58

كان عليها أن تعترف بوجود أناس - حتى في فرانكفورت - لديهم خيال ودوافع سامية، ولكنهم جميعا غير أكفاء وفاشلون. من أمثال هؤلاء الآنسة ليفينجستون، الخادمة العجوز العاطفية والسريعة الانفعال التي لا تستطيع قول الحقيقة؛ والسيد سميث العجوز، المحامي الذي ليس لديه زبائن، ويقرأ أعمال شكسبير ودرايدن طوال اليوم في مكتبه المترب؛ وبوبي جونز، عامل الصيدلية المخنث الذي يكتب الشعر الحر وسيناريوهات «الأفلام»، ويقوم على آلة المشروبات الغازية.

كان كلود أملها الوحيد. منذ أن تخرجا من المدرسة الثانوية وطيلة السنوات الأربع التي درست فيها، كانت تتطلع إلى رؤيته وقد سطع نجمه وأثبت نفسه. أرادت أن تراه أنجح من بايليس، «وأن يبقى كما هو دون تغيير». كانت ستقدم أي تضحيات من أجل تسهيل الأمور عليه. وإذا فشل فتى قوي ميسور الحال وجريء جدا مثل كلود، فقط بسبب بعض العصبية في طبيعته، فإن الحياة إذن لا تستحق الحزن الذي تتسبب فيه لقلب رقيق مثل قلبها.

في النهاية، رمت جلاديس نفسها على السرير. إذا تزوج من إنيد، فستكون هذه هي النهاية. سيصبح قويا وحزينا مثل السيد رويس؛ آلة كبيرة زنبركاتها الداخلية مكسورة.

7

تعافى كلود بالقدر الكافي، وأصبح بإمكانه الذهاب إلى الحقول قبل أن تنتهي عملية الحصاد. أتى منتصف شهر يوليو ولم ينته المزارعون من حصاد الحبوب. كان محصول القمح والشوفان كبيرا جدا لدرجة أن الماكينات لم تكف لدرسه في المدة المعتادة. اضطر الرجال إلى أن ينتظروا أدوارهم، وتركوا المحاصيل متكومة وكأنها مصدومة إلى أن تأتي ماكينة الدرس السوداء إلى الحقول. لو هطلت الأمطار لحدثت كارثة، ولكن ذلك العام كان من «الأعوام الجيدة» التي يحكي عنها المزارعون عندما تسير كل الأمور على ما يرام. في الوقت الذي يحتاجون فيه إلى الأمطار، كانت تهطل الأمطار بغزارة، وكانت الأيام حينئذ شديدة الجفاف والحرارة.

كانت تشرق الشمس كل صباح مطلقة حرارة عالية، وسرعان ما تجفف الندى وتبدأ في إحداث إثارة كبيرة لجميع الكائنات الحية. في مواسم الحصاد الكبيرة مثل هذا الموسم، كانت الحرارة والضوء الكثيف والعمل المهم الدائر تجمع بين قلوب الناس، وتبث فيهم روح الود. كان الجيران يساعد بعضهم بعضا للتعامل مع الحجم المضني للمحصول المهم للغذاء؛ إذ ينزل النساء والأطفال وكبار السن بحماسة إلى الحقول ، ويفعلون ما يستطيعون لحصد الحبوب وتخزينها. حتى الخيول كان لها دور متنوع واجتماعي أكثر من المعتاد؛ إذ كانت تنتقل من مزرعة إلى أخرى كي تساعد خيول الجيران في سحب العربات وماكينات الحصاد الحازمة وماكينات الحصد الرافعة. كانت تلامس أنوف مهور الأصدقاء القدامى، وتأكل الطعام من أيدي معلفين غرباء؛ وتشرب، أو ترفض أن تشرب، من أحواض مياه غريبة. كذلك أدخلت في الخدمة الآن الخيول العاجزة القابعة في الحظيرة، ولا تخرج؛ مثل الفرسة مولي ذات الساق العرجة التي تتبع آل ويلر، وفرس ليونارد دوسن المسمى بيلي المصاب بربو الخيول، الذي يمكن أن يسمع سعاله على بعد ربع ميل. إنه لمذهل أيضا أن تتمكن هذه الحيوانات المريضة مع مواكبة الأفراس والخيول المخصية الشابة القوية؛ لقد كانت تحني رءوسها طواعية وتسحب الأشياء وكأنها يروق لها احتكاك الطوق في رقابها.

