13

انتظر كلود من الكبار أن يغيروا رأيهم بشأن المكان الذي يجب أن يذهب إليه للدراسة، ولكن يبدو أن لا أحد اهتم كثيرا بالأمر، حتى والدته .

منذ عامين، أتى الشاب الذي تدعوه السيدة ويلر باسم «القس ويلدون» من لينكن، وعمل في الوعظ في المدن الصغيرة والكنائس الريفية، وسعى لجذب الطلاب إلى المؤسسة التي كان يدرس بها في فصل الشتاء. أقنع السيدة ويلر أن الكلية التي يعمل بها هي آمن مكان يمكن أن يذهب إليه فتى يغادر المنزل للمرة الأولى.

لم تكن والدة كلود تضمر تحاملا ضد الواعظين. كانت تعتقد أن جميعهم مختارون وطاهرون، وأسعد لحظات حياتها كانت عندما أتى أحدهم إلى منزلها وأخذت تطهو له وتعمل على خدمته. لقد وفرت كل سبل الراحة للسيد ويلدون الشاب؛ مما دفعه إلى البقاء في منزلها عدة أسابيع، شاغلا الغرفة الشاغرة حيث كان يقضي وقت الصباح في الدراسة والتأمل. لم يتخلف عن مواعيد الوجبات، وحينها كان يطلب البركة على الطعام ويجلس، وترتسم على عينيه ملامح الورع والخجل أثناء تقطيع الدجاج تمهيدا لتوزيعه. كان رأسه المدبب من الأعلى مائلا إلى أحد الجانبين قليلا، وكان شعره الخفيف مفروقا بالضبط فوق جبهته البارزة، وممشطا بتموجات بسيطة. كان لين القول ومتواضعا في تعامله، وكان لا يشغل مكانا كبيرا عندما يجلس. حلمه أثار إعجاب السيد ويلر الذي كان يحب أن يغدق عليه بالطعام، ولا ينفك يسأله بجدية: «ما الجزء الذي تفضله في الدجاجة؟» كي يسمعه وهو يتمتم: «قليل من لحم الصدر إذا سمحت»، وحينها كان يسحب مرفقيه بالقرب منه، وكأنه ينزلق ببراعة من فوق مكان خطير. فيما بعد الظهيرة، اعتاد القس ويلدون أن يرتدي ربطة عنق جديدة مصنوعة من قماش رقيق، وقبعة خشنة ولامعة من القش كانت تترك خطا أحمر على جبهته، ويمسك الكتاب المقدس الخاص به تحت ذراعه ويخرج داعيا للناس. وإذا ذهب إلى مكان بعيد، كان يأخذه إليه رالف بالسيارة.

كره كلود هذا الشاب منذ اللحظة الأولى التي رآه فيها، ونادرا ما كان يرد عليه بطريقة مهذبة. السيدة ويلر التي كانت شاردة الذهن دائما، والتي كانت حينها مشغولة بشدة بواجب الضيافة للزائر، لم تلاحظ صمت كلود النابع من الازدراء حتى همست إليها ماهيلي - إذ لا تفوتها هذه الأشياء مطلقا - فوق الموقد يوما ما قائلة: «السيد كلود لا يحب الواعظ. إنه فقط لا يحترمه، ولكن لا تقولي لأحد.»

بسبب المدة التي أقامها القس ويلدون في المزرعة، أرسل كلود إلى كلية تمبل. بدأ كلود يعتقد أن أبغض الأشياء والأشخاص إلى قلبه هم من سيحددون له مصيره.

لما اقترب الأسبوع الثاني من شهر سبتمبر، وضع بعض الملابس والكتب في صندوقه وودع والدته وماهيلي. أوصله رالف إلى فرانكفورت كي يلحق بالقطار المتجه إلى لينكن. وبعدما جلس كلود في عربة القطار العادية القذرة، أخذ يفكر في مستقبله. كانت هناك عربة فاخرة في القطار، ولكن الركوب في العربة الفاخرة في رحلة نهارية لم يكن من الأشياء التي يفعلها أحد من آل ويلر.

