175

Wahat Cumr

واحات العمر: سيرة ذاتية: الجزء الأول

Noocyada

Sussex Gardens

وقد علقت عليه لافتة تقول إنه سوف يصبح بيتا جديدا للطلبة اسمه النادي الدولي للطلاب

International Students Club

فقدمت طلبا وتحدد أكتوبر موعدا للانتقال.

في سبتمبر رن جرس التليفون، وسمعت صوتا يتحدث بلهجة إسكندرانية بها مسحة لا تكاد تبين من اللهجة غير المصرية، وقال إنه يحمل رسالة لي من خالي الدكتور كمال ، فهبطت إليه وقدمته إلى المديرة فحجزت له غرفة مستقلة، وكان اسمه الدكتور محمد صديق نوح، وكان طبيبا يدرس للحصول على الزمالة، وهو مولود في الإسكندرية من أم سكندرية، وزوجته «فتان» سكندرية، ولكن أباه سعودي؛ ولذلك كان يحمل الجنسية السعودية. وسرعان ما توثقت عرى الصداقة بينه وبيني وبين نهاد، وعندما علم أننا نعتزم الانتقال إلى بيت طلاب جديد، قرر الانتقال معنا، وانتقل محمد مصطفى رضوان إلى غرفة في منزل قريب من المنزل القديم، وكان الأصدقاء السوريون قد رحلوا بعد أن حصلوا على الدبلوم، وكذلك رحل الليبي عيسى موسى، بعد أن أنجب طفلا لم يسمه محمدا، وتفرق الشمل، وكشر عام النكسة عن أنيابه، ولم تنقطع صلتنا بالدكتور نوح حتى هذه اللحظة (1999م)؛ فهو حتى بعد أن استقر في الرياض يتابع أخبارنا تليفونيا ونتابع أخباره ونحضر أفراح أنجاله. أما محمد مصطفى رضوان فما يزال يتصل بنا تليفونيا من هولندا؛ حيث هاجر واستقر، وأصبح من كبار أساتذة الهندسة الجوية (المساحة الجوية) في العالم، وبعد أن تزوج وأنجب ثم انفصل وتزوج، لكنه ما إن يشاهد أحدنا (أنا أو نهاد) في التليفزيون مثلا حتى يتصل تليفونيا، وقد قال لي في العام الماضي على التليفون إنه عندما يسترجع الماضي يجد لحظات نور لا تنطفئ أبدا عرفها معي ومع نهاد.

كان الانتقال إلى المسكن الجديد يسيرا؛ إذ استعرنا عربة يد (wheel-barrow)

من بيت الطلاب القديم، ونقلنا متاعنا وكتبنا في رحلات متوالية لا أذكر عددها، ثم استقر بنا المقام في غرفة فسيحة ذات مدفأة كهربائية تعمل بالعملات، ولها عداد، وكان للمنزل سلم حلزوني طريف، وكنا نتلقى الخطابات من مصر ونرسل خطابات كثيرة، ولكن صدمة النكسة كانت تطاردني - في يقظتي ومنامي - ففي الغربة يصبح المصري مصر كلها، وعرفنا أصدقاء جددا حول منضدة تنس الطاولة، وكان من بينهم شابان سعوديان مصابان بالصمم ويتعلمان النطق في مدرسة خاصة، وكانا يحادثاننا بالعربية، وما زلنا نذكر أنا ونهاد عبارتهما المشهورة «مخ مفيش» عندما يشيران إلى غباء الإنجليز! وكان صاحب المنزل هو القس لانكاستر الذي قضى شطرا من حياته في مصر مع زوجته وكان يحدثنا بشوق عن أيامه فيها، ويتحدث عنها حديث المحب الوامق.

