الديناميت في حالته المجمدة لا ينفجر، وهي حقيقة يعرفها جيدا من يعملون في المناجم وجميع من يتعاملون معه، والذين يفضلون بصفة عامة تفجير أنفسهم إلى أشلاء في محاولة إذابة الثلج عن هذه المادة أمام اللهب. هلا أحضرتم لي هذا الحجر من فضلكم، قبل أن يذوب الثلج عنه بفعل حرارة الغرفة؟»
تقدم أحد الرجال بحذر شديد وحمل الحجر وهو يمسك به بعيدا عن جسده، وسار على أطراف أصابعه نحو المنصة ووضعه بحذر شديد على المكتب أمام البروفيسور.
قال البروفيسور بنبرة لطيفة: «شكرا لك.»
شهق الرجل شهيقا عميقا ينم عن شعوره بالارتياح بينما كان يعود إلى مقعده.
واستطرد البروفيسور قائلا: «هذا هو الديناميت المجمد، وهو كما قلت غير ضار من الناحية العملية. والآن، سيكون من دواعي سروري أن أجري أمامكم تجربتين مذهلتين على الديناميت وهو غير مجمد.» وحين انتهى من هذه الجملة قبض على حفنة من الغبار المبلل الأشبه بنشارة الخشب ورشه على سندان صغير من الحديد كان موضوعا على الطاولة. وقال: «ستستمتعون بهذه التجارب؛ لأنها ستريكم كم من السهل التعامل مع الديناميت. ومن الأخطاء الشائعة أن الديناميت ينفجر بفعل الصدمات. يوجد ما يكفي من الديناميت هنا لتدمير هذه القاعة وإرسال كل من فيها إلى غياهب النسيان، لكنكم سترون بأنفسكم إن كانت الصدمات تؤدي إلى تفجير الديناميت أم لا.» ثم أمسك البروفيسور بمطرقة وهوى على المادة الموجودة على السندان مرتين أو ثلاثا، في حين وثب من هم أمامه من مقاعدهم واندفعوا بعنف تجاه زملائهم من خلفهم، وقد سرت القشعريرة في أجسادهم. توقف البروفيسور عن طرقه وحدق فيهم بنظرة فيها توبيخ لهم، ثم بدا أن شيئا على السندان قد جذب انتباهه. فانحنى عليه وراح ينظر بدقة إلى سطحه الحديدي. ثم انتصب في وقفته مرة أخرى وقال: «كنت على وشك أن أوبخكم على ما قد يبدو لأي رجل آخر دليلا على الخوف، لكنني أدركت خطئي. كنت على وشك أن أرتكب خطأ فادحا. لقد عانيت بنفسي بين الحين والآخر من أخطاء مشابهة. لقد لاحظت على السندان بقعة شحم صغيرة، ولو تصادف أن طرقت على تلك البقعة بالمطرقة لكنتم جميعا الآن تتلوون في سكرات الموت تحت أطلال هذه البناية. لكن لن يمر الدرس المستفاد هنا مرور الكرام. إن بقعة الشحم تلك هي من النتروجلسرين الحر الذي نضح به الديناميت. وربما كان هذا هو مصدر الخطر الوحيد في التعامل مع الديناميت. وكما أوضحت لكم، يمكنكم أن تسحقوا الديناميت على سندان دون خطورة، ولكن إذا تصادف أن وقعت المطرقة على بقعة من النتروجلسرين الحر، فسينفجر الديناميت في لحظة. وأستميحكم عذرا أن تغفروا لي إهمالي اللحظي العابر.»
هنا نهض رجل في منتصف القاعة، ومر بعض الوقت قبل أن يستجمع شتات نفسه ليتحدث، ذلك أنه كان ينتفض وكأنه مصاب بالشلل. وفي النهاية، قال بعد أن بلل شفتيه بلسانه عدة مرات: «أيها البروفيسور، إننا نتوق إلى أن نستمع إلى ما لديك حيال تلك المادة المتفجرة. وأعتقد أنني أتحدث باسم زملائي ورفاقي جميعا هنا. إننا ليس لدينا أدنى شك حيال ما تعلمنا إياه، ونود كثيرا أن نستمع إلى ما سوف تقول عن موضوع المحاضرة، ولا نريد منك إهدار المزيد من الوقت الثمين على التجارب. إنني لم أستشر زملائي قبل حديثي هذا، لكنني أعتقد أنني أنطق هنا بصوت المنطق لديهم.» فدوت صيحات «هذا صحيح، حقا.» في جميع أرجاء القاعة. فنظر إليهم البروفيسور مرة أخرى بنظرة ود وامتنان.
