هوامش
الفصل التاسع
أرز لبنان
ثم جد الرفاق الثلاثة في السير فبلغوا بشري فابتاع منها بطرس (خمسينية عرق) على حساب رفيقه حسب الوعد، ثم تسلقوا منها العقبة المؤدية إلى جبل الأرز العظيم.
ولما قطعوا تلك العقبات الطويلة التي يلي بعضها بعضا، وصعدوا إلى مساواة الحرش، بان لهم الأرز من بعيد، فأشرق وجه سليم وكليم ابتهاجا وسرورا، وصارا ينظران إلى الأرض التي تطؤها حوافر بغليهما نظرهما إلى أشياء مقدسة.
وكان وصول سليم وكليم إلى الأرز عند غروب الشمس، وكانت الطيور تتوافد من جميع الجهات الجرداء إلى أشجار الأرز لتبيت فيها، وكانت الغربان أشدها ظهورا، فكان يسمع صوتها الناعب من حين إلى حين كأنه صوت الزمان ينعي الأجيال والقرون الماضية.
والأرز عبارة عن حرش متسع عظيم قائم على آكام متعددة تحيط به نصف دائرة من الجبال الشامخة، وأشجاره شديدة الاشتباك، حتى إن الشمس تكاد لا تعرف أرضه، وفي هذه الأشجار ما هو صغير وفيها ما هو ضخم كبير سامق إلى السماء، ويكاد عشرة رجال لا يحيطون بجذعه إذا مدوا أذرعهم حوله، وهم يقولون: إن هذه الأشجار الضخمة الهائلة ترتقي إلى زمن الملك سليمان الذي بنى منها هيكله المشهور في أورشليم، وزمن أفسس التي بنيت من خشبها بعض أماكنها اليونانية القديمة. ولكن هذا زعم لا يؤيده دليل، بل إن علم النبات ينقضه، إلا أنه من المحتمل أن أولئك المتقدمين قطعوا أخشابا من هذا الحرش، وقامت الأشجار الحاضرة على آثار الأشجار المقطوعة أو أشجار تلتها.
أما صفة الأرز فهي كما ترى في الرسم، فإنه عبارة عن جذع شامخ يتوارى عنك رأسه في الفضاء لعلوه، ومن هذا الجذع تتفرع أغصان بخط أفقي كما ترى في الرسم، ويبلغ طول هذه الأغصان أحيانا عدة أمتار، وهي تحمل أكوازا خضراء حرشوفية كرؤوس الصنوبر، بعضها ذكور وبعضها إناث، ثم تنقلب عند البلوغ فتصير حمراء، ولها رائحة طيبة ترتاح إليها النفس فتعطر بطيبها ونشرها هواء على الأرز النقي، ويكون في عقبها بذرتان لحفظ نوعها متى بلغت وسقطت الأرض، والأرز عدة فصائل وأنواع، وهو ينمو في جبال سوريا وجبل حملايا في الهند وجبل الأطلس في أفريقيا، وجبل طوروس في آسيا وفي غيرها من الجبال، ولكن أرز لبنان أشهرها كلها.
والمقرر أن القطع في الحرش ممنوع اليوم قطعيا بأمر من حكومة الجبل، حتى إن الزائر لا يستطيع أن يقصف غصنا ليأخذه تذكارا من الأرز إلا في السر أو بمبلغ يدفعه إلى الحارس، ولقد أحسنت الحكومة في هذا المنع حفظا لهذا الأثر الجليل، ومما يذكر لها بالشكر أيضا أنها سورت الحرش كله بسور من الحجارة والطين لمنع الدواب من الدخول إليه، ولكنها مع ذلك تدخله، وهذا السور صار اليوم متهدما، وهو لانخفاضه يتسلقه الولد بسهولة؛ لأنه لا يعلو عن متر واحد.
ومن الأسف أن الحكومة لا تزرع في هذا الحرش الكبير أرزا جديدا ليقوم مقام الأرز القديم متى شاخ وانقرض في القرون القادمة، والأشجار التي تنبت من نفسها في الحرش قليلة جدا، ولكن في جهات أخرى فوق الحدث في واد إلى الجنوب، وفي أماكن أخرى في أعالي لبنان أحراشا واسعة مؤلفة من أرز صغير آخذ في النمو، فلا ريب أنه سيقوم مقام الأرز الكبير في القرون القادمة. وربما وقف سائح بعد 500 أو 800 سنة في الحرش الذي وراء الحدث في الوادي، وصار يتساءل ويستنطق التوراة وكتب التاريخ؛ ليعلم هل قطع سليمان الخشب لهيكله من ذلك الحرش أم من سواه؟
Bog aan la aqoon