كان كلود يعلم أنه عائد إلى الكلية الخطأ، وأنه كان يهدر الوقت والمال معا. سخر من نفسه بسبب ضعف عزمه. قال لنفسه ما دمت مضطرا إلى التعامل مع الغرباء، فبإمكاني أن أحدد ما أريده وأحارب من أجله. ربما لم يكن باستطاعته مواجهة والده أو والدته، ولكنه كان يستطيع أن يتحلى بالجرأة مع بقية الخلق. ولكن إذا كان هذا صحيحا، فلماذا استمر في العيش مع آل تشابين المزعجين؟ بيت آل تشابين كان يعيش فيه أخ وأخت. كان إدوارد تشابين رجلا في السادسة والعشرين من عمره ذا وجه رجل عجوز منهك، وكان لا يزال يدرس كي يصبح قسيسا. أخته أنابيل كانت تعتني بشئون المنزل؛ هذا يعني أنها كانت تقوم بواجبات المنزل كلها. كان الأخ يحصل على قوت يومه له ولأخته من العمل في وظائف غريبة في الكنائس والجمعيات الدينية؛ فقد كان يلقي «الخطبة» وقت مرض القس، ويقوم بأعمال السكرتارية في الكلية وجمعية الشبان المسيحيين. وعلى الرغم من قلة المبلغ الذي كان يدفعه كلود للإقامة والوجبات في هذا البيت، فإن هذا المبلغ كان يسهم كثيرا في راحتيهما.

التحق تشابين بكلية تمبل منذ أربع سنوات، وربما كان سيستمر سنتين أخريين حتى يكمل دراسته. اعتاد أن يذاكر دروسه في عربات الترولي، وفي أوقات الانتظار بجانب السكك الحديدية في الأماكن الخالية، وكان يذاكر حتى وقت متأخر من الليل. لا بد أن غباءه الفطري كان خارجا عن المألوف؛ فبعد سنوات من الدراسة المهيبة لم يستطع قراءة العهد الجديد باللغة اليونانية من دون معجم وكتاب قواعد. لقد كان يخصص وقتا كبيرا من أجل التدريب على الخطابة والإلقاء. وفي بعض الأوقات، كان بيتهم القديم - المبني من جدران رفيعة من أجل الطلاب الفقراء، والمستقر على كتل خرسانية بدلا من الأساس - يردد صدى صوته الأجش والمنهك أثناء تدريبه على خطبة من إعداده أو إعداد ويندل فيليبس.

أنابيل تشابين كانت من زملاء كلود في الفصل. لم تكن غبية مثل أخيها؛ فلم يصعب عليها تعلم تصريف الأفعال والتعرف على أشكالها عندما ترد عليها مرة أخرى. ولكنها كانت فتاة سخيفة وذات عواطف فياضة، تتشكك في جمال كل شيء في حياتهم الوضيعة، كما أنها كانت مغرمة بكلود للأسف. كانت تتغنى أنابيل بدروسها مرارا وتكرارا لنفسها وقت الطهي والتنظيف. وكانت ممن يجعلون أفضل الأشياء تبدو مملة فقط بالإشارة إليها. في الشتاء الماضي، ظلت تتلو قصائد هوراس الغنائية في أنحاء المنزل - إذ كانت هذه هي فكرتها بالضبط عن الأشياء التي يجب أن يفعلها الطلاب - حتى خشي كلود أن يربط على الدوام ذلك الشاعر بسوء وجبات الغداء المعدة على عجل.

أحبت السيدة ويلر فكرة أن كلود كان يساعد هذين الأخوين المستحقين للمساعدة في كفاحهما من أجل إكمال رحلة تعلمهما، ولكنه رأى منذ أمد بعيد أنه ما دامت لم تثمر أي من جهود الأخوين عن نتائج كبيرة، فقد يكون من الأفضل أن يتخليا عن هذا الكفاح منذ البداية. لقد كان يعتني بغرفته الخاصة إذ يحافظ على نظافتها وصلاحيتها للسكن وخلوها من محاولات التودد من جانب أنابيل. ولكنه كان يمقت بشدة الادعاءات الواهية بالتدبر الخفيف لشئون المنزل. فقد ولد وهو يحب النظام، تماما مثلما ولد بشعر أحمر. إنها سمة شخصية فيه.

Bog aan la aqoon