14

كان يشعر الفتى بالمرارة من الطريقة التي ربي بها، وحيال شعره والنمش الموجود في وجهه وارتباكه . وعندما كان يذهب إلى المسرح في لينكن، كان يأخذ مقعدا في البلكون؛ لأنه كان يعلم بأنه يبدو كفتى ريفي ساذج. لم يرتد ملابس مناسبة البتة. لقد اشترى ياقات طويلة جدا وربطات عنق براقة للغاية، وأخفاها في صندوق ملابسه. ولم تنجح تجربته الوحيدة في الاستعانة بخياط. لاحظ الخياط من فوره أن زبونه المتلعثم لم يكن يعرف ما يريد؛ ومن ثم قال له ما دام أنه في فصل الربيع، فإنه بحاجة إلى سروال فاتح بمربعات، وصدرية ومعطف أزرقين من قماش السيرج. وعندما ارتدى كلود ملابسه الجديدة للمرة الأولى وهو ذاهب إلى كنيسة سانت بول في صباح يوم الأحد، أخذ كل إنسان يقابله ينظر إلى سرواله المميز. وفي الأسبوع التالي، ظل ينظر إلى سيقان الرجال والشباب، وعلم أنه لا يوجد سروال بمربعات في لينكن غير الذي يرتديه. ولذلك علق ملابسه الجديدة في دولابه ولم يرتدها مطلقا مرة أخرى، على الرغم من نظرة أنابيل تشابين الحزينة إليها. وعلى الرغم من ذلك، ظن كلود أن بإمكانه تمييز الرجل الأنيق عندما يراه. حتى إنه ظن أن بإمكانه فعل الشيء نفسه مع النساء. وإذا ركبت امرأة جذابة عربة الترام وهو في طريقه إلى الجامعة ذهابا أو إيابا، كان يتشتت ما بين الرغبة في النظر إليها والرغبة في أن يبدو غير مبال.

كلود الآن في طريق عودته إلى لينكن، ومعه مصروف كبير إلى حد ما، لكنه لن يسهم كثيرا في راحته أو سعادته. إنه ليس لديه أصدقاء أو أساتذة يمكن أن ينظر إليهم نظرة إعجاب، على الرغم من أن الحاجة إلى الإعجاب هي الحاجة الأهم بالنسبة إليه الآن. إنه مقتنع بأن الأشخاص الذين يمكن أن يعنوا له شيئا دوما سيخطئون في الحكم عليه ولن يأبهوا له. إنه لا يخشى كثيرا الوحدة بقدر ما يخشى قبول البدائل الرخيصة؛ كأن يختلق أعذارا لنفسه بشأن أستاذ يتزلف إليه، أو يستيقظ في صباح يوم ما ويجد نفسه معجبا بفتاة لمجرد أن الوصول إليها سهل. إنه يخاف بشدة من البدائل السهلة، ويخاف كثيرا من أن ينخدع.

6

بعد ثلاثة أشهر وفي يوم غائم من أيام ديسمبر، كان كلود جالسا في عربة الركاب بقطار شحن به عربات للركاب، عائدا إلى المنزل لقضاء الإجازة. كان يضع كومة من كتبه على المقعد المجاور له، وكان مستغرقا في القراءة عندما توقف القطار بهزة قوية تسببت في سقوط تلك المجلدات على الأرض. رفعها من الأرض ونظر في الساعة. كان الوقت وقت الظهيرة. وكان قطار الشحن سيتوقف هنا ساعة أو أكثر حتى يمر قطار الركاب المتجه إلى الشرق. نزل كلود من العربة ومشى ببطء على الرصيف باتجاه المحطة. وضعت مجموعة من شجر التنوب الصغير بالقرب من مكتب الشحن، وأرسلت عبق عيد الميلاد بين ذرات الهواء البارد. كانت تقف بعض عربات الجر بالقرب من المكتب، وكانت الخيول مغطاة لحمايتها من البرد. تصاعد بخار بنفسجي قاتم من القطار، وانتشر في السماء الملبدة بالغيوم.

ذهب كلود إلى مطعم في الجهة المقابلة من الشارع، وطلب يخني محار. ومن رحلة إلى أخرى، دائما ما كانت تتذكره مالكة المطعم، وهي امرأة ألمانية قصيرة بدينة، ذات قصة متغضنة منسدلة على الجبين. ولما كان يأكل المحار، أخبرته أنها انتهت لتوها من شواء دجاجة مع البطاطا، وإذا أحب فيمكنه الحصول على أول قطعة مشوية من الصدر قبل أن يأتي قائدو القطار من أجل الغداء. وبعدما طلب منها إحضارها على الفور، جلس منتظرا على مقعد عال، وحذاؤه على مسند القدمين المصنوع من الرصاص، ومرفقاه على طاولة البيع البنية اللامعة، وأخذ يحملق في هرم السندوتشات التي تبدو صلبة تحت كرة زجاجية.

لما أحضرت السيدة فوكت الطبق، قالت له: «أنا أبحث عنك كل يوم. لقد وضعت قدرا كبيرا من المرق الجيد على البطاطا.» «شكرا لك. لا بد أن رواد مطعمك يحبونك.»

قهقهت. وقالت: «نعم، كل قائدي القطارات أصدقاء لي. في بعض الأحيان، يحضرون لي قليلا من الجبن السويسري من أحد المتاجر الكبرى في أوماها التي يتردد عليها الألمان. ليس لدي أطفال؛ ومن ثم اعتدت أن أعد بعض الأشياء من أجل أطفالهم، أليس هذا جيدا؟»

وقفت تنظف يديها القصيرتين والبدينتين تحت مئزرها، وتراقب كل لقمة يأكلها بشغف وكأنها تتذوقها هي. دخل قائدو القطار ونادوا عليها وسألوها ماذا أعدت من أجل الغداء، وركضت إليهم مثل دجاجة صغيرة مبتهجة، وأخذت تضحك وتثرثر معهم. تساءل كلود هل العمال لطفاء مع النساء العجائز في جميع أنحاء العالم كما هو الوضع هنا. لم يكن يظن ذلك. أحب أن يعتقد أن هذا اللطف لا يشيع إلا بين من يسميهم ب «أهل الغرب». اشترى سيجارا كبيرا وظل يتجول على الرصيف ذهابا وإيابا مستمتعا بالهواء المنعش حتى انطلقت صافرة قطار الركاب.

بعدما انطلق قطار الشحن باعثا كومة من البخار، لم يفتح كتبه مرة أخرى، ولكن جلس ينظر إلى المنازل القاتمة وهي تمر أمامه ومن حولها حقول الذرة الجافة والمحصودة، وقطع الأراضي المحروثة الكبيرة حيث يستقر القمح الشتوي. كان يمتد بعض الجليد اللامع مثل بلورات الصقيع بطول الحواف العالية الهشة بين الأخاديد.

اعتقد كلود أنه يعرف تقريبا كل مزرعة تقع على الطريق من فرانكفورت إلى لينكن؛ فهو يقوم بتلك الرحلة كثيرا مستخدما القطارات السريعة والبطيئة. كان يقضي كل الإجازات في المنزل، كما أنه كان يعود مرارا وتكرارا إليه لأسباب مختلفة؛ في وقت مرض أمه، أو عندما انقلب رالف بالسيارة وكسرت كتفه، أو عندما رفس والده حصان شرس. ولم يكن من عادة آل ويلر أن يأتوا بممرضة؛ فإذا مرض أي فرد في المنزل، فمعروف أن فردا آخر في المنزل كان سيتولى المهمة.

Bog aan la aqoon