56

كان يميل حقل البرسيم الحجازي لأعلى في أحد الجوانب، وكان يقبع مثل منديل لامع مطرز باللونين الأخضر والأرجواني وملقى على جانب التل. في الزاوية العلوية، كانت تنمو شجرة حور قطني صغيرة ورفيعة بأوراق خفيفة ومتحركة مثل أسراب الفراشات الصغيرة التي تحوم فوق البرسيم. عمد السيد رويس إلى هذه الشجرة، وخلع معطفه الأسود، وطواه ثم جلس عليه تحت ظل الشجرة الخافت. ظهرت على قميصه بقع كبيرة من البلل، وكان العرق يتدحرج بقطرات واضحة بطول التجاعيد في رقبته السمراء. جلس مشبكا يديه فوق ركبتيه وقدميه فوق التربة الناعمة، وأخذ يجول ببصره عبر الحقل. وجد نفسه غير قادر على الإطلاق على أن يأتي على ذكر الخبرة الواسعة التي تمنى أن ينقلها إلى كلود. لقد أطبقت على صدره كأنها هم، وكانت الرغبة في البوح بها تتصارع هناك. ولكن لم تكن لديه كلمات ليقولها، وما من طريقة يمكن أن توصل ما يريد قوله. ولم تكن لديه أي حجة ليعرضها. ما أراد أن يفعله هو أن يعرض الحياة كما وجدها وكأنها صورة لرفيقه الشاب؛ أراد أن يحذره من بعض الإحباطات التي تكسر القلب، ولكن من دون أن يقدم أي تفسير. كان يعرف أنه لا سبيل إلى مراده ذاك. فمحاولة عجوز نقل تجربته إلى شاب تشبه محاولة حديث الأموات مع الأحياء. الطريقة الوحيدة كي يعرف كلود سره هي أن يعيش الحياة. أخذت أسنانه الصفراء القوية تطبق أكثر وأكثر على السيجار الذي انطفأ مثل سابقه. لم ينظر إلى كلود، ولكن بينما كان يشاهد الريح وهو يسير عبر الطرق الناعمة المزهرة في الحقل، رأى وجه الفتى أمامه مباشرة وعليه تعبير الاعتزاز المتحفظ الممزوج بالرغبة في الإرضاء، ورأى في كتفيه تصلبا طفيفا ينم عن نوع من الولاء الراسخ. جلس كلود على الأرض بجانبه متعبا بعض الشيء بعد المشي في الشمس، وحزينا قليلا على الرغم من أنه لم يكن يعلم السبب.

بعد مدة طويلة، فك السيد رويس تشابك يديه العريضتين ذواتي الأصابع المكتنزة، وأخرج السيجار المبلل من فمه للحظة. وقال بابتهاج مقصود: «حسنا يا كلود، ستجمعنا علاقة صداقة أكبر مما هو مفترض في العلاقة بين الأب وصهره. ستكتشف أن كل معتقداتك تقريبا عن الحياة - وخاصة عن الزواج - خاطئة. لا أعلم السبب الذي يدفع الناس إلى العيش في هذا النوع من العالم، ولكنهم يفعلون ذلك.»

6

بعد لقاء كلود بالسيد رويس، قاد كلود سيارته مباشرة إلى منزل الطاحونة. ولما وصل إلى الطريق الظليل، رأى في إحباط وميض رداءين أبيضين بدلا من رداء واحد وهما يمشيان في حديقة الزهور المشمسة. كانت الزائرة هي جلاديس فارمر. لقد كان هذا هو وقت إجازتها. ذهبت إلى الطاحونة في انتعاش الصباح كي تقضي اليوم مع إنيد. بدأتا الآن في جمع أعواد الجرجير، وتوقفتا في الحديقة لشم أزهار رقيب الشمس. في ذلك العصر الحار، أطلقت الزخات الأرجوانية عبقا علق في حوض الزهور ولامس وجنتيهما كأنفاس دافئة. نظرت الفتاتان في وقت واحد ولمحتا كلود. لوحتا إليه وهرعتا إلى البوابة كي تهنئاه على التعافي. أخذ منهما دلويهما الصغيرين المصنوعين من الصفيح، وتبعهما حول رأس السد القديم وصولا إلى واد رملي ضيق يمتد بطول تيار مائي صاف يصب في نهير لافلي كريك أعلى الطاحونة مباشرة. أتوا إلى التل ذي التربة الحصباء حيث ينبع الجدول من عين حفرت من تحت الجذور المكشوفة لشجرتي دردار. أينعت ونضرت أعواد الجرجير في كل مكان حول العين وفي القاع الرملي للتيار الضحل.

كانت جلاديس لديها اهتمام شديد بالأماكن. نظرت حولها برضا. وقالت: «من بين كل الأماكن التي اعتدنا اللعب فيها يا إنيد، كان هذا هو مكاني المفضل.»

قال كلود مقترحا: «أيتها الفتاتان، اجلسا هناك عند جذور شجرتي الدردار. فأينما وضعتما أقدامكما في هذا الحصى الناعم، تتجمع المياه. إنكما بهذا ستتلفان حذاءيكما الأبيضين. سأحضر أنا لكما الجرجير.»

نادت عليه جلاديس وهما تجلسان: «إذن فاملأ دلوي بأكبر قدر ممكن. أتساءل لماذا تنمو نباتات الخنجر الإسباني بهذه الكثافة على هذا التل يا إنيد؟ كانت هذه النباتات هرمة وجافة عندما كنا صغيرتين. لقد أحببتها هنا.»

أسندت ظهرها على جانب التل الحار المتلألئ. كانت تتسلل أشعة الشمس الحمراء من بين قمتي شجرتي الدردار، ويلمع كل الحصى وأجزاء المرو في الصخور على نحو باهر. وفي قاع الجدول كان للمياه، حين يتخللها الضوء، بريق مثل الذهب المطفي. كانت ترمي أشعة الشمس بقعا على شعر كلود الأشقر وكتفيه المحنيتين وهو يتحرك فوق البقاع الخضراء، وبدا سرواله الذي كان من القطن المتين أكثر بياضا مما كان عليه. كانت جلاديس فقيرة جدا بحيث لا تستطيع السفر، ولكن ساعدها الحظ كثيرا بسفرها إلى مناطق كثيرة على بعد بضعة أميال من فرانكفورت، وساعدها أيضا خيالها الخصب على الاستمتاع بالحياة. أسرت إلى إنيد أنها تريد بالفعل الذهاب إلى كولورادو؛ فقد كانت تخجل من أنها لم تر جبلا من قبل في حياتها.

بعد قليل، صعد كلود إلى الضفة ومعه دلوان لامعان يتقاطر منهما الماء. «والآن، هل يمكنني الجلوس معكما بضع دقائق؟»

تحركت إنيد كي تفسح له مكانا بجانبها، ولاحظت أن وجهه الرفيع يغرقه قدر كبير من العرق. كان منديل جيبه مبتلا ولصقت به الرمال؛ ومن ثم أعطته منديلها الخاص وكأنه ملك له. «عجبا يا كلود، تبدو متعبا للغاية! هل أجهدت نفسك في العمل؟ أين كنت قبل أن تأتي إلى هنا؟» «كنت مع والدك في أرضه نلقي نظرة على حقل البرسيم الحجازي خاصته.» «وأظن أنه مشى معك بطول الحقل تحت أشعة الشمس الحارة؟»

Bog aan la aqoon