203

Wahat Cumr

واحات العمر: سيرة ذاتية: الجزء الأول

Noocyada

Berkshire (وتنطق في الجنوب إما بارك شر أو بارك شير واختصارها باركس) وهمس لي أخي ولم يكن قد بلغ الثامنة والعشرين بعد، إن أهم ما يميز الإنجليزيات عن الروسيات هو الرشاقة، بل كان إذا رأى امرأة ضخمة مربعة في لندن قال إنها روسية! وفهمت أنه بهر برشاقة الفتاتين، في حين أنني كنت معتادا على هذا الشكل، فلم أجد فيه ما يستلفت النظر، وأحسست أنه يريد تزجية الوقت بالحديث معهما، فقلت لهما باللهجة الجنوبية «المثقفة» إن أخي وصل لتوه من موسكو وهو يدهش لرشاقة الإنجليزيات! فضحكت إحداهما وقالت: «ولكن وزني زاد رطلين منذ أن بدأت العمل في هنتلي أند بلمرز (Huntley and Palmers) (وهو مصنع للبسكوت يطالع القادم من لندن إلى ردنج بمبانيه الضخمة).» ومن ثم بدأنا الحوار عن البسكوت؛ إذ أكدت الثانية أنها لم «تسمن» إلا بعد أن تزوجت، وقالت ضاحكة: «ولكن جودي

Judy (أي صاحبتها) لديها استعداد وراثي للسمنة.» وقالت لمصطفى: «لو رأيت والدتها لظننت أنها روسية!» وضحكنا، ثم قلت لهما إن المصريين يفضلون الجسم الممتلئ واللون الأسمر (كذبا) فأسرعت تقول: «جودي ليست شقراء فهي تصبغ شعرها.» فردت جودي: «بل هو لونه الطبيعي.» واستمر الحوار الضاحك حتى وصلنا إلى مشارف ردنج، ولاحت مباني مصنع البسكوت، فأشرت إليه وقلت للأولى: «العودة إلى العمل؟» فقالت: «لا لا! إنه يوم عطلة لي.» وأومأت إلى صاحبتها فقالت جودي: «لا! لم تعد تعمل بعد أن تزوجت!» وعندما غادرنا القطار تبادلنا الوداع وانصرفنا.

ودهش مصطفى لأننا تحادثنا ببساطة وانصرفنا ببساطة ؛ أي دون معرفة سابقة ودون وعد بمعرفة لاحقة! وهذه من الفروق الأساسية بين الثقافتين، وللقارئ أن يدرك مدى دهشتي أنا عندما عدت إلى مصر بعد عشر سنوات فوجدت اختلاف «العلامات» واضحا جليا؛ فالإنجليزية حين تبتسم فإنها لا تعبر ببسمتها عن الدعوة للحديث أو التواصل، وهي تبتسم بطريقة تلقائية لا تعبر عن رضى أو سعادة، وما أكثر المصريين الذين فسروا البسمات تفسيرا مصريا! وأذكر أن أحدهم استجاب للبسمة استجابة مصرية فقالت له الفتاة: «هل من خدمة أؤديها لك؟» وتملكه الحرج ولم يعرف ماذا يقول ف «اخترع» قصة لكي يبرر سوء فهمه للبسمة. وللقارئ أن يدرك دهشتي أيضا حين وجدت أن التجهم في مصر هو القاعدة، وكان علي أن أعيد تفسير «العلامات» - والبسمة إحداها، وغيرها كثير.

واكتمل الفصل الثالث من الرسالة في أول يوليو فقدمته للمشرف، ولم يعترض هذه المرة على شيء بل اقترح أن أعمد بعد انتهائي من الدكتوراه إلى نشر النص الأول للمسرحية في مقابل النص المعدل (إذ قام الشاعر بتعديله وتغيير أسماء الأبطال) ولكن الحياة في مصر ابتلعتني وإن كنت نشرت مخطوطا آخر للشاعر، ولكنني أستبق الأحداث هنا؛ فالمهم أنني قد استعدت توازني وأصبحت أعتاد الجمع بين الدراسة في المكتبة في أيام الأسبوع وبين العمل بالترجمة في نهاية الأسبوع!

وفي يوم السبت 10 يوليو خرجنا أنا ونهاد لنرى إحدى المسرحيات في لندن، وقابلنا في قطار العودة زميلة لها في العمل تدعى جون بولارد

Joan Pollard

كانت تمتاز عن الجميع بذاكرتها القوية وذكائها الحاد، وتفوق كل العاملين في المكتبة في معرفتها باللغات الأوروبية، ولم تكن متزوجة بل كان لها صديق بولندي تحادثه باللغة البولندية، وعندما وصلنا كان والدها في انتظارها بسيارته لتوصيلها إلى المنزل، وعرضت علينا توصيلنا؛ إذ كانت الساعة قد تجاوزت الحادية عشرة والنصف مساء، وكانت جون غير جميلة وممتلئة الجسم، والسيجارة لا تفارق فمها، وكانت مشهورة بأنها ذات رائحة غير زكية؛ فحاسة الشم ضعيفة لديها وهي مثل الكثيرين من الإنجليز غير مولعة بالاستحمام، وفي السيارة سألت والدها، وكان المسئول عن الاستقبال اللاسلكي لوكالات الأنباء الأجنبية بكل اللغات، سألته عن الأخبار فقال دون أي اهتمام: «طلبوا منا تلقي وكالة الأنباء المغربية «ماب»

Maroc Arab

بسبب الانقلاب الذي وقع في المغرب!» انقلاب في المغرب؟ واستزدته فلم يزد، وما إن وصلت إلى المنزل حتى أدرت مؤشر الراديو الرائع الذي كنت اشتريته وهو من ماركة «هاكر» (وما يزال لدي) على صوت العرب، وسمعت أخبار القاهرة (موجز الثانية بعد منتصف الليل، الثانية عشرة في إنجلترا) فقال المذيع: «هناك أنباء متضاربة عن وقوع انقلاب في المغرب، وتقول وكالات الأنباء ...» فعلمت أن الانقلاب قد فشل.

وفي السابعة صباحا كنت أول من يدخل المبنى، فقالت المشرفة وكان اسمها مسز هوايت: «كنت أعلم أنك سمعت النبأ!» وعلى الفور بدأنا الاستماع إلى إذاعة الرباط، فإذا بالموسيقى العسكرية، والمذيع يقول: «سوف يتحدث الملك الحسن الثاني إلى الشعب بعد قليل.» وقلت في نفسي: «هذه أخبار غير متوقعة يوم الأحد، وسوف يكون سبقا صحفيا.» وأحضرت الآلة الكاتبة، وما إن بدأ الملك الحسن حديثه (رحمه الله) حتى انطلقت في الترجمة، فأرسلت الأخبار الموجزة أولا لإذاعتها في نشرات الصباح نقلا عن مصدرها الأصلي

Bog aan la aqoon