وفي سبتمبر 1967م، هبت نسمة منعشة من نسمات مصر فأتت إلي في لندن بأستاذ شكري عياد، ولم أكن أتوقع مثل هذه المفاجأة الرائعة فاندفعت في شوق للقائه، وانطلقنا نسير في شوارع لندن، ونستأنف حديثنا في الأدب الذي لم ينقطع من عشر سنوات مضت! كان يسأل وأجيب، وأسأل ويجيب، وعلى كثرة ما سألنا وأجبنا لم نتطرق مطلقا للسياسة، مما أعاد إلي بعض الثقة التي كانت قد اهتزت، كانت ثقة في النفس وفي مصر، وتنوعت نزهاتنا الثقافية فذهبنا إلى المسرح عدة مرات، وإلى السينما حيث شاهدنا فيلم «رجل لكل العصور» المأخوذ عن مسرحية روبرت بولت، وفيلم «ترويض السليطة» المبني على مسرحية شيكسبير، وشاهدنا مسرحيات لتشيخوف وبرنارد شو وأوسكار وايلد، وكان دائما يتحمل تكاليف التذاكر، ويبدأ حديثه التليفوني بعد السلام بقولة شهيرة هي: «أنا أدعوك.» فإذا عارضت قال لي «إنها دراهم معدودة!» وعندما حان موعد رحيله سألني عن موعد انتهائي من الدكتوراه فقلت له إنني ما زلت أعمل في الماجستير، فقال لي إنه يبدو من مناقشاتنا أنني أسرف في قراءة كتب خارج الرسالة، وقال لي بلهجة الجد «كفاية صرمحة بين الكتب وخلص رسالتك!» وحاولت أن أعمل بنصيحته بعد رحيله لكنني لم أستطع! كانت زيارته كالحلم، وأفقت في أكتوبر على واقع يصعب الفرار منه، والكتب المنوعة المتاحة بقروش زهيدة لا يمكن مقاومة إغرائها.

كان أهم تأثير تركه شكري عياد في نفسي هو السؤال المحير «وبعدين؟» أي وماذا بعد أن ندرس الأدب واللغة؟ وماذا بعد أن نقرأ إبداعات الخيال وتصاوير الواقع؟ كان شكري عياد يطرح الأسئلة التي أثيرت بعد ذلك بعشرين عاما في مؤتمر كيمبريدج عام 1987م، حين انهمك فريق الأساتذة الإنجليز في تحليل معنى «الأدب الإنجليزي» أو ما يمكن تسميته ب «فكرة الأدب الإنجليزي»؛ إذ اكتشفت آنذاك صدق ما دعا إليه شكري عياد من إعادة النظر فيما يسمى ب «أدبية الأدب» وهي التي كان أصحاب البنيوية يدعون إليها بل ويكادون يفرضونها فرضا في فرنسا، وكنت مؤمنا بها بحكم دراستي للنقد الجديد، وهو ما أتت به المدرسة الأنجلوأمريكية، وكان الإنجليز يبدون تحفظاتهم على كل جديد، ويستريبون بكل ما من شأنه التشكيك فيما درجوا على اعتباره «صلب» المنهج الأدبي، ولم أكتشف إلا بعد عشرين عاما ما وراء ذلك كله، ولكنني لن أستبق الأحداث فأعود إلى أكتوبر 1967م.

كنت ولا شك أعيش في دوامة يومية؛ فأنا في الكلية أقرأ كتبا في غير الأدب، وفي المنزل أحاول الكتابة فلا أستطيع، وكنت في كل يوم أتخذ قرارا بالتركيز على الرسالة، ثم أعجز عن تنفيذه، وبدأت أتساءل ولو تساؤلات عابرة عن دلالة ما يقال وما يكتب، ثم بدأت أستمع إلى القس لانكاستر وهو يتحدث إلينا في نبرات واثقة حديث رجل الدين الذي يدعو للسلم بالمعنى النفسي والاجتماعي معا، وتفتق ذهن إحدى الراهبات السابقات (بعد أن تحولت إلى موظفة مدنية في المنزل) عن عقد ندوات يناقش الطلاب فيها أمور الحياة، وكان الموعد في عطلة نهاية الأسبوع - يوم الأحد 22 أكتوبر - وعندما اجتمعنا كنت أشعر بفرح لم أعرفه من شهور؛ إذ قام رجال البحرية المصرية في اليوم السابق بإغراق المدمرة الإسرائيلية «إيلات»، وكان الجميع يقرءون صحف الأحد بحماس شديد، وعندما بدأ النقاش وكان حول الحرب التي تدور في نيجيريا منذ فترة لإنهاء انفصال بيافرا (الإقليم الجنوبي المتمرد) قام أحد أبناء نيجيريا وهو مسلم من الشمال فتحدث بطلاقة لسان وفصاحة يحسده عليها أبناء اللغة، وأسهب في الحديث عن دور الغرب المشبوه في الدول الحديثة الاستقلال، وتحدث عن فظائع زعيم الانفصال، وفوجئت بأن الراهبة السابقة تكاد تعلم كل شيء عن ذلك، وتتحدث حديث الخبير عن الثروة النفطية في الجنوب، وعن دور الشركات الأجنبية في الإيعاز للعقيد أوجوكو بمحاولة الاستقلال بها، وأن المطامع المادية هي التي كانت وراء محاولة الانفصال، وكنت أسمع لأول مرة تعبير «الشركات المتعددة الجنسية»؛ أي

Bog aan la aqoon