Wahat Cumr
واحات العمر: سيرة ذاتية: الجزء الأول
Noocyada
وفي أواخر سبتمبر 1961م كنت على موعد مع الروائي العظيم بهاء طاهر في الإذاعة، إذ كان يعمل في البرنامج الثاني (البرنامج الثقافي حاليا) وكان الموعد في الثامنة والنصف صباحا لتسجيل حديث لي عن مذهب تحليل النصوص الذي أشاعه النقد الجديد في أمريكا، وكنا نقف في الشارع الموصل بين شارع الشريفين حيث مقر عملي القديم في الأخبار وشارع علوي حيث استوديو التسجيل، أمام المبنى الذي يضم مكاتب البرنامج الثاني، وكان يتصفح الحديث الذي كتبته حين شاهدنا سيارة كاديلاك سوداء تقف فجأة وأمامها سيارة أخرى، أمام المبنى الرئيسي، وعجبنا من الزائر المهم، وقال بهاء طاهر: لن يكون جمال عبد الناصر! وضحك. ولكن السيارة فتح بابها، وخرج منها جمال عبد الناصر!
ووسط ذهول الواقفين دخل الزعيم بقامته الفارعة ووجهه الأسمر إلى المبنى ومعه رجل أو رجلان، وحدسنا أن في الأمر شيئا، وسرعان ما سمعنا في التاسعة كلمته التي لا أنسى بدايتها أبدا: «أيها المواطنون. في الفجر، قامت قوات من معسكر قطنة بالقرب من دمشق، بمحاصرة مقر القيادة واحتجاز المشير عبد الحكيم عامر نائب رئيس الجمهورية والقائد العام للقوات المسلحة ...» وكان ذلك هو البيان الذي أعلن فيه للشعب نبأ انفصال سوريا عن مصر.
وفي مساء أحد الأيام التالية وقفنا أنا وسمير في ميدان الجيزة، نرقب في جهاز للتليفزيون بأحد المقاهي، الرئيس عبد الناصر وهو يتحدث عن الانفصال، ثم عن ضرورة التكاتف لمواجهة الأزمة، والاهتمام بأحوال البلد الداخلية. كان المقهى يقع أسفل عمارة سكنية تضم بعض المكاتب، ويقيم فيها صديق سوري لنا اسمه نعيم اليافي، يقوم بالتحضير لدرجة الدكتوراه في قسم اللغة العربية، كان الانفصال ذا وقع أليم على الجميع، ولكنه كان شرارة انطلقت فألهبت إبداعا من نوع جديد، فالجميع يفكر ويتساءل، والجميع يتكلم ويناقش، ولم يلبث التليفزيون الوليد، الذي لم يكن عمره قد تجاوز عاما وبعض عام، أن أصبح الجهاز الإعلامي الذي يعمل له ألف حساب، ورأى عبد القادر حاتم الذي أصبح وزيرا للثقافة والإعلام إعداد المادة الدرامية اللازمة للشاشة الصغيرة، فأمر بتشكيل لجنة عليا من أساتذة الدراما وكبار الفنانين، برئاسة السيد بدير، وعضوية رشاد رشدي والمرحوم الدكتور محمد صفر خفاجة (باعتباره متخصصا في المسرح اليوناني) الذي كان قد أصبح عميدا لكلية الآداب، وإحسان عبد القدوس ومحمد عبد الحليم عبد الله (من القصاصين) وغيرهم؛ لإنشاء مسرح خاص للتليفزيون، تقدم فيه المسرحيات أسبوعا أو أسبوعين، ثم تصور وتذاع في سهرات تليفزيونية.
وكنت آنذاك معروفا، أنا وسمير سرحان، بالكتابة الإذاعية، ومعناها على الأقل الإلمام بصنعة البناء الدرامي ووضع الحوار، كما كنت معروفا بمهارتي في الترجمة، فاقترح رشاد رشدي في إحدى جلسات اللجنة إعداد ترجمات عن المسرحيات العالمية، وتحويل بعض الروايات إلى مسرحيات، مما لاقى قبولا من أعضاء اللجنة، واقترح أن أشارك أنا وسمير في هذا العمل. وأبلغني سعد أردش (المخرج العظيم) الذي كان قد عاد لتوه من بعثته الدراسية في إيطاليا بأن رشاد رشدي يرشحني لترجمة مسرحية «الخال فانيا» لتشيكوف؛ حتى يقدمها مسرح الجيب الذي كان قد أنشئ حديثا واتخذ مقرا له في نادي السيارات بشارع قصر النيل، وفرحت وذهبت أسأل رشدي إن كان ذلك صحيحا فقال لي «استنى شوية!» وبعد أيام استدعانا أنا وسمير وكلفنا بترجمتها معا، كما كلفنا بإعداد مسرحية عن رواية لمحمد عبد الحليم عبد الله عنوانها «من أجل ولدي». ولم تكن فرحتي أقل بهذه الأنباء؛ فأنا أحب العمل مع سمير وأعمل معه في الواقع، ودون تكليف من أحد، ولكنني عجبت من أمر الترجمة! وأوضح رشاد رشدي الأمر قائلا: إنني أخشى لغتك العربية الجزلة؛ فالمسرح لا يحتمل الفصحى المتقعرة! ولم أرد على هذه الملاحظة.