وقال لهم: «ثقتكم في مؤثرة بالفعل، لكن إلقاء محاضرة كيميائية من دون إجراء التجارب هي كجسد من دون روح. إن التجارب هي روح البحث العلمي. ويتعين علينا في مجال الكيمياء ألا نسلم بأي شيء جدلا. لقد أريتكم كيف أن الكثير من الأخطاء الشائعة قد ظهرت فيما يتعلق بالمادة التي نتعامل معها. وما كان من الممكن إبراز كل تلك الأخطاء الشائعة لو أن كل شخص قد أدى التجارب بنفسه؛ وعلى الرغم من أنني أشكركم على ثقتكم التي منحتموني إياها، فإنني لا أستطيع أن أحرمكم المتعة التي ستحصلون عليها من إجراء تجاربي. وهناك خطأ شائع آخر مفاده أن النار تؤدي إلى تفجير الديناميت. وهذا ليس بصحيح أيها السادة.»
أشعل البروفيسور عود ثقاب على بنطاله وأشعل المادة الموجودة على السندان. فاحترقت المادة بلهب أزرق شاحب، وراح البروفيسور ينظر إلى الرفاق اللاسلطويين حوله في نظرات تنم عن انتصاره.
Bog aan la aqoon
وفيما كان الجمهور المرتعد يشاهد اللهب الأزرق الباهت في انفعال شديد، انحنى البروفيسور فجأة ونفخ فيه فأطفأه. فانتصب في وقفته مرة أخرى وقال: «ينبغي لي أن أعتذر إليكم؛ لأنني نسيت أمر بقعة الشحم الصغيرة. لو أن النار وصلت إلى بقعة النتروجلسرين لانفجرت المادة، كما تعلمون. إن المرء حين يركز تفكيره على أمر بعينه، فإنه يكون عرضة لنسيان أمر آخر. لن أجري مزيدا من التجارب على الديناميت.» ثم قال موجها حديثه إلى مرافقه المرتعش: «هاك يا جون. خذ هذا الصندوق بعيدا، وحركه بحرص شديد؛ لأنني أرى أن النتروجلسرين ينضح منه. وضعه بحرص بالغ في الغرفة المجاورة وكأنك تضع صندوقا من البيض.»
وعندما توارى الصندوق عن أعين الحضور، راح الجميع يتنفسون الصعداء في أنفاس شهيق عميقة تنم عن شعورهم بالارتياح.
ثم قال البروفيسور: «والآن أيها السادة، نأتي إلى المادة التي ستذهل أولي الألباب.» وعدل شعره براحة يده السليمة في حركة تنم عن شعوره بالرضا عن نفسه وراح يبتسم لمن حوله ابتسامات لطيفة. «إن المادة التي أنا على وشك أن أحدثكم عنها هي من اختراعي، وهي للديناميت كشرب حمض البروسيك في مقابل شرب الحليب الطازج.» ثم دس البروفيسور يده في جيب سترته وأخرج ما بدا وكأنه علبة من الحبوب. ثم أخذ حبة منها ووضعها على السندان وبينما تراجع إلى الخلف بضع خطوات على أطراف أصابعه راح يبتسم لها في حنو بالغ. «وقبل أن أبدأ بالحديث عن هذه المادة أريد أن أحذركم مرة أخرى من أنها ستنفجر وستحول لندن من هنا حتى تشارينج كروس إلى خراب وأطلال، وهذا إذا ما ضرب أي امرئ بقدمه على الأرض أو تحرك من مكانه، اللهم إلا إذا كان ذلك على أطراف قدميه. لقد قضيت عشرة أعوام من حياتي في إتمام هذا الاختراع. إن هذه الحبوب التي تساوي العلبة منها الملايين في مقدورها أن تشفي كل الآلام التي يعاني منها الإنسان.»
ثم قال وهو يلتفت نحو مرافقه: «أحضر لي يا جون حوضا من الماء!» ثم وضع حوض الماء أمامه على الطاولة في حذر شديد، وأفرغ البروفيسور كل الحبوب فيه ، ثم أخذ أيضا الحبة التي كانت على السندان ووضعها في الماء مع الأخريات.
