60

في النهاية، تعرف على حيوانات جر عربة عائلة هافل في الطريق، فتوقف وانتظر إرنست بجانب سياج شائك، وأخذ يتأمل ما حوله بتمعن. أوشكت الشمس على الغروب حينئذ. لقد تدلت فوق جذامات الحبوب، التي كانت كلها بيضاء وزهرية اللون بفعل الحرارة، مثل صورة شمس منعكسة في مياه عكرة. ظهر لتوه البدر في الشرق وتوهج سطحه الفضي الرقيق باللون الزهري حتى بدا تماما كأنه شمس في وقت الغروب. لولا أن لكل جرم منهما مكانه في هذا الملكوت، لما استطاع كلود أن يحدد أي منهما الشمس وأيهما القمر. كل منهما كان يسبح في اتجاه مختلف من العالم، وبدا كدرعين ساطعين ينظر أحدهما إلى الآخر كأنهما تقابلا، أيضا، على موعد بينهما .

ترجل كلود وإرنست من عربتيهما في وقت واحد، وتصافحا كأنهما لم ير أحدهما الآخر منذ مدة طويلة. «حسنا، ما رأيك فيما يحدث يا إرنست؟»

هز الشاب رأسه حذرا، ولكنه لم يرد. ربت على خيوله، وفك الأطواق من رقابها.

تابع كلود بنفاد صبر: «انتظرت في المدينة ريثما تصدر جريدة هاستنجز. أعلنت إنجلترا الحرب ليلة أمس.»

قال إرنست: «دخل الألمان مدينة لييج. أعرف مكانها. أبحرت من أنتويرب لما انتقلت إلى هنا.» «نعم، أعلم ذلك. هل يستطيع أن يفعل البلجيكيون شيئا؟» «أبدا.» اتكأ إرنست على عجلة العربة، وأخرج غليونه من جيبه ببطء وملأه. «لا أحد يستطيع فعل شيء. سيذهب الجيش الألماني إلى أي مكان يريده.» «إذا كان الوضع بهذا السوء، فلماذا يقاوم البلجيكيون؟» «لا أعلم. هذا أمر جيد، ولكن لن يسفر عن شيء في النهاية. دعني أخبرك شيئا عن الجيش الألماني يا كلود.»

ظل إرنست يروح ويجيء بجانب سياج أشجار السنط وهو يتحدث عن هذا الجيش العظيم؛ الإعداد، التنظيم، التركيز، الموارد الهائلة، الرجال الذين لا ينتهون. غابت الشمس وهو يتحدث، وعندها ظهر القمر وتجلى وتصاعد متباطئا في السماء الشاحبة. كانت الحقول لا تزال تلمع بسبب الانعكاس اللطيف المتبقي من ضوء النهار، وبدأ الليل يلوح في الأفق؛ لم تظلم السماء، ولكنها بدت كأنها تبشر بقدوم الليل.

أنهى إرنست كلامه قائلا: «لو كنت في موطني لوجدتني بين صفوف الجيش النمساوي في تلك اللحظة. أظن أن كل أولاد عمومتي وأبناء إخوتي يقاتلون الروس أو البلجيكيين الآن. ماذا ستفعل لو طلب منك الهجوم على بلد مسالم كهذا، في منتصف موسم الحصاد، والبدء في تدميره؟» «ما كنت لأفعل ذلك بالطبع. سأتمرد وأترك الخدمة.» «إذن، ستتعرض عائلتك للاضطهاد. وعندها سيخضع إخوتك، وربما أبوك، للضباط النمساويين ويعاملون معاملة العبيد.» «ما كنت لأزعج نفسي بذلك. سأترك أقاربي الذكور يقررون لأنفسهم كيف يحبون أن يعاملوا.»

هز إرنست كتفيه. «أنتم أيها الأمريكيون تتباهون بأنفسكم مثل الأطفال الصغيرة؛ تقولون ستفعلون ولا تفعلون! أقول لك لا دخل بإرادة أحد إزاء هذا الأمر. إنه حصاد لكل ما زرع. لم أظن أن هذا الأمر سيحدث في حياتي، ولكني كنت أعلم أنه سيحدث.»

مشى الفتيان بتثاقل بعض الوقت وهما ينظران إلى السطوع الناعم للسماء. خلت السماء تماما من السحب، وتحول الضوء الخفيف في الحقول إلى نور القمر المنير الصافي من دون أن يستشعر أحد ذلك. وسرعان ما بدأت العربتان في التحرك بطول الطريق الأبيض، وجلس كل سائق على مقعده الذي لا ظهر له، وهو منكفئ إلى الأمام وتائه بين الأفكار. ولما وصلا إلى المنعطف حيث ينعطف إرنست جهة الجنوب، تمنى كل منهما للآخر ليلة سعيدة من دون أن يرفعا صوتهما. تابعت خيول كلود السير وكأنها تسير وهي نائمة. حتى إنها لم تنخر من سحابة الغبار الخفيضة التي كانت تثيرها باستمرار خطواتها المتثاقلة؛ التي كان صوتها هو الصوت الوحيد في هدوء الليل الفسيح.

تساءل كلود لماذا لم يكن إرنست صبورا معه. لم يستطع التظاهر بالشعور بما كان يشعر به إرنست. لم تكن لديه أي قناعة يمكن على أساسها أن يشكل آراءه أو يلون مشاعره عما يجري في أوروبا؛ يمكنه أن يصل إليها بمرور الوقت. دائما ما كان يقال له إن الألمان يتمتعون بالفضائل التي يعجب الأمريكيون بها بشدة؛ وقبل شهر كان سيقول إن لديهم المثل كافة التي تستحق أن يحارب من أجلها أي فتى أمريكي محترم. كان يتنافى غزو بلجيكا مع الشخصية الألمانية التي لمسها في أصدقائه وجيرانه. كان لا يزال يرجو أن يكون ما حدث ناتجا عن خطأ فادح، وأن يعتذر هذا الشعب الرائع ويصحح مساره مع العالم.

Bog aan la aqoon