كانت الشمس أشبه بزائر عظيم يحفز طاقة الحيوانات جميعها ثم يأخذ حقه منها. وعندما تخلع الشمس عنها عباءتها وتقف متنحية على حافة الحقول في المساء، تخلف وراءها عالما مليئا بالتعب والإرهاق. كانت الخيول والرجال والنساء تصبح أكثر نحولا؛ إذ يغرقون طوال اليوم في عرقهم. وبعد العشاء، كانوا ينامون في أي مكان حتى يبزغ شفق الفجر الأحمر من الشرق مرة أخرى وكأنه نفخ في الأبواق، وتبدأ الأعصاب والعضلات تنتفض مع حرارة الشمس.

لم يقرأ كلود الجرائد عدة أسابيع بسبب ضيق الوقت؛ كانت مكومة في أنحاء متفرقة من المنزل، غير مفتوحة؛ إذ كان نات ويلر في الحقل الآن يعمل كأنه واحد من العمالقة. كان يهرع كلود إلى الطاحونة تقريبا في مساء كل يوم كي يرى إنيد لبضع دقائق؛ لم يكن ينزل من سيارته، وكانت تجلس هي على المرقى الدرجي القديم المتبقي من أيام ركوب الخيل بينما تتحدث معه. قالت صراحة إنها لا تحب الرجال الخارجين لتوهم من حقل الحصاد، ولم يلمها كلود على ذلك. كان لا يحب نفسه كثيرا بعدما يبدأ عرق جسمه يجف على ملابسه. ولكنه كان لا يستطيع أن يرى أحدا إلا في الساعة أو الساعتين بين العشاء والنوم. إنه كان ينام مثل أبطال العصور القديمة؛ كان يغرق في السرير كأنه نال أمنيته من الدنيا، ويستشعر للحظة مباركة حلاوة النوم قبل أن يغلبه. في الصباح، كان يخيل إليه أنه يسمع رنين المنبه لوقت طويل جدا قبل أن ينهض من المكان العميق الذي غرق فيه. كان يمر بكل ضروب المغامرات غير المترابطة في المدة بين أول رنين للمنبه واللحظة التي يفيق فيها من سباته بالقدر الكافي ليحرك يده كي يوقفه. على سبيل المثال، كان يحلم أن المساء قد حل وذهب كي يرى إنيد كعادته. ولما كانت آتية في الممر من المنزل، اكتشف أنه لم يكن يرتدي أي ملابس على جسده! بعد مدة وبمرونة مذهلة، كان يقفز من فوق السياج ذي الأوتاد، وينزل في أجمة من نباتات الخروع، ويقف في الغسق ويحاول أن يغطي جسده بأوراقها - مثلما فعل آدم في الجنة - ويتحدث إلى إنيد عن أي أمور عادية وأسنانه يصطك بعضها ببعض خشية أن تفضح أمره في أي لحظة.

دائما ما كانت السيدة ويلر وماهيلي تخسران وزنا في أوقات درس الحبوب، مثل الخيول تماما؛ في هذا العام كان يمتلك نات ويلر ستمائة فدان من القمح الشتوي، ويبلغ محصول الفدان الواحد نحو ثلاثين بوشلا. إن حصد مثل هذا المحصول أمر صعب على النساء والرجال على حد سواء. أتت سوزي زوجة ليونارد دوسن كي تساعد السيدة ويلر، ولكنها كانت تنتظر مولودا في الخريف، وكان الحر شديدا عليها. بعد ذلك، أتت إحدى بنات يودر، ولكن الفتاة الألمانية المنظمة شتتتها طرق ماهيلي الغريبة، حتى قالت السيدة ويلر إن الأسهل لها أن تنجز الأعمال بنفسها بدلا من أن تظل تشرح للفتاة الجوانب النفسية لماهيلي. يوما بعد يوم، كان يجلس عشرة رجال شديدي الجوع على المائدة الطويلة في المطبخ. كانت تخبز السيدة ويلر الفطائر والكعك وأرغفة الخبز بأسرع ما يمكن أن يسعفها الفرن، ويظل الفرن مشتعلا من الصباح حتى المساء مثل حجرة الاشتعال في القاطرة. كانت تظل ماهيلي تدق عنق الدجاج حتى يتورم رسغها، «مثل أفعى نافخة» على حد قولها.

بحلول نهاية شهر يوليو، هدأت عاصفة الإثارة. عادت أجزاء طاولة الطعام المتحركة الإضافية إلى أماكنها، وسكنت خيول ويلر في حظائرها مرة أخرى، وانتهى عهد الرعب في حظيرة الدجاج.

Bog aan la aqoon