ثم قال بعد أن تنهد تنهيدة عميقة: «والآن، يمكننا أن نلتقط أنفاسنا. يمكن أن يضع المرء إحدى هذه الحبوب في قنينة ماء صغيرة، ويضع القنينة في جيب سترته، ويذهب إلى ميدان ترافلغار ويخرج الحبة من القنينة، ويرمي بها في منتصف الميدان وستدمر كل شيء في نطاق دائرة نصف قطرها أربعة أميال، وسيحصل هو بنفسه على شرف الاستشهاد في سبيل القضية. وقد أخبرني الناس أن هذا هو أحد سلبيات اختراعي، لكنني أميل إلى الاختلاف معهم في الرأي. إن من يستخدم هذه الحبة لا بد أن يعقد عزمه على مشاركة من هم حوله في مصائرهم. ويمكنني القول إن هذا هو التتويج العظيم لاختراعي. فهذا الاختراع يضع اهتمامنا بقضيتنا العظيمة موضع اختبار لحظي. أحضر لي يا جون بحذر شديد الآلة ذات الوصلات الكهربائية من الغرفة المجاورة.»
وضعت الآلة على الطاولة، وقال البروفيسور وهو يمسك بشيء خفي بين طرفي إصبعيه السبابة والإبهام: «هذه هي أدق إبرة مصنوعة من خامة الكامبريك، وسأضع على طرفها جزءا ضئيلا من المادة التي تحدثت عنها.» وهنا انتقى بحذر شديد حبة من الحبوب الموجودة في حوض الماء، وبنفس درجة الحذر وضع الحبة على الطاولة حيث أخذ منها ذرة متناهية الصغر ووضعها على طرف الإبرة وقال: «هذا الجزء ضئيل للغاية بحيث لا يمكن رؤيته إلا باستخدام المجهر. والآن سأضع الإبرة وما عليها في الآلة وسأمرر إليها تيارا كهربيا.» وبينما كانت يده تتجه نحو زر التشغيل تعالت صيحات الجمهور قائلين: «توقف! توقف!» لكنه حط بإصبعه على الزر فوقع انفجار هائل في الحال. شعر الحضور أن البناية اهتزت من أساسها، وتكونت سحابة كثيفة من الدخان في سماء القاعة فوق رءوسهم. وحين تمكن البروفيسور من الرؤية مرة أخرى من خلال الدخان المنقشع، نظر حوله باحثا عن جمهوره. كان الجميع تحت المقاعد، وجاءت تأوهاتهم من جميع أرجاء القاعة. فقال البروفيسور بنبرة تنم عن القلق: «آمل أن أحدا لم يتأذ. أخشى أنني أخذت الكثير من المادة على طرف الإبرة، لكن هذا يجعل في مقدوركم تخيل التأثير الذي تحدثه كمية أكبر منها. من فضلكم اجلسوا في مقاعدكم مرة أخرى. هذه هي تجربتي الأخيرة.»
جلس الجمهور كل في مكانه مرة أخرى، فأطلق الجميع تنهيدة ارتياح أخرى. سحب البروفيسور كرسي رئيس المجلس نحوه وجلس فيه وهو يمسح جبهته.
وفي الحال نهض رجل وقال: «أود أن نشكر جميعا البروفيسور سليفرز على تلك التجارب الشيقة.»
رفع البروفيسور يده وقال: «لحظة واحدة، لم أنته بعد. لدي اقتراح أقدمه لكم. أترون سحابة الدخان التي تحلق فوق رءوسنا؟ في غضون عشرين دقيقة سيترشح هذا الدخان ويختلط بجو القاعة. أنا لم أخبركم إلا بنصف مزايا هذا الانفجار الهائل. حين يختلط هذا الدخان بجو القاعة سيصبح سما قاتلا. يمكننا جميعا أن نظل على قيد الحياة في أمان تام على مدى التسع عشرة دقيقة القادمة، ولكننا سنموت جميعا مع أول نفس نستنشقه بعد ذلك. إنها لميتة مريحة. لن يكون هناك ألم، ولن تكون هناك معاناة أثناء الموت، غير أنهم سوف يعثرون علينا في الصباح متصلبين وجامدين في مقاعدنا. إنني أقترح أيها السادة أن نعلم لندن الدرس المهم الذي تحتاج إليه بشدة. لا توجد قضية بلا شهداء يبذلون أرواحهم في سبيلها. لنكن نحن شهداء قضية اللاسلطوية العظيمة. لقد تركت في حجرتي أوراقا توضح كيف متنا وأسباب ذلك. وستوزع هذه الأوراق بحلول منتصف الليل على كل الصحف في لندن، وغدا ستذاع أسماؤنا النبيلة في كل أرجاء العالم. والآن سأطرح هذا الاقتراح إلى التصويت. فليرفع كل من يؤيده يده اليمنى كالمعتاد.»
