211

Wahat Cumr

واحات العمر: سيرة ذاتية: الجزء الأول

Noocyada

الذي كان قد فتح أبوابه لتوه، وجلسنا لتناول السلاطة، وأحس بما أريد أن أسأله فقال (دون سؤال): «لم يحصل أينا على الدكتوراه! لم نشعر بأننا في حاجة إليها، وكتابة الرسالة لعبة سخيفة؛ فالنتائج يمكن إجمالها في صفحتين، والباقي تفاصيل يعرفها كل إنسان، ووصف للتجارب أو للتجربة دون داع؛ أي «حشو ورق وخلاص»!»

سارة تطعم البط في البحيرة في ردنج.

كان الحديث ممتعا فأنساني ما جئت من أجله، بل أنساني أن أسأله ما كان يفعل في مكتب البعثات، وعندما سألته قال دون اكتراث: كنت أسدد القسط! وفهمت منه أنهم طالبوه عندما أعلن عن رغبته في عدم العودة بأن يدفع تكاليف البعثة، فاتصل بأحد المحامين الذي رفع دعوى على وزارة التعليم العالي، وكانت القضية ما تزال معلقة (أي لم يصدر فيها حكم نهائي) لكن تجديد جواز السفر كان يشترط الموافقة على دفع النفقات فاتفق مع الوزارة، من باب إظهار حسن النوايا، على تقسيط المبلغ، وبدأ في سداده. (وقد علمت فيما بعد أنه كسب القضية وإن لم يسترد الأقساط - بعد).

وبعد الغداء سرنا حتى لانكاستر جيت (Lancaster Gate)

في شارع بيزووتر (Bayswater)

المحاذي للهايد بارك (Hyde Park) ، وكان قد «تسلطن» فأخذ يقص علي مزايا الريف الإنجليزي، وجمال الإنجليزيات، وخلوهن من العقد (وكان يعني بها قواعد السلوك الشرقية للفتيات - خصوصا لديهم في الصعيد). وأسرف في الحديث عن محاسن بنات الريف حتى بدأ الشك يخامرني فسألته على حذر: «لكن أنت طبعا لا ...» وقال ببساطة: «أنا «لا» إيه؟ أنا - رغم زواجي الناجح - لا أدعي القداسة! نحن بشر يا عم عناني! وكاثي تحبني مهما يكن من أمر!» وتحدثنا عن أطفالهما فقال إنهما أنجبا غلاما وفتاة وهما في المدرسة الآن (أو روضة الأطفال - لا أذكر). وعندما تشعب الحديث سألته عن موقف أسرته فقال لي دون اكتراث: لقد أدرت ظهري للشرق! ولن تصدق ما أعيش فيه من سعادة حتى تزورني!

وأخذت القطار عائدا إلى ردنج، بعد أن تبادلنا العناوين وأرقام التليفونات، وكان اليوم يوم عمل لي فذهبت إلى المنزل للاطمئنان على سارة ونهاد، وخرجت على الفور، وأجلت حكاية «الحدوتة» لنهاد لليوم التالي. كانت قصة «عبده» قصة الكثيرين الذين أداروا ظهورهم للشرق، وعلمت فيما بعد أن أسرته حاولت الاتصال به مرات عديدة فلم توفق، فكأنما تعمد أن يقطع كل ما كان يربطه بالماضي، وقد زرته عام 1981م، وعام 1987م، وكنت كل مرة أعجب ببراعة طفليه وقدرتهما على فهم اللغة العربية؛ إذ إن «عبده»، رغم استغراقه في الحياة الإنجليزية، «لا يشعر بكيانه» كما يقول إلا عندما يتحدث العربية، وهو يصحب ابنه في حله وترحاله، وكان ابنه في عام 1987م يدرس الطب وأمامه كما يقول سنوات طويلة، ويتحدث العربية بلكنة إنجليزية بعض الشيء، لكنها صحيحة كل الصحة، وقد حدثته آنذاك عن فرص العمل الذي قد يقتضي استخدام العربية.

4

كانت قصة عبده لا تختلف عن قصص الآخرين إلا في أنني عاصرتها وكنت شاهدا على أحداثها؛ ولذلك فعندما أتأمل العلاقة بينه وبين زوجته، وهذه المسافة الشاسعة التي تفصلني عنه زمنا ومكانا، أتخيل أنه «أحمد قادوم» آخر، زميلي الرشيدي الذي ذهب إلى نبراسكا ليدرس المبيدات الحشرية فتزوج أمريكية واستقر به المقام وانقطعت أخباره تماما عن أسرته، أو «وديع» آخر، أو «أحمد حسن» آخر، وغيرهم عشرات ممن أعرفهم، وقد يكون هناك المئات الذين لا أعرفهم؛ إذ جاء في تقرير إدارة البعثات الذي نشر في أوائل السبعينيات أن 40٪ فقط من المبعوثين للدراسة في الخارج يعودون إلى الوطن، والقضايا التي ترفعها الإدارة نادرا ما تحسم، بل إن التهديد بسحب الجنسية لم يعد من الأسلحة الماضية بعد أن صدر قانون يعتبر ذلك «غير دستوري» فيما سمعت، وعندما كنا في لوس أنجيليس عام 1981م، قال لي الدكتور شبايك (أمين عام اتحاد الجالية المصرية هناك) إن ولاية كاليفورنيا وحدها يقيم فيها ربع مليون مصري، وعندما أبديت تشككي في الرقم أخرج لي كتابا ضخما يضم الأسماء والعناوين، وأنا أعرف منهم واحدا على الأقل هو إبراهيم كيرة - الشاعر وزميل الصبا في مدرسة الأورمان - الذي يقيم في سان فرانسيسكو بصفة دائمة.

إذا أطلقنا على حياة المصري خارج مصر صفة الحياة في الغربة فلن نكون على صواب؛ فالمصري يحمل مصر في قلبه ووجدانه مهما ابتعد عنها، ولا أعتبر أن الدكتور شندي الذي زرناه في منزله على ساحل المحيط الهادي (أنا وسمير سرحان ولويس عوض وصلاح عبد الصبور) عام 1981م يعيش في غربة؛ فمنزله قطعة من مصر، وأحاديثنا كانت تدور عن مصر، وأنا أضرب المثال بأمريكا بسبب بعدها، أما من يعيشون في إنجلترا فهم يحسون بأنهم أقرب إلى مصر بأكثر مما نتصور، وقد شغلني مفهوم الغربة في تلك الأيام؛ لأننا - أنا ونهاد - لم نشك يوما ما في أننا سنعود إلى مصر، ولم يكن التوقف عن الإنتاج الأدبي يقلقني، بل لم يكن يقلقني التأخر في كتابة الرسالة، أو حتى انقطاع مرتب البعثة؛ لأنني كنت أستمتع بما أقرأ، وبما أرى، وبمن أقابل وأحادث، وكان العمل يقتضي مني إهمال الدراسة أياما متوالية، فأنغمس في متابعة أحداث العالم، وأصبحت أجد متعة فيما تتمتع به صياغتي للترجمة من تقدير، لكنني كنت في أعماقي أتأمل فكرة الغربة - ماذا لو اشترينا منزلا؟ لا .. لم تكن نهاد تقبل ذلك أبدا؛ فشراء المنزل معناه ترسيخ جذورنا - ماديا على الأقل - في تربة أجنبية، وهو ما لم تكن ترضاه مطلقا. لقد كانت نهاد بحق - كما قال عزت أبو هندية - صمام الأمان.

Bog aan la aqoon