بدأت تجمع الأطباق. انتفض كلود من فوره إلى النور ووقف أمامها. «المسألة ليست متعلقة بسفرك فحسب. أنت تعلمين ما هي مشكلتي مع الأمر. مشكلتي هي رغبتك في السفر. أنت تسعدين بفرصة الوجود وسط هؤلاء الوعاظ، بزيفهم وكلامهم الناعم.»
رفعت إنيد الصينية. «إن كنت أسعد بذلك، فلأنك لا ترغب في أن نطبق المثل المسيحية في حياتنا. بداخلك شيء لا يتوقف طوال الوقت عن التمرد. ظهرت على الساحة العديد من المسائل المهمة منذ زواجنا، وأنت لم تبال بها أو سخرت منها جميعا. تريد أن تتبع حياة أنانية تماما.»
خرجت من الغرفة بحزم، وأغلقت الباب خلفها. لما عادت بعد فترة، لم تجد كلود فيها. لم تر قبعته ولا معطفه على المشجب؛ لا بد أنه خرج بهدوء من الباب الأمامي. جلست إنيد حتى الساعة الحادية عشرة ثم دخلت كي تنام.
ولما خرجت من غرفة نومها في الصباح، وجدت كلود نائما على الأريكة بملابسه وعليه معطفه. تملكتها لحظة من الرعب وانحنت عليه، ولكنها لم تشم أي رائحة خمر. بدأت تحضر الإفطار وأخذت تتحرك بهدوء.
بمجرد أن عقدت إنيد النية على السفر إلى أختها، لم تضيع وقتا. حجزت في باخرة وأرسلت برقية للمدرسة التبشيرية. غادرت فرانكفورت في الأسبوع الذي يسبق عيد الميلاد. أوصلها كلود ورالف إلى دنفر حتى ركبت قطارا سريعا عابرا للقارات. لما عاد كلود إلى بلدته، انتقل إلى منزل والدته، وباع بقرته ودجاجه إلى ليونارد دوسن. لم يغادر المزرعة إلا نادرا كي يزور السيد رويس، وأصبح يتجنب رؤية جيرانه. شعر أنهم كانوا يتناقشون في أموره الشخصية، وبالطبع هم كانوا يفعلون ذلك. كانوا يقولون إن آل رويس وآل ويلر لا يستطيعون التصرف مثل الآخرين، ولم تكن ثمة فائدة من محاولتهم القيام بذلك. إذا بنى كلود أفضل منزل في المنطقة، فمن الطبيعي ألا يعيش فيه. وإن تزوج فليس من المستغرب أن تسافر زوجته إلى الصين!
في أحد الأيام التي ظل الثلج يهطل فيها، ولم يكن يوجد أحد في الجوار؛ أخذ كلود السيارة الكبيرة، وانطلق إلى منزله لقفله من أجل الشتاء ولإحضار الخضروات والفاكهة المعلبة المتبقية في القبو. وضعت إنيد أفضل بياضاتها في صندوقها الذي من خشب الأرز، ورتبت خزانات المطبخ والأوعية الخزفية على نحو دقيق قبل أن تنطلق في سفرها. بدأ في تغطية الكراسي المنجدة والمراتب بالملاءات، ولف السجاد، وأحكم غلق النوافذ. بينما كان يعمل على إنهاء هذه المهمة، تزايد خدر يديه وإرهاقهما، وأصبح قلبه مثل قطعة من الثلج. كل هذه الأشياء التي اختارها بعناية، والتي كان يفخر بها بشدة أصبحت الآن لا تعني له شيئا، وكأنها مجموعة من المعروضات المكدسة في محل لبيع الأشياء المستعملة.
كم أصبحت هذه الأشياء كئيبة وقبيحة في حد ذاتها بعد أن اختفى الشعور الذي كان يجعلها تبدو غالية! حطام حياة الإنسان كان أقل قيمة وأكثر قبحا من الأشياء الميتة والمتحللة في الطبيعة. إنه مثل القمامة ... الخردة ... لم يستطع عقله أن يتصور أي شيء يفضح أو يدين هكذا كل الأعمال المحزنة والغريبة والمتكررة باستمرار، التي تستمر بها الحياة يوما بعد يوم. إنها أعمال ليس لها معنى ... لما نظر إلى الخارج ورأى المشهد المظلم في ظل هطول الثلج الناعم، لم يستطع منع نفسه من الاعتقاد من أنه سيكون من الأفضل كثيرا إن استطاع أن ينام الناس مثلما تنام الحقول؛ بأن يلتحفوا بالثلج ويستيقظوا وقد التأمت جروحهم ونسيت خيباتهم. تساءل في نفسه كيف سيمكنه قضاء السنوات القادمة ما لم يستطع التخلص من الشعور الذي يمرض روحه.
في النهاية، أغلق الباب ووضع المفتاح في جيبه، وانطلق إلى أرض الغابة كي يدخن سيجارا ويودع المكان. هناك، ظل يتمشى بجدية لأكثر من ساعة تحت الأشجار الملتوية ذات أعشاش الطيور الفارغة بين تشعبات الجذوع. وفي كل مرة كان يصل فيها إلى فجوة في السياج، كان بإمكانه رؤية المنزل الصغير وقد استسلم بخنوع شديد للشعور بالوحدة. لم يعتقد أنه سيعيش في ذاك المنزل مرة أخرى. على أي حال، ما كان سيضيع المال الذي أنفقه أبوه على المكان؛ سيكون بإمكانه دائما تأجير المكان لمستأجر ميسور الحال؛ لأنه كان سيحصل على منزل مريح. العديد من الفتيان في البلدة كانوا يخططون للزواج في غضون عام. لم يكن هناك خوف على مستقبل المنزل. وماذا عنه؟ توقف عن المشي؛ تركت قدماه أثرا غير محدد الهدف والملامح فوق الثلوج. انزعج لما رأى آثار أقدامه. ماذا كان هذا؛ ما خطبه؟ لماذا - على الأقل - لم يستطع التوقف عن التأثر بالأشياء وعن الأمل؟ ما الذي كان يمكن أن يأمله الآن؟
سمع صوتا ينم عن بؤس؛ ولما نظر خلفه رأى قطة الحظيرة التي تركت لتلتقط قوتها بنفسها. كانت واقفة داخل السياج، ينفض فراؤها الشديد السواد ندف الثلج وقد رفعت إحدى قدميها، وأخذت تموء على نحو بائس. ذهب كلود إليها وحملها. «ماذا حدث يا بلاكي؟ هل قلت الفئران في الحظيرة؟ ستقول ماهيلي إنك شؤم. ربما هي على صواب، ولكن أنت ليس بيدك شيء، أليس كذلك؟» انسلت إلى جيب معطفه. ولاحقا، بينما كان يدخل إلى سيارته، حاول إخراجها من جيبه ووضعها في سلة، ولكنها تشبثت بمأواها في جيبه، وغرست مخالبها في البطانة. ضحك. وقال: «حسنا، إن كنت نذير شؤم، فأظن أنك ستمكثين معي دوما!»
نظرت إليه بعينيها الصفراوين المتحيرتين ولم تمؤ حتى.
Bog aan la aqoon