وكانت يد البروفيسور اليمنى هي اليد الوحيدة المرفوعة.
Bog aan la aqoon
قال البروفيسور: «والآن كل من لديه رأي معارض ...» وهنا رفع الجميع يده.
قال البروفيسور: «إذن ربح المعارضون.» لكنه لم يكن يبدو عليه أي استياء حيال ذلك. فاستطرد قائلا: «أيها السادة، أرى أنكم خمنتم اقتراحي الثاني - كما تخيلت أنكم ستفعلون - وعلى الرغم من أنه لن تكون هناك صحف في لندن بحلول الغد لكي تسجل ما حدث، فإن صحف العالم أجمع ستقص أنباء تدمير هذه المدينة اللعينة. أرى من النظرة التي تعتلي وجوهكم أنكم تؤيدونني في هذا. إن اقتراحي الثاني - وهو من أكثر الأمور التي خطط لها بطشا - هو أن نفجر كل تلك الحبوب الموجودة في الحوض. ولكي نحرص على ذلك، فقد أرسلت إلى عميل في مدينة مانشستر القصة الكاملة لكل ما دار هنا، وكذلك القرارات التي خرجنا بها من هذا الاجتماع، والتي ستقبلونها بلا أدنى شك.
أيها السادة، فليعبر كل من يؤيد تدمير لندن عن ذلك بالطريقة المعتادة.»
قال الرجل الذي كان قد تحدث سابقا: «أيها البروفيسور، قبل أن تضع هذا القرار موضع تصويت أريد أن أقترح تعديلا. هذا اقتراح في غاية الجدية والخطورة وينبغي عدم التعامل معه باستهانة. ولذا فإنني أقترح كتعديل أن نرجئ هذا الاجتماع ونعقده في مقرنا في سوهو، وأن ننفذ التفجير من هناك. كما أن لدي عملا بسيطا يجب أن أنجزه قبل أن نشرع في تنفيذ هذا المشروع الضخم.»
قال البروفيسور حينها: «أيها السادة، يأخذ هذا التعديل الأولوية. لقد تقرر إرجاء هذا الاجتماع حتى يمكنكم دراسة المشروع في مقركم في سوهو.»
قال خمسة عشر رجلا من الحضور وهم يهبون واقفين على أقدامهم: «وأنا أؤيد هذا التعديل.»
قال البروفيسور: «وفي غياب رئيس المجلس الدائم، من واجبي أن أضع التعديل موضع تصويت. كل من يؤيد هذا التعديل يرفع يده اليمنى.»
فرفع الجميع يده. «أيها السادة، موافقة بتمرير التعديل. يسرني جدا أن ألقاكم غدا مساء في مقركم، وسأحضر معي كمية أكبر من متفجراتي. فضلا يا جون، اذهب وأخبر الرجل أن يفتح الأبواب.»
وحين ذهب سيمكنز وسليفرز في مساء اليوم التالي إلى مقر الاجتماع الدائم لأنصار اللاسلطوية، لم يجدوا أي إشارة على وجود اجتماع من أي نوع، ومنذ تلك المحاضرة لم تعقد منظمة سوهو اللاسلطوية أي اجتماع لها، فقد انحلت على نحو غامض.
