وقالت: أنت واهمة يا مارية؛ أنسيت أن أبي قد أهدى إلى نبيهم بنت "أَنْصِنا"١، فكانت عنده في مملكة بعضها السماء، وبعضها القلب؟ لقد أخبرني أبي أنه بعث بها لتكشف له عن حقيقة هذا الدين وحقيقة هذا النبي؛ وأنها أنفذت إليه دسيسًا يُعلمه أن هؤلاء المسلمين هم العقل الجديد الذي سيضع في العالم تمييزه بين الحق والباطل، وأن نبيهم أطهر من السحابة في سمائها، وأنهم جميعًا ينبعثون من حدود دينهم وفضائله، لا من حدود أنفسهم وشهواتها؛ وإذا سلوا السيف سلوه بقانون، وإذا أغمدوه أغمدوه بقانون. وقالت عن النساء: لأن تخاف المرأة على عفتها من أبيها أقرب من أن تخاف عليها من أصحاب هذا النبي؛ فإنهم جميعًا في واجبات القلب وواجبات العقل، ويكاد الضمير الإسلامي في الرجل منهم، يكون حاملًا سلاحًا يضرب صاحبه إذا هم بمخالفته.
وقال أبي: إنهم لا يغيرون على الأمم، ولا يحاربونها حرب المُلك؛ وإنما تلك طبيعة الحركة للشريعة الجديدة، تتقدم في الدنيا حاملة السلاح والأخلاق، قوية في ظاهرها وباطنها، فمن وراء أسلحتهم أخلاقهم؛ وبذلك تكون أسلحتهم نفسها ذات أخلاق!
وقال أبي لها: إن هذا الدين سيندفع بأخلاقه في العالم اندفاع العصارة الحية في الشجرة الجرداء؛ طبيعة تعمل في طبيعة؛ فليس يمضي غير بعيد حتى تخضرّ الدنيا وترمي ظلالها؛ وهو بذلك فوق السياسات التي تشبه في عملها الظاهر الملفق ما يعد كطلاء الشجرة الميتة الجرداء بلون أخضر ... شتان بين عمل وعمل، وإن كان لون يشبه لونًا ...
فاستروحت مارية واطمأنت باطمئنان أرمانوسة، وقالت: فلا ضير علينا إذا فتحوا البلد، ولا يكون ما نستضر به؟
قالت أرمانوسة: لا ضير يا مارية، ولا يكون إلا ما نحب لأنفسنا؛ فالمسلمون ليسوا كهؤلاء العلوج من الروم، يفهمون متاع الدنيا بفكرة الحرص عليه، والحاجة إلى حلاله وحرامه، فهم القساة الغلاظ المستكلِبون كالبهائم؛ ولكنهم يفهمون متاع الدنيا بفكرة الاستغناء عنه والتمييز بين حلاله وحرامه، فهم الإنسانيون الرحماء المتعففون.
_________
١ هي مارية القبطية التي أهداها المقوقس إلى النبي "ﷺ" وكانت من "أنصنا" بالوجه القبلي.
1 / 18