خايف يا محبوب تروح وتتملك
بتعاشر الغير وتنساني أنا
فهنا التفت سليم إلى جرجس وصاح به: ما هذا! ما هذا الغناء؟ أعده. فأعاده جرجس، فتنهد سليم وقال: لله در قائل هذين البيتين، فكأنه خرق بنظره حجاب الغيب وتنبأ عما يكون من المهاجرة إلى أميركا - (خايف يا محبوب تروح وتتملك) نعم قد راح المحبوبون وتملكوا هناك. (بتعاشر الغير وتنساني أنا) نعم قد عاشروا الأميركيين وامتزجوا بهم، وكثيرون منهم نسوا بلادهم وتجنسوا بغير جنسيتهم، فيا أيها الشاعر العامي الذي كشف له الغطاء عن المستقبل قبل وقوعه، إنك شاعر عظيم، وإن كنت لا تعرف القراءة والكتابة.
وبعد سكوت خمس دقائق التفت كليم إلى سليم وسأله: على أي شيء عزمنا الآن في سفرنا هذا؟ هل نذهب إلى أهدن لمشاهدة أصحابنا فيها أم لا؟ فقال سليم: الأمر إليك. فقال كليم: بما أننا ذاهبون الآن إلى الأرز عن طريق الحدث، وهي الطريق الغربية، فإننا نعود منه عن الطريق الشرقية طريق أهدن. فسأل سليم: إذن لا نعود إلى الحدث بعد مبارحتها؟ فقال كليم: كلا، فإن طريق أهدن مقابلة لطريق الحدث. فقال سليم: إذن يجب أن نقيم عشرة أيام في الحدث بدل الخمسة التي اتفقنا عليها؛ وذلك إكراما لصاحبنا فيها. فقال كليم: سنرى ذلك بعد وصولنا.
وبعد نصف ساعة انقضى في سكوت تام؛ لأن كل واحد من الرفقاء الثلاثة كان يناجي نفسه ، وإذا بجرجس يصيح ملء صوته: الحمد لله! فقال كليم: ماذا؟ فقال جرجس: طلعت النجمة.
فالتفت كليم وسليم إلى جهة الشرق، وكانت أمامهما فأبصرا «الزهرة» في طرف المشرق من وراء الجبال تتهادى بجمالها الفتان ونورها الباهر تتيه به على جميع النجوم الزواهر التي كانت تزين حينئذ قبة الفلك الدائر، فصاح كليم وسليم لدى هذا المنظر الفخيم: تبارك الخالق، تبارك الخالق! أما جرجس فإنه رفع يديه نحو رفيقته في أسفاره وقال: هلك ومستهلك جعلك علينا يوما مباركا. فنسي لفرحه أن هذا الكلام يقال للهلال حين ظهوره في أول الشهر لا لنجم الصباح، ولكن ما الذي يمنع جرجس أن يقول لرفيقته المحبوبة ما يقال للهلال عادة؟ هل هو أفضل منها؟ كلا؛ لأنها تهدي في آخر الليل كما يهدي الهلال في أوله، وإذا كان لأحدهما مزية على الآخر فالمزية (للنجمة) الجميلة؛ ذلك لأن صحبة الهلال تنتهي بالاستياء منه لأفوله، ويبقى المسافر حزينا بعده لما يجده من الوحشة، أما صحبة (الزهرة) فتنتهي بالسرور؛ لأنها رسول الصباح ومقدمة النور، وكل الذين عانوا مشاق السفر في الظلام في ليالي البرد والمطر والريح وأخطار الطريق يعرفون قدر (الزهرة)، متى طلعت تبشر بدنو الشمس التي تنعش وتدفئ والنهار الذي يبعد الأخطار، فهي عندهم رسول الأمل وابتسامة الطمأنينة، وعهد من الخالق على نفسه أن لا يجعل ظلام الليل ظلاما أبديا، فهي إذن عندهم حاجة وضرورة لا مسرة يلهى بها وتفرج النفس بمشاهدتها؛ ولذلك كانت حياتهم ومعيشتهم مرتبطة بحياتها، وهذا هو السبب في أنه بينما كان سليم وكليم يخاطبانها بقولهم: «يا إلاهة الجمال التي عبدها الأقدمون، يا عروس كواكب السماء، يا مضيعة ابن رشد»
3 - كان المكاري جرجس ينظر إلى دليلته السماوية نظر المرؤوس إلى رئيس له تربطه به مصالح ومنافع متبادلة، لا لمجرد الاستحسان فقط.
ولو مثلت الزهرة حينئذ فتاة - كما كان يمثلها المتقدمون - لشوهدت تبتسم للمكاري جرجس، وتهتم به أشد من اهتمامها برفيقيه الحضريين الظريفين.
هوامش
الفصل الثاني
Bog aan la aqoon