الخوف
Bog aan la aqoon
كان البحر قد اكتفى منه. وكان هو قد كافح بكل ما أوتي من جهد لينقذ نفسه، لكن الإجهاد تمكن منه في النهاية، وبعد أن أدرك عبثية المزيد من النضال، استسلم وتخلى عن المقاومة. فجاءت أعلى موجة في البحر - وهي الموجة الأعتى في ذلك التسلسل الصاخب العنيف الذي ينطلق من الحطام وحتى الشاطئ - وأخذته في قبضتها القاسية ورفعته إلى السماء لحظة وقلبته رأسا على عقب، وقذفت به بعنف على الرمال غائبا عن الوعي، وفي النهاية دحرجته مرات ومرات ككائن عاجز لا حول له ولا قوة حتى ألقت به على الشاطئ الرملي.
تبدو الحياة البشرية غير ذات أهمية حين نفكر في الأشياء البسيطة التي تلعب دورا فارقا في هلاك المرء وفنائه أو نجاته واستمرار حياته. فلو كانت الموجة التي حملت ستانفورد أقل ارتفاعا، لكان قد سحب إلى البحر مرة أخرى بفعل الموجة التي تليها. ولو أن عدد المرات التي انقلبها - ككائن عاجز لا حول له ولا قوة - قد زاد مرة واحدة أو نقص لكان قد ارتطم بوجهه في الرمال ولقي حتفه في الحال. ولكن، ما حدث أنه يرقد الآن على ظهره وذراعاه ممتدتان إلى جانبيه، وفي إحدى قبضتيه حفنة من الرمال تتسلل من بين أصابعه. كانت الأمواج المتلاحقة أحيانا ما تمسه، لكن البحر تركه وشأنه، حيث يرقد ووجهه الأبيض في مقابل السماء.
ليس للإغماء تقويم زمني؛ فهو حالة تستوي فيها اللحظة والأبدية. وحين عاد إليه وعيه شيئا فشيئا، لم يكن يعرف ولا يهتم بمعرفة كيف مر عليه الوقت. لم يكن واثقا إلى حد كبير إن كان على قيد الحياة، لكن الوهن - وليس الخوف - هو ما منعه أن يفتح عينيه ليكتشف ما إذا كان العالم الذي سيبصره بهما هو العالم نفسه الذي كان قد أغمضهما عليه لآخر مرة. لكن ما جذب انتباهه سريعا هو صوت يتحدث الإنجليزية. كان ستانفورد لا يزال في حالة من الدوار الشديد حتى إنه لم يتمكن من التفكير في الأمر، ونذكر أيضا أنه كان قد انجرف إلى جزيرة مجهولة في البحار الجنوبية، لكن مغزى ما سمعه من كلام أذهله. «لنكن شاكرين. لا شك أنه قد مات.» كان هذا هو ما قيل بنبرة تنم عن شعور كبير بالارتياح.
ثم بدا أن هناك غمغمة تنم عن السرور إزاء إعلان هذا، وكانت تلك الغمغمة صادرة عن أناس برفقة المتحدث. فتح ستانفورد عينيه ببطء، متسائلا في نفسه من هؤلاء الهمجيون المسرورون لوفاة غريب انجرف على شواطئهم ولم يمسسهم بسوء. ثم رأى جمعا من الناس يقفون حوله، لكن انتباهه تحول بسرعة وأصبح منصبا على وجه واحد. في رأيه أن صاحبة ذلك الوجه لم تكن تتخطى حاجز التسعة عشر عاما، وكان وجهها هو أجمل وجه وقعت عليه عيناه يوما، أو على الأقل هكذا بدا لستانفورد في تلك اللحظة. كان الوجه يحمل تعبيرات تدل على السرور الفاتن وذلك حتى التقت عيناها بعينيه، هنا تلاشت البهجة على وجهها وحلت مكانها نظرة فزع. بدت الفتاة وكأنها تلتقط أنفاسها في حالة من الهلع، وملأت الدموع مقلتيها.
وقالت وهي تبكي: «أوه، سينجو.»
وغطت وجهها بيديها وراحت تنشج.
أغلق ستانفورد عينيه من شدة الإجهاد وقال في نفسه: «لا بد أنني فقدت صوابي.» ثم بعد أن فقد إيمانه بواقعية ما يحدث حوله، فقد وعيه أيضا، وحين استرد وعيه مجددا وجد نفسه يرقد على سرير في حجرة نظيفة لكنها لا تحتوي على الكثير من الأثاث. ومن النافذة المفتوحة تنامى إلى سمعه صوت زمجرة البحر وأيقظ صوت تلاطم الأمواج العنيفة الصاخبة في ذهنه ذكرى ما مر به. كان يعلم أن تحطم السفينة وصراعه وسط الأمواج هما حدثان حقيقيان قد وقعا له، لكنه كان يعتقد الآن أن ما دار على الشاطئ لم يكن سوى وهم من نسج خياله بسبب الحالة التي كان عليها وقتئذ.