وبدأنا نعمل أنا وسمير في كازينور - المقهى المطل على النيل - وكنا نلتقي في الظهيرة، بعد أن أنتهي أنا من التدريس (وكنت قد عينت أخيرا مدرسا للغة الإنجليزية في كلية الآداب) وبعد أن ينتهي هو من أشغاله الأخرى، ونستمر في العمل حتى المساء أو عندما تخفت أضواء المقهى فلا تسمح بمواصلة العمل، ثم نخرج معا لمواصلة حوارنا حول ما نكتب وما نعد. وسرعان ما انتهينا من الترجمة ثم من الإعداد، وسلمنا النص للمؤلف فرحب به ترحيبا شديدا، وتولى المرحوم نور الدمرداش إخراج المسرحية وأسند بطولتها إلى حسين الشربيني زميلي القديم في فرقة التمثيل، وعلوية جميل، وممثلة ناشئة هي مديحة حمدي، وعبد المحسن سليم وعدد من أعضاء الفرقة التي عينها السيد بدير .
وكانت هذه هي ثاني مسرحية يقدمها مسرح التليفزيون، وكانت الفرقة التي قدمتها تسمى فرقة المسرح الحديث، وكانت ليلة الافتتاح مشهودة. كنا أنا وسمير قد ضغطنا زمن الرواية الذي يمتد من طفولة البطل حتى أواخير شبابه، إلى نحو أسبوع أو أقل؛ عملا بمبدأ «وحدة الزمن» التي نص عليها أرسطو، وكنا قد ضغطنا أماكن الحدث كذلك، والحدث نفسه! أي إننا كنا نقدم مسرحية كلاسيكية يرضى عنها النقاد، وكان معهد التمثيل ما يزال خاضعا للفكر الكلاسيكي قبل أن يتطور ويصبح معهد الفنون المسرحية الحالي؛ ولذلك فقد كان كل شيء محسوبا في النص، وكان الحوار «مقطرا»؛ أي لا يتضمن أية شوائب أو أي شيء ينم على وجودي أو وجود سمير؛ فكله من روح المؤلف وفكره، وأكاد أقول - لغته! وحضر الجميع الافتتاح، ولقينا التشجيع من الجميع، فكنت ما أزال في الثالثة والعشرين بينما لم يكن سمير قد تخطى العشرين إلا بشهور قلائل! وقالت لنا الدكتورة لطيفة الزيات وهي تلمح آثار القلق على وجهينا: «حملتوا الهم بدري يا ولاد!» ولم أنس عبارتها أبدا.
أما ترجمة «الخال فانيا» فقد راجعها سعد أردش على النص الإيطالي، وأبدى بعض الملاحظات هنا وهناك، وكانت تلعب دور البطولة فنانة موهوبة لم تستمر في المهنة هي نهاد سالم، وكل ما أذكره أنها كانت تؤدي الدور بأسلوب غربي منضبط؛ فقد سبقت لها مشاهدة المسرحية بالفرنسية التي تجيدها، وبالإنجليزية التي تتقنها وتترجم إليها شعرا! ولكن سعد أردش كان يصر على أن تؤدي الحوار بأسلوبه هو، فكان يستعيدها مرات ومرات، ويطالبها بأسلوب في الأداء يصعب فهمه؛ كأن يقول: «أنا عايز الجملة تخبط في الحيطة وترد!» وتوقفت التجارب المسرحية، ووضع النص على الرف، وتوجه مسرح الجيب إلى تقديم الأعمال التجريبية، وكان ذلك هو الهدف الحقيقي من إنشائه.
في ربيع 1962م، وأذكر اليوم جيدا لأنه كان جوا خماسينيا حارا، قال لي الدكتور مجدي وهبة إن «دار المعرفة» - وهي دار نشر كان يشترك في ملكيتها محمود عبد المنعم مراد والدكتور عبد الحميد يونس - على استعداد لطبع ترجمتي لدرايدن، وأنني يمكن أن أتقاضى بقية أجري من الأستاذ مراد «من حصيلة بيع الكتاب». وتواعدنا على اللقاء (مجدي وأنا) في مقهى ريش بشارع سليمان باشا حيث قرأت عليه الأجزاء الأخيرة من الترجمة ووافق عليها، ثم التقيت معه ثانيا في اليوم التالي في مقر دار المعرفة بشارع صبري أبو علم، وسلمت النص للأستاذ مراد، ثم سمعت حوارا لم أشارك فيه عن انتواء الدار نشر مجموعة أشعار صلاح جاهين بعنوان «عن القمر والطين»، ولا أذكر إن كان الذي سيكتب المقدمة هو رجاء النقاش أم بدر الديب (زوج الدكتورة صفية ربيع المدرس لدينا في القسم)، ولكنني أذكر اعتراض الموجودين على عبارة وردت في آخر القصيدة الأولى في الديوان وهي «شوفي قد إيه» - إذ يختمها صلاح جاهين هكذا:
دخل النبي بردان خديجة غطته،
حطت عليه غطيان لحد ما دفته،
Bog aan la aqoon