71

في ذلك المساء، جاء بعض الفتيان السيئين من المدينة ونثروا الطريق بالقرب من الطاحونة بعشرات الزجاجات المكسورة، وبعدها اختبئوا بين شجيرات التوت البري في انتظار الحصول على بعض المرح. أول سيارة جاءت كانت هي سيارة رالف، وعلى الرغم من وميض الزجاج المكسور أمام أضواء السيارة، لم يكن هناك وقت للتوقف؛ كان يوجد خندق مائي على كل من جانبي الطريق، واضطر أن يسير مباشرة دون توقف، ويذهب إلى فرانكفورت بإطارات فارغة من الهواء. أطلق القطار السريع صافرته ورالف يدخل إلى المحطة. أخذ مع كلود حقائب السفر الصغيرة الأربعة ووضعها في المقصورة. ترك الفتيان إنيد مع الحقائب في المقصورة وذهبا إلى المنصة الخلفية لعربة مشاهدة المعالم للتحدث حتى اللحظة الأخيرة. عد رالف على أصابعه الأشياء التي وعد كلود أن ينتبه إليها. شكره كلود من أعماقه. شعر أنه ما كان ليتزوج قط لولا رالف. لم يكونا قط صديقين حميمين كما كان الحال خلال الأسبوعين الماضيين.

بدأت العجلات تتحرك. قبض رالف على يد كلود وجرى إلى مقدمة العربة ونزل. لما تجاوزه كلود، وقف يلوح بمنديله؛ كان شكله مضحكا تحت أضواء المحطة بملابسه السوداء، وقبعته الصلبة التي من القش، وساقيه القصيرتين المتباعدتين، والمرح الذي يكسوه من رأسه إلى قدمه.

انطلق القطار في هدوء عبر ليل الصيف بطول وادي النهر المحاط بالأشجار. وقف كلود بمفرده في المنصة الخلفية يدخن سيجارا بعصبية. لما مروا على اللسان العميق حيث يتدفق لافلي كريك إلى النهر، رأى أضواء منزل الطاحونة وامضة للحظة من بعيد. كان لا يزال هواء الليل ساكنا؛ إذ كان مثقلا برائحة نبات إكليل الملك الذي كان ينبت عاليا على طول المسارات، ورائحة أشجار العنب البري المبللة بالندى. أتى مفتش التذاكر كي يسأل عن التذاكر، وقال بابتسامة حكيمة إنه كان يبحث عنه لأنه لم يرد أن يزعج السيدة.

بعدما ذهب الرجل نظر كلود في ساعته، ورمى عقب سيجاره، وعاد عبر عربات النوم. ذهب الركاب إلى النوم؛ دائما ما تضاء المصابيح الرأسية بإضاءة خافتة بعدما يغادر القطار فرانكفورت. شق طريقه عبر الممرات ذات الستائر الخضراء المتمايلة، ونقر على باب مقصورته. فتح الباب قليلا، ووقفت إنيد لابسة ملابس نوم حريرية بيضاء مليئة بالكشكشة، ورابطة شعرها في ضفيرتين ناعمتين تنسدلان فوق كتفيها.

قالت بصوت منخفض: «كلود، هل تمانع في أن تنام في مكان آخر في العربة الليلة؟ يقول عامل القطار إن المقصورات ليست مشغولة كلها. لا أشعر أنني بخير. أظن أن صلصة سلطة الدجاج كانت لا بد دسمة جدا.»

أجاب من دون تفكير. «نعم، بالتأكيد. هل آتي لك بشيء؟» «كلا، شكرا لك. النوم سيريحني أكثر من أي شيء آخر. تصبح على خير.»

أغلقت الباب، وسمع صوت انزلاق القفل. وقف ينظر إلى ألواح الخشب المصقول اللامع للحظة، ثم استدار بلا تردد، وعاد بطول الممر المتمايل قليلا ذي الستائر الخضراء. في عربة مشاهدة المعالم، تمدد على كرسيين من الخيزران وأشعل سيجارا آخر. وفي الساعة الثانية عشرة، دخل عامل القطار. «هذه العربة تغلق في وقت الليل، يا صاح. هل أنت السيد الذي من المقصورة رقم أربعة عشرة؟ هل تريد سريرا سفليا؟» «كلا، شكرا لك. هل توجد عربة للتدخين؟» «تفتح هذه العربات في وقت النهار، ولا يحتمل أن تكون نظيفة في هذا الوقت من الليل.» «حسن إذن. هل هي في الأمام؟» أعطاه كلود بذهن شارد قطعة نقود معدنية، وأخذه عامل القطار إلى عربة قذرة جدا، أرضيتها منثور عليها الجرائد وأعقاب السجائر، وجلد الكراسي يكسوه الغبار. كانت العربة يستلقي فيها عدد قليل من الرجال اليائسين الذين قد خلعوا أحذيتهم، وتتدلى حمالات سراويلهم على ظهورهم. منظرهم ذكر كلود بأن قدمه اليسرى تؤلمه بشدة، وأن حذاءه لا بد أنه كان يجرح قدميه منذ مدة. خلع حذاءه ورمى قدميه، ذواتي الجورب الحريري، على المقعد المقابل.

في هذه الرحلة الطويلة المليئة بالغبار وغير المريحة، اختلج صدر كلود بعدة مشاعر، ولكن الشعور الطاغي كان هو الحنين إلى المنزل. جرحه كان من النوع الذي يدفعه إلى نوع من الحنين المؤلم إلى الأشياء القديمة المعتادة المؤكدة مثل شروق الشمس. تمنى لو يتبدد السهل العشبي الذي كانت تتلألأ فوقه النجوم، ويتحول إلى تعرجات لافلي كريك التي يوجد معها منزل والده على التل المظلم والصامت في ليالي الصيف! عندما كان يغلق عينيه، كان بإمكانه أن يرى الضوء في نافذة والدته، وتحته وهج مصباح ماهيلي حيث تجلس خافضة رأسها وهي تصلح قمصانه القديمة. قال لنفسه الحب البشري شيء رائع، ويصبح أروع عندما لا ينتظر المحب تحقيق مكسب شخصي.

لما أشرق الصبح، تلاشت عاصفة الغضب والإحباط والشعور بالخزي التي كانت تغلي في صدره لما جلس لأول مرة في عربة مشاهدة المعالم. بقي شيء واحد؛ نبرة صوت زوجته غير المبالية وغير المكترثة على نحو غريب لما أبعدته من المقصورة. كانت عبارة عن النبرة الرتيبة التي يدلي بها الناس تعليقات عادية عن الأشياء العادية.

أشرق نور الصباح ببهائه الفضي على نباتات المريمية الصيفية. تحول لون السماء إلى اللون الوردي والرمال إلى اللون الذهبي. حمل نسيم الفجر رائحة نباتات المريمية النفاذة، وأدخلها من النوافذ؛ تلك الرائحة التي تكون منعشة على نحو خاص في الصباح الباكر، وتبشر دائما بيوم جديد من الحرية والمساحات الكبيرة والبدايات الجديدة والأيام الأفضل.

Bog aan la aqoon