ثم فتح الباب في هدوء، وقبل أن يدرك دخول أحد، كانت هناك ممرضة ذات وجه هادئ تقف إلى جوار سريره وتسأله عن حاله. «لا أدري. على الأقل أنا على قيد الحياة.»
تنهدت الممرضة وأشاحت بعينيها. تحركت شفتاها لكنها لم تنطق بشيء. نظر إليها ستانفورد في فضول، وتسلل إليه شعور بالخوف من أنه سيظل معاقا لبقية حياته، وأنه يفضل الموت على العيش في حالة من الإعاقة التامة . شعر أنه مرهق على الرغم من أنه لم يكن يتألم، لكنه كان يعلم أنه كلما زادت بشاعة الإصابة واستعصاؤها على الشفاء كان شعور المصاب بها أقل في البداية.
فسألها: «هل كسرت أي من عظامي، هلا أخبرتني؟» «لا، أنت مصاب بكدمات، لكن إصابتك ليست بالغة. ستتعافى عما قريب.»
Bog aan la aqoon
قال ستانفورد وقد أطلق تنهيدة تنم عن الارتياح: «آه!» ثم أضاف في اهتمام مفاجئ: «بالمناسبة، من تلك الفتاة التي كانت تقف إلى جانبي حينما كنت أرقد على الشاطئ؟» «كان هناك عدة فتيات.» «لا، لم يكن هناك سوى واحدة. أقصد تلك الفتاة صاحبة العيون الجميلة وهالة الشعر التي تعلو رأسها وكأنها تاج ذهبي مجيد.»
قالت الممرضة بنبرة حادة: «نحن لا نتحدث عن نسائنا بهذه الطريقة. ربما تقصد روث، صاحبة الشعر الأصفر الكثيف.»
ابتسم ستانفورد وقال: «الكلمات لا تهم كثيرا.»
فأجابته الممرضة: «لا بد أن نكون معتدلين في كلامنا.» «يمكننا أن نكون معتدلين من دون أن نقلع إقلاعا تاما عن الغزل. كان أصفر وكثيفا بالفعل! لقد راودني حلم سيئ بخصوص من وجدوني. اعتقدت أنهم ... لكن ذلك لا يهم. على الأقل، ليست الفتاة من نسج خيالي. هل تعرفين ما إذا كان هناك ناجون آخرون؟» «أشعر بالامتنان لأن أخبرك بأن الجميع قد غرقوا.»
انتفض ستانفورد والذعر في عينيه. فمنعته الممرضة الرزينة بنبرة رقيقة ودية لكيلا يرهق نفسه، فغاص مرة أخرى في وسادته.
ثم صاح بنبرة واهنة: «اخرجي من الغرفة. اتركيني، اتركيني.» ثم أشاح بوجهه تجاه الحائط، فيما غادرت المرأة الغرفة في صمت كما دخلتها.
انسل ستانفورد من السرير حين خرجت المرأة، عازما أن يذهب إلى الباب ليوصده. كان يخشى من أن أولئك الهمجيين الذين يتمنون موته سيتخذون التدابير ليقتلوه حين يرون أنه سيتعافى. وبينما كان يتكئ على السرير، لاحظ أن الباب ليس به قفل. كان هناك مزلاج ضعيف لكن لا يوجد به قفل أو لسان. وكان أثاث الغرفة عثا غير متقن الصنع. فترنح باتجاه النافذة المفتوحة وأطل منها إلى الخارج، فهبت عليه بقايا تلك العاصفة المشئومة وبثت فيه روحا جديدة، كما كانت من قبل تنذره بالموت. ورأى أنه كان في قرية تتكون من أكواخ صغيرة، وكل كوخ مشيد على قطعة من الأرض خاصة به. كان من الواضح أن القرية تتكون من شارع واحد، وعلى أسطح الأكواخ المواجهة له رأى في الأفق أمواج البحر البيضاء. ولكن ما استرعى اهتمامه أنه رأى كنيسة ذات قمة مستدقة في نهاية ذلك الشارع، كنيسة خشبية كالتي رآها في المستوطنات الأمريكية النائية. كان الشارع خاليا من المارة، ولم تكن هناك أي إشارة على وجود حياة في تلك الأكواخ.
