تنبسط إليه من قبل، وعرته كآبة من روحه، كأنما أدركت هذه الروح أنه آخر رزقه على الأرض، فانكسر وظهر على وجهه معنى الذبح قبل أن يذبح، وعاف أن يَطْعَم، ورجع كأول فطامه عن أمه لا يعرف كيف يأكل، ولا يتناول من أكله إلا أدنى تناول.
وكأنما جثم الظلام على شحمه ولحمه؛ فإنه متى ثقل الهم على نفس من الأنفس، ثقل على ساعتها التي تكون فيها، فتطول كآبتها ويطول وقتها جميعًا. فأراد الكبش أن يتفرج مما به، وينفس عن صدره شيئًا، وكان الصغير قد أنس إلى المكان والظلمة، وأقبل يعتلف ويَخْضِم الكلأ، فقال له الكبش: أراك فارهًا يابن أخي، كأنك لا تجد ما أجد؛ إني والله أعلم علمًا لا تعلمه، وإني لأحس أن القدر طريقه علينا في هذه الليلة، فهو مصبحنا ما من ذلك بد.
قال الصغير: أتعني الذئب؟
قال: ليته هو، فأنا لك به لو أنه الذئب؛ إن صوفي هذا درع من أظافره، وهو كالشبكة ينشب فيها الظفر ولا يتخلص، ومن قرنيَّ هذين تُرْس ورمح، فأنا واثق من إحراز نفسي في قتله، ومن أحرز نفسه من عدوه فذاك قتل عدوه، فإن لم يقتله فقد غاظه بالهزيمة، وذاك عند الأبطال فن من القتل. وهذا القرن الملتفّ الأعقد المذَرَّب كالسنان، لا يكاد يراه الذئب حتى يعلم أنه حاطمة عظامه، فيحدث له من الفزع ما تنحل به قوته، فما يواثبني إلا متخاذلًا، ولا يقدم علي إلا توهم الذئبية للخروفية، فإن أساس القوة والضعف كليهما في السوس والطبيعة، غير أنه لا يعلم أني خرجت من الخروفية إلى الجاموسية! فما يُعَلِّمه ذلك إلا بقر بطنه أو التطويح به من فوق هذا القرن، أقذفه قذفة عالية تلقيه من حاليق، فتدق عظامه وتحطم قوائمه!
قال الصغير: فماذا تخشى بعد الذئب؟ إذا كانت العصا فهي إنما تضرب منك الصوف لا الظهر.
قال الكبش: ويحك! وأي خروف يخشى العصا؟ ويه، إنما تكون عصا من يعلفه ويرعاه، فهي تنزل عليه كما تنزل على ابن آدم أقدار ربه، لا حطمًا ولكن تأديبًا أو إرشادًا أو تهويلًا؛ ومن قبلها النعمة، وتكون معها النعمة، وتجيء بعدها النعمة؛ أفبلغ الكفر ما يبلغ كفر الإنسان بنعمة ربه: إذا أنعم عليه أعرض ونأى بجانبه، وإذا مسه الشر انطلق ذا صراخ عريض؟
1 / 56