قال في نفسه: «لا بد أنني سقطت في مستعمرة من المختلين. ترى إلى أي بلد ينتمي هؤلاء؟ أتصور أنهم ينتمون إلى إنجلترا أو الولايات المتحدة، وإن كنت لم أسمع قط بمثل هذا المجتمع في أسفاري.»
لم تكن هناك مرآة في الحجرة، فكان من المستحيل أن يعرف الهيئة التي يبدو عليها. وكانت ملابسه جافة وبها بعض الملح. فعدل ملابسه قدر ما أمكنه، وانسل من المبنى من دون أن يلحظه أحد. وحين وصل إلى ضواحي القرية وجد أن ساكنيها من الرجال والنساء يعملون في الحقول على مسافة بعيدة. وكانت هناك فتاة آتية باتجاه القرية وتحمل في كل يد وعاء من الماء. وكانت تغرد بمرح وكأنها قبرة حتى رأت ستانفورد، وهنا توقفت عن الغناء والسير. ولأن ستانفورد لم يكن يوما خجولا مترددا، فقد تقدم نحوها، وكان على وشك أن يحييها حين أدركته قائلة: «أنا حقا حزينة أنك استرددت عافيتك.»
تجمدت كلمات الشاب على شفتيه وقطب جبينه. وحين رأت روث أنه منزعج - رغم أنها لم تكن تعرف السبب - أسرعت لتحسين الأمور بأن أضافت: «صدقني، ما أقوله حقيقي. أنا حقا حزينة.» «حزينة أنني على قيد الحياة؟» «حزينة كل الحزن.» «من الصعب تصديق هذه الجملة من شخص في غاية ... أقصد منك.» «لا تقل ذلك. لقد اتهمتني ميريام بالفعل بأنني فرحت لأنك لم تغرق. وسيؤلمني ذلك كثيرا إن كنت تعتقد أيضا كما تعتقد هي.»
Bog aan la aqoon
نظرت إليه الفتاة بعينين حائرتين، ولم يعرف الشاب بم يجيب. وأخيرا قال: «هناك خطأ فادح. ولا يمكنني أن أستوضح الأمر. ربما كان لكلماتنا معنى مختلف، مع إنها هي الكلمات نفسها على ما يبدو. اجلسي يا روث، أريد أن أطرح عليك بعض الأسئلة.»
رمقت روث العمال بنظرة وجلة، وغمغمت بشيء عن عدم توفر الكثير من الوقت أمامها، لكنها وضعت وعاءي الماء على الأرض وجلست فغاصت في العشب. ثم ألقى ستانفورد بنفسه على العشب عند قدميها، لكن حين رأى أنها انكمشت وتراجعت، سحب نفسه للخلف قليلا واستقر في موضع يسمح له بالنظر إلى وجهها.
كانت عينا روث مسبلتين، وكان ذلك حتميا؛ لأنها شغلت نفسها بسحب أوراق العشب الورقة تلو الأخرى، وكانت في بعض الأحيان تجدل الأوراق معا. كان ستانفورد قد أخبرها بأنه يريد أن يطرح عليها بعض الأسئلة، لكن يبدو أنه نسي ما كان ينتويه؛ ذلك أنه بدا وكأنه مرتاح تماما لمجرد النظر إلى وجهها. وبعد أن استمر الصمت برهة بينهما، رفعت عينيها لحظة وطرحت هي السؤال الأول. «من أي أرض أتيت؟» «من إنجلترا.» «آها! تلك جزيرة أيضا. أليس كذلك؟»
ضحك من كلمة «أيضا» وتذكر أن لديه بعض الأسئلة التي يريد طرحها. «أجل، إنها جزيرة ... أيضا. والبحر يقذف بحطام السفن على جوانبها الأربعة، لكن لا توجد على شطآنها قرية وثنية بحيث لا يفرح قاطنوها بنجاة أحدهم إذا ما طرحه البحر وتمكن من الهروب من بين براثن الموت.»
نظرت إليه روث والدهشة تملأ عينيها. «إذن، ألا يوجد أي دين في إنجلترا؟» «دين؟ إنجلترا هي أكثر دولة متدينة على وجه الأرض. هناك من الكاتدرائيات والكنائس ودور العبادة في إنجلترا ما يزيد عنه في أي دولة أخرى. نحن نرسل البعثات التبشيرية إلى كل البلدان الوثنية. والحكومة نفسها تدعم الكنيسة.» «أتخيل إذن أنني أخطأت في فهم ما تقصد. كنت أعتقد من حديثك أن الناس في إنجلترا يخشون الموت، ولا يستقبلونه بالحفاوة والترحاب ولا يفرحون حين يموت أحدهم.» «إنهم لا يخشون الموت، وهم لا يفرحون حين يأتي. الأمر بعيد كل البعد عن هذا. إن الجميع بدءا من الرجل النبيل حتى المتسول يكافحون الموت قدر ما أمكنهم؛ فالرجل الطاعن في السن يتمسك بالحياة بنفس حماسة الصبي في التمسك بها. وما من امرئ إلا وينفق آخر ما يملك من قطع ذهبية من أجل أن يدرأ عن نفسه القدر المحتوم ولو لساعة.» «قطعة ذهبية، ماذا تكون؟»
دس ستانفورد يده في جيبه وقال: «آه! هناك بعض العملات المتبقية. هاك هي قطعة ذهبية.»
أخذتها الفتاة وتفحصتها باهتمام بالغ.
وقالت وهي تقلب العملة الصفراء في راحة يدها الرقيقة: «أليست جميلة؟» ثم رفعت نظرها إليه. «هذا هو الرأي العام حيالها. ولكي يجمع المرء عملات نقدية كهذه، سيكذب ويغش ويسرق، أجل، ويكدح كذلك. وعلى الرغم من أن المرء على استعداد لأن يتخلى عن آخر قطعة ذهبية في حوزته لإنقاذ حياته والعيش لسنوات أطول، فإنه يخاطر بحياته نفسها من أجل جني المزيد من الذهب. إن كل عمل في إنجلترا هدفه الأساسي هو جمع قطع معدنية كتلك التي في يدك، والشركات ذات الأعداد الغفيرة من العاملين تهدف إلى جمع هذه القطع المعدنية بكميات أكبر. ومن يمتلك أكبر قدر من الذهب يحوز القدر الأوفر من السلطة ويحظى عموما بالقدر الأوفر من الاحترام، والشركة التي تجني أكبر قدر من المال هي الشركة التي يتوق الكثيرون إلى العمل لديها.»
استمعت إليه روث وقد ملأت عينيها نظرات الحيرة والعجب. وأثناء حديثه كانت ترتجف، ثم تركت العملة الصفراء تسقط من يدها على الأرض وقالت: «لا عجب أن أمثال هؤلاء يخشون الموت.» «ألا تخافينه؟» «كيف ونحن نؤمن بالجنة؟» «لكن ألن يحزنك أن يموت شخص تحبينه؟» «كيف لنا أن نكون أنانيين إلى هذه الدرجة؟ أكنت لتحزن إن حاز أخوك أو شخص تحبه الشيء الذي تقدره في إنجلترا أيا كان هذا الشيء، وليكن - مثلا - كمية كبيرة من هذا الذهب؟» «بالطبع لا. لكنك ترين إذن ... حسنا، شتان بين الأمرين. إن مات شخص تهتمين لأمره فإنك تنفصلين عنه، و...» «لكن هذا الانفصال لا يدوم إلا لفترة قصيرة، وهذا يعطينا سببا آخر للترحيب بالموت. من المستحيل على ما يبدو أن يخشى المسيحيون دخول الجنة. بدأت أفهم الآن لماذا ترك أجدادنا إنجلترا، ولماذا لا يخبرنا معلمونا بأي شيء عن الناس هناك. وأتساءل لماذا لا ترسل البعثات التبشيرية إلى إنجلترا لتعليمهم الحقيقة، ولمحاولة تهذيب الناس هناك وتنويرهم؟» «سيكون هذا حتما كمن يبيع الماء في حارة السقائين. أحد العمال قادم.»
صاحت الفتاة وهي تهب من مكانها: «إنه أبي. أخشى أنني تأخرت. لم أفعل ذلك من قبل.»
Bog aan la aqoon